زيارة أفلاطون الأولى لصقلية
وصداقته لديون الذي دعاه لزيارة ديونيزيوس الثاني بعد توليه الحكم في سنة
٣٦٧ق.م
كانت هذه هي آرائي وأفكاري١ (٣٢٦ﺟ) عندما زُرت إيطاليا وصقلية لأَوَّل مرة. وما كنت أَصِل إلى هناك حتى
شَعَرتُ بنفورٍ شديدٍ من الحياة التي يعيشها قوم يُوصفون هناك بأنهم سعداء، وهي حياةٌ
تقوم على ألوان المَلذَّات٢ (٣٢٦د) «الإيطالية» و«السيراقوزية»، لم يَرُق لي أن يعيش الإنسان لكي يملأ
بطنه مرتَين في اليوم، ولا ينام وحده أبدًا بالليل، إلى غير ذلك من أمور تتفق مع هذا
الأسلوب في العيش. فمن المستحيل على أي إنسانٍ فانٍ نشأ منذ حداثته في هذه البيئة أن
يُصبح حكيمًا — إذ لا يُوجَد إنسانٌ بهذا التكوين العجيب — ولن يكون في إمكانه أن يبلغ
الاعتدال والتدبُّر أو غيرهما من الفضائل. وكذلك لن تتمتع أية دولة بالطُّمأنينة
«والسلام» — مهما يكُن لديها من قوانينَ رائعة — إذا كان أهلها يؤمنون بأنَّ عليهم أن
يُنفقوا كل ما يملكون على «الترف» والمَلذَّات، وأن يَدَّخروا كل جهودهم للمأكل والمشرب
والعشق. بل إن أمثال هذه الدول لا بُد أن تقع دائمًا تحت سَطوةِ طاغيةٍ فرد، أو بعض
الأُسَر أو حُكم الغَوغاء٣ (٢٣٦ﻫ)، ولن تَتحمَّل الدوائر الحاكمة فيها مجرد سماع كلمة «نظام الحكم
العادل والديمقراطي»، هكذا تَوجَّهتُ إلى سيراقوزة حاملًا هذه الأفكار إلى رأسي،
بالإضافة إلى الاعتبارات الأساسية التي ذكرتها من قبلُ. ربما كانت المصادفة البحتة «هي
المسئولة عن هذا»، والأرجح فيما يبدو أن يكون أحد الآلهة هو الذي حرك في ذلك الحين تلك
الأحداث التي أَلمَّت أخيرًا بديون وسكان سيراقوزة، وربما يَتسبَّب في وقوعِ أحداثٍ
أُخرى إذا لم تستمعوا إلى نصيحتي التي أُوجِّهها إليكم للمرة الثانية.
ما الذي أقصده من قولي بأن فترة إقامتي تلك في صقلية كانت وراء كل هذه الأمور؟٤ (٣٢٧أ) يبدو أنني عندما التَقَيتُ بديون في ذلك الحين — وكان لا يزال
شابًّا صغيرًا — قد عَمِلْت دون قصدٍ مني على انهيار الطغيان،٥ وذلك عندما أَفضيتُ إليه بآرائي عن أفضل الأمور للبشرية وحثَثْتُه على
اتباعه بصورة عملية. فقد تَحمَّس ديون — الذي كان بطبعه سريع الفهم وبخاصة لما قلتُه
له
آنذاك — تحمُّسًا شديدًا فاق ما عَرفتُه من كل الشبَّان الذين قابلتهم في حياتي،
وقَرَّر أن يعيش حياته الباقية بطريقة مختلفة عن أغلبية الإيطاليِّين والصقليين؛ إذ
كانت الفضيلة عنده أسمى من المَلذَّات والمباهج الحسية؛ ولهذا عاش حياة أثارت عليه حقد
حاشية ديونيزيوس٦ (٣٢٧ب)، وظل الأمر على هذه الحال حتى مماته «أي ديونيزيوس الأب …» وعندما
وقع هذا الحادث داخله الاعتقاد بأن الآراء التي اكتسبها من الفلسفة الحقة قد لا تقتصر
