تمهيد

تتضمن كتابات أفلاطون ثلاث عشرة رسالة بالإضافة إلى محاوراته المعروفة وبعض المقطوعات الشعرية القصيرة «الأبيجرامات» المنسوبة إليه. وقد ضُمَّت هذه الرسائل إلى مجموع مُؤلَّفاته منذ القرن الثالث بعد الميلاد، ولعلها كانت جزءًا لا يتجزأ منها منذ القرن الأول قبل الميلاد.

والرسالة السابعة هي أهم هذه الرسائل وأشهرها؛ إذ تُعد ترجمةً ذاتيةً سجَّل فيها الفيلسوف جانبًا من حياته الشخصية، وقدَّم لنا وثيقة لا غِنى عنها لمعرفة اهتمامه بالشئون العامة، وتَطوُّر موقفه من السياسة والحكم، وكفاحه في سبيل تطبيق نظرياته المثالية على الواقع العملي في صِقِلِّيَّة، واعترافه بما أصابه من خَيبة وإخفاق، ودفاعه عن فلسفته دفاعًا مُفعمًا بالعاطفة الممزوجة بالألم والمرارة.

والرسالة طويلة، تُعادل في طولها سائر الرسائل الأخرى مجتمعة، أو إحدى المحاورات القصيرة التي تُسمَّى محاورات الشباب. وهي وحدها التي نجت من الشك في نسبة الرسائل إلى أفلاطون. وربما شاركتها الرسالتان الثالثة والثامنة في إجماع العلماء على صحتها إجماعًا يكاد أن يكون عامًّا. فقد كثرت الرسائل المُزيَّفة في أواخر العصور القديمة، واستهوى هذا الشكل الأدبي عددًا كبيرًا من أصحاب البلاغة الذين استَغلُّوه لإظهار قدرتهم البيانية، وحَشَوْه بالمُحسِّنات اللفظية والإشارات المستفيضة للحوادث التاريخية، ونسبوا هذه الرسائل إلى كثير من الشخصيات المشهورة. ولا يتسع المقام للتعرُّض للمناقشات الطويلة التي دارت حول أصالة رسائل أفلاطون أو زيفها. فقد استقر الرأي في العصر القديم على أصالة الرسالة السابعة وأصبح الإجماع اليوم تامًّا أو شبه تام على صحة نسبتها لأفلاطون.١ أشار إليها شيشرون ووصفها في «المجادلات التوسكونية» (٥–١٠٠) بأنها تلك الرسالة الشهيرة، وأفاد منها المُؤرِّخ المشهور «بلوتارك» في الفصل الذي كتبه عن حياة «ديون» صديق أفلاطون وتلميذه الذي أغراه بزيارة صقلية أكثر من مرة كما سنرى. ومهما يكن من أمر الاعتراضات التي لا تزال تُوجَّه إليها، فليس في أسلوب كتابتها ولا في سياق أفكارها شيء يخالف أسلوب المحاورات المتأخرة وأفكارها، كما أنها تخلو من التصنُّع والحَشْو وبراعة الصقل والتأنُّق التي اتسَمَت بها الرسائل المنحولة التي اخترعها البلاغيون المتأخرون؛ فهي في مجموعها مُضطرِبةٌ غيرُ متوازنة، مُتقطِّعةٌ ثقيلةُ الخُطا، حافلة في بعض أجزائها بأسرارٍ يَصعُب سَبْرها وإدراك غَوْرها، وفي أجزاءٍ أُخرى بالغضب والندم والانفعال الذي يرتفع مع ذلك فوق التعريض والتشفِّي والسُّخرية، أَيْ إن فيها كل مُميِّزات الكتابة الحيَّة التي تَتدفَّق مع تيَّار الاعتراف الجارف، ويَسري فيها نبض الحكمة السمْحة الطيِّبة.

والرسالة تستحق مِنَّا أن نقرأها بعناية واهتمام، فليست مجرد اعترافٍ شَخصيٍّ أو ترجمةٍ ذاتيةٍ أو سيرةِ حياةٍ تُلقي الضوء على طموح أفلاطون لتحقيق أفكاره وأحلامه، والأخطار التي تَعرَّض لها في فترة من أَهمِّ فترات حياته، ومحاولته «إنقاذ» البشر من بؤسهم ومتاعبهم على يد «الملك الفيلسوف» الذي يجمع القوة والحكمة في شخصه، ويُقيم الدستور، ويَدعَم سيادة القانون على الحاكم والمحكوم جميعًا؛ وإنما هي — بجانب ذلك كله — نافذةٌ تُطِل منها على قلبه الذي وقف دائمًا وراء فكره، ونَتعرَّف على معالم فلسفته المُتأخِّرة التي فَصَّلها في محاورات الشيخوخة، ولكنه لم يَستطِع أن يُعبِّر عنها هذا التعبير العاطفيَّ الحيَّ الدقيقَ الذي نجده في الرسالة السابعة.

إن الرسالة — في ظاهرها — رسالةٌ سياسيةٌ مُوجَّهة من أفلاطون إلى حلفاء صديقه ديون في سيراقوزة (أو سراقسطة كما كان العرب يُسمُّونها) على أثر اغتيال هذا الأخير مُباشَرةً. ولكنها كذلك تبريرٌ شخصيٌّ لِلدور الذي قام به — أو تورَّط فيه — في الأحداث التي جَرَت في هذه العاصمة الصَّقلِّيَّة والمِحن التي ألَمَّت بها، بل تبريرٌ لفلسفته ومدرسته «الأكاديمية» أمام الرأي العام الإغريقي وأمام العالم كله. والمُلاحَظ أن هذه الرغبة المُلِحَّة في التبرير تَتكرَّر في الرسالة بصورة صريحة، (راجع الفقرات ٣٣٠ﺟ، ٣٣٧د، ٣٣٩أ، والعبارة الأخيرة التي تأتي في ختامها ٣٥٢أ)، كما أن النصائح التي يُوجِّهها لحلُفاء ديون وأصدقائه — تلبيةً لطلبهم — تختلط بهذا التبرير المستمر الذي يوشك في بعض الأحيان أن يطغى عليها. وتتغلغل العاطفة في هذين الموضوعَين الأساسيَّين اللذَين تدور حولهما الرسالة، فهو يلح على الأصدقاء بالنصيحة ويستحثهم على الاقتداء بسيرة زعيمهم، ولكنه لا يُعلِّق عليهم الأمل ولا يَتوقَّع منهم الاستجابة. وهو يُدافع عن نفسه وفلسفته وسُمعةِ مدرستِه وبلدِه، ولكنه دفاعٌ لا تُخطئ فيه الأذنُ نَغْمةَ الكبرياء الجريحة ومرارةَ الإحساس بالإهانة وشدةَ السخط على أعدائه الذين تَمكَّن الشر منهم حتى يئس من هدايتهم إلى طريق الخير والحق والفضيلة. والواقع أن هذا الدفاع — أو التبرير — هو الهدف الأساسي من كتابة الرسالة، مهما أَوحَى إلينا بأنه مجرد هدفٍ ثانويٍّ بجانب الردِّ على حُلفاء ديون. ولن نُقدِّر هذا حتى نعرف شيئًا يسيرًا عن الأحوال السياسية في صَقلِّية، والأسباب التي أدَّت بالفيلسوف إلى زيارتها والوقوع في شبكتها المُعقَّدة.

