نصيحة لحلفاء ديون
تلك كانت أسباب١ (٣٣٠ﺟ) زيارتي الأُولى لِصِقِلِّيَّة وفَترةِ إقامتي فيها، بعد ذلك رَحلْتُ
إلى وطني ثُمَّ رَجعتُ إليها مَرةً أُخرى تحت إلحاح ديونيزيوس. أمَّا لماذا حدث هذا،
وكيف يشهد كل ما فَعلْته على الحق والاستقامة، فسوف أَقُص عليكم قِصته فيما بعدُ، لكي
أُشبِع رغبة المُتطلِّعِين إلى معرفة قصدي من العودة إلى هناك. وسأبدأ بتقديم نصيحتي
إليكم فيما ينبغي عليكم أن تفعلوه في الظروف الراهنة، حتى لا يَشغلَني موضوعٌ جانبيٌّ
عن الموضوع الأصلي، وإليكم ما أريد قوله:
إذا جاز لإنسانٍ أن ينصح مريضًا يحيا حياةً مُؤذِيةً لصحته، فإن أول ما ينبغي عليه
القيام به هو تغيير أسلوب حياته، والتأكُّد من استعداده لإطاعة تعليماته قبل المُضِي
في
تقديم النصح إليه. فإذا تَبيَّن له أن المريض لا يريد أن يطيعه، فسوف أَصِف الطبيب الذي
يرفض الاستمرار في مُعالجتِه بأنه طبيبٌ أصيلٌ وإنسانٌ مستقيمُ الخُلق، أمَّا الذي يرضى
بذلك الوضع «ويستمر في تقديم نصائحه» فسيكون في رأيي إنسانًا ضعيفًا وطبيبًا سيئًا.
ونفس الشيء ينطبق على الدولة، سواءٌ كان على رأسها رجل واحد أو عِدَّة رجال، فإذا كانت
شئون الحكم٢ (٣٣٠د) فيها تسير على الطريق الصحيح وسَألَت النصح والمشورة في أَمرٍ يمَس
مصلحتها، فإن من العقل في هذه الحالة أن يُقدَّم النصح إلى أمثال هؤلاء الناس. أمَّا
إذا كانوا قد تَنكَّبوا سُبل الحكم الصحيحة وأَصرُّوا على عدم الرجوع إليها وطالَبوا
ناصحهم «والمُشير عليهم» صراحةً بألَّا يمَس دستورهم، بل هدَّدوه بالموت إن حاول أن
يفعل، وفَرضوا عليه أن يُشير عليهم بأسرعِ وأَيسرِ طريقةٍ تُمكِّنهم من الاستمرار في
إشباع رغباتهم وشهواتهم؛ إذ حدث أن قَبِل أَحدٌ تقييد نصيحته على هذه الصورة فسوف
أَصِفه بالجُبن، أمَّا من يَرفُض قَبولها فسوف أَعُدُّه رجلًا شجاعًا. هذه هي عقيدتي،
وكلما سألني أحد عن رأيي في مسألةٍ هامَّةٍ تتصل بحياته الخاصة، كأن تكون مسألةً ماليةً
أو موضوعًا يَتعلَّق بسلامة جسمه أو نفسه، قَدَّمتُ إليه النصيحة عن طِيبِ خاطرٍ ولم
أَكتفِ بأداء الواجب أداءً شكليًّا٣ (٣٣١ب)، وذلك إذا رأيت أنه يسير في حياته اليومية على مَبادئَ مُعيَّنةٍ أو
ظهر لي على الأقل أنه على استعدادٍ لسماع نصيحتي. أمَّا إذا لم يَسألْني النصح على
الإطلاق أو اتضح لي أنه لا ينوي الاستجابة لمشورتي فلن أُفكِّر أبدًا في أن أَفرِض عليه
نصيحتي، بل لن أُحاول أن أَفرض رأيي حتى على ابني. ربما وجهتُ النصح لعبدٍ ما، وربما
لَجأتُ إلى فرضها عليه إذا رفض أن يأخذ به. ولكنني أعتقد أن من الخطأ اللجوء إلى ذلك
مع
الأبِ والأُم، اللهُمَّ إلا إذا كانا مريضَين مَرضًا عقليًّا. أمَّا إذا كانا يعيشان
