تعليقات
• (٣٢٤ب) تتضارب الآراء منذ العصور القديمة حول اسم «هيبارينوس» ومصيره، وهناك اثنان يحملان نفس الاسم، الأول هو ابن ديون، والثاني ابن ديونيزيوس الأول من زوجته «أرستو ماخيه» شقيقة ديون، وبهذا يكون الأخ غير الشقيق لديونيزيوس الثاني. والأرجح أن يكون المقصود من هذه العبارة ومن المقارنة بين الأعمار هو ابن ديون لا ابن ديونيزيوس الأول الذي ورد ذكره في الرسالة الثامنة، واشترك مع أتباع ديون وحلفائه في إقصاء كاليبوس عن الحكم الذي استولى عليه في سنة ٣٥٤ق.م بعد اغتيال ديون، «وكاليبوس هذا هو صديق ديون الذي صحبه من أثينا ثُمَّ غَدَر به، وهو الذي يتبرأ أفلاطون من خيانته ويحاول أن يبرئ منها مدينته». ومن العلماء من يُؤكِّد من ناحية أخرى أن هيبارينوس المقصود لا يمكن أن يكون ابن ديون، وذلك استنادًا إلى ما يقوله بلوتارك في تاريخ (ديون ٥٥) من أنه مات قبل أبيه. ويبدو أن هذا الاضطراب في تحديد شخصيته كان إحدى الحُجج التي اعتمد عليها المُتشكِّكون في أصالة الرسالتَين السابعة والثامنة، على الرغم من تسليم جمهور العلماء بصحة نسبتهما إلى أفلاطون، وذلك منذ أن قَدَّم العالم فيلاموفيتس (١٨٤٨–١٩٣١م) الأَدلَّة الكافية على أصالة الرسالة السابعة بِوجهٍ خاص.
• (٣٢٤ﺟ) وُلد أفلاطون في سنة ٤٣٧ق.م وتَمَّت الثورة التي تسلم بها الثلاثون مقاليد السلطة في صيف سنة ٤٠٤ق.م والغريب في وصف هذه الثورة هو تقديم سُلطتَي الأمن والإدارة — اللتَين عُهِد بهما إلى أحد عشر رجلًا في أثينا وعشرة رجال في بيرايوس — على السلطة العليا التي كانت في يد الثلاثين. والأغرب من ذلك نسبة الرقابة على الأسواق إلى الأحد عشر الذين لم تكن هذه الرقابة تُمثِّل مَهامَّهم الحقيقيَّة. ومع ذلك فربما ينطبق هذا على العشرة في بيرايوس أكثر مما ينطبق على الأحد عشر.
• (٣٢٤د) كَلَّف الثلاثون سقراط وأربعةً آخرِين بإلقاء القبض على شخص من جزيرة سالاميس يُدعى «ليون»، ولكنَّ سقراط تجاهل الأمر. وقد وَردَت هذه الحادثة في (الدفاع، ٣٢ﺟ) حيث نجد أفلاطون يَذكُر على لسان سقراط «أنهم — أي الثلاثين — كَلَّفوا عددًا كبيرًا من الناس بمثل هذه المهمة وذلك لإلقاء الذنب على أكبرِ عددٍ ممكن».