زار أفلاطون صقلية ثلاث مرات، كانت زيارته الأولى لها سنة ٣٨٨ق.م وهو في حوالي الأربعين من عمره. ولم تكن زيارة صقلية هي غرضه الأول؛ إذ انتهى به المَطاف إليها بعد رحلةٍ دراسيةٍ حل فيها ضيفًا على صديقه النبيل «أرخيتاس» حاكم «تارنت» في جنوب إيطاليا ورأسِ المدرسةِ الفيثاغورية فيها. ولسنا نعرف — في الحقيقة — ما الذي دفعه إلى زيارة سيراقوزة، ولا ندري أيضًا إن كان قد اتصل بالطاغية ديونيزيوس الأول الذي كان يحكمها في ذلك الحين،٢ ولكن القدر أتاح له أن يكسب صديقًا سيظل يذكره ويعتز — طَوال حياته — بوفائه وتضحيته وسيرته «الفلسفية» الحقَّة. ذلك هو «ديون» صهر الطاغية وشقيق إحدى زوجتَيه، وكان يبلغ من العمر زهاء اثنين وعشرين عامًا. اشترك الصديقان في حوار فلسفي أَثَّر على ديون وحَوَّل شخصيته إلى درب الفلسفة تحويلًا تامًّا. ولمَسَت عصا المُربِّي الساحرة أعماق الصديق الشاب، فانطوى على نفسه في البلاط الذي كان يموج بالدسائس والمؤامرات، وعكف على الحياة في عالم المُثل الذي جذبه إليه المُعلِّم الأثيني الكبير.

وانطوت عشرون سنة. مات ديونيزيوس الأول سنة ٣٦٧ق.م وخَلَفه في الحكم ابنه ديونيزيوس الثاني، الذي كان الأب قد فرض عليه الجهل والحياة في الظل. ولم يكن الملك الشاب مُجرَّدًا من الموهبة والاستعداد الفطري، ولكنه كان — في نفس الوقت — إنسانًا ضعيفًا عاجزًا عن الاستقلال بنفسه، سهل الانقياد لكل همسة في أُذنه. وتَصوَّر ديون أن الفرصة قد جاءت ليصنع منه الحاكم الفيلسوف الذي حَلُم به تحت تأثير أفلاطون. ويبدو أنه نجح في إقناع ابن شقيقته بأفكار أفلاطون السياسية، وسرعان ما تَحمَّس لها الملك الشاب ورَحَّب بدعوة أفلاطون الذي استجاب لتوسُّلات صديقه الشاب بعد تَردُّد، وحضر إلى صقلية سنة ٣٦٦ق.م ليسانده في تحقيق حلمه «وترويض» الطاغية الجديد الذي لم يكن يُحسن الظن به كثيرًا. واستُقبل الفيلسوف بالحفاوة والتقدير. ولم تَمضِ ثلاثة شهور على وجوده في صقلية حتى آتت دسائس البلاط ثَمرتَها المُرَّة. فقد نَشِب الخلاف بين ديون وديونيزيوس، وفُوجِئ أفلاطون بنفي صديقه وتلميذه من صقلية. وبَقِي بعد ذلك فترة قصيرة على أمل أن يَتمكَّن من التأثير على الملك الشاب، ولكن الشر الذي استشرى في نفسه وفي البلاط كانا أقوى منه، وتَكسَّرَت سهام الحكمة والإقناع على جُدران الاستبداد والفساد. ولمَّا يئس الفيلسوف من إصلاحه وتَأكَّد من فشله في مُهمَّته اقتنع بضرورة الرحيل. ولم يكن ذلك بالأمر اليسير على طاغيةٍ يخشى على سُمعته من اتهام الرأي العام اليوناني بسوء معاملة الفيلسوف. ولهذا وعده أفلاطون بالعودة إلى سيراقوزة حالما تتغير الظروف السياسية وتُعقَد معاهدة السلام مع القَرْطاجيِّين، ووافق ديونيزيوس الذي كانت لا تزال لديه بَقيَّة من الوفاء والعِرْفان، وتَمكَّن أفلاطون من مغادرة الجزيرة والرجوع سالمًا إلى بيته.

تَجدَّدَت الدعوة سنة ٣٦١ق.م واستجاب لها الفيلسوف على الرغم من سوء ظنه بالطاغية الشاب واكتشافه أنه أخلف وعده بالموافقة على رجوع ديون من منفاه. ويبدو أن أفلاطون لم يَشَأ أن يُضيِّع على نفسه الفرصة الأخيرة لتحويل ديونيزيوس إلى طريق الفلسفة، ولم يَفقِد الأمل في مساعدة ديون والوقوف بجانبه، ولم يقطع كل رجاء في «إنقاذ» سكان الجزيرة والعمل على سيادة القانون وإقامةِ دستورٍ عادلٍ يحل محل الحكم المُستبِد ويساعد على النهوض بمستوى الأخلاق وإعادة تعمير المدن المُخرَّبة، غير أن الزيارة الأخيرة تَحوَّلَت إلى كارثة. فلم يَفِ ديونيزيوس بشيء من وعوده، ولم يدخل في حوار مع الفيلسوف إلا مرة واحدة. ووجد أفلاطون نفسه سجينًا كالطائر الحبيس في قفصه. وتأزَّم الموقف حتى تَعرَّضَت حياته للخطر، وحاصره التهديد بالقتل في كل لحظة. ولولا مسارعة صديقه أرخيتاس بالتوسُّط له عند الطاغية لما قُدِّرَت له النجاة من الموت …

