الصورة الممزقة (٦)
محمود يبتعد عنها مذعورًا.
يسقط إلى الأرض في إعياء.
سعاد تنتبه بعد لحظة. تنهض. تنظر إلى محمود الراقد على الأرض في ذعر. تجري بسرعة وتلف ابنها في بطانية من الصوف. تحمله على كتفها وتمشي على أطراف أصابعها. محمود ينتبه لها. يهم بالقيام.
(يضحك بجنون.)
(سعاد تجري خارج الحجرة. يحاول أن يمسكها. لا يلحق بها. يتركها تهرب من الباب. يجلس على المكتب في اضطراب. تبدو عليه الثورة. يُخرج الحقن ويأخذ حقنة.)
(يمسك رأسه بيدَيه وينشج كالأطفال في أسًى وحزن ويأس.)
(صوت نشيج رجل.)
سعاد تحمل طفلها على كتفها. تجري على السلم هابطة.
لا تنظر خلفها.
تحمل سعاد طفلها. تجري في الشارع خائفة مذعورة. تتلفت خلفها في ذعر. الشارع مظلمٌ خالٍ من الناس. تجري بأقصى سرعتها.
موسيقى مناسبة.
نهاية الفلاش باك.
يظهر منظر سعاد وهي جالسة في حجرة نومها في منزل أبيها بالعروسة في يدها. وهي شاردة. تضع العروسة جانبًا. تقف وتتطلَّع إلى نفسها في المرآة.
تدخل الدادة. تعانق سعاد.
(يدخل الأب في خطواتٍ ثقيلة حزينة. ينظر إلى سعاد وهي جالسة حزينة. يجلس على كرسي بعيد عنها. تمر لحظة صمت.)
(سعاد صامتة تفكِّر في شرود. تدخل الأم وهي تقاوم دموعها.)
(سعاد تقف وتقول في غضب):
(الأب يخرج غاضبًا.)
(الأم تنظر إلى الطفل النائم وتمصمص شفتَيها في ألم.)
(يدخل الأخ ماجد.)
(تمر لحظة صمتٍ طويلة.)
(سعاد جالسة تفكر.)
(الدادة تضحك في مرح.)
والنبي كلمة دكتورة حلوة قوي! تشرح النفس وتساوي الدنيا بما فيها! بلا جواز بلا غم! دي الرجالة توجع القلب وتقصر العمر. يالله يا دكتورة سعاد يالله. ولا يهمك. صحتك بالدنيا؟(يخرجون من الحجرة.)
(الطفل يبكي. الدادة تذهب إليه وتحمله وتدلِّلُه.)
بس! بس! يا حبيبي! بس!
منظر يافطةٍ كبيرة مكتوب عليها الدكتورة «سعاد زغلول» في ميدان كبير من ميادين القاهرة.
يظهر باب العيادة مفتوحًا. وقد علق على الباب يافطة مكتوب عليها.
«مواعيد العيادة: من ٥–٨ مساء».
تظهر العيادة من الداخل مزدحمة بالرجال والنساء يجلسون منتظرين كشف الدكتورة.
تمورجي بملابس بيضاء يستقبل المرضى ويجلسةم ويأخذ منهم أجر الكشف ويعطيهم نمرًا.
تظهر حجرة الكشف ومريض نائم على سرير الكشف.
سعاد بالبالطو الأبيض تجلس على كرسي صغير إلى جواره وتكشف على المريض بالسماعة. ينتهي الكشف. تذهب سعاد إلى المكتب وتجلس وتكتب الروشتة وتعطيها للمريض وتشرح له طريقة استعمال الدواء.
يخرج المريض. يدخل مريض آخر. يتكرر الكشف. يخرج.
تدخل مريضة سيدة … وهكذا.
سعاد تجلس على المكتب وقد بدا عليها الإعياء. العرق يتصبب من جبهتها. تمسك رأسها بيديها وتفكر في شرود.