• (٣٢٦ب): يُعبِّر أفلاطون في الجمهورية (٣٧٣ﺟ-د، ٤٩٩د) عن رأيه المعروف بهذه الصيغة الشهيرة: «إذا لم يصبح الفلاسفة ملوكًا على المدن أو لم يبدأ أولئك الذين يُسمَّون الآن بالملوك والحكام في التفلسف الحقيقي …»
ولكن هل كان أفلاطون يؤمن حقًّا عندما كتب هذه العبارة بإمكان تحقيق هذا المثل الأعلى؟ وهل كان يَتصوَّر إمكان الجمع بين الحاكم والفيلسوف في شخصٍ واحدٍ كما تَخيَّل ديون عندما كتب إليه يَتعجَّل زيارته لاغتنام الفرصة النادرة بعد تَولِّي ديونيزيوس الثاني زمام الحكم، أم اقتَصرَت كل جهوده مع الملك الجديد على إقناعه بإصلاح الدستور والتمسَّك بسيادة القانون كما عَبَّر عن ذلك في محاورته المُتأخِّرة «السياسي»؟ يبدو على كل حال أن أفلاطون كان يَتصوَّر عند زيارته الأولى لصقليَّة أن الحكم الدكتاتوري المُطلَق يمكن أن يصلح أساسًا لنظام الحكم العادل، نظرًا لما يَملِكه المُستبِد «العادل!» من قدرة على الإصلاح والتغيير. ولعل صورة ديونيزيوس كانت في باله عندما تَصوَّر هذا وعَبَّر عنه، وذلك قبل أن تُثبِت له التجربة فداحة خطئه (راجع كذلك: «القوانين»، ٧٩٩ وما بعدها). أمَّا عن زيارته الأُولى لإيطاليا فقد تعرف فيها سنة ٣٨٨ق.م على صديقه أرخيتاس حاكم تارنت — في جنوب إيطاليا — وفيلسوفها ورأس المدرسة الفيثاغوريَّة فيها. وقد كان لهذا الملك الفيلسوف أَثرٌ كبيرٌ على التجارب التي مَرَّ بها أفلاطون في صقليَّة، وهو الذي توسط لدى ديونيزيوس الثاني لإنقاذه من الأَسْر ومن خطر الموت المُحقَّق (راجع أيضًا في هذه الرسالة، ٣٨٨ﺟ، ٣٥٠ب)، وأمَّا عن لذَّات الطعام والشراب السيراقوزية، فيبدو أنها كانت مَضرِب الأمثال في بلاد الإغريق. ويُلاحَظ أن أفلاطون يَذكُرها أيضًا في محاورتَي الجمهورية (٤٢٠٤) وجورجياس (٥١٨ب).
• (٣٢٦ﺟ) يقول أفلاطون إنه يُقدِّم نصيحته للمرة الثانية، وربما كانت المرة الأُولى عندما حاول التأثير على ديونيزيوس الثاني. وهو يذكر في هذه الرسالة نفسها (٣٢٤د) أنه قدَّم نفس النصيحة في ثلاثِ مُناسباتٍ مختلفة، لديون أوَّلًا، ثُمَّ لديونيزيوس الثاني، وأخيرًا هذه النصيحة التي يُقدِّمها في الرسالة السابعة لأصدقاء ديون وأتباعه.
(٣٢٧ﺟ) لم يقف أفلاطون وديون وحدهما في محاولةِ إقامةِ نظامِ الحكم العادل الذي يُسعِد أهل صقلية ويُقِر بينهم الخير والفضيلة. فقد استطاع ديون أن يكسب إلى صَفِّه عددًا من أفراد البيت الحاكم نفسه وهم إخوة ديونيزيوس الثاني غير الأَشِقَّاء (من أبيه ديونيزيوس الأول وزوجته أخت ديون)، وفي مُقدمتِهم هيبارينوس الذي سبق ذكره.
• (٣٢٩أ): «لو كُنتُ أعيش في ميجارا لأَسرعتَ بمساعدتي»؛ لأن مدينة ميجارا التي تقع على خليج كورنثة شديدةُ القُرب من أثينا.
