في الموقع
الطريق إلى اليونان
قصة اكتشاف المعبد الموجود في باساي هي قصة تتضمن عناصر شتى: الاستكشاف، وحسن الحظ، والصداقة، والمصادفة، والدبلوماسية الدولية، والضغط، وفن البيع، والقتل. وهي أيضًا قصة تكشف الكثير عن الطرق المختلفة التي يمكن من خلالها تعريفُ التراث الكلاسيكي وفهْمُه حتى في عصرنا هذا.
كانت خطتهم القادمة هي السفر إلى باساي، وهي رحلة أبعد بكثير وأخطر بكثير؛ فقد كانت المنطقةُ المحيطة بها موبوءةً بمرض الملاريا، وأولُ مسافرٍ قادمٍ من أوروبا الغربية يمرُّ بذلك المعبد عاش بالكاد لِيَرْويَ ما حدث (وكان رجلًا فرنسيًّا يُدعَى يواكيم بوشر، وذلك في عام ١٧٦٥). وعندما حاول أن يعود لزيارته مرة أخرى بعد ذلك بوقت قصير، اغْتِيل على يد مَن وصفَهم كوكريل ﺑ «قُطَّاع الطرق الخارجين عن القانون من أهل أركاديا». ومع ذلك، فإن تلك الزمرة من المستكشفين اعتمدتْ على الوصف القديم للمعبد الذي كَتبه رحالةٌ إغريقيٌّ من القرن الثاني قبل الميلاد، والقائل بأن ذلك المعبد قد صمَّمه المهندس المعماري نفسُه الذي صَمَّمَ البارثينون؛ تلك التحفةَ الخالدةَ من العمارة القديمة. وكان احتمال العثور على بارثينون آخر يدور في أذهانهم، فتركوا أثينا قاصدين باساي، ووصلوها في أواخر عام ١٨١١.
ولعل مِن طُرُق سرْد هذه القصة أنْ نقصَّها على أنها قصة تنتمي إلى الثقافة والصفوة الأرستقراطية؛ فدراسة التراث الكلاسيكي مثلها مثل «الجولة الكبرى»؛ هواية لطبقة النبلاء الإنجليز وأقرانهم من الأوروبيين (أسماء الألمانيَّيْن في حدِّ ذاتها تَشِي بذلك: البارون فون هالرشتاين، البارون أوتو ماجنوس فون ستاكيلبرج). لقد كانوا فِتْيَة من الطبقة العليا تعلموا اللاتينية واليونانية في المدرسة، وأَتْبعوا ذلك برحلة «ثقافية» إلى اليونان نفسها؛ حيث أكثروا من الشراب والتلذُّذ بالفتيات هناك بلا شك. كان هذا عالمًا يخص نخبة ثرية بما يكفي للسفر هنا وهناك، ولك أن تتخيل الثراء الكبير والسريع من جرَّاء بيع الكنوز الأثرية التي كانوا يجدونها.
لكن الأمر كان أكثر تعقيدًا من ذلك. ولنتفكَّرْ هنا: ماذا كان هدفهم من استكشاف اليونان؟ كان بعضُ المشغولين بأمر باساي لهم أهداف عملية تتجاوز بكثير تصوُّرَنا لِما يوحيه تعبيرُ «الجولة الكبرى». لقد كان كوكريل نفسُه بالتأكيد من الأثرياء، ولكنْ كان لجولته، على الأقل في جانب منها، أهدافٌ مهنية؛ فقد كان مهندسًا معماريًّا، يبحث عن روائع البناء القديمة ليعرف منها ما يُفِيده في مهنته. وقد كان على وجه الخصوص شغوفًا بأن يَرَى إلى أيِّ مدًى كانت بقايا المعابد الإغريقية متطابقةً مع توصيات فيتروفيوس، وهو مهندس معماري روماني قديم صاحب دليلٍ إرشاديٍّ في مجال الهندسة المعمارية كان ما يزال مستخدمًا بوصفه دليلًا مهنيًّا. لم يَكُنْ هذا مجردَ سعيٍ باردٍ عن الجمال والثقافة؛ فقد كان العالم القديم يقدِّم نموذجًا عمليًّا للتصميم، يعلم أهل ذلك الفن من المعاصرين «كيف» يصممون تلك الأشياء.