عيشة تُعجبهما ولا تُعجبني، فليس من الصواب أن أدفعهما إلى كراهيتي بتوجيه النصائح التي
لن تُجدي معهما، وليس من الصواب أن أدفعهما إلى كراهيتي بتوجيه النصائح التي لن تجدي
معهما، وليس من الصواب أيضًا أن أَتملَّقهما بمساعدتهما على إشباعِ شهواتٍ أُؤثِر أنا
نفسي الموت على الجري وراءها. وينبغي على الحكيم أن يسلك نفس المسلك من مدينته، فإذا
بدا له أنها تُحكم حكمًا سيئًا فعليه ألا يرفع صوته إلا إذا رأى أن كلماته لن تضيع
سُدًى ولن تُؤدِّي به إلى الموت، ولا ينبغي عليه أبدًا أن يحاول اللجوء إلى القوة
لتغيير الدستور. وإذا استحال إصلاحه «أي الدستور» بغير توقيع عقوبة النفي أو الموت على
بعض مُواطنِيه، فمن الواجب عليه في هذه الحالة أن يَلزم الهدوء ويُفوِّض أَمرَه وأَمرَ
مدينته للآلهة.٤
أريد الآن وَفقًا لهذه المبادئ أن أُوجِّه إليكم النصيحة على نحوِ ما فَعلْتُ عندما
اشتَركْتُ مع ديون في تقديم النصح لديونيزيوس. فقد أشرنا عليه بأن يبدأ بتنظيم حياته
اليومية بحيث يَتمكَّن من السيطرة على نفسه إلى أقصى حَدٍّ مُمكنٍ ويكتسب أصدقاءَ
أوفياءَ لكيلا يُصيبَه ما أصاب أباه؛ فقد عجز هذا — بعد استيلائه على مُدنٍ كثيرةٍ سبق
أن دَمَّرها البرابرة تدميرًا تامًّا — عن تعميرها وإقامة حكوماتٍ مُواليةٍ فيها، ولم
يستطع أن يجد الحُلفاء الذين يديرون أمورها، لا من الأجانب ولا من بين إخوته الصغار
الذين قام بنفسه على تربيتهِم وبَوَّأهم مقاعد الحكم وحوَّلهم من الفَقرِ إلى الغِنى
الفاحش، ولم يَتمكَّن كذلك — على الرغم من كل الجهود التي بذلها — من إشراكهم معه في
الحكم، لا بالإقناع والتوجيه، ولا بالصلات وروابط الدم. وهكذا أثبت أنه كان أسوأ سبع
مرات من «داريوس»٥ (٣٣٢أ)، الذي لم يكن لديه من يعتمد عليهم من أصدقاء أو أشقاء تولى بنفسه
تربيتهم، وإنما اعتمد — على الرغم من ذلك — على أولئك الذين ساندوه في الإطاحة
بالخَصيِّ الميديِّ، وقسَّم مملكته بينهم إلى سبعة أقسام، كُلُّ قسمٍ منها أَكبرُ من
صقلية بأَسرِها. وأثبت هؤلاء الحُلفاء ولاءهم له فلم يهاجمه واحدٌ منهم ولم يَعتَدِ
أحدٌ منهم على الآخر. وهكذا قَدَّم «داريوس» النُّموذجَ الأَمثلَ لما ينبغي أن يكون
عليه المُشرِّع والملك، ووضَع القوانين التي حافَظتْ على الإمبراطورية الفارسية حتى
يومنا الحاضر. ونفس الشيء يمكن أن يُقال عن الأثينيِّين الذين وضعوا أيديهم على عَددٍ
كبيرٍ من المدن الإغريقية التي كان البرابرة (أي الفُرس) قد غَزَوها من قبلُ، ولكنها
كانت لا تزال آهلةً بالسكان. ومع أنهم لم يؤسِّسوها بأنفسهم٦ (٣٣٢ب)، فقد استطاعوا أن يحافظوا على سيطرتهم عليها سبعينَ سنةً كاملة؛ إذ
كان لديهم في كلِّ مدينةٍ منها أصدقاءُ أوفياءُ يَتوَّلون حكمها. أمَّا ديونيزيوس٧ (٣٣٢ﺟ) الذي لم يكن يثق بأحد، فلم يستطع أن يُثبِّت حكمه على الرغم من أنه