• (٣٣١ﺟ) يَتكرَّر هذا المعنى في محاورة كريتون، ٥١ﺟ «أقريطون» التي نجد فيها هذه العبارة: «لا يصح أن يَفرِض المرء شيئًا بالإكراه على أبيه أو أُمِّه وأقل من ذلك أن يفرضه على بلده.» وأفلاطون ينصح للفيلسوف بأن يلتزم الهدوء ولا يرفع صوته إذا لم تسمح الظروف بأن يسمعه أحد، كما ينصحه بالبعد عن استخدام العنف لتغيير دستور الحكم إذا كان سيُؤدِّي إلى تَعرُّضه هو أو غيره من المواطنين للموت أو النفي. ونجد هذه النصيحة نفسها في محاورة الجمهورية (٤٩٦) فينبغي على الفيلسوف أن يَلزَم السكينة والهدوء «كرجلٍ يأوي إلى جِدارٍ يَحمِيه من العاصفة …»
• (٣٣٢أ) لا تُفهَم هذه العبارة إلا إذا وازنَّا بين وضع صقليَّة في عهد ديونيزيوس الأول وبين وضع أثينا التي كانت في ظروف أسوأ منها. فالأَثينيُّون يَحتلُّون مُدنًا آهلةً بالسكان لا مُدنًا خرَّبها البرابرة، مما يزيد من صعوبة حكمها والسيطرة عليها. أمَّا داريوس فقد كانت ظروفه كذلك أصعب من ظروف ديونيزيوس. فقد عجز هذا عن حكم تلك المُدن على الرغم من استناده إلى إخوته الأصغر منه، بينما نجح داريوس الذي اعتمد على تأييد المشتركين معه في قلب «الميدي» على الرغم من أنه لم يقُم بتَربيتهِم ولم تَربِطْه بهم علاقة الدم. ولو رجعنا إلى تاريخ (هيرودوت، ٣، ٦١ وما بعدها) لوجدنا أن داريوس قضى على أحد الحُكَّام الميديِّين الذي كان يُدعى «سمبرديس» بمساعدة سِتَّة من حلفائه وبذلك أصبح ملكًا على بلاد الفُرس، ويَذكُر هيرودوت أن داريوس قَسَّم مملكته إلى عشرين وِلاية، بينما يؤكد نقشٌ وُجِد في مدينة «بيرسيبوليس» أنه قَسَّمها إلى أربعة وعشرين ولاية.
وقد اتخذ بعض الباحثين من هذه الاختلافات التاريخية حُجةً على عدم أصالة الرسالة السابعة، ولكننا نجد أفلاطون يذكر في القوانين (٦٩٥ﺟ) عدد الولايات التي يَذكُرها في هذا الموضع من الرسالة؛ إذ يقول إن داريوس قسَّم مُلكه إلى سبع ولايات، كما يصف الحاكم الميدي بنفس التسمية التي يصفها بها هنا وهي الخَصِي. وغَنيٌّ عن الذكر أن الفيلسوف ليس مُؤرِّخًا دقيقًا ولا يُقلِّل من شأنه غياب بعض الحقائق التاريخية عنه، كما لا ينهض دليلًا على زيف الرسالة التي نحن بصددها.
• (٣٣٢ب) المقصود بالبرابرة — في كلام اليونانيِّين بوجه عام — هم الفُرس، وقد دامت الإمبراطورية الأثينيَّة ما يقرب من سبعين عامًا، وانتهت سنة ٤٠٤ق.م.
• (٣٣٣أ) جيلون هو طاغية سيراقوزة الذي هَزم القَرطاجيِّين في معركة «هيميرا» سنة ٤٨٠ ق.م وفَرضَ عليهم الإتاوة. ويبدو أن تعبير أفلاطون عن خضوعهم لنِيرِه فيه نوعٌ من المبالغة، كما أن الكلام عن الإتاوة التي فرضها القَرطاجيُّون على ديونيزيوس لم يَرِد إلَّا في هذه الرسالة.
• (٣٣٣ب) كانت المرة الأُولى عندما حَرَّر ديون المدينة من طغيان ديونيزيوس الثاني بعد رجوعه من بلاد الإغريق. أمَّا في المرة الثانية فقد استُدعي من مدينة ليونيتيني ليَحمِيَها من نيسيوس أَحدِ قُوَّادِ ديونيزيوس.
