زيارة أفلاطون الثانية لديونيزيوس الثاني
وبهذا أَختِم النصيحة التي أَردتُ أن أُوجِّهها إليكم، كما أَختِم قصة زيارتي الأولى
لديونيزيوس. أمَّا عن رحلتي الثانية فيستطيع كل من يُهمُّه الأمر أن يرى «مما سأرويه
الآن أنها تمت بصورة طبيعية ومعقولة، وأنني قُمتُ بها مدفوعًا بدوافعَ مثاليَّة» (٣٣٨أ).
١
مَرَّت فترة إقامتي الأُولى في صِقِلِّيَّة على النحو الذي وصفتُه قبل أن أُقدِّم
نصيحتي لأصدقاء ديون وأقاربه. وقد بَذلْتُ كل ما في طاقتي لإقناع ديونيزيوس بإطلاق
سراحي، ثُمَّ وصلنا في النهاية إلى اتفاق يقضي بأن يقوم باستدعائنا، ديون وأنا، مَرةً
أُخرى بعد أن تنتهي الحرب الدائرة آنذاك في صِقِلِّيَّة «بعَقد معاهدةِ سلام»
٢ (٣٣٨ب)، ويتم له تثبيت حكمه وتدعيمه. وقد طلب في نفس الوقت من ديون أن
يعتبر أن ما حدث له لم يكن يقصد به نفيه بل تغيير إقامته. وعلى أساس هذه الشروط وَعدتُه
بالرجوع.
ولما استَتبَّ السلام أرسل ديونيزيوس يدعوني لزيارته، ولكنه طلب من ديون أن يؤجل
حضوره سنة أخرى، بينما أخذ يُلحُّ عليَّ في زيارته إلحاحًا شديدًا. كذلك حثني ديون على
السفر؛ إذ أفادت التقارير العديدة الواردة من صقلية بأن ديونيزيوس قد تَملَّكه من جديد
حماسٌ غيرُ عاديٍّ للفلسفة؛ ولهذا السبب تَوسَّل إليَّ ديون أن أَقبلَ الدعوة. وكُنتُ
من ناحيتي أعلم أن الفلسفة كثيرًا ما تُحدِث هذا التأثير في الشباب، ومع ذلك فقد بدا
لي
من الأضمن — على الأقل في اللحظة الراهنة — أن أتغاضى عن ديون وديونيزيوس، وتَسبَّبْتُ
في سخطهما عليَّ عندما أَجبتُ الأخير بأنني قد أَصبحتُ شيخًا مُتقدِّمًا في السن، وأن
ما يجري الآن يتعارض كل التعارض مع ما اتفقنا عليه (٣٣٨ﺟ).
ولكن يبدو أن أرخيتاس «التارنتي» زار ديونيزيوس بعد ذلك مباشرةً «وكُنتُ قبل رجوعي
إلى الوطن قد توسَّطتُ في إقامةِ علاقاتٍ وُديَّة بين أرخيتاس وحكومته
٣ (٣٣٨د) في تارنت من ناحية وبين ديونيزيوس من ناحية أخرى «وكان في سيراقوزة
أيضًا عددٌ من الناس الذين تَلقَّوا شيئًا من العلم من ديون، وعدد آخر أخذوه عن هؤلاء،
ويبدو أن هؤلاء الناس الذين حشدوا رءوسهم بمعلومات فلسفية دارجة
٤ قد حاولوا أن يتناقشوا مع ديونيزيوس حول هذه الموضوعات، اعتقادًا منهم بأنه
على درايةٍ تامَّة بكل آرائي.»
٥ والواقع أن ديونيزيوس — بجانب استعداده للتعلُّم — ليس خِلْوًا من الموهبة،
كما أنه يتميز بطموحه الشديد، وربما سره ما قيل عنه فخجل أن يلاحظ عليه أَحدٌ أنه لم
يتعلم مني شيئًا أثناء إقامتي في بلاطه،
٦ ولهذا أحس في نفسه الرغبة في استيضاح هذه الأمور، كما دفعه في نفس الوقت
إلى ذلك طموحه الشديد. أمَّا السبب الذي جعله لا يتعلم مني شيئًا أثناء فترة إقامتي
الأولى فقد شرحته منذ قليل بالتفصيل.
