آخر أخبار أفلاطون مع ديونيزيوس ورحيله عن سيراقوزة
لم يَمضِ وقتٌ طويلٌ على الحادث الذي وَصفتُه حتى أصدر ديونيزيوس الذي كان قد سمَح
قبل ذلك لديون بالتصرُّف في أملاكه والتَّمتُّع بدخلها
١ أوامره فجأةً إلى المُشرفِين على إدارتها (أي الأملاك) بأَلَّا يرسلوا منه
(أي من الدخل) شيئًا إلى البيلوبينيز، وكأنه نسي تمامًا ما سبق أن قاله في خطابه. وزعم
أن أملاك
٢ ديون لم تعُد من حقِّه، بل أَصْبحَت من حق ابنه الذي هو في نفس الوقت ابن
شقيقته؛ لذلك فهو الوصي عليه. كانت هذه هي الحالة (٣٤٥د) التي وَصلَت إليها الأمور حتى
ذلك الحين، ومنها عَرفْتُ مدى تَحمُّس ديونيزيوس للفلسفة معرفةً كافية، فلم يَسَعْني
إلا الغضب «والاشمئزاز». وكان فصل الصيف قد أَقبلَ ومعه موسمُ إقلاعِ السُّفن. وبدا لي
أنه ليس من حَقِّي أن أسخط على ديونيزيوس لأنني أَوْلى منه بالسخط على نفسي وعلى أولئك
الذين اضطرُّوني لعبور مضيق «سكيلا» للمرة الثالثة «وشَقِّ طريقي من جديدٍ في (٣٤٥ﻫ)
هاويةِ خاريبدس المخيفة؛
٣ ولهذا قرَّرتْ على كُل حالٍ أن أُعلِن ديونيزيوس باستحالة بقائي بعد
تَصرُّفه المُخجِل مع ديون. وحاوَل ديونيزيوس أن يُهدِّئ غضبي وتَوسَّل إليَّ أن أبقى،
وصارحني بأنه تَدبَّر الأمر ووجد أن موقفه سيزداد حرجًا لو سافَرتُ فجأةً ومعي تلك
الأخبار.
(٣٤٦أ) ولمَّا عَجزَ عن إقناعي وَعدَني أن يَتولَّى بنفسه ترتيب سفري. كُنتُ — في
الحقيقة — قد عَزمتُ على الرحيل مع أَوَّلِ سَفينةٍ تُقلِع من المِيناء؛ إذ كان الغضب
قد استَبدَّ بي وصَمَّمتُ على مواجهة أيِّ شيءٍ يمنعني «من تنفيذ ما عَزمتُ عليه»، كما
كان من الواضح للناس جميعًا أنني الجانب المَجنيُّ عليه. ولمَّا لم يَجِد عندي أقلَّ
رغبةٍ في البقاء، لجأ إلى هذه الفكرة لكي يَحتجِزني لِمَا بعد موسمِ إقلاعِ السُّفن.
فقد جاءني في اليوم التالي لذلك الحديثِ ومعه هذا الاقتراحُ المُغري: «فلْنُحاوِل أن
نتخلَّص من (٣٤٧ب) الخلافات التي يُسبِّبها لنا ديون وشئونه الماديَّة. وسوف أَتصرَّف
معه بهذه الطريقة إرضاءً لك: سأسمح لك باسترداد ثروته على أن يبقى مقيمًا في
البيلوبينيز لا باعتباره منفيًّا، بل باعتبار أن من حقه الرجوع إلى سيراقوزة إذا تَمَّ
الاتفاق بيننا جميعًا على ذلك.
٤ وشَرطِي الوحيد هو ألا يتآمر عليَّ، وأن تضمن لي ذلك أنت وأصدقاؤك وأصدقاء
٥ ديون الموجودون هنا، وأن يلتزم نحوكم بهذا الوعد. أمَّا كل المبالغ التي
يَستحقُّها من ثروته فسوف تُودَع في البيلوبينيز أو في أثينا عند أشخاصٍ تثقون في
أمانتهم وتختارونهم بأنفسكم. سيكون من حق ديون (٣٤٦ﺟ) أن يأخذ نصيبه من الفوائد، ولكن
لا يجوز له أن يسحب شيئًا من رأس المال بدون موافقتكم؛ ذلك لأنني لا أضمن سلامة
تَصرُّفه نحوي لو وضعت هذه المبالغ الضخمة تحت يده، أمَّا أنت وأصدقاؤك فإنني أثق بكم
أكثر منه. فكِّرْ في هذا الاقتراح، فإن أعجبك فابقَ معنا هذه السنة، ثُمَّ سافر في
الربيع ومعك المبالغ المذكورة.