قام بتوحيد صقلية كُلِّها في «ظل» مدينةٍ واحدة. لقد كان يفتقر إلى الأصدقاء الأوفياء
الخُلصاء، وامتلاك المرء لهؤلاء أو افتقاره إليهم هو أقوى دليل على قيمة الشخصية أو عدم
قيمتها،٨ تلك كانت النصيحة التي قَدَّمْناها — ديون وأنا — إلى ديونيزيوس بعد أن
رأينا أنَّ أباه جنى عليه وتركه يعيش بغير تربيةٍ صحيحة، ولا أصدقاء مُخلصِين،
أَلحَحْنا عليه أن يبدأ بإصلاح حياته الخاصَّة٩ (٣٣٢د)، وأن يُفتِّش بعد ذلك بين أقاربه ومُعاصرِيه عن أصدقاء يُشاركونه
السعي على طريق الخير والفضيلة، وأن يهتم — قبل كل شيءٍ — بأن يُصادق نفسه؛ إذ كان
يُعوِزه هذا إلى حَدٍّ يدعو للدهشة. لم نقل له ذلك بطبيعة الحال بمثل هذا الوضوح — إذ
لم نكُن نأمن على أنفسنا من التَّعرُّض للخطر — وإنما اكتفَينا بالإشارة إليه
مُؤكِّدِين أنه هو الطريق الذي ينبغي أن يَسلُكَه كلُّ من يَتولَّى الحكم ليحفظ نفسه
ويحمي رعاياه، وأن كل طريقٍ آخَرَ لا بد أن يُؤدي إلى الخراب التام١٠ (٣٣٢ﻫ)، أمَّا إذا اتبع الطريق الذي وَصفْناه له واهتدى بنفسه إلى التبصُّر١١ والتدبُّر فسوف يَتمكَّن من إعادة تعمير المدن المهجورة «في صقلية»، والربط
بينها بقوانين ودساتير تجعلها قادرةً على مُساندتِه والصمودِ لغارات البَرابرةِ «أي
القَرطاجيِّين»، وبهذا يُمكِنه أن يُوسِّع مملكة أبيه لا إلى الضعف بل أضعافًا
مُضاعَفة. ولو تيسَّر له هذا لأمكنه أيضًا أن يُخضِع القرطاجيِّين لنِيرٍ أَثقلَ من ذلك
الذي ناءوا به تحت حكم «جيلون»، وذلك بدلًا من الاستمرار في دفع الإتاوة التي التزم بها
أبوه نحوهم. كانت هذه هي الاقتراحات التي أوصينا بها ديونيزيوس، وأَوَّلَتها الإشاعات
والهمسات من كُلِّ ناحيةٍ بأننا نتآمر على حياته، حتى تمكَّنَت من نفسه في النهاية
وتَسبَّبَت في نفي ديون وأَلقَت بنا في حالةٍ من الرعب والفزع. وأُحب الآن أن أختم
روايتي للأحداث الكثيرة التي تَمَّت في فترةٍ بالغةِ القِصَر فأقول: لقد رجع ديون من
«شبه جزيرة البيلوبينيز»١٢ (٣٣٣ب)، ومن أثينا، ولَقَّن ديونيزيوس درسًا أبعد ما يكون عن الدروس النظرية١٣ (٣٣٣ﺟ)، وبعد أن تم له تحرير المدينة مرتَين وتسليمها لأهل سيراقوزة، وقف
منه هؤلاء نفس موقفهم السابق من ديونيزيوس. فقد حاول ديون أن يَتدخَّل في توجيه حياته
كلها وأن يجعل منه حاكمًا جديرًا بعرشه، ولكنه فضَّل أن يَنضمَّ إلى صفوف أعدائه الذين
أَوحَوا إليه أن ديون لم يفعل كل ما فعله في ذلك الوقت إلا لرغبته في الانفراد بالحكم١٤ (٣٣٣ﺟ)، وأن هدفه من تعليمه هو أن يُوقِعه في سحر الفلسفة فيُهمِل شئون
الحكم ويَعهَد بها إلى ديون الذي يتمكن عندئذٍ من السيطرة عليها وحرمان ديونيزيوس من
مُلكه بحِيلةٍ لئيمَة.