وبعد أن رَجعتُ سالمًا إلى وطني وبَعثتُ إليه برفضي لدعوته الثانية — كما سبق أن
قُلتُ — شعر فيما يبدو بالقلق الشديد من أن يَتصوَّر بعض الناس أن رأيي في طَبعه
ومَواهبه رأيٌ سيئٌ — خصوصًا بعد أن عَرفتُ طريقة حياته عن قُرب — وأن اشمئزازي منه هو
الذي صَدَّني عن زيارته (٣٣٩أ).
إني أرى من واجبي الآن أن أَروِيَ الحقيقة وأَتحمَّل أيضًا ما يمكن أن يَترتَّب عليها
لو سمع أحدٌ بما حدث فحاول أن يحتقر فلسفتي ويُشيد بذكاء الطاغية. فقد بعث ديونيزيوس
في
طلبي للمرة الثالثة، وأرسل إليَّ مركبًا بحريًّا «بثلاثة صفوف من المجاديف» لكي يُيسِّر
عليَّ مَشقَّة السفر بقَدْر الإمكان. وجاء معها «أرخيديموس» وهو أحد تلاميذِ أرخيتاس
وبصُحبتِه عدد آخر من معارفِي الصقليِّين، وقد أرسله ديونيزيوس لاعتقاده بأنني أُقدِّره
أكثر من أيِّ إنسان آخر في صِقِلِّيَّة
٧ (٣٣٩د)، وقد أخبرنا هؤلاء جميعًا نفس الخبر، وهو أن ديونيزيوس قد حَقَّق
تقدُّمًا ملحوظًا في الفلسفة. كذلك أرسل إليَّ خطابًا مُطوَّلًا؛ إذ كان يعلم مدى حُبي
لديون، كما يعلم مدى لهفته على سفري وعودتي لسيراقوزة. وقد دار الخطاب كله حول هذه
النقطة، وبدأ بهذه الكلمات تقريبًا: «ديونيزيوس يُحيِّي أفلاطون»، وبعد التحية
التقليدية انتقل بغير تمهيد إلى هذه العبارات: «إذا لبَّيْتَ دعوتي ورَجعتَ إلى
صِقِلِّيَّة، فسوف تُسوَّى مسألة ديون على الوجه الذي يُرضيك — وأنا مُتأكِّد أن مطالبك
ستكون معقولة؛ ولهذا فلن أَتردَّد في الاستجابة لها — أمَّا إذا رَفضتَ فلن يَتِم أيُّ
شأن من شئونه، وبخاصة شئونه الصحية، على الصورة التي تُحبها». كانت هذه هي كلماته،
والاستطراد في ذكر عباراته يستغرق وقتًا طويلًا ولا يُفيدنا فيما نحن بصدده. وجاءتني
كذلك خطاباتٌ أُخرى من أرخيتاس والأصدقاء في تارنت. وكلُّها تُشيد بِتقدُّم ديونيزيوس
في الفلسفة، وتُشير إلى أنني إن لم أَحضُرْ على الفور فسوف أُعرِّض للخطر الشديد
علاقاتِ الصداقة التي أقمتُها بنفسي بينهم وبين ديونيزيوس، وهي — في نظرهم — علاقاتٌ
ذاتُ أهميةٍ سياسيةٍ قُصوى. فلما جاءت دعوة ديونيزيوس على هذه الصورة، ووَجدتُ أن
أصدقائي في صقلية وتارنت يَشُدُّونني من جهة، بينما يكاد أصدقائي في أثينا يَتعجَّلون
خروجي من البلاد بإلحافِهم، واجهتني نفس الحُجة التي واجهتُها من قبل، وهي أنه لا يحق
لي أن أَتخلَّى عن ديون «أو أَخُونَ الأصدقاء والحُلفاء في تارنت. وشَعَرت — فضلًا عن
ذلك — بأنه لا يُستغرَب من شاب»
٨ (٣٣٩ﻫ) التقَط بَعضَ الأحاديثِ الجادَّة التي سمعها من هنا أو هناك أن
تشتاق نفسه إلى اتِّباع أَفضلِ سُبل الحياة، وهكذا رأيتُ من واجبي أن أَفحَص الأمر من
كل نواحِيه بعنايةٍ شديدةٍ، ورأيتُ ألَّا أَرفُضَه منذ البداية لكيلا أستحق اللوم الذي
سيُوجَّه إليَّ لو صَحَّت الأنباء التي وَصلَتني،
٩ ومِنْ ثَمَّ قمتُ برحلتي مستترًا وراء الحجة التي ذكرتها،
١٠ ولكن قلبي كان مُفعمًا بالقَلقِ والهَمِّ، ولم يكن لديَّ — كما يمكن أن
تَتوقَّعُوا ذلك بسهولة — أيُّ أَملٍ في النجاح، وعندما وَصلتُ إلى هناك اكتَشفتُ أن
هذه الكلمةَ المأثورة تنطبقُ عليَّ: الثالثة ثابتة،
١١ إذ كان من حسن حظي أن أَنجُو مرَّةً أُخرى و«أرجع سالمًا إلى وطني»، وأنا
مَدينٌ بالفضل في هذا — بعد الله — لديونيزيوس الذي أحبط محاولات الكثيرين للقضاء عليَّ
وأظهر في موقفه مني أنه لم يكن مُجرَّدًا من الحياء.