درج المكتب يظهر تحت يدها مليئًا بأوراق البنكنوت … تنظر إلى الأوراق شذرًا في إعياء …
تخلع البالطو وتمسك حقيبة يدها وتغادر العيادة …
سعاد تمشي في الشارع وعلى عينيها نظارة سوداء …
تنظر إلى الناس بفتور.
تظهر من بعيد أجزاخانة … يظهر داخل هذه الأجزاخانة محمود وهو يشتري الحقن … محمود يبدو عليه الإعياء … ملابسه مهملة جدًّا …
محمود يهم بالخروج من الأجزاخانة فيرى سعاد وهي تمر من أمامه … يتوارى داخل الأجزاخانة حتى تمر … سعاد لا تراه …
يخرج من الأجزاخانة ويجري مندفعًا في طريق آخر غير الذي تمشي فيه سعاد.
حجرة نوم أبو سعاد. الأب راقد في الفراش مريض جدًّا. ومن حوله الأم والدادة وماجد … القلق يبدو على وجوههم …
(الأب يئن في ألم ومرض.)
(سعاد تدخل. تبدو عليها الدهشة والقلق حين ترى أباها.)
ما لك يا بابا؟
(سعاد تفتح حقيبتها بسرعة. تخرج السماعة وأدوات الكشف. تكشف على صدر أبيها. صورة مكبرة لوجه أبيها وهو ينظر إليها في إعياء وعتاب وحب. صورةٌ مكبَّرة لوجه سعاد وهي تكشف عليه في ألم وحزن.)
(سعاد تنتهي من الكشف وتضع أدواتها في الحقيبة ببطء وهي شاردة. تبتعد عن أبيها في وجوم. تقف تفكر وهي شاردة. الأم والدادة وماجد يقتربون منها في قلق.)
مش هتكتبيله الدوا يا ست سعاد؟
(سعاد تخرج من الحجرة في أسًى. يخرج وراءها ماجد.)
(الأم تبكي في صمت. الدادة تهدِّئها.)
سعاد تدخل حجرتها … تجلس على الكرسي إلى جوار السرير وتضع رأسها بين يديها في ألم وحزن …
يدخل ماجد أخوها …
(سعاد لا ترُد. ترفع رأسها شاردة والدموع في عينَيها.)
(سعاد والدموع في عينَيها.)
(ماجد ينظر إليها في ألم وعتاب.)
(سعاد تقف ثائرة.)
(تجلس وتضع رأسها بين يدَيها وتجهش بالبكاء. ماجد يخرج. سعاد تهدأ قليلًا. تقف وتدور في الحجرة في قلق. تفتح مكتبها. تخرج صورة محمود. تنظر إليها في ألم. تمزقها بأصابعها إلى نصفَين.)
(موسيقى مناسبة.)
(صورةٌ مكبرة ليدَيها وهي تمزق الصورة بالطول إلى نصفَين. صورة مكبرة لنصفي الصورة وأصابع سعاد تقربهما وتبعدهما عن بعض.)
(صورةٌ مكبرة ليدَي محمود أيضًا وهي تمزق صورة سعاد بالطول إلى نصفَين. صورةٌ مكبرة لنصفَي الصورة وأصابع محمود تقربهما وتبعدهما عن بعض.)
(يظهر محمود جالسا على مكتبه. يتأمل صورة سعاد التي مزقها ثم يضعها في الدرج. يمسك القلم ويكتب على الورق. يرسم بعض الحروف. يرسم بعض الحيوانات والطيور.)
(يتصبب العرق من جبهته. يضع القلم ويمسك رأسه بيدَيه. يقوم ويدور في الحجرة كالمجنون. يفتح أدراج مكتبه. يبحث عن الحقن. لا يجد. يبحث في الدولاب عن نقود لا يجد.)