انتصَرت هذه الإشاعاتُ في ذلك الحين، ثُمَّ انتَصَرتْ مَرةً أُخرى عندما انتَشرَت في سيراقوزة، غير أنه كان انتصارًا بَشِعًا ومُخجِلًا لأولئك الذين تَحمَّلوا وِزرَه، وينبغي أن يُوضَّح أَمرُه لهؤلاء الذين يسألونني النصح في الظروف الحاضرة.
(٣٣٣د) لقد حَضَرتُ من موطني أثينا إلى بلاط الطاغية كصديقٍ وحليفٍ لديون رغبةً مني
في إقرار المَودَّة والصداقة بينهما بدلًا من الشِّقاق والعَداء، غير أنني انهَزمْت في
صراعي مع الوُشاةِ والمُرجفِين. وحاول ديونيزيوس بالهدايا والصِّلات وأسباب التكريم
المختلفة أن يكسبني إلى جانبه وأن يُقنعني بالشهادة «أمام الرأي العام» بأنه كان على
حق
عندما نفى ديون، ولكنه أخفق في محاولته إخفاقًا ذريعًا. وعندما رجع ديون بعد ذلك بفترة
إلى سيراقوزة أحضر معه من أثينا «نفسها» أخوَين،١٥ كان قد كسب صَداقتَهما لا عن طريق الاهتمامات الفلسفيَّة المشتركة بل عن
طريق التعارف المألوف الذي تقوم عليه مُعظم الصَّداقات، ويَتِم عادةً من خلال الزيارات
المُتبادَلة والاشتراك في طقوس الأسرار الصغيرة أو الكبيرة، وأصبح هذان الأخوان صديقَيه
وحليفَيه نتيجة الأسباب التي ذَكرتُها ولمساعدتِهما له عند عودته. وعندما حضرا إلى
صقلية ولاحظا أن أهلها الذين حَرَّرهم يُشيعون عنه أنه يطمع في الحكم المُستبِد لم
يكتفيا بخيانة الصديق الذي أسبغ عليهما كَرمَ ضِيافتِه، بل عَمَدا إلى اغتياله
بأيدِيهِما، وذلك عندما وقفا بجانب القَتَلة وأسلحتهم في أيديهم. ولَستُ بحاجة إلى
التعقيب على هذا الفعل البَشِع الخَسِيس؛ فهناك كثيرون غيري سيَجعَلون مُهمَّتهم الآن
وفي المستقبل أن يُغنُّوا على هذا الوتر. ولكنني سأكتفي بالردِّ على نقطةٍ واحدةٍ لا
يمكن السكوت عليها، وهي الزعم بأن مسلك هذَين الرجلَين قد لوَّث سُمعة أثينا. وحسبي أن
أُشير إلى أن الرجل الذي رفض أن يخون ديون كان — كذلك — أثينيًّا، «وقد أبى أن يفعل
ذلك» على الرغم من الثروة الطائلة والتكريم الذي كان يمكن أن يحصل عليه. فلم تكُن
الصداقةُ التي أَلَّفَت بينه وبين ديون صداقةً عاديَّة، وإنما قامت على المشاركة في
الاهتمامات العقلية، ومِثلُ هذه الصداقة هي التي ينبغي أن يُعوِّل عليها الإنسان
العاقل، أكثر من أيِّ صداقةٍ قائمةٍ على قَرابة الرُّوح١٦ والجسم؛ ولهذا فليس من الإنصاف أن يُقال إن قاتلَيْ ديون قد لوَّثا سُمعة
أثينا، ومن يقول بذلك فإنما يَنسِب إليهما دورًا لم يقوما به أبدًا١٧ (٣٣٤ﺟ).