هكذا رجع أفلاطون في سنة ٣٦٠ق.م إلى بلده وهو يَطوي في صدره الشعور المرير بخيبة الأمل. فقد كان من الطبيعي أن تثير المُغامَرة الفاشلة أحاديث الناس وتفتح عيونهم على الحقيقة المؤلمة التي أَبرزَتْها حوادث صقلية، وتُقنعَهم — آخر الأمر — بغرابة الأفكار السياسية التي ينادي بها الفيلسوف وبعدها عن الواقع. وكان من الطبيعي أيضًا أن يكون هذا الفشل ضربةً قاسيةً للمُعلِّم ومدرسته. وزاد من مرارة الصدمة أن الطاغية الشاب لم يقتصر على إساءة معاملته، بل حاول كذلك أن يَحشُر نفسه في ثياب فلسفته ويدَّعي شرف الإحاطة بها! فلم تكد تمضي شهور قليلة على رحيل أفلاطون حتى ذاع بين الناس أنه نَشَر كتابًا فلسفيًّا من تأليفه. صحيح أنه لم يزعم فيه أنه يعرض مذهب أفلاطون، ولكنه كان يطمع — على أقل تقدير — أن يكون شاهدًا على قدرته على فهمه واستيعابه. وتتناول الرسالة السابعة هذه القصة بأسلوب لا يُخفي غضب الفيلسوف واستنكاره. ويزيد من هذا الغضب والاستنكار ما يؤكده عن نفسه من تَهيُّب الكتابة عن الأمور المتصلة بالحقيقة، وإيمانه بأن القضايا الأساسية في الفلسفة تستعصي على التدوين في الكلمات الجامدة والحروف الصماء؛ لأن شرارتها الحية لا تَتقِد إلا إذا احتكَّ رأيٌ برأيٍ، واتصَل حِوارٌ بحوار …

والتقى أفلاطون بصديقه وتلميذه ديون في الألعاب الأوليمبية وروى له القصة بأكملها، وصمَّم ديون على الثأر للظلم الذي حاق بمُعلِّمه وبالفلسفة، ولم يُحبِّذ المُعلِّم فكرة اللجوء إلى العنف، ولكنه لم يستطع أن يمنع نفرًا من الشباب — ومن بينهم عدد من تلاميذه في الأكاديمية — من الالتفاف حول ديون والانضمام إلى صفوف الحملة الصغيرة التي بلغت شواطئ صقلية سنة ٣٥٧ق.م ونجحت نجاحًا لم يَتوقَّعْه لها أحد. واستقبله سكان سيراقوزة بالفرح والهُتاف، وتَمكَّن من السيطرة على المدينة دون مُقاوَمة تُذكَر. وتحصن ديونيزيوس فترةً في قلعة «أورتيجيا» ولكن ديون تمكن بمساعدة المرتزقة من طرده من الجزيرة، فلجا إلى أملاكه في جنوب إيطاليا واستمر ديون في حكم الجزيرة أربع سنوات. غير أنه فشل فشلًا ذريعًا في تحقيق برنامجه الإصلاحي الذي تُشيد به الرسالة، وأثبت عجزه عن استرضاء الناس وإدارة شئون الحكم. واضطُر مُحرِّر الجزيرة أن يتحوَّل إلى أقسى طاغية عرفَتْه. وكانت النتيجة أن أقصاه عن السلطة أحد قواد الجنود المُرتزِقة الذين مَكَّنوه منها. وانتهى الأمر باغتياله سنة ٣٥٣-٣٥٤ق.م بيَدِ أحد قُوَّادهم، وهو صديقه الأَثيني «كاليبوس» الذي وَضعَ ثقته فيه … ولم يكن القاتل — لحُسْن الحظ — من تلاميذ أفلاطون في الأكاديمية. ولهذا نجد الفيلسوف يتبرأ منه ويُبرِّئ مَدينتَه من جريمته. ولجأ حلفاء ديون إلى مدينة «ليونتيني»، وأرسلوا إلى أفلاطون يسألونه النصح والمشورة، فكان رَدُّه هو هذه الرسالة السابعة. لم يكن في إمكانه أن يكتفي بالنصح والإرشاد. فقد أثارت المناسبة كوامن أحزانه وفتَحَت جروح ذكرياته، ولم يَستطِع القلم أن يُسيطِر على آلامه فاندفع مع تيار الكتابة على هذا النحو الذي لا يخلو من التعثُّر والغموض، وترك لنا مُعضِلات لا يَسهُل فهمها أو حلها.

ولا بد لنا قبل الكلام عن الرسالة نفسها من تَتبُّع أحداث صِقِلِّيَّة إلى نهايتها. فقد انضم «هيبارينوس»، وهو ابن ديونيزيوس الأول من شقيقة ديون وأخو ديونيزيوس الثاني غير الشقيق، إلى صف حلفاء ديون، وتَمكَّن من طرد «كاليبوس» من سيراقوزة والاستيلاء على الحكم. غير أن الأمور ظلَّت مُضطربة، ولم يستطع أن يُثبِّت أقدامه في الجزيرة. وتقع الرسالة الثامنة في هذه الفترة الحرجة بين انضمام «هيبارينوس» إلى حلفاء ديون وسقوطه بعد ذلك بسنتَين على أَثَر اغتياله بيد شقيقه نيزايوس. ويبدو أن أتباع ديون تَوجَّهوا مرة أخرى إلى أفلاطون طلبًا للنصح والمعونة. ولهذا نجده — في الرسالة الأخيرة — يقترح عليهم أن يُقدِّموا تضحية «أفلاطونية» أصيلة. كان خطر تَدخُّل القرطاجيِّين يُهدِّدهم من ناحية، وأخبار الهجوم المُتوقَّع من ديونيزيوس الثاني تُؤرِّقهم من ناحيةٍ أخرى … ولهذا اقتَرَح عليهم أفلاطون أن يستدعوا ديونيزيوس لِتولِّي المُلْك في سيراقوزة، وحاول أن يُخفِّف عنهم وقع المفاجأة فأشار عليهم بأن يتولاه بالاشتراك مع مَلكَين آخرَين أحدهما هو هيبارينوس نفسه «قبل اغتياله» والآخر هو أحد أبناء ديون الذي لم يذكر اسمه ويبدو أنه وُلِد في السجن بعد موت أبيه.