(٣٤٦د) أنا واثقٌ من أن ديون سيعترف لك بالجميل لو رتَّبْت أموره على هذه الصورة.
انتابني الحَنَق والغضب عند سماع هذه الكلمات، ولكنني أجبته بأنني سأُفكِّر في الأمر
وأُخبِره في الغد بما استقر عليه رأيي. كان هذا هو الذي اتفقنا عليه. واختَليتُ بنفسي
وأنا في أشد حالات الاضطراب. وتزاحَمَت عليَّ الأفكار وعلى (٣٤٦ﻫ) رأسها هذه الفكرة:
«ألا يُمكِن أن يَحنَث ديونيزيوس بكل عهوده، فيحاول بعد رحيلي أن يكتب لديون ويُسر إليه
بالاقتراح الذي قدَّمه لي»، وذلك في خطاب باسمه أو خطاباتٍ أُخرى يأمر أصدقاءه بإرسالها
إليه، «ويُصوِّر له أنني — على الرغم من حسن نيته — لم أُبدِ أي استعداد لمناقشة هذا
الاقتراح ولم أكترث بمصالحه على الإطلاق؟ ألا يحتمل أيضًا أن يرفض السماح بإطلاق (٣٤٧أ)
سراحي ويُشيع بين قباطنة السفن أنه يُعارِض سفري — وهو يملك أن يفعل هذا بغير حاجة
لإصدار أمرٍ صريحٍ — وعندئذٍ لا يمكن أن يجرؤ أحدٌ منهم على أخذي من بيته»، وقد كُنتُ
لسوء حظي أسكُن في الحديقة المحيطة بالقصر، ولم يكن في استطاعة البوَّاب أن يسمح لي
بالخروج بغير أمرٍ صريحٍ من ديونيزيوس نفسه». ولو أَقمتُ طول هذه السنة لاستطعتُ من
ناحيةٍ أُخرى أن أُعرِّف ديونيزيوس بموقفي وسلوكي. ولو حافظ ديونيزيوس على كلمته فسأكون
قد حَقَّقتُ (٣٤٧ب) شيئًا لا يُستهان به؛
٦ لأن ثروة ديون لن تقل — إذا قُيِّمَت تَقييمًا صحيحًا — عن مائة تالنت
٧ أمَّا إذا تَحقَّقتْ مخاوفي وسارت الأمور سيرها المحتمل، فلا أدري عندئذٍ
ماذا سيكون مصيري، وإن كان من الضروري أن أَصبِر عامًا آخر لأكتشف نوايا ديونيزيوس
السيئة «وأَختبِرها على ضَوء التَّجرِبة العمليَّة».
لما انتَهيتُ إلى هذه النتيجة قابَلتُ ديونيزيوس في اليوم التالي وقُلتُ له: «لقد
قَررتُ البقاء. ولكنني أرجوك ألا تعتبرني مُفوَّضًا من قِبَل ديون لضمان (٣٤٧ﺟ) مصالحه،
بل يجب علينا معًا أن نبعث إليه كتابًا نُبلِغه فيه بما اتفقنا عليه ونسأله إن كان
راضيًا عنه، فإذا لم يَحُز رضاه وكان لديه بديلٌ آخر أو مطالبُ أُخرى فعليه أن يكتب
إلينا بذلك على الفور. أمَّا أنت فتلتزم بألَّا تتخذ أيَّ إجراء يمس شئونه حتى يَصِلنا
رَدُّه.»
كان هذا هو ما قلته له وما اتفقنا عليه بنفس هذه الكلمات تقريبًا. وحدث بعد ذلك أن
أبحرت السفن، ولم يعد في إمكاني أن أرحل، وجاءني ديونيزيوس وأثار الموضوع مرة أخرى
وادَّعى أن نصف الثروة فقط من حق ديون، والنصف الآخر (٣٤٧د) من حق ابنه. كما أبلغني
بعزمه على بيع الأملاك كلها وإعطائي نصف ثمنها لتسليمه لديون والاحتفاظ بالنصف الثاني
لولده. زاعمًا أن هذا هو الحلُّ الأمثل. أَفزعَتني هذه الكلمات فزعًا شديدًا، ولكنني
وَجدتُ من السخرية أن أعلق عليها بشيء. ومع ذلك فقد قُلتُ له إن علينا أن ننتظر رد ديون
ثُمَّ نُبلغه بهذا الاقتراح الجديد. «وفوجئتُ» بعد هذا اللقاء مباشرةً بأن ديونيزيوس
باع أملاك ديون كلها بطريقة (٣٤٧ﻫ) طائشة، وذلك بالشروط التي راقت له وللمُشترِين الذين
اختارهم بنفسه دون أن يقول لي عن ذلك كلمة واحدة. وقد رأيت من جانبي ألَّا أَطرُق
الموضوع معه مرة أخرى؛ لأنني اقتَنعتُ بأن ذلك لن يُجدِي شيئًا.