لقد قُلتُ هذا كُلَّه لكي أُقدِّم النصح لأصدقاء ديون وأقاربه. فماذا بقي عندي
لأنصحهم به؟ إنها نفس النصيحة ونفس الكلمات التي وَجَّهتُها لغيرهم في مناسبتَين
سابقتَين، لا يجوز لصقلية ولا لغيرها من المدن أن تخضع للسلطة المُطلَقة،١٨ بل يجب — في رأيي على الأقل — أن تخضع لحكم القانون. فالسلطة المُطلَقة
مُضِرَّة بالحُكام والمَحكومِين، وهي «مؤذية» لهم ولأبنائهم وأبناء أبنائهم؛ لأن مثل
هذه التجربة لا بد أن تُؤدِّي إلى الخراب. فالنفوس الصغيرة والطباع الدنيئة١٩ هي وحدها التي تَنقَضُّ على منافعها العاجلة،٢٠ وهي نفوس لا تعرف شيئًا عن الأمور الإلهية والبشرية التي هي عدل وخير في
الحاضر وعلى مدى المستقبل.٢١ هذه هي الحقيقة التي سَعَيتُ أوَّلًا لإقناع ديون بها، ثُمَّ ديونيزيوس من
بعده، وها أنا ذا أُحاول أن أُقنعكم بها، فاستَمِعوا إليَّ حُبًّا في زيوس المُنقذ الذي
يشرب النَّخْب الثالث تكريمًا له،٢٢ واعتَبِروا بمصير ديونيزيوس وديون. فالأول لم يستمع إليَّ، وهو إن كان لا
يزال حيًّا، فإنه يحيا حياةً شَقيَّة،٢٣ أمَّا الآخر الذي استجاب لتعليمي فقد مات، ولكنه مات مِيتةً رائعة، وإنه
لشيءٌ جميلٌ وجديرٌ بالسعي إليه في كل الأحوال أن يَتحمَّل المرء كل ما يُصيبه به
القَدَر من شقاء، مهما تكن وطأته ثقيلة، في كفاحه لبلوغ أسمى الخيرات لنفسه ووطنه. فما
من أحدٍ مِنَّا خالد، ولو قُدِّر الخلود لأَحدٍ لما شعر بالسعادة كما يظن عامَّة الناس؛
ذلك أن الأجسام التي بلا نفوسٍ لا تَشعُر بمعنى الخير والشر٢٤ وإنما تشعر بهما النفس وحدها، سواءٌ كانت مُتصلةً بالجسم أو مُنفصلةً عنه.
«أمَّا فيما يتعلق بهذه النفس»، فيجب علينا دائمًا أن نُصدِّق الأخبار القديمة
المُقدَّسة التي تؤكد لنا أن النفس خالدةٌ وأنها ستخضع للحساب وتَتحمَّل أقصى ألوان
العقاب بعد انفصالها عن الجسد؛ ولهذا السبب ينبغي علينا أن نعتبر تَحمُّل الأذى والظلم
الفادح أَهوَن شرًّا من اقترافه. غير أن هذا شيء لا يكترث به الإنسان الذي يعدل جَشعُه
«إلى الثروة» فَقرَه الرُّوحي، وإذا اكترث به تَصوَّر أن من حقه أن يهزأ به بينما
يَنهَش بصورةٍ مُخجلة، كالحيوان، كُلَّ ما يعتقد أنه يمكن أن يُشبِع شَهيَّته للطعام
أو
الشراب أو لتلك اللذة القبيحة المَهينة التي نُسمِّيها ظُلمًا باسم أفروديت. لقد غَشِيه
العمى فلم يعُد يُبصر ألوان العذاب المُترتِّبة على نهمه الكريه، «ولم يعُد يُحس» أن
كل جريمة٢٥ تَزيد من حمْل الشر الذي لا بد أن يَجُرَّه المذنب وراءه سواء طَوال فترة
تَجواله على الأرض أو أثناء عودته المُخجِلة البائسة إلى العالم السفلي.