عليه وحده، كما تأكد له بالفعل أنها قد انتقلت إلى الآخرين، صحيح أن هؤلاء لم يكن عددهم
كبيرًا، ولكنهم كانوا مجموعة من اناس على كل حال، وقد كان من رأيه أن ديونيزيوس الشاب
يمكن أن يصبح بمعونة الآلهة واحدًا منهم، وعندئذٍ تنعم حياته وحياة سكان سيراقوزة
بسعادة تجل عن الوصف، ولهذا كان من رأيه أن أحضر إلى سيراقوزة بأي ثمن لأشارك في تحقيق
هذا الهدف؛ إذ لم يكن قد نسي بعدُ أن لقائي معه قد بثَّ في نفسه الحنين إلى أجمل وأنبل
حياة مَمكِنة. ولقد عقد أكبر الآمال على نجاحه في التأثير على ديونيزيوس، واعتقد أنه
لو
وُفِّق في مسعاه لاستطاع أن ينشر في ربوع البلاد حياةً سعيدة تستحق أن تشرف اسمه٧ (٣٢٧ﺟ)، وذلك دون حاجة للقتل وسفك الدماء وغيرهما من أعمال العنف التي جرت
بالفعل، هكذا تمكَّن بفضل هذه الأفكار الصحيحة من إقناع ديونيزيوس بأن يرسل في طلبي،
كما توسل إليَّ في رسائله بأن أبادر إلى الحضور بغير إبطاء، وذلك قبل أن يقع ديونيزيوس
تحت تأثير بعض العناصر التي تُنفِّره من الحياة الفاضلة وتُغرِيه بالتَّحوُّل عن هذا
المثل الأعلى إلى حياة أخرى «فاسدة». وقد كانت هذه هي كلماته التي أَجتزِئ بذكر بعضها
حتى لا تشغل حيِّزًا كبيرًا: «هل هناك فرصة أخرى أنسب من هذه الفرصة التي هيَّأتْها
العناية الإلهية؟» هكذا تساءل «في خطابه»، ثُمَّ استطرد في الحديث عن ضخامة المنطقة المحكومة٨ (٣٢٧ﻫ) في إيطاليا وصقلية، وعن وضعه هو نفسه في هذه المملكة، وعن شباب
ديونيزيوس وشغفه بالمعرفة، كما أسهب في تأكيد استعداده للفلسفة والعلم، وأضاف إلى ذلك
أن أولاد خئولته وعمومته٩ (٣٢٨أ) وبقية أقاربه يمكن كسبهم بسهولة في صف المذهب الذي أعلنته واتباعه
في الحياة العملية، وأنهم يصلحون أيضًا على خير وجه لكسب ديونيزيوس نفسه إلى جانبه.
عندئذٍ يمكن الآن أن يتحقق الأمل في الجمع بين الفيلسوف وحاكم دولة كبرى في شخص
واحد.
هكذا أخذ ديون يُلِح عليَّ بمثل هذه الحجج «والمزاعم المُغرِية»١٠ (٣٢٨ب)، وكنت أشعر من ناحية بالتخوُّف من الشباب وعواقب الأمور التي
يتصدَّى لها — فسرعان ما تشتعل ميول الشباب للإقدام على عمل، وسرعان ما تنبو وتَتجِه
إلى عَملٍ آخر معارضٍ له — وكنت أعرف من ناحية أخرى أن ديون خيِّر بطبيعته١١ (٣٢٨ﺟ)، كما أنه كان يَتمتَّع في ذلك الحين بمزايا العمر الناضج، ومع أنني
تردَّدْتُ بين قبول الدعوة أو عدم قبولها وأَخذتُ أُقلِّب الأمر من كل ناحية؛ فقد بدا
لي في النهاية أن هناك أسباب كثيرة تُرجِّح أمامي الآن وجود حالةٍ يَتحتَّم فيها
الإقدام على المُخاطرة، هذا إذا شاء أحد على الإطلاق أن يحاول وضع آرائه عن القانون
ودستور الحكم موضع التنفيذ في الواقع الملموس، فقد كنتُ الآن بحاجة إلى إقناعِ إنسانٍ
واحدٍ بآرائي لكي أُحقِّق كل الخير الذي قَصَدتُ إليه.