غير أن اقتراح المصالحة كان أَبعَد ما يكون عن واقع الجزيرة التي تَحوَّلَت إلى ساحة صراعٍ وَحشيٍّ على السلطة. فلم يلبث ديونيزيوس أن غزا الجزيرة ونشر عليها ظلال استبداده، ولم يدُم هذا الاستبداد طويلًا؛ إذ تَوجَّه أهالي سيراقوزة سنة ٣٤٥ق.م — أي بعد موت أفلاطون بسنتَين — إلى مدينتهم الأم كورنثة طالبِين النجدة، فسَيَّرت إليهم حملةً بقيادة «تيموليون»٣ المشهور. ونجح هذا القائد الشجاع في إقرار السلام والأمن في ربوع الجزيرة التي مَزَّقَتها الحروب. أمَّا ديونيزيوس فقد عاش بعد ذلك حياة رجلٍ عاديٍّ وإن كانت الحكايات الشعبية قد جَعلَت منه في النهاية مُعلِّمًا أو ناظر مدرسة …

•••

يبدأ أفلاطون بإعلان استعداده لمساندة حلفاء ديون وأتباعه، وذلك بشرط أن تكون آراؤهم وأهدافهم مُتفِقة مع الآراء والأهداف التي آمن بها ديون وسعى لتحقيقها. فقد قامت خُططه السياسية على الأحاديث التي جَرَت بينهما أثناء زيارته الأولى لصقلية؛ وهو لذلك أقدر من غيره على الحكم عليها. ويستغل الفيلسوف هذه المناسبة للحديث عن تَطوُّر أفكاره السياسية، واهتمامه في صدر شبابه بالمشاركة في شئون الحكم، ثُمَّ عزوفه عنها بعدما رآه من تَخبُّط نُظم الحكم الفردية والشعبية على السواء، والجريمة التي ارتَكبَتْها بإعدام أستاذه وحبيبه سقراط. وفي هذا الجزء من الرسالة نجد العبارة المشهورة التي يسجل فيها يأسه من الأحوال السياسية التي توالت على بلده، واتجاهه إلى الفلسفة التي أَصبَحَت أمله الوحيد في «إنقاذ» البشر، وتَحوُّله بعد ذلك إلى التعليم والتربية:

وهكذا وجدتني مدفوعًا إلى الاعتراف بقيمة الفلسفة الحقَّة والتأكُّد من أنها هي وحدها التي تُمكِّن الإنسان من معرفة العدل والصواب الذي تَصلُح به الدولة والحياة الخاصة، وأن الجنس البشري لن يَتخلَّص من البؤس حتى يصل الفلاسفة الأُصلاء إلى السلطة، أو يصبح حُكَّام المدن — بفضل معجزة إلهية — فلاسفة أُصلاء.

ويعود للحديث عن ديون. عن الآمال التي عقدها على ديونيزيوس الذي تولى الحكم بعد موت أبيه، ودعوته لأفلاطون الذي استجاب لندائه حُبًّا له وأملًا في تحقيق أفكاره النظرية في الواقع. وتتم الزيارة الثانية، وتتتابع الأحداث المفاجئة فيُنفى ديون، ويُكتَشف استعداده (أي ديونيزيوس) للسير على درب الفلسفة. ولا يُوضِّح أفلاطون طبيعة هذه التجربة، بل يكتفي بالإشارة إلى مَشقَّة الطريق، وحاجة المُمتحَن إلى تغيير حياته من أساسِها ليُصبح أهلًا للتفلسف. وقد أخفق ديونيزيوس في هذا الامتحان، وظهر عجزه الواضح من الحوار الوحيد الذي أجراه معه. ويتطرق الحديث إلى الكتاب الذي سَمِع بأن ديونيزيوس وضعه عن مذهبه. وعبثًا يحاول أفلاطون الاستخفاف بهذه المسألة. فنَغْمة السخط والاحتقار تتردَّد في كل كلمةٍ يقولها عنها: «وبعد ذلك بلغني أنه كتب رسالةً من تَأليفِه وتُعبِّر عن مذهبه لا عمَّا سمعه. ولكنني لا أعرف شيئًا مُؤكَّدًا في هذا الشأن». هل أراد هذا المؤلف الصغير أن يستغل ما شاع بين اليونانيين عن المودَّة التي بينهما لكي يُشوِّه صورته لديهم ويُثير سخريتهم على مذهبه؟ أليس غدرًا لا نظير له من تلميذ دَعِيٍّ لم يستمع إلى المُعلِّم إلا مرة واحدة، ومع ذلك واتَتْه الجرأة على تقديم آرائه للناس في ثوبٍ بالٍ مسكين؟ وترتفع أمواج الغضب في قلب الفيلسوف المُهان فيصرخ باعترافات جديدة من فوق مَركَبه المُحطَّم. لم تكن هذه هي أول مرة تُصيبه فيها مثل هذه المُصيبة. ولكن الكتب التي نشرها هؤلاء المُؤلِّفون المزعومون تشهد بأنهم لا يفهمون من الفلسفة شيئًا. والدليل على ذلك — وهو دليل يفاجئ به القارئ — أنه لم ينشر طَوال حياته شيئًا عنها.

صحيح أنه لا ينكر محاوراته، ولكن هذه المحاورات لا تتناول شيئًا عنها. وهو — للأسف — لا يُوضِّح لنا ما يقصده بذلك. فهل نَزَّه «المشكلات الأولى والأخيرة» عن لعنة الكتابة؟ هل أراد أن يحميها من الالتفاف في أكفان الكلمات الجامدة وتوابيت الحروف الباردة؟ أكان كل ما دَوَّنه من مُحاورات مجرد لعب وتسلية؟ حقًّا، ذلك كان مراده. فالفلسفة تتأبَّى على الكلمة المُدوَّنة التي تَتَّسِع لغيرها من العلوم؛ لأن حقيقتها «تنبثق في النفس فجأةً بعد مشاركةٍ طويلةٍ وتعاونٍ مُستمرٍّ في العكوف عليها كما يَنبثِق نورٌ يَقدَحه نَبضُ شرارة، وهنالك ينمو في أعماق النفس ويحيا …» ولو تَصوَّر أن نشر مُؤلَّفاته يمكن أن ينفع الناس، فهل كان يَتردَّد عن تقديم مذهب يُنقذهم من تعاستهم ويُبيِّن لهم حقائق الأشياء؟ هل كان يُمكِن أن يقوم في حياته بعملٍ أَجملَ من هذا العمل؟ ولكنه مقتنع بأن هذا لن يُجديَهم شيئًا، بل ربما جَرَّ عليهم الأذى والاضطراب؛ لأن القِلَّة القليلة منهم هي التي ستفهمه على الوجه الصحيح.