بهذه الأحاديث وأمثالها استطعتُ أن أُؤثِّر على ديون، ولديَّ كل الأسباب التي تحملني
على السخط على قاتليه وكذلك على ديونيزيوس. فقد أصابني كلاهما، ويمكنني القول بأنهما
أصابا سائر البشر جميعًا، بأفدح الضرر، أمَّا القتلة فباغتيالهم الرجل الذي كانت لديه
الرغبة الحارَّة في تحقيق العدالة، وأمَّا ديونيزيوس فلأنه لم يشعر بهذه الرغبة لحظةً
واحدةً أثناء حكمه الطويل، وهو الذي كان يقبض بيدَيه على زِمام السلطة الجبَّارة٢٦ (٣٣٥د)، ولو استطاع حقًّا أن يجمع الفلسفة والسلطة السياسية في شخصٍ واحدٍ
لأثار اهتمام الناس جميعًا من إغريق وبرابرة،٢٧ وبيَّن لكل إنسانٍ حقيقة٢٨ أنه لن يتيسر لدَولةٍ أو فَردٍ أن «يذوق طعم السعادة» ما لم يَقضِ حياته
بِحكمةٍ «وتَدبُّر» على هُدى العدالة،٢٩ سواءٌ كافح بنفسه في سبيل الوصول إليها أو نشأ على مبادئ الحق والعدل التي
ربَّاه عليها الصالحون. هذا هو الضرر الحقيقي الذي سببه ديونيزيوس (٣٣٥ﻫ)، وكُلُّ ما
عداه من ألوان الأذى التي قاسيتها منه تُعَد تافهةً بالقياس إليه، أمَّا قاتل ديون فقد
فعل نفس ما فعله ديونيزيوس دون أن يشعر. فأنا أعلم أن ديون — وذلك بقَدْر ما يَسَع
الإنسان أن يُؤكِّد عن إنسانٍ آخر — أنه لو تمكَّن من تدعيم حكمه لَبدأ على الفور — بعد
إتمام تحرير مدينته سيراقوزة من نِير العبودية وتطهيرها من أدرانها وخَلعِ ثوب الحرية
عليها — بتزويد مواطنيها بأفضلِ وأنسبِ ما يستطيع من قوانين، ولبادر بعد ذلك بالقيام
بما يتصل بذلك من تعمير صقلية كلها وتحريرها من البرابرة، وذلك بطرد بعضهم وإخضاع
بَقيَّتِهم، ولَوُفِّق في ذلك توفيقًا لم يبلغه هيرون في الزمن القديم (٣٣٦أ)، ولو
قُدِّر لهذا أن يتحقق بفضل رجلٍ على حَظٍّ من العدل والشجاعة وضبط النفس، بجانب كونه
فيلسوفًا، لاستقر بين الناس احترام الفضيلة ولأمكن — لو قد كُتب لي النجاح أيضًا في
إقناع ديونيزيوس — أن تَعُم الجنس البشري بأَسْره (وتضمن إنقاذه)،٣٠ ولكن يبدو — بعد أن تَحوَّلَت الأمور إلى هذه الصورة — أن رُوحًا شِريرًا
(أو رَبَّة من رَبَّات الثأر)٣١ قد هاجمنا٣٢ (٣٣٦ب) واستطاع «بما جُبل عليه» من احتقارٍ للقانون والدِّين وبما هو أسوأ
منهما من رعونة الغباء — وهو التربة التي تمتد فيها جذور الشر كله وتظل تنمو وتترعرع
حتى تُخرج في النهاية مُرَّ الثَّمَر لِغارسِيه — أقول استطاع هذا الروح الشرير أن
يَقلب كل خُططنا ويُفسِدها للمرة الثانية. فلنُقدِم الآن على المحاولة الثانية،
ولنَسكُتْ عن كل كلامٍ يمكن أن يجلب سوء الحظ عليها. على الرغم من كل ما حدث فإني
أنصحكم، يا أصدقاء ديون، بأن تَحْذوا حَذْوه في حب الوطن وتقتدوا بحياته التي اتَّسمَت
بالبساطة٣٣ (٣٣٦)، وضبط النفس، وتُحاولوا تحقيق أهدافه في ظروفٍ أنسب. أمَّا طبيعة هذه
الأهداف فقد شرحتها لكم الآن بوضوح. وأمَّا عن حلفائكم فيجب عليكم أن تستبعدوا منهم كل
من يخرج على «أسلوب» الحياة «الدورية» التي عاشها آباؤنا٣٤ (٣٣٦د)، مُؤثِرًا عليها حياة البدع الصَّقليَّة التي سار عليها قتلة ديون،
ولا تنتظروا من مثله أنا يُحقِّق عملًا نافعًا أو يُخلِص في شيء. فإذا تصديتم لإعادة
تعمير صقلية كلِّها ووَضعِ تشريعٍ عادلٍ «يَكفُل الحقوق المُتساوية للجميع»، فعليكم أن