هكذا حاولت أن أمُدَّ العون للفلسفة ولأصدقائي، ومنذ ذلك الحين (٣٤٨أ) سارت حياتنا،
ديونيزيوس وأنا، على هذه الصورة: كنت أشبه بطائر يُطِل من قفصه ويَتوقُ للفِرار، بينما
راح هو يلتمس كل وسيلة لتخويفي
٨ وإبعادي عن شئون ديون والاحتفاظ بأملاكه. ومع ذلك فقد ظَهرْنا أمام صقلية
كُلِّها بمظهر الصداقة «والتجانُس في الآراء».
٩ وحاول ديونيزيوس أن يُخفِّض أجور قُدامى المُرتزِقة «العاملِين في جيشه»،
وذلك على عكس السياسة التي كان يتبعها أبوه. وتظاهر الجنود الغاضبون مُعلنِين عن (٣٤٨ب)
سخطهم، وأراد ديونيزيوس أن يَؤدِّبهم فأمر بإغلاق أبواب القلعة،
١٠ ولكنهم هجموا على الأسوار وهم يتصايحون صيحات الحرب ويُردِّدون أناشيدهم
البربرية. واستولى الرعب على ديونيزيوس الذي رضخ لمطالب المُتظاهرِين، بل وافق على
إعطائهم أَكثرَ مما طلبوا.
وسرعان ما انتَشرَت إشاعة بأن «هيراكليدس» هو المسئول عن هذا التمرُّد، ولمَّا شعر
بأنه سينقلب عليه نجا بنفسه واختفى بعيدًا عن الأنظار. وبذل ديونيزيوس كل ما في وُسعه
لإلقاء القبض عليه، ولكنه أخفق. ولذلك (٣٤٨ﺟ) استدعى «تيودوتيس» لمقابلته في حديقة
القصر التي تصادف أن كُنتُ في ذلك الوقت أَتجوَّل فيها. لا أدري ما الذي كانا يتحدثان
عنه؛ لأنني لم أستمع إلى حديثهما، ولم أفهم — كذلك — منه شيئًا.
ولكنني لا زلت أذكر ما قاله تيودوتويس لديونيزيوس على مشهد مني: «أفلاطون، إنني أحاول
أن أُقنِع صديقنا ديونيزيوس بأن يسمع لهيراكليدس إذا نَجحْتُ في إحضاره للمثول أمامه
والإجابة على الاتهام المُوجَّه له، وإذا قَرَّر إبعاده عن صقلية «أن يسمح له» بأخذ
زوجته وابنه معه ليعيشوا في البيلوبينيز والحصول على ثروتِه كاملةً بشرط ألَّا يقوم
بأيِّ إجراءٍ من شأنه أن يَضُر بديونيزيوس. لقد أَرسلتُ منذ قليلٍ في طلبه، وسأبعث إليه
مرةً أُخرى لعله يستجيب لدعوتي الأولى أو الثانية. ولكنَّني أستحلف ديونيزيوس وأتوسَّل
إليه، في حالة العثور على هيراكليدس، هنا أو في الريف، ألَّا يُعاقِبَه بغير النفي خارج
البلاد، وذلك إلى أن يَتدبَّر أمره ويتخذ قرارًا آخر بشأنه.» ثُمَّ التَفتَ إلى
«ديونيزيوس» قائلًا: «هل تتعهد بهذا؟» أجاب ديونيزيوس: «نعم، وحتى لو وُجد في بيتك فلن
يحدث له شيء يُخالف ما تَعاهَدْنا عليه.»