(يدخل حجرة أمه متلصصًا على أطراف أصابعه. تظهر أمه راقدة في السرير نائمة وإلى جوارها الأخت الخرساء. يفتح الدولاب ليأخذ نقودًا من حقيبة أمه. الأخت الخرساء تفتح عينَيها. يراها فيشير إليها بيدَيه أن تسكت. الأخت تغطِّي رأسها في خوف وتتظاهر بالنوم. محمود يحاول إخراج النقود من الحقيبة. صورةٌ مكبرة ليديه ترتعشان. الحقيبة تقع على الأرض محدثة صوتًا. الأم تصحو من نومها. ترى محمود واقفًا عند الدولاب. تهب من فراشها مذعورة.)
(تجري نحوه. محمود يمسك الحقيبة.)
(الأم تحاول تخليص الحقيبة من يده.)
(الأم تشد الحقيبة.)
(محمود يشُدها منها في غيظٍ شديد.)
(الأخت تجري لتخلِّص الموقف. يشتد الصراع بين محمود وأمه. وأخيرًا يغتصب محمود الحقيبة. أخته تتعلق به فيلقي بها على الأرض في غضب. ويأخذ النقود من الحقيبة ثم يلقي بها في الحجرة. ويخرج مندفعًا كالمجنون. الأم تجلس على السرير وتئن من الإعياء والتعب والحزن. الأخت تزحف إليها وتربتُ عليها.)
(الأم تبكي. الأخت تقبِّلها وتبكي معها.)
صالة منزل سعاد. أم سعاد تجلس وإلى جوارها الدادة يبكيان معًا في حزن. ماجد يجلس مطرقًا يمسك رأسه بيدَيه.
تظهر حجرة نوم الأب. الأب نائم على السرير يُحتضر. سعاد إلى جواره تسعفه بحقنة في ذراعه.
الأب يفتح عينَيه. سعاد تمسك يده وتقبِّلها. الدموع في عينَيها. الأب يفتح فمه في إعياء.
(سعاد تبكي.)
(وجه سعاد مُكبَّرًا ينمُّ عن الفزع.)
(سعاد تلقي رأسها على صدره وتجهش بالبكاء. تستمر في النشيج لحظة. ثم تظهر يدٌ كبيرة تشُد سعاد من فوق الجسم الميت وتغطيه بالملاءة.)
(لحظة صمت رهيبة، ثم يُسمع صوت بكاء الطفل خالد.)
(ثم يظهر الطفل خالد وهو جالس على السرير في حجرة سعاد يبكي بحرقة ويهز ذراعَيه. الحجرة خالية إلا منه.)
(الطفل عمره سنة ونصف.)
(يواصل البكاء الشديد.)
(تدخل الدادة وهي ترتدي الملابس السوداء. تحمله وتُهدِّئه.)
(الدادة تبكي وتمسح دموعها في صمت.)
عيادة الدكتورة سعاد ممتلئة بالمرضى الرجال والنساء منتظرين. التمورجي يستقبل المرضى ويأخذ منهم الأجر ويعطي لكل منهم نمرة من بين المرضى. تجلس فوزية محمد التي كانت زميلة سعاد في المدرسة الداخلية ومعها طفلان صغيران؛ طفل تحمله، وطفل في يدها.
يبدو على فوزية التعب. ملابسها مهملة.
التمورجي ينادي بصوتٍ عالٍ:
(فوزية محمد تحمل طفلها وتمسك بذراع الآخر وتدخل إلى حجرة الكشف.)
(سعاد تظهر داخل الحجرة مرتدية البالطو الأبيض.)
(سعاد تنظر إلى فوزية في دهشة.)
(سعاد تصافح فوزية في حرارة وتعانقها.)
(فوزية تشرع في البكاء. سعاد تهدِّئها.)
(فوزية تترك ولدَيها وتذهب وتنام على سرير الكشف.)
(سعاد تكشف صدرها وتكشف عليها.)
سعاد في منزلها الجديد وقد انتقلت هي وأمها وابنها والدادة إلى بيتٍ جديد بعد وفاة الأب.