تستدعوا لهذا الغرض رجالًا من صقلية نفسِها ومن «شبه جزيرة» البيلوبينيز كلها، بل لا
تَخشَوا أن تلجئوا في ذلك لأثينا نفسِها، فستجدون هناك رجالًا ممتازين «يفوقون
مُواطنِيهم هِمةً ونشاطًا»، ويَستبشِعون أعمال العنف التي تدفع البعض إلى قتل الصَّديق.٣٥ ولكن إذا كنتم ستَنظُرون في تنفيذ هذه الخطط في المُستقبَل، وكنتم تَضيقون
في الوقت الحاضر بتلك الصراعات المُستمِرة المُتنوِّعة التي تَنشَب عادةً في فترات
الثورة كل يوم، ووجدتم من العقل أن يدرك بوضوح أن فظائع الحرب الأهلية لن تنتهي٣٦ (٣٣٦ﻫ) حتى يكُف المنتصرون عن رَدِّ الظلم الذي حاق بهم من قبلُ بنفي
خصومهم واغتيالهم، ويَتخلَّوْا عن فكرة الانتقام من أعدائهم «وشفاء أحقادهم القديمة
عليهم»، ويلتزموا بدلًا من ذلك بضبط النفس، ووضع نظام من القوانين يكفل الخير للجميع
ولا يضيف إلى مصلحتهم الشخصية مِقدارَ شَعرةٍ واحدةٍ أكثر من الفريق المهزوم، وأن
يَحملوا خصومهم السابقِين على طاعة القوانين «واحترامها» بوسيلتَين (لا ثالث لهما) وهما
الحياء والخوف؛ أمَّا الخوف فلأنهم قد أثبتوا أنهم يفوقونهم قوة، وأمَّا الحياء فلأنهم
أَقدرُ على ضبط أنفسهم «والتحكُّم في انفعالاتهم»، كما أنهم أَقدرُ من غيرهم وأَكثرُ
استعدادًا للخضوع للقانون. هذه هي الوسيلة الوحيدة التي لا يَتسنَّى بغيرها أن تهدأ
مدينةٌ (أو دولةٌ) مَزَّقتْها الحرب الأهلية،٣٧ (٣٣٧أ)، «وإذا لم تلجأ إلى هذه الوسيلة» فستظل عُرضةً للتمرُّد والعداوات
الشخصية والحقد والخيانة. وهكذا يَتحتَّم على أولئك الذين استَولَوا على السلطة، إن
أرادوا تحقيق الأمن «والإصلاح»، أن يتبادلوا المشورة فيما بينهم وينتخبوا رجالًا يعلمون
عنهم أنهم أفضل الرجال بين الإغريق، ويَتوخَّوْا فيهم قبل كل شيء أن يكونوا مُتقدِّمِين
في العمر، وتكون لكلٍّ منهم زوجةٌ وأطفال، وأسلافٌ ماجدون مشهورون بقَدْر الإمكان،
وثروة كافية معقولة — وفي مدينة يبلغ تَعداد سكانها عشرة آلاف يكفي أن يكون عددهم خمسين
رجلًا — وعليهم أن يَتوسَّلوا إليهم ويُغروهم بأسمى آيات التكريم حتى يتركوا بيوتهم،
فإذا حضروا تَضرَّعوا إليهم أن يَضَعوا القوانين، وذلك بعد أن يأخذوا عليهم العهد
«والقَسَم» بألَّا يُحابوا فيها مُنتصِرًا ولا مهزومًا، وأن يلتزموا فيها بالمصلحة
العامَّة للمدينة كلِّها. فإذا وُضِعت القوانينُ فسوف يتوقف رخاء «المدينة» على استعداد
الفريق المُنتصِر للخضوع للقانون أكثر من الفريق المُنهزِم، وعندئذٍ يَتحقَّق الإنقاذ
والهناء، ويَتِم الخلاص من كلِّ شَقاء،٣٨ أمَّا إذا حدث عكسُ ذلك فلا يلجأ أَحدٌ إليَّ أو إلى غيري لمساعدة أولئك
الذين لم يلتزموا بالمبادئ التي أَوصيتُ بها؛ إذ إنها هي نفس المبادئ التي حاوَلْنا،
ديون وأنا، تحقيقها معًا، مدفوعَين بالحب لأهل «سيراقوزة». لقد كانت هذه هي محاولتنا
الثانية. أمَّا الأولى فكانت تلك التي قُمنا بها مع ديونيزيوس وأَمَّلْنا من ورائها
توفير السعادة للجميع. غير أن قَدَرًا يفوق قدرة البشر حال دون نجاح خُطتنا. وعليكم
الآن أن تبذلوا ما في وُسعِكم لعل المزيد من التوفيق أن يكون حليفكم، وأن تَحظَوْا
بعونٍ من الله وتأييدٍ من القَدَر (٣٣٧ﻫ).