هكذا غادَرتُ وطني بعد أن شجَّعَتْني هذه الأفكار على الإقدام على المُخاطرة، ولم
تكن
الدوافع التي حرَّكَتْني إلى ذلك كما تَصوَّر بعض الناس، بل كان الدافع الأساسي هو خوفي
من الشعور بالخجل من نفسي١٢ (٣٢٨د)، وخشيتي من أن أَبدُوَ في عيني مجرَّد رجلٍ نظري١٣ عاجز عن إنجازِ فعلٍ واحد، وأن أقع في شبهة الخيانة لوفاء ديون وكرم
ضيافته، وذلك في الوقت كان فيه يَتعرَّض لخطرٍ لا يقل «عن الخطر الذي يمكن أن أَتعرَّض
له». ولو فُرض أنه وقع في مِحنة أو اضطرَّه ديونيزيوس وسائر أعدائه إلى مغادرة بلاده
فجاء إليَّ وقال لي: «أفلاطون، ها أنت تَراني منفيًّا، لا لأن «قوات» المشاة والفرسان
كانت تُعوِزُني لِصدِّ أعدائي، بل لأنني كنت أفتقر إلى الكلمات والحُجج المُقنِعة التي
كنت أعلم أنك أقدر الناس على استخدامها لهداية الشباب إلى الخير والعدل وتوثيق روابط
الحب والصداقة بينهم في كل الأحوال، إن الذنب يقع عليك لأنك لم تَسُدَّ حاجتي إليها؛
ولذلك اضطُرِرتُ لمغادرة سيراقوزة لتجدني الآن أمامك … وليس ما فعلتَه في حقِّي هو الذي
يجلب العار، ولكن الفلسفة التي لا تكُف عن ذِكرِها على لسانك ولا عن القول بأن بقيَّة
الناس تستهين بشأنها، هل تُنكر أنك خُنتها الآن بخيانتك لي؟ لو كُنتُ من سكان «ميجارا»
لاستَجبتَ بالتأكيد لدعوتي إيَّاك بمساعدتي والوقوف بجانبي، وإلا اعتَبَرت نفسك إنسانًا
نَكَص عن أداء واجبه. أمَّا الآن فإنك تَتصوَّر فيما يبدو أن طول الرحلة ومشقَّة السفر
بالبحر يمكن أن تكون عُذرًا لك، وأنك ستَتمكَّن بذلك من الهرب من تُهمة نِسيان الواجب»١٤ (٣٢٩أ). ولكن هذا شيءٌ مستحيل «لو أنه خاطبني بمثل هذا الكلام فهل سأجد
عندي ما أَرُدُّ به عليه؟ لا، لن أجد شيئًا.» هكذا قَرَّرْتُ أن أُطيع دواعي العقل
والعدل بقَدْر ما في طاقة الإنسان ومَضيتُ إلى هناك. وكان ما ذَكَرتُه هو الذي جعلني
أتخلَّى عن عملي في التعليم الذي كان أَحبَّ شيءٍ إلى نفسي، وأن أحيا في بلد يسوده
الطغيان الذي لم يكن يبدو أنَّه يتفق مع آرائي أو يوافق طبعي، وبهذا أَدَّيتُ واجبي نحو
«زيوس» حامي الصداقة١٥ وصُنتُ الفلسفة من كل عَيبٍ يُمكِن أن يُلصَق بها١٦ لو أني جَرَرتُ العار على نفسي بجُبني وإيثاري الراحة.
وعندما وصلت إلى هناك — وهذه هي خُلاصة قصة طويلة — وجَدتُ بلاط ديونيزيوس يموج
بالدسائس، وكل ما فيه يفتري على «ديون» عند الطاغية الفرد، وقد دافَعتُ عنه بقَدْر ما
استَطَعتُ، ولكن قدرتي كانت محدودة. وبعد حوالي ثلاثة شهور١٧ (٣٢٩ﻫ) من وصولي نفاه ديونيزيوس على أَبشعِ صورةٍ مُخجِلة، وأمر بوضعه على
ظهرِ سفينةٍ صغيرة، وذلك بتهمة التآمر والطمع في الحكم. وخِفنا — نحن أصدقاء ديون — أن
يَتهِم الواحدُ مِنَّا الآخر بالتحالف معه «في مؤامراته» وأن ينتقم مِنَّا أيضًا. بل
لقد انتَشرَت في ذلك الوقت في سيراقوزة إشاعةٌ بأن ديونيزيوس أَمَر بقتلي بحُجة أنني
كنت السبب في كل ما جرى، ولكن ديونيزيوس لاحظ الحالة التي كُنَّا فيها، وأحس بالقلق من