وفي مساء اليوم التالي هُرِع إليَّ تيودوتويس وأويريبيوس، وهما في حالةٍ شديدةٍ من
الانفعال والاضطراب، وبدأ تيودوتويس قائلًا: «أفلاطون، لقد كُنتَ بالأمس شاهدًا على
التعهُّد الذي قطعه ديونيزيوس على نفسه بشأن هيراكليدس.» قُلتُ: «أَجلْ، كنتُ شاهدًا
عليه.» استطرد تيودوتويس قائلًا: «والآن يُفتِّش الجنود المنطقة بحثًا عن هيراكليدس،
ويبدو أنه موجودٌ في مكانٍ قريب؛ تَعالَ معنا (٣٤٩أ) بسرعة إلى ديونيزيوس لكيلا نُضيِّع
لحظة واحدة.» هكذا انطلقنا معًا، وعندما مثُلنا بين يديه أخذا يَبكيان في صمتٍ، فبدأتُ
الكلام قائلًا: «إن صديقيَّ يخشيان أن تُؤذِي هيراكليدس خلافًا لما اتفقنا عليه أمس؛
إذ
يبدو أنه قد لُوحِظ وُجودهُ هنا وأنه يختفي في هذه الناحية.» ولما سمع ديونيزيوس ذلك
ثار ثورةً شديدةً وتغيَّر لون وجهه، كما هي عادةُ من يَستبِد به الغضب. أمَّا تيودوتويس
فركع عند قدمَيه (٣٤٢ب) وتناول يده وابتهل إليه والدموع في عينَيه بألَّا يفعل شيئًا
من
ذلك، وحاولتُ أن أُواسِيه فقاطعتُه قائلًا: «تشجع يا تيودوتويس، فلن يحنث ديونيزيوس
بالوعد الذي اتفقنا عليه أمس.» وعند ذلك نظر ديونيزيوس إليَّ نَظرةَ طاغيةٍ أصيلٍ وهتف
قائلًا: «أنا لم أَعِدْك بشيء، لم أَعِدْك بشيء على الإطلاق.» قُلتُ: «بلى، الله يعلم
أنك فَعلتَ. لقد وَعدتَ بألَّا تتخذ الإجراء الذي يتوسَّل إليك تيودوتويس الآن بألَّا
تُقدِم عليه.» ثُمَّ استَدرتُ وغادَرتُ المكان.
(٣٤٩ﺟ) وبعد ذلك واصل مطاردته لهيراكليدس، ولكن تيودوتويس بعث إليه رسولًا يُحذِّره
ويُلحُّ عليه بالهرب، وأرسل ديونيزيوس تيزياس على رأسِ قُوةٍ للبحث عنه، غير أن
هيراكليدس تَمكَّن قبل وصولهم بساعاتٍ قليلةٍ من اللجوء للقَرطاجيِّين.
تَذرَّع ديونيزيوس بهذه الحادثة للتنصُّل من وعده بِردِّ ثروة ديون إليه، كما وجد
فيها مبرِّرًا كافيًا لإظهار العداء لي. وبدأ بإبعادي من القلعة، بحُجة أن الحديقة التي
كُنتُ أسكُن فيها سيُقام فيها حفلٌ دينيٌّ نِسائي
١١ يستمر عشرة أيام.
(٣٤١د) وأَمَر بأن أقُيم في هذه الفترة خارج القلعة مع أرخيديموس. وأثناء إقامتي
الأخيرة دعاني تيودوتويس لزيارته وأخذ يُبدي استياءه من الأحداث التي وَقعَت ويَصُب
شكواه المُرَّة على ديونيزيوس. وبلغ ديونيزيوس أنني زُرتُ تيودوتويس، فاتخذ من ذلك
(٣٤١ﻫ) ذريعةً أُخرى لتبرير أسباب القطيعة معي، وبعث يسألني إن كُنتُ قد لَبَّيْتُ دعوة
تيودوتويس، قلت للرسول: «هذا صحيح.» فأجاب بقوله: «لقد أمرني أن أُبلغكَ بأن تَصرُّفك
هذا تَصرُّفٌ غير لائق؛ لأنه يدل على أنك تُقدِّر ديون وأصدقاءه أكثر مما تُقدِّره.»