• (٣٣٣ﻫ) الأخوان اللذان صاحبا ديون عند عودته إلى صقلية هما كاليبوس وفيلوستراتوس، (راجع: «تاريخ بلوتارك»، الفصل الخاص عن ديون، ٥٤)، ويُلاحظ أن الأَوَّل يَرِد ذكره أكثر من مرة، وهو الذي قام باغتيال ديون أو على الأقل حمى قاتلِيه وتَستَّر عليهم، وتَبرُّؤ أفلاطون من القَتَلة ومن نِسبتِهم إلى وطنه أثينا تُفيد اشتراك الأَخوَين في الجريمة …
• (٣٣٦ب) هيرون هو شقيق جيلون، الذي سبق ذكره في تعليق سابق (٣٣٣أ) وخليفته في حكم سيراقوزة.
• (٣٣٧ﺟ) يُرجِّح بعض الباحثين أن تكون هذه العبارة إضافةً مُتأخرةً إلى النص، كما يبدو أن هذا الرقم الكبير لا يتناسب مع عدد السكان. فنحن نجد في الرسالة الثامنة أن أعضاء هذه «اللجنة» المنتخبة يُترك للاتفاق عليه، كما أن القوانين (٧٠٤ﺟ) تحدد عددهم بعشرة أعضاء فحسب.
• (٣٤٢ب) تَذكُر القوانين (٨٩٥د) ثلاثة أشياء تنطوي عليها المعرفة بأي موضوع، وهي الموضوع نفسه وتعريفه، واسمه. ولمَّا كانت «القوانين» تناقش في ذلك الموضع حقيقة النفس، لم يَرِد فيه ذكر «التمثُّل» أو النسخة المذكورة هنا لعدم ملاءمته له كما هو الحال هنا؛ حيث اختار أفلاطون مثال الدائرة الذي يمكن أن يُمثَّل له بدائرةٍ مرسومة، وقد أُخذ استعمال أفلاطون لفعل الأمر بضمير المخاطب «خذ لذلك مثلًا …» إلخ، على أنه إضافة كاتب أراد أن يُبيِّن علمه بنظرية المُثل، فأقحم على النص شاهدًا ورد في سياقٍ أفلاطونيٍّ آخر. وعلى الرغم من أن كل التفاصيل الواردة في الرسالة السابعة عن نظرية المُثل أو غيرها من نظرَّياتِ أفلاطون وآرائه موجودةٌ ومُثبَتةٌ بتفاصيلها في مواضعَ أُخرى من محاوراته، فلا شيء يمنع من تَكرارها في هذه الرسالة التي يُحاول فيها أن يُدافع عن فلسفته ويُبرِّرها في وجه المُفترِين عليه، ولا ضرورة أيضًا لتصوُّرِ إقحام هذا الجزء العسير بِيدِ كاتبٍ مُتأخر.
• (٣٤٣أ) يَتكرَّر سوء الظن بالكلمات والحروف الجامدة وعجزها عن احتواء الأفكار والأحاديث الحية في محاورة فايدروس (٢٧٥د) إذ يبدأ سقراط — في حديثه العذب مع فايدروس — في روايةِ أُسطورةٍ مصريةٍ قديمةٍ تحكي عن «توت» — كاتب الآلهة — الذي يُنسَب إليه اختراع الكتابة والحساب والأرقام والهندسة والفلك، ويذهب «توت» أو تحوت ليَعرِض اختراعاته على رَبِّ الأرباب آمون، مؤكِّدًا أن أهمَّها هو اختِراع الكِتابة الذي يزعم أنه سيُقوِّي ذاكرة المِصريِّين. ويَزيدُ من ذكائهم وحكمتهم! …
