بين غادتين في الصحراء
١
وعندئذ صاح المسافر الذي دعا نفسه خيال زارا قائلًا: لا تذهب ابقَ بيننا؛ لئلا تكرَّ علينا أحزاننا بعد أن تولَّت عنا، فقد أغدق علينا الساحر شرَّ ما عنده حتى إن رئيس الأحبار الوافر التقوى بدا يسكب الدمع من عينيه ويتوه في بحر الشجون، وليس بيننا من احتفظ بحزمه غير هذين الملكين لتعودهما التحكم بسيمائهما، ولو أنهما كانا على انفراد لكانت تبدو عليها ألاعيب الغيوم وتعصف ريح الخريف باكية فوقهما فنسمع إعوالًا ونواحًا. ابق هنا يا زارا، لا تذهب فهنا ويلات خفية تريد أن تتكلم، هنا ظلمات وغيوم وهواء كثيف يضغط على الصدور.
لقد بذلت لنا الغذاء الإنساني وأتيتنا بالآيات تتدفق قوة وأملًا، فلا تسمح أن تجتاحنا في ختام هذه الوليمة روح التراخي والكسل.
ليس لسواك أن ينفخ حولنا هواء القوة والنقاء، فإنني ما نشقت في العالم ما يهب عليَّ في غارك من لفحات صافيات، وقد جبت الأقطار ومررت بمعاطسي على أجواء وأجواء فما راقني شميمٌ إلا حيث تقيم.
لأصدقنَّ القول، لقد راقني مرة مثل هذا الشميم من قبل عندما أنشدت ما أُوحي إليَّ بين غادتين في الصحراء حين ملأت صدري من نسمات الشرق المشبعة عطرًا في صفائها وأنا بعيد عن أوروبا الهرمة تكدر جوها الغيوم وترهقها رطوبتها وأشجانها.
ذلك زمان عشقت فيه غادتي الشرق في صحرائه، فهنالك سماء غير هذه السماء لا تتلبد فيها الغيوم ولا تعتكر على أديمها الأفكار.
إنكم لأعجز من أن تتصوروا سحر هاتين الغادتين وهما معرضتان عن الرقص جالستان وفي سكونهما أجمل حركات الفنون، وقد كمن الفكر في صدرهما فكأنهما أسرارٌ وألغاز تتماوج أشكالًا وألوانًا فلا يعروها قتام، وهكذا الألغاز المستسلمة لمن يحل مكنونها.
لقد أُوحي إليَّ هذا النشيد للتشبيب بغادتي الصحراء.
هكذا تكلم المسافر المدعو خيال زارا، ولم يدع مجالًا ليجاوبه أحد فقبض على قيثارة الساحر، ولفَّ ساقًا على ساق وهو يحدج من حوله بنظرات تشع حكمة ووقارًا، وقد انفتحت أرنبتا أنفه تنشقان الهواء مليًّا، فكأنه غريب في بلاد بعيدة يتنسم أجواءها.
وبدأ ينشد بصوت يزأر زئيرًا:
٢
إن الصحراء تتسع وتمتد فويل لمن يطمح إلى الاستيلاء على الصحراء.
يا للمهابة: يا للبداية تليق بمهابة صحراء إفريقيا.
تليق بأسد أو بنذير يهيب بالناس إلى مكارم الأخلاق.
إنها لروعة لم تسطُ عليكما يا صديقتي عندما اتيح لي أنا ابن أوروبا أن أجلس عند أقدامكما تحت ظلال النخيل. حيَّا على الصلاة!
•••
يا للعجب!
أراني ماثلًا أمام الصحراء، ولكنني عنها جدُّ بعيد، وما ابتلعتني الواحات الصغيرة، بل انفرجت أمامي كأطيب الثغور نكهة فارتميت فيها، وها أنذا عند أقدامكما يا صديقتيَّ العزيزتين. حيَّا على الصلاة!
•••
إنني أمجد تلك الواحة إذا كانت عزَّزت مَن نزل فيها …
وأنتما تدركان ما في رموزي من الحكمة.
طوبى لأحشائها إذا كانت كهذه الواحة، ولكنني أشك في ذلك فأنا قادم من أوروبا، أشد العرائس جحودًا.
أصلحها الله إنه السميع المجيب.
•••
ها أنذا جالس في ظلال أصغر الواحات فما أشبهني بتمرة سمراء مذهَّبة، تتشوَّق إلى ثغر كاعب يفترُّ عن أسنان محددة ناصعة كالثلج، وهل تحلم قلوب التمر الملتهبة إلا بمثل هذه الثغور؟ حيَّا على الصلاة.
•••
ما أشبهني بهذه التمور عند الظهر، تتطاير حولها الهوام المجنَّحات وتدور بي شهوات أصغر من هذه الهوام وأشد منها جنونًا وشرًّا، وإلى جانبي «دودو وزليخا» صامتتين كأبي الهول.
إنني أنشق نسمات الجنان والهواء حولي مفضض بأشعة ما أرسل القمر مثلها في الأجواء، فهل أرسلها صدفة أم عن قصدٍ كما قال الشعراء الأقدمون؟
أما أنا فأشك فيما قيل لأنني آتٍ من أوروبا، وهي أشد العرائس جحودًا أصلحها الله إنه السميع المجيب.
إنني أنشق الهواء ملء معاطسي وليس لي أمس ولا غد، فأجلس معلِّقًا أبصاري على النخلة وهي تتأوَّد وتتثنى وتهز ردفها، فكأنها راقصة دارت طويلًا على رِجل واحدة، حتى لا يسع من يراها إلا أن يقلدها، ولعلها نسيت أن لها رِجلًا ثانية.
وقد فتشتُ عبثًا على هذه الرجل الصغيرة الساحرة تحت الأردان الخافقة، صدقاني يا عزيزتيَّ، إن هذه الرجل الأخرى قد ذهبت في سبيلها.
ويلاه! أين استقرت تلك الرجل التائهة؟ وأين حطت رحالها؟ ولعلها الآن وحيدة منفردة ترتجف فَرَقًا من هجمات وحش كاسر أو أسد أصفر تجعَّدت لبدته ولعلها الآن ممزقة إربًا. حيَّا على الصلاة!
•••
لا تبكيان يا عزيزتيَّ فقلبكما رقيق وصدركما يدرُّ حنانًا.
أيْ زليخا، كوني كالرجال وتشددي، وأنت دودو الشاحبة لا تذرفي الدمع بعد.
ولكن لا بد في هذه الأرجاء من قوة تشدد القلوب، لا بد من آياتٍ تفوح عطرًا وتتسامى جلالًا.
•••
ارتفع يا مظهر الجلال، ولتهب مرة أخرى نسمة الفضيلة.
ويا ليت أسد الفضائل يزأر أيضًا أمام غادات الصحراء فزئير الفضيلة يا بنات الصحراء، أقوى ما ينبه أوروبا ويحفز بها إلى النهوض.
ها أنذا ابن أوروبا، لا يسعني إلا الخشوع والانتباه لدوي هذه الآيات البيِّنات.
وقد توكلت على الله.
إن الصحراء تتسع وتمتد، فويل لمن يطمح إلى الاستيلاء على الصحراء …