كانت هذه هي الرسالة التي أبلغها إليَّ، ولم يَستَدعِني بعد ذلك أبدًا إلى قصره، كأنما
لم يَبقَ لديه شكٌّ في صداقتي لتيودوتويس وهيراكليدس وعداوتي له. وفضلًا عن هذا فقد
سَلَّم بأنه لم تعُد لديَّ نيةُ الحديثِ معه بعد أن تَبدَّدت ثروة ديون بأكملها، هكذا
عِشتُ منذ ذلك الحين خارج القلعة بين الجنود المُرتزِقة. وسعى لزيارتي عددٌ كبيرٌ من
الناس وبينهم (٣٥٠أ) بعض مُواطِنيَّ «الأثينِّيين» من أفراد الحاشية وملَّاحي السفن
١٢ وأبلغوني أن المشاة يفترون عليَّ
١٣ ويُهدِّدون بقتلي إن تَمكَّنوا من وضع أيدِيهم عليَّ. وأَخذتُ أَبحثُ عن
مَخرجٍ لتأمين حياتي حتى وَصلتُ إلى هذه الفكرة. بَعثتُ رسالة إلى أرخيتاس وسائر
أصدقائي في «تارنت» أُبلغهم فيها بالخطر المُحدِق بي. وما هو إلا أن وجدوا ذريعةً
لإرسال بعثةٍ دبلوماسيةٍ من مدينتهم ومعها مَركبٌ بثلاثين مجدافًا بقيادةِ واحدٍ منهم
يُدعى «لامسكوس». وعندما وصل «إلى سيراقوزة» مثُل بين يدي ديونيزيوس وتَشفَّع لي عنده
وأبلغه برغبتي في الرحيل ورجاه ألَّا يقف عَقبةً في طريقي. وقبل ديونيزيوس رجاءه، ووافق
على أن أُغادرَ البلاد مع المال اللازم للسفر. أمَّا عن ثروة ديون فلم أَسألْ عنها ولا
حاول أَحدٌ أن يُسلِّمني شيئًا منها.
وعندما وصلت إلى «أوليمبيا» في شبه جزيرة البيلوبينيز قابلت ديون الذي كان يزور
احتفالات الألعاب الأوليمبية ورويت عليه ما حدث. أَقسَم بزيوس أن ينتقم (٣٥٠ﺟ)، ودعاني
وأقربائي وأصدقائي أن نستعد لعقاب ديونيزيوس على ما اقترفه سواءٌ بالتفريط في واجب
الضيافة نحوي — وهذا هو الذي تصوَّره ديون وقاله — أو بالإجراء الظالم الذي اتخذه نحوه
بطرده ونفيه. ولمَّا سمعت هذا منه قُلتُ له إنه حر في أن يدعو أصدقائي إذا شاءوا
الاستجابة له، «أمَّا من ناحيتي فقد أَجبرتَني أنت والآخرون على مشاركة ديونيزيوس في
مائدته وبيته وطقوسه الدينية. ولقد صدَّق — فيما يبدو — تلك المزاعم والافتراءات التي
جاءته من كل ناحية وصوَّرتْ له أنني اشتَرَكتُ (٣٥٠د) معك في التآمر عليه وعلى حكمه
المُطلَق، ومع ذلك فإنه لم يأمر بقتلي، بل تَهيَّب من الإقدام على ذلك.
١٤ أضف إلى هذا أنَّني تَقدَّمتُ في السن ولم تعُد لديَّ القدرة على مساعدةِ
أحدٍ في أيِّ عملٍ حربي، وإن كُنتُ مع ذلك على أَتمِّ الاستعداد لأن أضع نفسي في
خدمتكما إذا أردتما أن تكونا أصدقاء وتُقدِّما الخير لبعضكما. أمَّا إذا أَصرَرتُم على
الإيذاء «والعُدوان»، فعليكم أن تبحثوا عن غيري.
١٥ قُلتُ هذا وأنا أشعر بالاشمئزاز من مغامراتي في صقلية والإخفاق الذي
أُصِبتُ به. غير أنهم لم يستجيبوا لي ولم يتأثروا بعروض الصلح والتوسُّط التي تَقدَّمتُ
بها؛ ولهذا جَرُّوا على أنفسهم كل المصائب التي أَلمَّت بهم. ولو أن ديونيزيوس (٣٥٠ﻫ)
رَدَّ لديون ثروته أو تصالح معه لما حدث شيء من ذلك كله — وذلك بقَدْر ما يسع الإنسان
من قدرة على التنبُّؤ بمسار الأمور — فقد كان في استطاعتي أن أمنع ديون «من اللجوء إلى
القوة»، وكانت لديَّ الإرادة الطيبة والقوة التي تُمكِّنني من التأثير عليه. غير أن
الأمور سارت في طريقٍ آخر، فشنَّ كلاهما الهجوم على الآخر وجَلَبا الشقاء والخراب على
كل شيء.