ولعل أفلاطون لم يتصور أن الناس ستقتنع بهذه الحُجة، أو لعله هو نفسه لم يقتنع بها! فهو يقدم الآن «حُجة لا يمكن دحضها»، وهي حُجة تستغرق الفصل العسير المشهور عن نظريته في المعرفة. ويبدو هذا الفصل غريبًا في رسالة مُوجَّهة إلى أُناس يطلبون منه الرأي والمشورة في موقفهم العسكري الحرج. كما يبدو غريبًا لانقطاع السياق والتحوُّل إلى مسألة فلسفية لا مكان لها فيه. وقد ذهب إلى هذا الرأي معظم المُتشكِّكِين في أصالة الرسالة، ولم يَتردَّد بعض المؤيدِين لِصحَّتها من نسبة هذا الجزء إلى كاتبٍ مُتأخِّر أراد أن يُثبت اطِّلاعه على نظرية المُثل٤ … ولكن الذي يعرف هدف أفلاطون الحقيقي من كتابة الرسالة.

وهو — كما قُلتُ — تبريرُ زيارته لصِقِلِّيَّة والدفاعُ عن فلسفته — لن يستبعد عليه أن يَتطرَّق إلى نظرية المُثل التي ظلَّت شُغله الشاغل في أواخر حياته، ولم يَتوقَّف عن شرحها وإثباتها والدفاع عنها في محاوراته المُتأخِّرة. لقد كانت أساس فلسفته وقِمَّتها العالية في وقتٍ واحد. ولهذا ليس غريبًا أن تحتوي على جانب «مُقدَّس» يحميه من تَطفُّل الكثرة الجاهلة. وليس غريبًا أن يشهد أنبغ تلاميذه «أرسطو» بأنها كانت تزداد غموضًا على غموض، وتَلتفُّ في دروسه الشفهية الأخيرة في ثوبٍ رياضيٍّ عسير.

يؤكد أفلاطون أنه أَعلَن من قبلُ عن هذا «اللوجوس الحق». ولا بد أنه يقصد بذلك محاضراته الشفهية؛ لأن كل تفاصيل هذا الجزء المُتعلِّق بنظرية المعرفة مُثبتةٌ في محاوراته المكتوبة، ومع ذلك فإن هذه التفاصيل لا تغني عنه؛ لأنه — في مجموعه — شيء نادر وفريد، ولا بد أن أفلاطون وجد مَشقَّة في تدوينه؛ إذ يَصِفه في النهاية بأنه «أسطورة» «وتَحسُّسٌ للطريق» وكأنه لحنٌ وقَّعه العازف الماهر فجأةً وخرج به عن مجرى النهر المُتدفِّق بالألحان.

تُحيِّرنا العبارات الأولى من هذا الفصل؛ فهي تضع أدوات المعرفة أو سُبلها المختلفة في صَفٍّ واحدٍ مع موضوع المعرفة نفسه. إنه سُلَّم من الكيفيات المتفاوتة الدرجة. فأدناها وأقلها قيمة هو الاسم، يتلوه التعريف وبعدهما تأتي النُّسخة «التمثُّل أو النُّموذج» ثُمَّ المعرفة وفي نهاية السُّلم يَشمَخ المِثال الذي تَتطلَّع إلى معرفته. وإذا كان التعريف في محاورات أفلاطون المُبكِّرة هو الذي يفتح لنا طريق المعرفة، فإن وضعه له هنا تحت النُّسخة أو التمثُّل لا يعني أنه يَحُط من شأنه.

وينتقل أفلاطون إلى مثال يُبيِّن ما يقصده بالأدوات الثلاث الأولى للمعرفة. أمَّا الأداة الرابعة فيقول إنها تتعلق بهذه الأمور، أي بالدرجات الدنيا التي يُوضِّحها المثل المضروب. ونُحس في هذا الموضوع أن تجربة المُعلم تفرض نفسها عليه، وكأنه يتحدث عن خبرته مع تلاميذه في الأكاديمية ومدى استيعابهم لأدوات المعرفة الثلاث. وينقسم المستوى الرابع إلى مستوياتٍ أُخرى تندرج تحته، وهي بدورها مستوياتٌ متفاوتة، ولكنها جميعًا تدور داخل النفس. ويُقدِّم لنا مثلًا جديدًا يُعلِّق عليه بقوله: «وإذا لم يتيسر لهم الأمور الأربعة الأولى مُجتمعةً، فلن يتمكن الإنسان أبدًا من معرفة الخامس معرفةً تامة. ومعنى هذا، بعبارةٍ أُخرى، أن المعرفة — بجانب الأدوات الثلاث الأخرى — هي التي تتيح معرفة الموضوع الخامس، إن صحَّ أن المثال موضوع، أو أن طريقة معرفتنا له يمكن أن تُسمَّى معرفة؛ «فهي لعمري شيءٌ غَيرُ مُحدَّد، لا يمكن أن تنقله الكلمة أو تصفه، شيءٌ أقربُ للنظر أو الرؤية»، لا بل إن من شأنه أنه لا يكاد يُرى (الجمهورية ٥١٧ب، ٧). والحق أن أفلاطون لا يُقدِّم لنا معنى مُحددًا لمفهومه عن المعرفة؛ فهناك المعرفة التي تدل على تمثُّل النفس لأدوات المعرفة الثلاث، وإن تكن في نفس الوقت مجرد إعداد لمعرفة الخامسة، أي إن فعل المعرفة ينقسم في واقع الأمر إلى فعلَين: أحدهما تمهيدي والآخر نهائي. والأهم من هذا كله أن أدوات المعرفة الأربع تعاني من ضَعفٍ مُشترك. وهذا يُذكِّرنا بمحاورات الشباب التي يَعتِب فيها سقراط على مُحدثِيه؛ لأنهم يبحثون دائمًا عن الكيفية «الخير». ويخرج أفلاطون عن دور الناقد للمعرفة ليتحدث عن الكتاب المزعوم الذي أفضى به إلى الاستطراد في كلامه عن المعرفة، فيؤكد ما سبق أن قرره من سوء الظن بالكلمة والحرف المكتوب، وإيمانه بأن «المشكلات الأخيرة» تستعصي على التعبير والتدوين، وكل ما يكتبه الكاتب عنها لا يعدو أن يكون ظلًّا باهتًا للتجربة الحية الكامنة في أجمل مكان من أعماقه:

