الانتباه
١
وبعد أن أنشد كلٌّ من المسافر والخيال نشيده ضجَّ الغار بالحركة والضحك، فأخذ الجميع يتكلمون في آن واحد حتى الحمار نفسه، فوقف زارا غاضبًا ساخرًا بضيوفه بالرغم من تسرب شيء من فرحهم إلى قلبه؛ إذ رأى في هذا الحبور أول أعراض الشفاء، فانسحب إلى خارج الغار، وبدأ يخاطب نسره وأفعوانه قائلًا: أين ذهب يأسهم، أراهم نسوا ذلك اليأس عندي ولكنهم لم ينسوا الصراخ بعد.
وسد زارا أذنيه؛ إذ تعالى نهيق الحمار يزيد في جلبة هؤلاء الرجال الراقين.
وقال: إنهم فرحون ولعلهم تعلموا مني، ولكن ضحكتهم ليست ضحكتي.
لا بأس فهم شيوخ يمثلون إلى الشفاء بالذهاب على سبيل تخيَّروه، ولقد احتملت أذناي من قبل أشد من هذه الجلبة وهذا الصخب.
إنه ليوم انتصار هذا اليوم؛ لأن الروح الكثيف يتراجع إلى الوراء وهو عدوي اللدود، لقد بدأ هذا النهار شؤمًا ولعله ينتهي إلى خير.
ها إن المساء قادم ممتطيًا جواده قاطعًا البحار على سرجه الأرجواني.
إن السماء تحدجه بلفتات الحبور والأرض تتراخى على أسرارها، فالحياة تستحق الاهتمام قربي أيها النازلون ضيوفًا عليَّ.
وإذ دارت الجلبة في الغار أردف زارا قائلًا: إنهم تعلموا الضحك لنفسهم فقد فارقهم الروح الكثيف، وهذا تأثير غذائي وآياتي، والحق أنني ما قدمت لهم من الأغذية ما تنتفخ به الأحشاء، بل ما يليق بالمجاهدين فنبهت فيهم شهوات جديدة.
ها إن سواعدهم وأقدامهم تمتلئ أملًا جديدًا، وقد تمددت قلوبهم فوجدوا بيانًا جديدًا يولِّد المرح في تفكيرهم.
وما أجهل أن مثل هذا الغذاء لا يُبذل للأطفال ولا للنساء المتراخيات سواء أكنَّ عجائز أم صبايا، فإن للأطفال والنساء علاجات غير هذا العلاج لإقناع أمعائهم وما أنا بطبيبهم ولا بالقوَّام عليهم.
لقد تخلى هؤلاء الراقون عن اشمئزازهم وفي ذلك ما أعده ظفرًا لي، لقد أحسوا أنهم في مأمن عندي فتعرَّوا عن كل حياء سخيف، وها هم يعربون بإخلاص عما يشعرون.
إنهم يفتحون قلوبهم ويعودون إلى أويقات الصفا، ويجترُّون ممتنين والامتنان خير دليل على الرجوع إلى الصواب، فلن يطول الزمان حتى يرفعوا الأنصاب لذكرى أفراحهم القديمة.
إنْ هم إلا ناقهون!
هكذا تكلم زارا وقد استولى عليه الفرح ودار حوله نسره وأفعوانه محترمين سعادته وسكونه.
٢
وبعد هنيهة اضطربت أُذنا زارا لانقطاع الجلبة من الغار وقد ساد فيه سكوت الموت، ولكن رائحة عطرية انتشرت منه كأن هنالك مجمرة تُحرق فيها رءوس الصنوبر.
وتساءل زارا عما يفعل القوم في غاره، وتقدم نحو الباب فإذا به يشاهد أمرًا من أغرب الأمور فصاح: لقد عادوا إلى التقى، فهم يؤدون شعائر الدين ويصلون، لقد جنوا!
وكان جميع من في الغار جاثين على ركبهم كالأطفال والعجائز يعبدون الحمار.
وبدأ أقبح العالمين يهدر ويتلوى ويستعد للترنم، وما عتم حتى بدأ ينشد قائلًا: المجد والحكمة والمنة والثناء والقوة لإلهنا إلى أبد الآبدين.
فجاوبه الحمار بنهقة مستطيلة.
– إنه يحمل أثقالنا ويقوم بخدمتنا، فهو الجلود الصبور الذي لا يرد طلبًا، ومن أحب إلهه أدَّبه بصرامته.
فجاوبه الحمار بنهقة.
– إنه صموت لا ينهق إلا إيجابًا لطلبات العالم الذي أبدع، فهو يمتدح عالمه وإذا سكت فما سكوته إلا لمكره؛ لأنه لا يستهدف للخطأ.
فجاوبه الحمار بنهقة.
– إنه يمر ولا من يأبه له في الحياة، فلون جلده رمادي يستر به فضيلته، وإذا كان له عقل فهو يستره لذلك يؤمن الجميع بأذنيه الطويلتين.
فجاوبه الحمار بنهقة.
– يا للحكمة الخفية! ويا لصاحب الأذنين الطويلتين! لا يجيب إلا بالإيجاب، ولا يرد طلبًا أفما خلق العالم على صورته ومثاله فجاء العالم على أشد ما يكون حماقة وسخافة؟
فأجاب الحمار بنهقة.
– إنك تتبع طرقًا مستقيمة وطرقًا ملتوية، وما يهمك ما يدعوه الناس استقامة والتواء، فإن ملكوتك قائم ما وراء الخير والشر فبراءتك هي جهلك للبراءة.
فأجاب الحمار بنهقة.
– انظر كيف أنك لا تدفع أحدًا عنك، فتقبل الصعاليك كما تقبل الملوك، وتدع الأطفال يأتون إليك، وإذا ما جاءك الخطاة استقبلتهم بنهقة الترحيب.
فأجاب الحمار بنهقة.
– إنك تحب الأُنثى والتين الناضج فلست متصعِّبًا في غذائك فلا تأنف من قضم الشوك إذا جعت، وفي هذا كمنت حكمتك الإلهية.
فأجاب الحمار مصدقًا بالنهيق.