أن تسوقنا مَخاوفُنا إلى اللجوء لعملٍ من أعمال العنف؛ ولهذا أَذِن لنا بمقابلته
وتَحدَّث معنا حديثًا وديًّا، واختَصَّني بمواساته وتشجيعه، وأَلحَّ عليَّ أن أبقى؛ لأن
سمعته — فيما زعم — مرهونةٌ ببقائي، ولو هربت منه لما استفاد من ذلك شيئًا١٨ (٣٢٩د)؛ ولهذا تَظاهَر بالإلحاف عليَّ في الرجاء، وإن كُنَّا نعلم علم
اليقين أنَّ توسُّلات الطغاة تقترن دائمًا بالتهديد. وهكذا حال دون سفري لكي يُحقِّق
غرضه، وأَمَر بإسكاني في البُرج١٩ (٣٢٩) الذي لم يكن قُبطان سفينة لِيجرؤ على أن يأخذني منه بغير إرادةِ
ديونيزيوس، ولم أكن لِأخرُج منه إلا بإذنٍ صريحٍ منه. وكذلك لم يكن في استطاعة أيِّ
تاجرٍ أو ضابطٍ من حرسِ الحدود أن يتركني أُغادر البلاد لو صادفني سائرًا وحدي، بل كان
الأَوْلى أن يقبض عليَّ ويُسلِّمني لديونيزيوس، وخصوصًا بعد أن تَردَّد — خلافًا
للإشاعة السابقة — أن ديونيزيوس يعامل أفلاطون مُعاملةً وُدِّيةً للغاية٢٠ (٣٣٠أ). «ولكن هل كانت هذه هي الحقيقة؟ إن مَودَّته كانت تزداد مع مُضيِّ
الزمن كلما ازداد قُربًا مني وإلفًا لِطَبعي. ولكنه طلب مني أن أُقدِّره أكثر مما كنت
أُقدِّر ديون، وأن يكون مني بمنزلة الصديق العزيز الذي كَانَه، وتَلهَّف على بلوغ هذه
الغاية تَلهُّفًا يفوق الوصف. غير أنه أَجفَل من سلوك السبيل الذي يَكفُل تحقيقها، إن
كان إلى تحقيقها من سبيل، وهو أن يتتلمذ عليَّ ويشارك في محاوراتي الفلسفية ليزداد
قربًا مني؛ وذلك خوفًا مما حَذَّره منه الوُشاة والمُرجِفون، وهو أن يُحاط به وتَتعطَّل
حُريَّته، وبذلك يتحقق ما أراده ديون. وقد صَبرْت على هذا كله، مخلصًا لهدفي الذي جِئتُ
من أجله، على أمل أن تُخالجَه الرَّغبة في الحياة الفلسفيَّة، ولكنَّه ظل يُقاوِم إلى
النهاية.»
١
ب: كانت هذه هي حالتي العقلية.
٢
لم تَرُق لي أذواق مجتمع عاكف على ألوان الطهي والطعام «السيراقوزي».
٣
ب: ستتعرض مثل هذه الدولة لثورات لا تنتهي، فتقع على الترتيب تحت حكم
الاستبداد والأوليجاركية والديمقراطية.
٤
أ: إلى أي حد يمكنني الزعم بأن فترة إقامتي تلك … إلخ.
٥
ب: … على الإطاحة بحكم استبدادي كان على وشك الوقوع.
٦
ب: ولهذا كان منذ ذلك الحين وحتى موت ديونيزيوس الأب شوكة في لحم أولئك الذين
كانوا في خدمة الحكومة الاستبدادية.
٧
العبارة الأخيرة زائدة في «أ».
٨
ب: عن الإمبراطورية القائمة في إيطاليا.
٩
المقصود هنا هم أقارب ديون وأولاد أخواله وأعمامه.
١٠
زائدة في «أ».
١١
ب: أن ديون جاد بطبيعته.
١٢
ب: هو خوفي من أن أفقد احترامي لنفسي.
١٣
ب: أن أبدو رجلًا من هواة الكلام.
١٤
أ: من سمعة الجبن.
١٥
لم ترد هذه العبارة في الترجمة الإنجليزية.
١٦
ب: وصنت نفسي من لوم الفلسفة.
١٧
ب: بعد حوالي أربعة أشهر.
١٨
أ: لأنه لن يكسب من هروبي شيئًا. وإنما من بقائي.
١٩
ب: في القلعة.
٢٠
ب: أن ديونيزيوس مغرم بأفلاطون «أو معجب به» غرامًا شديدًا.