(٣٥١أ) وعلى الرغم من ذلك كله يُمكِنني القول بأن آراء ديون
١٦ كانت هي نفس الآراء التي يفترض فيَّ وفي أيِّ إنسانٍ عاقلٍ «مستقيم» أن
يعتنقها، فمثل هذا الإنسان يضع نُصب عينَيه عندما يتعلق الأمر بالحياة السياسية التي
يسير عليها هو وأصدقاؤه أو يتعلق بوطنه — أن يصل إلى السلطة وإلى أسمى الوظائف عن طريق
التفاني في خدمة الصالح العام. وليس من خدمة الصالح العام في شيء
١٧ أن يعمد إنسان إلى إثراء نفسه وإثراء أصدقائه
١٨ ومدينته عن طريق الخبث وتدبير المؤامرات؛ لأنه في هذه الحالة إنسانٌ مُجدِب
١٩ عاجز عن التحكُّم في (٣٥١ب) شهواته، يقتل أصحاب الثروة ويصفهم بأنهم
أعداؤه، ويُصادر ممتلكاتهم ويُشجِّع حلفاءه وأتباعه على اقتداء به حتى لا يتهمه أحدٌ
منهم بأنه هو المسئول عن فقرهم،
٢٠ وليس من الشرف أيضًا أن يُمتدَح إنسانٌ من «سُكانِ» مدينتِه لأنه وَزَّع
ثروة القلة على الكثرة بحُجة تنفيذ القرارات الشعبية، أو أنه ضم أملاك المدن الصغيرة
إلى مدينته، وذلك إذا كان على رأسِ مدينةٍ كبيرةٍ تمُد (٣٥١ﺟ) نفوذها وسلطانها على مدنٍ
أُخرى أصغر منها. ولا يُمكن أن يسعى ديون أو أيُّ إنسانٍ آخر لديه القدرة على السيطرة
على نفسه إلى الاستيلاء — بمثل هذه الطريقة — على سُلطةٍ يمكن أن تجلب اللعنة الأبدية
عليه وعلى عائلته، بل الأولى أن يجعل هدفه وضع دستورٍ حقيقيٍّ وإقامةِ قوانينَ طيبةٍ
وعادلةٍ تُنفَّذ بغير قتلٍ أو إعدامٍ أو نفي
٢١ على الإطلاق، كان هذا هو المثل الأعلى الذي وضعه ديون لنفسه، مُؤثِرًا
تَحمُّل الظلم على اقترافه. ومع أنه قد احتاط لنفسه «من تحمُّل الظلم بغير داعٍ»، فقد
سقط في نفس الوقت الذي حقق فيه هدفه (٣٥١د) من الانتصار على أعدائه. وليس القَدر الذي
أصابه بالأمر المُستغرَب؛ فقد يُستبعَد على رجلٍ خيِّرٍ مثله — يتمتع بحظٍّ كافٍ من
الذكاء والاتزان — أن ينخدع تمامًا في طبيعة الأشرار الذين يتعامل معهم، ولكن لا
يُستبعد عليه أن يَتعرَّض لنفس المصير الذي يتعرَّض له ملاحٌ بارعٌ يعلم تمام العلم أن
العاصفة آتية، ومع ذلك تُداهمه بقوتها وعنفها المفاجئ فتُغرقه. كان هذا هو السبب في
سقوط ديون، فقد كان يعرف أن الذين تَسبَّبوا في سقوطه أشرار، أمَّا المدى (٣٥١ﻫ) الذي
وَصلَت إليه فظاظتُهم وخِسَّتُهم وجشَعُهم، فذلك هو الذي غاب عنه. وهكذا راح ضحيَّة
انخداعه فيهم وجلب على صَقلِّيةَ الحُزن والشَّقَاء اللذَين لا حد لهما.
(٣٥٢أ) لقد قَدَّمتُ النصيحة التي كان عليَّ أن أُوجِّهها إليكم في أعقاب الحوادث
التي وَصفْتُها. ولهذا أكتفي بما قلتُ. ولقد رَويتُ قصة زيارتي الثانية لصقلية؛ لأن
الحوادث الغريبة غير المُتوقَّعة التي ارتَبطَت بها فرضَتْ عليَّ ذلك. فإذا وجد أيُّ
إنسانٍ أن الوصف الذي قَدَّمتُه يجعل هذه الحوادث أقرب إلى الفهم ويُبرِّر الظروف التي
تَحدثْتُ عنها تبريرًا كافيًا؛ فقد تَحقَّق الغَرَض من هذا العَرْض على أكمل
وجه.