وعندما وصَلتُ إلى «صقلية» جعلت مُهمَّتي الأولى هي التحقُّق من أن ديونيزيوس قد
تَملَّكَه لهيب الحماس للفلسفة، وذلك كما أفادت الأخبار الكثيرة التي وَردَت إلى أثينا،
أو أنه كان مُجرَّد زعم لا أساسَ له من الصحة (٣٤٠ب)، وهناك طريقة للتأكُّد من هذا وليس
فيها أيُّ جرحٍ للكرامة، وهي طريقةٌ تُناسب الطغاة، خصوصًا إذا كانت رءوسهم مَحشُوَّة
بالشعارات الفلسفية،
١٢ وهو الأَمرُ الذي لاحَظتُ بمُجرَّد وصولي أنه ينطبق على ديونيزيوس.
والطريقة هي أن نُبيِّن لأمثال هؤلاء الناس طبيعة الموضوع بوجهٍ عام، والصعوبات
المرتبطة به «والمراحل المختلفة التي عليهم أن يجتازوها» (٣٤٠ﺟ)،
١٣ والجهدَ والمَشقَّةَ اللذَين يَتطلَّبهما، فإذا استمع واحدٌ منهم إلى هذا
وكانت لديه الشرارة الإلهية التي تجعله جديرًا بالفلسفة بدا له الطريق من الروعة بحيث
يُصمِّم على السير عليه بكُل ما أُوتي من قوةٍ وإلا استحال عليه أن يعيش بعد ذلك.
وعندئذٍ يحشد كل ما في طاقته وطاقة مُرشده على هذا الطريق، ولا يَتخلَّى عنه حتى يبلغ
هدفه أو يأنس في نفسه القدرة على سلوك الطريق بنفسه بغير مُرشد أو دليل. في مثل هذه
الأفكار وحدها يعيش الموهوب للفلسفة؛ صحيح أنه يواصل نشاطه اليومي المعتاد، ولكنه يحرص
بجانب ذلك على التمسُّك بالفلسفة وبأسلوب الحياة الذي يزيد قدرته على التذكُّر والتحصيل
والتفكير، ويُمكِّنه من التخلُّق بالقصد والاعتدال، أمَّا الطريق المخالف لذلك فيَكرَهه
كراهيةً تُلازمه مدى الحياة (٣٤٠د).
غير أن أولئك الذين لا يملكون الموهبة والاستعداد الحقيقي للفلسفة،
١٤ ولا يُصيبون منها إلا حظًّا ضئيلًا من المعرفة السطحيَّة التي تُشبه
الاحمرار الذي يُصيب جلود بعض الناس عندما يَتعرَّضون لأشعة الشمس؛ فهم لا يلبثون أن
يُدركوا صعوبة المُهمَّة، واستحالتها بالنسبة لهم، وذلك بمجرد أن يعرفوا مقدار ما يجب
عليهم تَعلُّمه، ومدى ما يَتطلَّب منهم من مَشقَّة، والاستقامة التي ينبغي عليهم أن
يلتزموا بها في حياتهم. إنهم في الواقع عاجزون عن تنفيذ ما يُطلَب منهم
١٥ (٣٤١أ)، ويحاول بعضهم — مع ذلك — أن يُقنِع نفسه بأنه سمع ما فيه الكفاية
عن الموضوع كله، وأنهم ليسوا بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الجهد والعناء. هذا هو الاختبار
الأكيد «المأمون» الذي يُمكِن تطبيقه على أولئك الذين يميلون إلى حياة اللذَّة
والدَّعَة، ولا يجدون في أنفسهم القدرة على العمل الشاق. وليس لأحدهم أن يلوم إلا نفسه
إذا عجز عن النهوض بما يَتطلَّبه منه الموضوع، ولا بد في هذه الحالة أن يُعفِي المُرشد
من المسئولية.