تظهر الصالة فاخرة جدًّا والأثاث جديد أنيق. الأم تجلس والدادة تُلاعب الطفل خالد (عمره سنتان).
الأم تجلس وتلبس الملابس السوداء تبدو عليها الشيخوخة.
ربنا يخلي لنا الدكتورة يا رب. فتحت لنا بيتها على آخره.
(الدادة تُلاعب الطفل.)
(تدخل سعاد وتسمع هذه الجملة الأخيرة.)
(سعاد تحمل خالد وتقبِّله في حنان.)
(سعاد تتجه إلى حجرتها.)
(سعاد تدخل حجرة نومها. حجرة أنيقة بها أثاثٌ أنيق.)
(في ركن الحجرة مكتبٌ أنيق.)
(سعاد تجلس إلى المكتب وهي تفكِّر شاردة. تفتح درج المكتب. ترى صورة محمود الممزقة. تنظر إليها في ألم. تقوم وتخلع ملابسها وتدخل في السرير. عيناها مفتوحتان في أرق. تتقلَّب في الفراش في سُهد.)
محمود يسير في الشارع ليلًا. بدلته مهملة. دقنه طويلة. عيناه زائغتان. يقف بأحد البيوت ويدق الجرس.
تخرج له الخدامة وتقوله له:
(وتغلق الباب في وجهه بشدة.)
(تتكرر هذه الحادثة مع ثلاثةِ بيوتٍ أخرى من بيوت أصدقائه. الكل أصبح يهرب من محمود ويطرده.)
(يظهر محمود وهو يسير في الشارع جائعًا. يقف أمام محل للأكل يشم رائحة الطعام في جوع. البرد قارص. يرتجف من البرد.)
(يتطلع إلى ملابس الناس الثقيلة الأنيقة. حذاؤه ممزَّقٌ بالٍ. المطر بدأ ينهمر عليه. اختفى تحت ظله وراح يتطلع إلى الناس الذين يركبون العربات الفاخرة. يمر من أمامه زوج وزوجته وهما يسيران. الرجل يحمل ابنه. محمود يتطلع إلى الابن في أسًى. والدموع في عينَيه. يبدو عليه الاضطراب. يتصبَّب العرق من وجهه رغم برودة الجو. يتحرك في قلق. يبحث في جيوبه عن نقود. يتحسس ذراعه في أسًى. يُخرج جيوبه من آخرها. أخيرًا يعثر في جيب قميصه على نصف ريال. يمسكه في يده متهللًا. يجري في الشارع مسرعًا إلى الأجزاخانة. بجوار الأجزاخانة يرى بائع فول وطعمية وخبز وسندويتشات. يقف أمام المطعم لحظة يتشمم الأكل في جوع. ينظر إلى قطعة الفضة في يده ثم ينظر إلى الأجزاخانة. يتحسس ذراعه في ألم. يتحرك نحو الأجزاخانة. ثم يقف مترددًا. ينظر إلى الأكل المعروض في المحل في جوع. يظهر وجهه مُكبَّرًا يعبِّر عن الاضطراب والقلق والألم. تتغير نظرته بسرعة وتعبِّر عن جنون الإدمان والرغبة في الحقنة. يندفع كالمجنون داخل الأجزاخانة.)
يعود النظر إلى سعاد وهي تنقلب في فراشها مؤرَّقة. تمسك رأسها بيدَيها. تقوم وتذهب إلى مكتبها وتأخذ من زجاجةٍ صغيرة حبةً منوِّمة. وتشرب بعض الماء. تعود إلى السرير. عيناها مفتوحتان في أرق وتفكير.
يعود منظر محمود وهو يجري في الشارع بسرعة ثم يجلس على حجر بالقرب من النيل ويكشف ذراعه الأيسر ويحاول أن يعطي نفسه الحقنة. يداه ترتعشان. الحقنة تقع من يده على الأرض وتنكسر.
صورةٌ مكبَّرة لوجه محمود تنم عن الفزع والذهول.