غير أن آمون يَصدِمه بقوله: إن مُكتشِف فنٍّ من الفنون، يا عزيزي توت، ليس هو أفضل حَكَمٍ على نفعه أو ضرره للذين سيُمارِسونه، وكذلك الشأن في هذه الحالة. فغَرامُك بالكتابة، وأنت أبوها، قد جعلك تَنسِب إليها عكس وظيفتها الحقيقية تمامًا. فالذين سيتَعلَّمونها سيكُفُّون عن استعمال ذاكرتِهم ويُصابون بالنسيان، وسيعتمدون على الكتابة لِتذكُّر الأشياء عن طريق العلامات الخارجية بدلًا من الاعتماد على مصادرهم الباطنة. إنَّ ما اكتَشفتَه يُساعد الحفظ ولا يُساعد الذاكرة. أمَّا عن الحكمة فسيُشتَهر تلاميذُك بها دون أن يكون لهم في الواقع منها نصيب، سيَتلقَّوْن قدْرًا من المعلومات بغير علمٍ صحيح، وسيظن الناس نتيجةً لذلك أنهم على حظٍّ كبيرٍ من العلم في الوقت الذي يكون فيه معظمهم جاهلِين جَهلًا تامًّا؛ لأنهم سيمتلئون بالحِكَم الزائفة بدلًا من الحِكمة الحقيقية، وسيُصبِحون عبئًا على المجتمع …»
ويُدلِّل أفلاطون — على لسان سُقراط — على رأيِه عن تقدُّم الحديث الحي «المنقوش على صفحة الروح!» على الكلمة المكتوبة بأن الشيء يَطوفُ بمُجرَّد تدوينه بين الذين يفهمون موضوعه والذين لا يكترثون به؛ إذ لا تستطيع الكتابة ولا الكاتب أن يُميِّز القُراء الذين لا يناسبونه، وهي نفس الفكرة التي تتكرر في هذه الرسالة (٣٤١ﻫ)، وإذا أُسيئت معاملتها أو أُسيء استخدامها فهي في حاجةٍ دائمةٍ إلى «أبيها» الذي يَهُبُّ لنجدتها؛ لأنها عاجزةٌ عن الدفاع عن نفسها!
وليس كذلك الأمر مع الحديث الحي؛ لأنه يعرف كيف يدافع عن نفسه، كما يمكنه أن يُفرِّق بين أولئك الذين ينبغي أن يُوجَّه إليهم وبين الذين ينبغي عليه أن يَلزَم الصمت في حضورهم … ولهذا كانت الكتابة من الحديث الحي بمثابة الظِّل من الأصل. ولهذا أيضًا كان صاحب المعرفة الأصلية بما هو حقٌّ وخيرٌ وجمالٌ أشبه بالفلَّاح الجادِّ الذي يَغرِس بذوره في التربة المناسبة «لا في حدائق أدونيس أو الأوعية الضحلة التي كان الناس في الاحتفال بذكرى هذا البطل الجميل القصير العمر يَغرِسون فيها البذور لتزدهر سريعًا قبل أن تمُد جذورها في التربة»، ثُمَّ يفرح بجمع الحصاد بعد ثمانيةِ شهورٍ من غرسها. ولهذا لن يفكر صاحب علم أو معرفة حقَّة في اللجوء للقلم للكتابة على الماء أو غرس بذور الحق والخير والجمال في السائل الأسود الذي يُسَمَّى بالحبر … ربما يُسلِّي نفسه بتضييع الوقت في الكتابة والتدوين ليَغرِس «حدائق الأدب …» ويحمي نفسه ومن يجيء بعده من عوادي الزمن حين يُهاجم النسيان الشيخوخة ويُتلف ملكة الحفظ والتذكُّر. فإذا سأل القارئ: ولماذا كتب أفلاطون كل ما كتب من محاوراتٍ ما دام هذا هو رأيه في الكتابة؟ هل نُوجِّه إليه اللوم نفسه الذي وَجَّهه إلى «ليزياس» في هذه المحاورة لأنه كان يُدوِّن أحاديثه وخُطبه، كما وجهه إلى كل كاتبٍ في الماضي أو المستقبل فكَّر — أو سيُفكِّر — أن الحقيقة يمكن أن تُوجَد في شيءٍ مكتوب؛ لو سأل القارئ هذا السؤال لكان الجواب عليه هو نفس الجواب الذي قدَّمه منذ قليل. لقد كانت الكتابة في رأيه مُجرَّد «تسلية» و«لعب»، كما كانت عَونًا لذاكرة الأحياء — في عصره أو بعد موته — على تَذكُّر الحقيقة … أمَّا الحقيقة نفسها فلا بد أنها كانت «شرارةً حيَّة» تنقدح وتنبض في حِواره الحَي السَّمْح مع تلاميذه وزُوَّاره في «الأكاديمية»، أو في حِوار مُعلِّمه سقراط مع تلاميذه سواءٌ في حياته وهو يجوب شوارع أثينا «حافي القدمَين» أو وهو يتحدث بعد موته في محاورات أفلاطون … ولا يصح أن ننسى أبدًا أنها «محاورات» وليست بحوثًا ولا رسائل عن الحقيقة، وأنه كان صادقًا عندما قال في هذه الرسالة إنه لم يُفكِّر أبدًا ولا ينبغي كذلك لأيِّ إنسان جادٍّ أن يُفكِّر في تدوين الحقيقة أو إضفاء ثياب الكلمات الجامدة عليها … والدليل على هذا أنه لم يستطع أن يتكلم مثلًا عن الخير الأسمى إلا عن طريق تشبيهه بالشمس، وأنه يُردِّد كثيرًا في الجمهورية (٥٠٦ وما بعدها) وغيرها أن الفهم الكامل لمثال الخير لا يُمكِن توصيله للغير؛ لأنه أقرب إلى الرؤية أو التجربة الصوفيَّة التي لا يُمكِن نقلُها للآخرين … والدليل على ذلك — أخيرًا — أن أرسطو عند حديثه عن آراء أستاذه التي لم تُكتَب (الطبيعة ٢٥٩ب، ١٥) يذكر أن نظرية المُثل اكتسبت صورةً رياضيةً شديدة التعقيد، وأنها تَطوَّرَت مع أحاديثه مع تلاميذه في الأكاديمية (وبخاصة مع أرسطو نفسه!) تَطوُّرًا تَجاوَز كل ما نعرفه عنها من المحاورات …
• (٣٤٤ب) عن المواهب الطبيعية التي يجب أن يتحلى بها الفيلسوف، راجع كذلك (الجمهورية، ٤٨٤ وما بعدها)، وكذلك (٤٨٦د).
• (٣٤٥أ) هذا ما يعلمه الله، كما يقول أهل «ثيبة». ويَرِد نفس التعبير في محاورة «فايدروس» (٦٢أ) على لسان كييس، أحد سكان ثيبة أيضًا. ويبدو أن أفلاطون قد تَعلَّم هذا المَثل بلهجته الشعبية من بعض تلاميذه الذين ينحدر أصلهم من تلك المدينة.
• (٣٤٦ب) تُوحي هذه الفترة — لأَوَّل مَرةٍ في الرسالة — بأن أفلاطون حضر إلى سيراقوزة في صحبة بعض أقربائه الذين يشير إليهم ديونيزيوس في حديثه معه. ولعل أَوَّل من يخطر منهم على البال هو ابن شقيقته «سبويسيبوس» الذي خَلَفه في رئاسة الأكاديمية.
• (٣٤٨ب) كان هيراكليدس قائدًا في جيش ديونيزيوس، وبعد فراره انضم إلى ديون الذي كان مُقيمًا في بلاد اليونان، ورَجَع إلى صقليَّة على رأس قوةٍ عسكريةٍ بعد استيلاء ديون على سيراقوزة. ويُروى أنه اشترك — بعد ذلك — في المؤامرات التي دُبِّرت لديون وانتهت نهايةً فاجعةً باغتيالهما (راجع في ذلك الفصل الخاص عن ديون في «تاريخ بلوتارك»)، أمَّا تيودوتويس فكان عم هيراكليدس.