ولهذا فلن يخاطر عاقل بوضع أفكاره في ثوب هذه اللغة الضعيفة، والأَوْلى من ذلك أَلَّا يخاطر بوضعها في ذلك الشكل الجامد الذي يُميِّز كل ما يُكتب بالحروف.

ويُوضِّح أفلاطون قوله بمثال الدائرة. فكل الدوائر المحسوسة ظلال ونسخ باهتة من الدائرة في ذاتها. وكل أدوات المعرفة بما فيها المعرفة نفسها — لا تقدم للنفس المُتطلِّعة للحقيقة إلا الصفات والكيفيات، سواءٌ في صورةِ كلماتٍ — بالاسم والتعريف — أو في صورةٍ ماديةٍ محسوسةٍ — بالتمثُّل أو النسخة — ومعنى هذا أنها لا تُقدِّم للنفس إلا ما لا تريده! ومن السهل إثبات الخداع والضلال في مثل هذه المعرفة. وليس هذا بالأمر الخطير حين نكون بصدد موضوعات عادية لا نلتمس فيها الحقيقة المُطلَقة: «عندئذٍ لا نضع أنفسنا موضع سُخرية السائلِين، حتى ولو كانت لدى هؤلاء القدرة على نقد أدوات المعرفة الأربع وإثبات خطئها»، أمَّا إذا أَصرَّ السائل على الحصول على جواب شافٍ عن «الخامس» — أي عن المثال لا عن الصفة والكيفية — فسوف يخرج من الحلبة منتصرًا بعد أن يكتشف عجزنا عن تقديم مثل هذا الجواب. فليس الطريق إلى المثال سهلًا ولا مُعبَّدًا، ولا التفلسُف — وهو الطريق الصاعد إليه — ميسورًا لكل إنسان. لا بد إذًا من محاولة الأدوات الأربع ومعاودة المحاولة — عندئذٍ يمكنها أن تُهيِّئ للخير ولمعرفة الخير»، ولن يتيسر هذا أيضًا بغير الجهد والصبر والعناء! لأن النفس الإلهية هي وحدها التي يُمكِن أن تقترب من المثال الإلهي. والشرط الأكبر هو هذا الخير. فإذا غاب عن إنسان — كما هو حال الكثرة من الناس — فلن يقدر «لينكويس» نفسه أن يُعلِّمه الرؤية (ولينكويس هو زرقاء اليمامة في أساطير الإغريق!)، هذه «الخيرية» تقوم على الطبع الخَيِّر والموهبة. فإذا تَوفَّرتا لإنسانٍ أمكنه أن يتفلسف. ولا شك أن هذا الإنسان نادر الوجود؛ فمعظم الناس قد تَلِفَت نفوسهم، وامتلأت باللوم والغدر والحسد والغباء. قد يتعلم هؤلاء شيئًا عن أدوات المعرفة الأربع، وقد يقرءون عنها أو يكتبون فيها آلاف الصفحات. ولكن هذا لن يُغيِّر من الحقيقة شيئًا، والحقيقة أنهم أبعد الناس عن روح الفلسفة؛ لأنها لا تَمدُّ جذورها في طباعٍ غريبةٍ عنها، كما أن النفس التي تخلو من الخير والجمال لن تشعر بِصلة القرابة بمثال الخير والجمال. ولن يزيد الذكاء وقوة الذاكرة أصحاب النفوس المطبوعة على الشر إلا قُدرةً على الشر. ولهذا كان أحد تعريفات الفلسفة عند أفلاطون هو هذا التعريف المشهور، التَّشبُّه بالله بقَدْر الطاقة، وهل يسعى إلى التشبيه إلا الشبيه؟ هل يُحس صلة القرابة بالخير إلا خَيِّر؟ يكفي أن تَتلفَّت حولك لِتتأكَّد من صدق أفلاطون، فكم من مُشتغلٍ بالفلسفة أو العلم لم يَزِدْه ذلك إلا قُدرةً على الشر والغدر والتطاول والإيذاء!

ولكن ماذا يريد أفلاطون على وجه التحديد «بالأمور الحاسمة» أو المسائل الأُولى والأخيرة التي تحتاج للجهد المُشترك المُتجدِّد، وتَتطلَّب الاستعانة بأدوات المعرفة جميعًا حتى يمكن بلوغ الهدف؟ وما هو هذا الهدف الذي يقصده؟