وبالطريقة عيْنِها تقريبًا كان شباب الفنانين في ذلك الزمان يتعلمون المهارات عن طريق دراسة المنحوتات القديمة؛ وذلك عن طريق عملية نَسْخ وإعادةِ نسْخ متواصلة للقوالب الجصية الخاصة بالتماثيل القديمة، أو (أفضل من ذلك) عمَلِ نُسَخ للأعمال الأصلية نفسها. ولم يكن هذا جزءًا من منهج دراسي في «تاريخ» الفن، ولكنْ كان درسًا عمليًّا يتلقَّوْنه — وفق ظنِّهم — مِن أفضل أعمال النحت التي عَرَفها العالمُ على الإطلاق. أما اليومَ فلم يَعُدِ التدريب الفني يعتمد على أعمال الإغريق والرومان كوسائلَ رئيسيةٍ للتعلُّم. في الواقع، في وقت سابق من القرن العشرين كانت كليات الفن الإنجليزية تتخلص من القوالب الجصية للمنحوتات القديمة بالمئات، وكانت تُحطَّم في محاولة مبالَغٍ فيها لتأكيد التحرر مما كان يُنظَر إليه (بحق أو بغير حق) على أنه قيودٌ فرضها ذلك التعليم «الكلاسيكي». ولكن دور العالم الكلاسيكي كنموذج عملي، سواء للتصميم، أم للسلوك، ما يزال يشكِّل جزءًا من نقاشاتنا اليوم. على سبيل المثال، نجد العديد من خلافات المعماريين الأخيرة يركز على ما إذا كانت الأشكال المعمارية القديمة لا تزال هي الأفضل، والأنسب للمحاكاة.
تصوَّرْ معي البعثة الدولية المتنافرة التي قصدتْ باساي: ألمانيِّين ودنماركيِّين وإنجليزيِّين، مع مساعدةٍ لا تُقَدَّر بثمن من رجل فرنسي. ثم تذكَّرْ أنه في وقت اكتشافاتهم كانت أوروبا في قلب الحروب النابليونية. لم تكن تلك الزمرةُ مجردَ مجموعة من الأرستقراطيين تَلاقتْ عقولهم؛ بل كانوا مجموعة من الأعداء المحتمَلين، جمعتْ بينهم دراسةُ التراث الكلاسيكي، وإعادةُ اكتشاف هذا التراث الكلاسيكي، ولم يكن السبب الوحيد لذلك أنهم، في تلك البقعة، كانوا بَعيدين عن ساحات القتال؛ بل لأنهم كانوا يتشاركون بعضَ الاهتمامات الأكاديمية والثقافية، ولا يبالون بالحرب الدائرة. كان التراث الكلاسيكي يمثِّل تحديًا أكبر بكثير للمصالح القومية في أوروبا القرن التاسع عشر.
كانت إعادة اكتشاف اليونان، بطريقة ما، بمنزلة إعادة اكتشافٍ لجذور الثقافة الغربية ككلٍّ؛ فقد كانت وسيلة لرؤية أصل الحضارة الأوروبية بأسرها، والتي تسمُو فوق الخلافات المحلية والقومية. لا يهمنا أن تلك المشاحنات كانت دائمًا على استعداد لتطفو على السطح مرة أخرى، فعندما يَحِين وقت اقتسام كنوز العالَم القديم التي اكتُشفَتْ، كان المهمُّ في الأمر حقًّا أن الحضارة الإغريقية مَنَحَتِ الثقافة الغربية جذورها المشتركة التي يستطيع كل المتعلمين على الأقل التشارُكَ فيها. وكما سنرى في الفصل الثامن من هذا الكتاب، فإنه بنفس الروح تقريبًا، بعدَ ما يقرب من ٢٠٠ سنة، لا يزال الناس ينظرون إلى أثينا القديمة على أنها مهد الديمقراطية في العالم، وأنها الأصل الموحِّد لنظام سياسي مفضَّل، حتى لو اختلفنا حول المعنى الحقيقي «للديمقراطية»، وما كان معناها، وأيُّ صُوَرها هي الأفضل. بل إن النزاعات والحروب يمكن أن تبدو، من جميع الجوانب، وكأنها اجترار للمعارك القديمة، وأنها تدور حرفيًّا على ذات البقاع القديمة. وفي أعيُن مَن تلقَّوْا تعليمًا كلاسيكيًّا، عبر الحدود الحديثة، تبدو الأحداثُ وكأنها اكتستْ بثوب قديم مألوف.