هذه هي الأفكار التي كنت أَحمِلها في ذهني عندما قُلتُ ما قُلتُه لديونيزيوس، لم
أتحدث إليه في كل شيء، ولم يسألني هو نفسه عن ذلك، فقد ادَّعَى أن ما سَمِعه من الآخرين
١٦ (٣٤١ب)، قد أعطاه فكرةً كافيةً عن الموضوعِ وجعله يُحيط بأَهمِّ جوانبه.
وقد بلغني بعد ذلك أنه كَتبَ رسالةً عما سمعه في ذلك الحين، وأنه صَوَّر الأمر كأنه
رسالةٌ من تأليفه وتُعبِّر عن مذهبه لا عمَّا سمعه. ولكنني لا أعرف شيئًا مُؤكَّدًا في
هذا الشأن. صحيحٌ أنني أَعلمُ أن هناك عددًا آخر كَتبَ في نفس هذه الموضوعات، ولكن كُل
الذين فعلوا ذلك لم ينتحلوا لأنفسهم صفة المُؤلِّفِين (٣٤١ﺟ)،
١٧ بَيْدَ أني أستطيع، على كل حال، أن أحكم على أولئك الذين كتبوا بالفعل أو
سيكتبون في المستقبل مُدَّعِين معرفة الأمور التي أُولِيها اهتمامي — سواء زعموا أنهم
أخذوا العلم عني أو عن غيري أو وصلوا إلى الحقيقة بأنفسهم — بأن من المستحيل في رأيي
أن
يكونوا قد فهموا شيئًا عن الموضوع، فلا يُوجَد عنه كتاب
١٨ من تأليفي ولن يُوجَد أبدًا؛ لأنه ليس شيئًا يمكن التعبير عنه بالكلمات كما
هو الحال مع العلوم الأخرى، وإنما تنبثق حقيقته في النفس فجأة بعد مشاركةٍ طويلةٍ
وتعاونٍ مُستمرٍّ في العكوف عليه كما ينبثق نورٌ قَدَحتْه شرارةٌ واثبة، وهناك يَتغذَّى
وينمو نموًّا مُطَّرِدًا. ثُمَّ إني أعلم علم اليقين أنه لو تَسنَّى أن يُوجَد شيءٌ
مكتوبٌ أو شفهيٌّ عن هذا الموضوع فإن من الأفضل أن أكون أنا صاحبه، كما أعلم أيضًا أنه
لو عُرِض عرضًا سيئًا فلن يُضارَّ من وراء ذلك أحدٌ غيري. ولو دار بخَلَدي أن من الواجب
أن يبلغ للرأي العام
١٩ (٣٤٢١د) بطريقةٍ وافيةٍ في صورةٍ شِفاهيةٍ أو مكتوبة، فهل كان يُمكِن أن
أُحقِّق في حياتي عملًا أروع من هذا، وهل هناك أجمل من أن أُقدِّم للبشرية مذهبًا
عظيمًا يَصِف لهم طريقة الخلاص والإنقاذ،
٢٠ ويُظهِر حقيقة الأشياء ليراها الجميع؟ ولكنني لا أعتقد أن مُحاوَلة وَضعِ
هذه الأمور «البحوث» في كلماتٍ يُمكِن أن تنفع الناس، اللهُمَّ إلا فئة قليلة جِدًّا
لن
يستعصي عليها أن تجد الحقيقة بنفسها مع شيءٍ قليلٍ من التوجيه والإرشاد. أمَّا بقيَّة
الناس فسوف توغر صدورهم على الفلسفة وتملؤها بالازدراء لها، أو تُولِّد فيهم الغرور
الأحمق الباطل الذي يُصوِّر لهم أنهم اطَّلعوا على سرٍّ رائع (٣٤١ﻫ).