إنه المعرفة المُمكِنة بحقيقة الخير والشر. وأفلاطون يضيف الشر صراحةً ليؤكِّد أن العلم به ضرورةٌ لا غِنَى عنها، ولكنه لا يكتفي بهذا، بل يَزيد عليها ضرورة العلم «بالمظهر والحقيقة في الطبيعة كلها». فهل معنى هذا أن الهدف من الفلسفة الطبيعية لا يقل أهمية عن الهدف الأخلاقي؟ الواقع أن هذه مسألةٌ غامضةٌ مُحيِّرة. وهي تقف بنا على أبوابِ منطقةٍ مجهولةٍ في فلسفته المتأخِّرة لا يساعدنا هو نفسه على الدخول إليها. ومع ذلك فقد يُخفِّف من حَيرتنا أن أفلاطون يهتم دائمًا بالطريق أكثر من اهتمامه بالهدف. وهو يفعل هذا في خطابه السابع وفي سائر محاوراته «لأن الفلسفة طريق، والحوار الحُر السَّمْح هو إيقاع الخطوات الجَدليَّة على هذا الطريق!»، ومن الطبيعي أن يؤكِّد مشقة الجهد والوقت اللازم للسير عليه. وعندما يتم «احتكاك» أدوات المعرفة الثلاث بعضها ببعض، عندما تخضع لبحث «سَمْح» من أُناسٍ يتحاورون ويتبادلون الأسئلة والأجوبة «بلا حسد أو لؤم»؛ عندئذٍ يُمكِن أن يسطع في أنفسنا نور الفهم. ولا شك أن عودة أفلاطون إلى استخدام صورة النور لا يخلو من دلالة، ولا بد أنه يحمل نصيبًا من خبرته في التعليم وتجربته مع الحياة والناس. فالنور لا ينبثق إلا بالجهد المتصل والتعاون السَّمْح المشترك «الذي حَرَص عليه في أكاديميته!». وشرارة الفهم والمعرفة لا تنقدح إلا بالحوار لا بالكلمة المكتوبة والحرف الجامد. ولو بُعِث بيننا اليوم لفَرَّ مذعورًا إلى قبره بمجرد أن يرى آلاف المُذكِّرات المكتوبة ولا يلمح فيها شعاعًا واحدًا من النور، وآلاف الأدعياء والحاسدِين ولا خير عندهم ولا فضل! ومن يدري؟ فربما صرخ بعبارته التي يختم بها حديثه في هذا الموضع من رسالته قبل أن يُغلَق عليه باب القبر، «ولهذا لن يُفكِّر أيُّ إنسانٍ جادٍّ في الكتابة عن الموضوعات الجادَّة حتى لا يجعل الحقيقة نهبًا لحسد الناس وغبائهم»، وتسأل نفسك: ماذا يَفعل إذن بالحقيقة إن لم يَكتب عنها؟ ماذا يفعل إذا كانت الكتابات لا تُجدي وإذا كانت الظروف لا تسمح بالجهر برأيه؟ ربما كان الجواب هو ما قاله أفلاطون نفسه: يَحفظُها في رُكنٍ ناءٍ من أعماق القلب!

•••

ما الذي يسترعي انتباهنا في تحذير أفلاطون من الكتابة والمكتوب؟ إنه شيء «لا عقلي»، قد نُحسه ونتذوقه، ولكنه يستعصي على الفهم والتحديد. ومن الصعب أن نُدرجه في الظواهر اللاعقلية المعروفة. فليس تصوُّفًا صريحًا لأنه ينطوي على هدف عقلي واضح للمعرفة العلمية. ولا هو مجرد تعبير عن فعل المعرفة الخالصة الذي يكون فيه طريق البحث عن الحقيقة أهم من الحقيقة نفسها كما حاولنا أن نفسره. ومع ذلك ففيه شيء من التصوف وشيء من مشقة الطريق وعناء الفعل.

والأمر المؤكَّد على كل حال أن اللغة — وهي وسيلة التعبير المألوفة عن المعرفة والحقيقة — تعجز عن توصيله. بل إن أفلاطون يُقرِّر عجزها وقصورها، كما ينهى كل إنسانٍ جادٍّ من أن تُحدِّثه نفسه بالكتابة عن «حقائق الأشياء». أهو تبريرٌ لمنهج الحوار الذي سار عليه؟ أم تنبيه إلى جَدِّية الموضوع وصَونٌ له عن طموح المُتعجلِين والأدعياء الذين يسارعون لِلكتابة في كل شيء، ويَتوهَّمون أنهم فهموه وانتَهَوا منه بمجرَّد تقييده بالحروف المَّيتة؟ أم هو في النهاية درس استخلصه من تجربته مع تلاميذه في الأكاديمية؟ لن نستطيع أن نقطع بشيء في هذه المسألة. ويكفي أن نشعر بالتحذير ونخشع لرهبة النذير، فلعل هذا أن يمنعنا على أقل تقديرٍ من الإسراف في الكتابة التي استشرى وباؤها في عصر الكتب المُقرَّرة والمُذكرات الركيكة «والحكماء» الذين تَبْرأ منهم الحكمة …

لا يكاد أفلاطون ينتهي من هذا الفصل الخاص بنظرية المعرفة حتى يرجع للكلام عن ديونيزيوس، وكأن ما جاء فيه لم يكن إلا مُحاولةً لإقناعنا بأن كل من يكتب عن حقائق الطبيعة لا يفهم عنها شيئًا، سواءٌ أكان هو هذا الطاغية أم غيره! ولو حاولنا الاعتذار عنه بأنه أراد بتأليف كتابه أن يساعده على التَّذكُّر، فلن يكون ذلك إلا السخف بعينه. فالغرور هو الذي دفعه لما فعل، والتَّمسُّح في الفيلسوف أمام الرأي العام هو الذي جعله يقع فيما وقع فيه. وهل يكفي اللقاء الواحد الذي تَمَّ بينهما لِتلقِّي العلم؟ ولماذا اكتفى بهذا اللقاء الوحيد لو كانت نيته خالصة له؟ الواقع أنه وجد نفسه عاجزًا عن تغيير حياته وسلوكه بما يتفق مع الحكمة وواجباتها المُضنِية، ولو كان مخلصًا — في زعمه — لما أمكنه أن يُهين الرجل الذي هو الدليل والحُجة في هذا الأمر.

وهكذا يستطرد أفلاطون في الرواية عن رحلته الثالثة إلى صقلية. ولا يحتاج هذا الجزء إلى شرح أو تفسير؛ فسيرى القارئ أن الخطر كان يُهدِّده من كل ناحية، وأنَّ تَدخُّل أصدقائه الفيثاغوريِّين كان ضرورةً مُلحَّة، ثُمَّ يأتي الحديث عن لقائه بديون في أوليمبيا، ولا يستطيع الفيلسوف أن يحول بين ديون وحلفائه وبين اللجوء للقُوَّة، ولكنه يمتنع عن تقديم أيَّة مساعدةٍ إيجابية. لقد جَرُّوا على أنفسهم كل الكوارث التي أصابتهم منذ ذلك الحين. بل إن الجِناية لتعود في النهاية إلى ديونيزيوس؛ لأنَّ ديون لم يكن يستحق المصير الذي انتهى إليه. كانت مقاصده نبيلة، ولم يكن مجرد مِثاليٍّ أعمى. ولكنه أساء تقدير الواقع، واستهان بالأخطار المُحدِقة به: «لقد كان يعرف أن الذين تَسبَّبوا في سقوطه أشرار، أمَّا مدى فظاظته وخِسَّتهم وجَشَعهم فذلك هو الذي غاب عنه»، وهكذا راح ديون شهيد الفلسفة … حاول أن يُنقذ البشر لكنهم عجزوا كالعادة عن إنقاذ أنفسهم …