يصرخ صرخةً عالية في ألم وجنون.
آه!
تظهر صورةٌ مكبَّرة لوجه الطفل خالد وهو يصرخ صرخةً عالية ويهب من نومه مذعورًا.
واء!
سعاد تجري إليه وتحمله وتقبِّله وتضمُّه في خوف وحنان.
يعود منظر محمود وهو جالس على الحجر ينظر إلى الحقنة المكسورة في حزن وألم. الدموع في عينَيه. يضع رأسه بين يدَيه يفكر. يرفع رأسه وينظر إلى الجاكتة التي يلبسها. جاءته فكرة. يقوم مسرعًا ويمشي في الشارع. يتحسس الجاكتة التي يلبسها في حزن وألم. يخلعها وينظر إليها كأنه يودِّعها. صورةٌ مكبَّرة لوجهه ينم عن اليأس والضياع. يحمل الجاكتة على ذراعه ويمشي كالتائه. يدخل محلًّا من المحلات الصغيرة ويخرج بدون الجاكتة وفي يده نصف ريال.
صورةٌ مكبَّرة ليده تمسك بالنصف ريال. يبتسم لنفسه في أسًى.
يقف مرةً أخرى أمام الأجزاخانة وإلى جوارها مطعم الفول والطعمية نفسه.
موسيقى مناسبة تبدأ هادئة ثم تعلو.
وتعلو لتشتد حين يدخل المطعم.
يتحرك نحو الأجزاخانة ثم يرجع ناحية المطعم. تتكرر هذه الحركة ثلاث مرات مع الموسيقى العنيفة. أخيرًا يدخل المطعم ويبدو وجهه مُكبَّرًا مُعبِّرًا عن الإجهاد والإعياء والجوع. يشتري خبزًا وطعمية في ورقة.
يخرج من المطعم ومعه ورقة الأكل. يذهب إلى الحجر الذي بجوار النيل ويجلس عليه يأكل.
يكلم نفسه وهو يأكل في شرود.
آمنت بيك يا رب! صحيح الحياة أقوى من الموت. والجوع أقوى من الإدمان.
يظهر وجهه مُكبَّرًا يعبِّر عن الأمل. يسترجع في خياله الماضي.
موسيقى مناسبة مستمرة مع صور الماضي.
تظهر أمامه صورة سعاد وعينَيها. وجه ابنه خالد مُكبَّرًا. وجه أمه مُكبَّرًا. وجه أخته الخرساء مُكبَّرًا.
موسيقى مناسبة.
وجه خالد مُكبَّر وهو يبكي على السرير بعد ولادته مباشرة.
واء! واء! تتوقف الموسيقى.
يعود مشهد محمود وهو جالس على الحجر بجوار النيل يسمع صوت بكاء طفلٍ حديث الولادة.
واء! واء!
محمود يتلفت في دهشة وقد ظن أن الصوت من خياله وليس من الواقع.
يعود بكاء الطفل من جديد.
واء! واء!
محمود يرفع رأسه في ذعر! يُرهف أذنَيه في ذهول!
يعود بكاء الطفل.
واء! واء!
محمود يقف مبهوتًا! ويمشي كالمذهول إلى مصدر الصوت.
يرى طفلًا مولودًا في خرقة من القماش البالية يرتعد من البرد في الشارع ويبكي ويرفس بقدمَيه الصغيرتَين.
محمود يقف مبهوتًا أمام الطفل. يقترب منه في حذر. يلمسه بأصابعه ليتأكد أنه طفل حي. يتلفَّت حواليه لعله يجد أحدًا. الشارع مظلمٌ خالٍ من الناس. يقف ويهم بأن يتركه ويعود إلى حاله. الطفل يبكي. يعود إليه. يركع إلى جواره. يتأمل وجهه.
موسيقى مناسبة.
تتراءى له صورة وجه ابنه خالد حين وُلِد.
صورةٌ مُكبَّرة لوجه محمود وهو ينظر إلى الطفل في حنان وحب.