١
نصيحة لحلفاء ديون.
٢
أ: تلك كانت كل الأحداث التي جرت في صقلية … إلخ.
٣
ب: فإذا كان دستور الحكم فيها يتمشى مع الطريق الصحيح.
٤
أ: العبارة الأخيرة زائدة في «أ».
٥
أ: أنه كان يقل سبع مرات في موهبته عن «داريوس».
٦
هذه العبارة زائدة في «ب».
٧
لا يزال الكلام عن ديونيزيوس الأب.
٨
ب: هو أقوى دليل على الطبع الخير أو السيئ.
٩
النص الأصلي لا يذكر غير كلمة «أول شيء»، ويترك ما بعدها ناقصًا، ويتبعه
المترجم الألماني في ذلك، وقد أصلحهما المترجم الإنجليزي بطريقة تتفق مع
السياق.
١٠
أ: لا بد أن يؤدي به إلى النتيجة المضادة.
١١
ب: وجعل من نفسه شخصًا ذكيًّا منظَّمًا.
١٢
وهي الآن شبه جزيرة المورة.
١٣
أ: وقدم له نصيحة ملموسة.
١٤
ب: جزء من مؤامراته للوصول إلى الحكم الفردي المطلق (تيرانيس) يسألونني النصح
في الظروف الحاضرة.
١٥
وهما كاليبوس وفيلوستراتوس اللذان اشتركا في اغتيال ديون (راجع: «تاريخ
بلوتارك»، ديون، ٥٤).
١٦
لعل المقصود بالقرابة الروحية هو الدخول في عبادات الأسرار وطقوسها.
١٧
ب: أو يُضفي عليهما أهمية لا يستحقانها.
١٨
لطغيان الأفراد.
١٩
أ: الطباع الصغيرة الذليلة (غير الحرة).
٢٠
ب: حياة مخجلة غير مشرفة.
٢١
ب: على الجوائز التي تكفلها.
٢٢
ب: وهي نفوس صغيرة ودنية لا تعرف شيئًا عما هو خير وعدل سواء هنا أو في
العالم الآخر، في الأرض أو في السماء.
٢٣
إشارة إلى النخب الثالث والأخير الذي كان من عادة الإغريق في مآدبهم أن
يشربوه على شرف زيوس المُنقذ، والترجمة الألمانية تضع بدلًا من هذه العبارة
عبارةً أخرى هي: فاستَمِعوا إليَّ لأن كل الأشياء الطيبة ثلاثة.
٢٤
أ: أن كل فعل من أفعاله ارتبط بالجريمة لا بد أن يجره المذنب وراءه.
٢٥
أ: لا تشعر باللذة الحقيقية ولا الألم الحقيقي.
٢٦
ب: وأمَّا الثاني (أي ديونيزيوس) فبرفضه تحقيق العدالة في ربوع ملكه على
الرغم من أنه كان يملك القوة التي تمكنه من ذلك.
٢٧
ب: لأمكنه أن يهب بصيصًا من النور للعالم كله، سواء في ذلك الإغريق أو
البرابرة.
٢٨
أ: ولقن كل إنسان المعرفة الصحيحة بأن …
٢٩
أ: تحت حكم العدالة.
٣٠
ما بين القوسين زيادة في «ب».
٣١
ما بين القوسين زيادة في «أ».
٣٢
أ: يبدو أن روحًا شريرًا قد وضع الأمر في قبضته وتحكم في مصيره.
٣٣
زائدة في «ب».
٣٤
ب: التي عاشها آباؤكم.
٣٥
أ: اشتعلت فيها الثورات الداخلية.
٣٦
ب: إلى قتل مضيفهم. والإشارة إلى قتلة ديون واضحة.
٣٧
أ: إن الشر الذي ينشأ في ظل ثورة من الثورات لا ينتهي حتى.
٣٨
ب: عندئذٍ يسود الأمن والرخاء، وتتخلص الدولة من كل متاعبها.