وتأتي الخاتمة فتُحاوِل أن تُبرِّر إقحام تجاربه في النصيحة المُوجَّهة إلى أتباع ديون. ومع أنها نصيحة بلا أمل، فإن الأمل الوحيد الذي يُعبِّر عنه في النهاية هو أن تكون مُبرِّرات «الورطة» كلها مُقنِعة …

وهكذا تنتهي الرسالة السابعة المشهورة. فهل ينتهي معها الأمل في «الإنقاذ»؟ هل كُتب على الفلسفة أن تحصد المُرَّ من صراعها الدائم مع الواقع؟ أم علينا أن نُجرِّب المحاولة دون أن يخذلنا اليأس؟ هل نظل ننتظر «المُنقذ» أم يجب علينا أن نبدأ بإنقاذ أنفسنا؟ وكيف ننقذها إن لم نتعلم كيف نُغيِّرها ونُحوِّلها ونُربِّيها على مشقَّة التفلسف وواجباته؟ ألم تكن هذه هي رسالة المربِّي اليوناني الكبير وغيره من المُربِّين العظام؟ وماذا نفعل نحن اليوم بعد أن استفحلت الكارثة وأصبحت الفلسفة نفسُها في حاجة إلى الإنقاذ من أيدي الأشرار الذين يَتسلَّطون ويُزوِّرون ويَغدِرون باسمها؟ من يُنقذها من التفاهة والعُقم والخراب حتى يَتسنَّى لها أن تُنقذ المدينة وتَحرسها؟!

وأخيرًا فقد اعتَمدتُ في هذا النص على الترجمتَين الألمانية والإنجليزية اللتَين قد قام بهما والتر هاملتون٥ وأرنست هوفالد،٦ وأَشَرتُ إلى الفروق الطفيفة بينهما كما أَفَدتُ من شروحهما وتعليقاتهما أعظم فائدة. وتجد النسخة الإنجليزية مرموزًا إليها في الهامش بالحرف «ب»، والألمانية بالحرف «أ». وأمَّا الأرقام المُسلسَلة المُثبَتة على هامش النص فتتبع ترقيمَ طبعةِ هنري أيتيين «هنريكوس أستيفانوس» التي يُرجع إليها عادةً في نصوص أفلاطون. وقد كان بِوُدِّي أن أُضاهيَ الترجمتَين على النص الأصلي — كما فَعلتُ مع نصوصٍ أُخرى للشاعرة سافو ولأرسطو وأفلاطون نفسه — ولكنني لم أستطع العثور على الأصل اليوناني أثناء العمل في هذا الكتاب.
١  أقول شبه تام؛ لأنَّ الهجوم تجدد أخيرًا على الرسائل بوجه عام والرسالة السابعة بوجه خاص، وذلك في كتاب ﻟ «إيدليشتاين» الذي ظهر ١٩٦٦م في ليدن عن رسالة أفلاطون السابعة، ويمكن الرجوع إلى مُلخَّص المناقشات حول هذا الموضوع كله في كتاب ح. ء. أ. راقن عن تطور تفكير أفلاطون، ١٩٦٥م، ١٩–٢٦.
٢  كان ديونيزيوس الأول قد تَمكَّن من السيطرة على صقلية ومعظم الجزر اليونانية في جنوب إيطاليا، وأقام فيها حكمًا مستبدًّا لم تشهد له مثيلًا في الظلم والطغيان، واستطاع بمساعدة المُرتزِقة الأجانب أن يوقف زحف القَرطاجيِّين الذين احتلُّوا الشريط الغربي من الجزيرة ولم تنقطع محاولاتهم بعد ذلك للاستيلاء عليها، ومع أن ديونيزيوس حافظ على الشكل الديمقراطي للحكم، فقد كان من أبشع الطغاة الذين عرفهم التاريخ القديم أو الحديث، وبلغ من استبداده أن خُرِّبَت مُدن الجزيرة وهَجَرها معظم سكانها، ولعل شخصيته أن تكون وراء الهجوم الضاري الذي يَشُنُّه أفلاطون على الطاغية والطغيان في الجمهورية (خصوصًا في الكتاب التاسع) وغيرها من محاوراته.
٣  تيموليون (مات حوالي سنة ٣٣٧ق.م) قائد وسياسي يوناني من مدينة «كورنثة»، خَلَّص سُكَّان صقليَّة من طغيان ديونيزيوس الثاني ومن القَرطاجيِّين الذين كانوا يَحتلُّون غرب الجزيرة، وقد تَمكَّن من احتلال سيراقوزة سنة ٣٤٣ق.م وأقام فيها دستورًا يحميها من الطغيان، وانهارت النظم الفردية المطلقة في الجزيرة تحت تأثير حكمه العادل، تخلى عن السلطة ورجع إلى حياته الخاصة سنة ٣٣٧-٣٣٦ق.م وأُصِيب بالعَمى قبل مَوتِه، ووَدَّعه أهل سيراقوزة وداعًا مهيبًا إلى قبره.
٤  نذكر على سبيل المثال الباحث كونسطنطين ريتر الذي أيد صحة الرسالة وأصالتها وتشكك حتى آخر حياته في الجزء الخاص بنظرية المعرفة ومستوياتها المختلفة مؤكدًا نسبته إلى أحد تلاميذ أفلاطون وأتباعه وهو فيليموس أوبوس، وقد استند «ريتر» في رأيته هذا إلى أن تقسيم أفلاطون وعرضه لمستويات المعرفة مختلف عن المواضع المناظرة في محاوراته. ولكن هذه الشكوك وأمثالها لا تمنع أن يكون أفلاطون قد أعطى لنفسه الحرية في تناول موضوع المعرفة بصورة مختلفة عن الصورة التي تناوله بها في محاوراته، نظرًا لاختلاف السياق والهدف في الحالَين.
٥  Plato; Phaedrus and the seventh and eight letters. Translated with intoductions by Walter Hamilton. London, Pengu Books, 1973.
٦  Palton; Der Siebente Brief. Ubersetzung und Nachwort von Ernst Howald. Stuttgart, Reclam, 1971.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