صورةٌ مكبَّرة لوجه الطفل اللقيط. محمود يرتجف.
موسيقى عنيفة.
يصمِّم على حمل الطفل. يلفُّه في الخرقة ويحمله بين ذراعَيه. يُدخِله في قميصه ليدفئه ويجري به في الشارع كالمجنون ليُنقذه. يتوقف لاهثًا عند باب مستشفى.
يدخل إلى المستشفى ويقدِّمه للطبيب والحكيمة. الطبيب يسعف الطفل بسرعة والحكيمة تمسك دفترًا وقلمًا.
الحكيمة تسأل محمود:
(الطبيب يسعف الطفل.)
(الحكيمة تكتب اسم الطفل في الدفتر.)
(الطبيب يناول الطفل للحكيمة. التي تلفُّه في ملابسَ نظيفة وتضعه في سريرٍ نظيف. محمود ينظر إلى الطفل في سعادة يقترب منه وهو نائم في سريره ويقبِّله.)
(الطفل يبتسم له في سعادة.)
(صورةٌ مكبَّرة لوجه محمود والدموع في عينَيه. يهم بالخروج من الحجرة وترك الطفل لكنه يعود إليه ثانيًا وينظر في وجهه.)
(الطفل ينظر إليه أيضًا. كأنما يقول له لا تتركني. ليس لي أحد غيرك. محمود يبكي في صمت ويمسك يدَي الطفل الصغير في يده. ويكلمه بصوتٍ هادئ.)
منهم لله! منهم لله! لكن ما تزعلش يا محمود خليك قوي واوع حاجة في الدنيا تضعفك. اوع تهرب من حياتك مهما كانت سيئة يا محمود! واجهها وكون شجاع يا محمود! يا ابني!
(يقبِّل الطفل قبلة وداعٍ ويبكي في صمت.)
(محمود يترك الطفل وحده في السرير.)
محمود يخرج من المستشفى. يمشي في الشارع بهدوء. تبدو عليه الراحة لأول مرة. يفكِّر في هدوء وهو يسير.
يكلم نفسه وهو يسير في الشارع:
كانت أكتر حاجة تاعباني اني حاسس اني مش قادر اعمل حاجة. حاجة لها قيمة. كنت حاسس اني فاشل مش قادر احقق الشي اللي جوَّه نفسي. كنت حاسس اني ابن فاشل وأخ فاشل وطالب فاشل وإنسان فاشل وكاتب فاشل. حتى الحب حسيت اني فاشل فيه. كنت زوج فاشل وأب فاشل. ما كنتش حاسس ان وجودي له قيمة أو أهمية. ما كنتش قادر اعمل حاجة لحد. لكن. دلوقت لأول مرة في حياتي أحس اني عملت حاجة. أنقذت روح إنسان. يا سلام! يا محمود يا ابني! أنا أنقذت حياتك من الموت وانت كمان أنقذت روحي من الضياع اللي كنت فيه. اللي كان أقسى من الموت! أشكرك يا محمود يا ابني! أشكرك!
محمود يقف أمام بيت أمه. يدق الجرس. تفتح أخته الخرساء. صورةٌ مكبَّرة لوجهها يعبِّر عن الدهشة والفرح. تعانقه وتقبِّله. توضِّح له بإشارات يدَيها أن أمه تُحتضر.
يندفع محمود إلى حجرة أمه متلهفًا! يرى أمه راقدة في الفراش تُحتضر. لا تستطيع الكلام.
يعانقها ويقبِّلها.
(الدموع تملأ عينَي الأم وملامحها تعبِّر عن الفرحة بعودته.)
(تظهر الدموع في عينَي محمود.)
(الأم تبتسم. ثم تلفظ أنفاسها وتموت.)
(محمود يلقي رأسه على صدرها وينشج كالأطفال. أخته عزيزة تبكي معه في حزن.)
