الرسالة السابعة لأفلاطون
من أفلاطون إلى أقارب ديون وأصدقائه
(٣٢٣ﻫ) كتبتم إليَّ في خطابكم تقولون إن عليَّ أن أقتنع بأن آراءكم تتفق مع آراء ديون، ولهذا تَحثُّونني على التعاون معكم بالقول والفعل بقدر ما أستطيع.
(٣٢٤أ) فإذا كانت آراؤكم وأهدافكم هي نفس آرائه وأهدافه فإنني أَعِدكم بالتعاون معكم،
وإلا فإنني سأُضطر إلى التروِّي والتدبُّر في الأمر. أمَّا عن طبيعة معتقداته وغاياته،
فإنني آنس في نفسي القدرة على الحديث عنها حديثًا يعتمد على المعرفة الواضحة لا على
الظن والتخمين،١ فعندما وصلت لأول مرة إلى «سيراقوزة» — وكنت أبلغ من العمر حوالي الأربعين
— كان ديون في نفس سن «هيبارينوس» الآن، وقد احتفظ منذُ ذلك الحين وحتى يومِ مماته
بالعقيدة التي آمن بها، وهي أن أهل «سيراقوزة» يجب أن يعيشوا أحرارًا في ظل أفضل حكومة
ممكنة، ولهذا فليس من المستغرب أن تُنعِم مشيئةٌ إلهيَّة٢ (٣٢٤ب) على «هيبارنيوس» باعتناق نفس الآراء التي اعتنقها ديون. أمَّا عن
نشأة هذه الآراء فلا شك أنها قصة تستحق اهتمام الشباب والشيوخ؛ ولهذا فسوف أُحاول أن
أَروِيَها من بدايتها، لِثقتي من أن هذه هي اللحظة المناسبة لذلك.
كنت لا أزال في ريعان الشباب عندما حدث لي ما يحدث — عادةً — للكثيرِين، فقد
تَطلَّعْتُ إلى الإلقاء بنفسي في أحضان السياسة بمجرد بلوغي سن الرشد٣ (٣٢٤ﻫ)، وكانت هذه هي صورة الأحوال السياسية العجيبة التي سادت مَسقَط
رأسي؛ فقد كان الناس ناقمِين على الدستور القائم، وتَمَّتْ ثورةٌ نتج عنها تركيز السلطة
في أيدي واحد وخمسين رجلًا، كُلِّف منهم أحد عشر رجلًا «بتولي الوظائف العليا» في
المدينة، وعُيِّن عشَرةٌ آخرون على بيرايوس، «وقد عُهد إلى هذَين المجلسَين بالإشراف
على مراقبة الأسواق وغيرها من الشئون الإدارية العامة»، أمَّا الثلاثون الباقون فقد
تَولَّوا زِمام السلطة المُطلَقة. وكان بعض هؤلاء يَمُتُّون إليَّ بِصلة القرابة،
وبعضهم الآخر من معارفي؛ ولهذا دعوني على الفور إلى التعاون معهم، وكأن اشتغالي
بالسياسة أمر مفروغ منه. ولم يكن من المُستغرَب من شاب مثلي أن يَتوقَّع منهم أن يحكموا
المدينة حكمًا ينقلها من الظلم إلى العدل٤ (٣٢٤د)؛ ولهذا رُحتُ أَرقُب ما يفعلونه بعناية واهتمام بالغَين. وسرعان ما
اكتَشفْتُ أن هؤلاء الرجال قد استطاعوا — في أقصرِ وقتٍ ممكن — أن يجعلوا الحكم السابق
عليهم يبدو في صورة عصر ذهبي٥ (٣٤٢ﻫ)؛ فقد كان مما فعلوه أن أمروا بتكليفِ صديقٍ شيخٍ عزيز — وهو سقراط
الذي لا أَتردَّد عن وصفه بأنه كان أعدل الناس في ذلك الزمان — مع نفر آخر من الرجال
بالقبض على أحد المُواطنِين وإحضاره بالقوة لتنفيذ حكم الإعدام فيه. ولم يكن لهم غَرضٌ
من ذلك بطبيعة الحال سوى إقحام سقراط في أعمالهم، سواءٌ رضي عن ذلك أو لم يَرضَ. غير
أنه لم يخضع لأمرهم، وفضَّل أن يُخاطِر بكل شيء على المشاركة في جرائمهم، فلمَّا رأيت
هذا كله وما شابهه من أعمالٍ لا تقل عنه بشاعة أصابني الاشمئزاز وابتَعَدتُ بنفسي عن
تلك الأوضاع المُشينة٦ (٣٢٥أ)، ولم يَمضِ وقتٌ طويلٌ حتى انهار حكم الثلاثين وانهار معهم نظام
الدولة القديم كله. وما هو إلا أن عاودني الشوق إلى المشاركة في الحياة السياسية، وإن
كنت قد شَعَرتُ به في هذه المرة شعورًا أضعف، لم تكن الأمور قد استَقرَّت بعدُ٧ (٣٢٥ب)، وحَدثَت أيضًا في تلك الفترة — التي جاءت في أعقابِ ثورةٍ شاملة —
أشياء لا يملك الإنسان نفسه من السخط عليها، ولم يكن من الغريب في هذا العالم المُضطرِب
أن يستغل بعض الناس الفرصة للثأر من أعدائهم على أَبشعِ صورة، ومع ذلك فقد كان سلوك
الحزب العائد «من المنفى» يتسم بقدرٍ كبيرٍ من الاعتدال.