ولكن الحقيقة الأهم حول بعثة باساي هي أنها كانت «رحلة استكشافية». فلقرونٍ ظلت دراسة التراث الكلاسيكي لا تشتمل فقط على الجلوس في مكتبة لمطالعة الأدب الذي بقي من العالم القديم، أو زيارة المتاحف لرؤية المنحوتات المعروضة بأناقة، بل اشتملت كذلك على رحلات اكتشاف للعثور على أعمال الحضارات الكلاسيكية والعالم الكلاسيكي على أرض الواقع، حيثما وجدت.
لذلك كان دارسو التراث الكلاسيكي، وما زالوا، «مستكشفين»؛ فقد ارتحلوا لأشهُر على الجبال التركية القاحلة، بحثًا عن حصون الغزو الروماني. وقد حفروا وعثروا على قُصَاصات من ورق البردي القديمة، خُطَّتْ عليها دُرَر الأدب القديم، وذلك في رمال مصر (التي كانت ذات يوم إحدى مقاطعات الإمبراطورية الرومانية). لقد سافروا، مثل كوكريل ورفاقه، في الشوارع الجانبية للريف اليوناني يرسمون ويقيسون، والآن يصورون، مواقع للعالم القديم طواها النسيان منذ أمد بعيد. لقد استأجروا الحمير، وقطعوا مفاوز الصحراء السورية، وتنقلوا من دير إلى دير، يجوبون مكتباتها بحثًا عن مخطوطات على أمل العثور على بعض نصوص العالم القديم المفقودة، نَسَخَها بأمانة راهبٌ من القرون الوسطى. كان الاهتمام بالعالم القديم يعني غالبًا أنْ تَرحل «إلى هناك»، لتشرع في رحلة إلى المجهول.
السعي وراء الحلم
بطبيعة الحال كانت تلك الرحلة أكثر تعقيدًا من مجرد «اكتشاف» بسيط (وهو بالتأكيد ما يعرفه أيُّ مستكشف في أيِّ مكان)؛ فقد كانت بلا شك تنطوي على التوتُّر بين الواقع والمأمول، وفي هذه الحالة، بين صورة أمجاد اليونان القديمة، باعتبارها ذروة الحضارة، وواقع اليونان كبَلد يُزار. نحن لا نعرف بالضبط ما كان كوكريل يتوقَّعه عندما انطلق في رحلته من إنجلترا، ولا نعرف ردة فعله عندما حطَّ على أرض أثينا. ولكنْ من الواضح أن العديد من مسافري القرن التاسع عشر ساءهم أن يكتشفوا (مهما كان جمال المَشاهد أو رومانسية الأطلال) القرية الرخيصة التي تقبع محل أثينا القديمة، وما كان ينتشر فيها من قذارة وأمراض، وما وجدوه من الكثير من سكانها من وضاعة وخيانة للأمانة. وقد كتب أحد أوائل الزوار يقول: «دموع تملأ العيون، ولكنْ ليست دموعَ فرحةٍ وبهجةٍ.» كما عبَّر دي كوينسي عن أحوال «اليونان الحديثة» بعبارة شهيرة قال فيها: «ما هي المنغِّصات التي تتفرَّد بها اليونان، وتصدُّ السياح عن القدوم إلى تلك البلاد؟ إنها أمور ثلاثة: اللصوص، والبراغيث، والكلاب.» كيف أمكن لهؤلاء أن يَرَوا «المجد الذي كانتِ اليونان عليه» رغم تدهور أحوالها في العصر الحديث؟
كان هناك العديد من الإجابات لهذا السؤال. وقد حوَّل بعض المسافرين الصعوبات التي واجهوها إلى فُرَص؛ فالنِّضال البطولي ضد الأمراضِ والغشِّ والسرقةِ على يد قُطَّاع الطريق كل هذا يمكن تصوُّره على أنه تعزيز لبطولة مَن يكتشفون اليونان القديمة نفسَها، بما فيها مِن تبجُّح بحكايات الأكمنة، أو الموت من أجل الشهامة في أقاليم بعيدة، وكل هذا أضاف إلى رومانسية الاستكشاف. حاول آخرون أن يخترقوا بأنظارهم السطحَ القاتم لطبقة النبلاء في اليونان القديمة، والتي لا تزال موجودة (وإنْ كانت مخفية إلى حدٍّ ما) في اليونان الحديثة، وبوسعك دائمًا أن تجعل الأتراك هم العدوَّ الحقيقيَّ (كما فعل اللورد بايرون عندما عاد بعد ذلك ليُقاتل ويموت من أجل اليونان في حرب الاستقلال). ولكن البعض وصل إلى نتيجة مختلفة تمامًا؛ وهي أن أفضل زيارة لليونان تكون في عالَم الخيال.