(محمود ينتبه إلى واقعه. يرفع رأسه. يتوقف عن النشيج. يمسك الملاءة ويغطي جثة أمه.)
(ينظر إلى أخته في حنان وحب.)
(يعانقها بقوة ويكلِّمها.)
(يكلم أخته): عزيزة أختي حبيبتي! آه لو كنت بتسمعي! ما تحمليش هم يا عزيزة أنا خلاص خفيت وبقيت كويس. حاشتغل يا عزيزة وحعيشك أحسن عيشة. حعوضك عن كل اللي فات. فاهماني يا عزيزة؟ سامعاني؟! آه لو كنت بتسمعي!
(يعانقها ويقبِّلها من جبهتها في حبٍّ وحنانٍ أخوي.)
(الأخت تعانقه وتبكي معه.)
صورةٌ مكبَّرة ليافطة مكتوب عليها «دار الفكر». يظهر باب عليه هذه اليافطة. الباب يقود إلى حجرة فسيحة يجلس فيها رجال يجلسون على الكراسي ينتظرون. في نهاية الحجرة بابٌ مغلق مكتوب عليه رئيس التحرير. السكرتير في حركةٍ دائمة. يدخل ويخرج من حجرة رئيس التحرير محملًا بالأوراق والدوسيهات.
أحد الرجال المنتظرين يتقدم من السكرتير في أدبٍ شديد.
(الرجل ينظر إليه في يأس ويأخذ زملاءه ويخرج.)
(السكرتير يحمل بعض الأوراق ويدخل إلى حجرة رئيس التحرير.)
(يدخل محمود. يجلس حتى يخرج السكرتير. السكرتير ينظر إليه شَزْرًا!)
(السكرتير يتركه ويدخل بأوراقه إلى حجرة رئيس التحرير.)
(محمود يأخذ ورقة من فوق المكتب ويكتب فيها اسمه):
(محمود زكي.)
(يخرج السكرتير. يرى محمود واقفًا.)
(السكرتير يأخذ الورقة من محمود في كبرياء وغطرسة، ويدخل إلى حجرة رئيس التحرير.)
(تمر لحظة قصيرة. محمود يتمشَّى في الحجرة مطرقًا.)
(ينفتح باب رئيس التحرير ويظهر منه عزيز (زميل محمود في لجنة الطلبة). عزيز يرحِّب بمحمود مهلِّلًا ويعانقه في شوق.)
(السكرتير ينظر إلى محمود في احترام وينحني له وهو يسير مع عزيز إلى داخل الحجرة. عزيز ومحمود يجلسان على كنبة في حجرة مكتب عزيز الأنيقة جدًّا.)
(محمود يشرُد طويلًا.)
(يضحكان.)
(يدخل فرَّاش يحمل القهوة.)
(كلٌّ منهما يأخذ فنجان قهوة ليشربه.)
(يضحكان.)
(محمود يتوقف عن الضحك فجأة ويشرد قليلًا. عزيز ينظر إليه في دهشة.)
(لحظة صمت. عزيز يفكِّر.)
(عزيز يُطرِق إلى الأرض ويفكِّر لحظة.)
(محمود يفكِّر شاردًا.)
(محمود يفكِّر تفكيرًا عميقًا.)
(يقفان. عزيز يصافح محمود بقوة ومحمود يصافحه.)
(عزيز يوصل محمود إلى باب الحجرة.)
(يتصافحان عند الباب. محمود يخرج.)
الدكتورة سعاد تقف أمام بيت أم محمود متردِّدة. تضع يدها على الجرس بعد تردُّد.
يفتح البابَ رجلٌ عجوز. سعاد تنظر إليه في دهشة!
ما فيش واحدة اسمها أم محمود هنا. لازم عزلت.
(سعاد تقف أمام الرجل حائرة لحظة.)
(سعاد تتركه وتمشي. الرجل يغلق الباب.)
سعاد تمشي في الشارع حائرة. الدموع في عينَيها.
تفكِّر.
موسيقى تصويرية.