ثُمَّ شاء سوء الحظ مرة أخرى أن يقوم بعض رجال السلطة في ذلك الحين بتقديم صديقي
سقراط إلى المحاكمة وأن يُوجِّهوا إليه تهمةً خسيسةً هو أَبعدُ الناس عنها، فقد اتهموه
بالتجديف في حق الآلهة٨ (٣٢٥ﺟ)، وأدانته المحكمة وقضت عليه بالإعدام، وهو الذي رفض قبل ذلك
الاشتراك في جريمة القبض على واحدٍ من أنصار الحزب الحاكم الذي وَجَّه إليه التهمة، في
الواقع الذي كان فيه رجال هذا الحزب يُقاسون الاضطهاد ويعيشون في المنفى. لمَّا رَأيتُ
ذلك وتبيَّنتُ نوع الرجال العاملِين في السياسة وأَخَذتُ في ملاحظة القوانين والأخلاق
السائدة، اقتَنَعتُ في النهاية بصعوبة الاشتراك في الحكم٩ (٣٢٥د)، وازداد هذا الاقتناع قُوةً مع تَزايُد المُلاحَظة والتقدُّم في
العمر. فقد بدا لي هذا الأمر مستحيلًا بغيرِ أصدقاءَ وحُلفاءَ أوفياء، والعثور على
أمثال هؤلاء من بين المعارف القُدامى لم يكن بالأمر السهل؛ لأن مدينتنا لم تكن تعيش على
المبادئ التي عاش عليها أجدادنا، كما أن الحصول على أصدقاءَ جُدد لم يكن لِيتمَّ بغير
صعوبات جمَّة. ثُمَّ إن فساد التشريع والأخلاق العامة قد استفحل من ناحيةٍ أُخرى
بِصورةٍ مخيفة؛ بحيث أصابني الدُّوار في النهاية أمام هذا الاضطراب الشامل، وأنا الذي
كنت في البداية مُفعَم النفس بالتحمُّس للحياة السياسية. صحيحٌ أنني لم أتوقف عن
التفكير في طريقة إصلاح هذا الميدان بوجهٍ خاص وإصلاح الأحوال السياسية بوجهٍ عام١٠ (٣٢٥ﻫ)، ولكنني ظَلَلتُ أَترقَّب الفرصة المُواتية للعمل، حتى انتَهيتُ
أخيرًا إلى الاقتناع بأن حالة الدول الحاضرة كلها سيئة، وأنها تحكم حكمًا يدعو للرثاء١١ (٢) (٣٢٦أ)، وأن دساتيرها المريضة لا يمكن أن يشفيها إلا إصلاحٌ يَتمُّ
بمعجزة يُؤيِّدها حسن الحظ. وهكذا وجَدتُني مدفوعًا إلى الاعتراف بقيمة الفلسفة الحقَّة
والتأكد من أنها هي وحدها التي تُمكِّن الإنسان من معرفة العدل «والصواب» الذي تصلح به
الدولة والحياة الخاصة، وأن الجنس البشري لن يَتخلَّص من البؤس١٢ حتى يصل الفلاسفة الحقيقيون الأُصلاء إلى السلطة، أو يُصبح حكام المدن —
بفضل مُعجزةٍ إلهية — فلاسفةً أُصلاء (٣٢٦ب).١٣
١
أ: يعتمد على المعرفة الحميمة.
٢
أ: أن يسوق إله هيبارنيوس إلى …
٣
ب: بمجرد أن أكون سيد نفسي.
٤
ب: توقعت من هذه الحكومة أن تأتي معها بالتحول من الإدارة الفاسدة إلى
الإدارة السليمة.
٥
أ: استطاعوا أن يجعلوا الدستور السابق يبدو كالجنة (بالقياس إلى
حكمهم).
٦
أ: ابتَعَدتُ بنفسي عن ذلك الشر السائد.
٧
ب: زيادة من «ب». وهي إشارة إلى نظام الحكم الديمقراطي الذي أطاح بحكومة
الثلاثين.
٨
بعدم الورع وإنكار الآلهة.
٩
أ: بصعوبة حكم الدولة حكمًا صحيحًا.
١٠
أ: إصلاح نظام الدولة بوجه عام.
١١
أ: زيادة في «أ».
١٢
ب: أن متاعب البشرية لن تتوقف.
١٣
أ: أو يبدأ حكام المدن في التفلسف الجاد.