بعبارة أخرى، كان هناك تصوُّر آخر لاكتشاف العالم القديم. وبعض أقوى التعبيرات عن اليونان القديمة، تلك التي شكَّلتْ رؤيتنا وفَهْمنا لماضي العالم القديم، كانت إبداعات أناس لم تطأ أقدامُهم قطُّ أرض اليونان، فكانت اليونان التي كتبوا عنها، وبوضوح شديد، يونانًا «وهمية». على سبيل المثال، جون كيتس الذي احتفى في أشعاره بروعة الفن الإغريقي والثقافة الإغريقية في إنجلترا في مستهلِّ القرن التاسع عشر (لعل أشهرها «قصيدة على جرة إغريقية»)، زار روما، لكنه لم يغامر قط بأن يقصد اليونان. كما أنه لم يقرأ كثيرًا من الأدب القديم، أو على الأقل ليس بأسلوب منهجي دراسي. وكان تقريبًا لا يدري شيئًا عن اللغة اليونانية القديمة، ولكنه كان يعتمد كليَّةً على الترجمات، وعلى ما كان يمكنه رؤيته في المتاحف.
هذه الصُّوَر المتباينة لم توجد في تناغم سَلِس بعضُها بجوار بعضٍ. وكيتس نفسه كان موضع سخرية لا هوادةَ فيها من قِبَل الكثيرين في زمانه لجهله باليونان واليونانية. بل إن أحدهم انتقد قصائده نقدًا لاذعًا (لدرجة أن الكثيرين قالوا إنه أدى إلى وفاته) وأطلق عليه اسم «النظَّام التافه» الذي كانت رؤيته الرومانسية لثقافة العالم القديم لا تقوم إلا على خياله هو. لكن بايرون وقف على حقيقة الأمر:
بل إن رؤية كيتس لجَمَال اليونان القديمة ورِفْعَتِها، سواء أكانت خيالًا أم لا، أصبحَتِ المعيار الذي يُحكَم مِن خِلالِه على اليونان المعاصرة وبقايا ماضيها.
ويَظهَر النزاع جليًّا فيما جرى عند أخذ رخام إلجين من البارثينون إلى المُتحف البريطاني. بعض الناس، حتى في ذلك الوقت (فهذا ليس جدلًا مقتصرًا على القرن العشرين)، رأَوْا أن ذلك تشويه فاضح لتلك التحفة الأثرية، وسطوٌ وتدنيسٌ لكنوز اليونان. كان أعلى النقاد صوتًا هو اللورد بايرون، وثمة مفارقة أخرى في حكاية حفلة الوداع التي أقيمتْ في البحر وضمَّتْ كوكريل ورفاقه؛ وهي أن بايرون نفسَه كان مسافرًا عائدًا إلى إنجلترا على متن السفينة التي تحمل بعض رخام إلجين وكان قد كتب للتوِّ قصيدة لاذعة تندد بتدنيس إلجين للبارثينون. وصَوَّر بايرون نظيره الاسكتلندي إلجين على أنه الأسوأ في سلسلة طويلة من المخرِّبين الذين نهبوا ذلك الضريح للإلهة بالاس أثينا:
ولكن الأمر الأكثر إثارة للانتباه هو حقيقة أن الكثيرين في إنجلترا، نظرًا لتمسكهم برؤية خاصة لكمال العالم القديم، لم يَرُقْهم ما رأَوْا عندما عُرضت منحوتات البارثينون في نهاية المطاف في المتاحف؛ فقد وجدوا أنها كانت مختلفة تمامًا عما كانوا يتوقعونه، لقد كانوا يتوقعون أن يروا أعظم تحفة أثرية عرفها العالم القديم، فحين رأوا قِطَع الرخام المهشمة تلك كانوا على يقين أن هناك خطأ فادحًا قد وقع، وأن تلك التماثيل ليست أعمالًا فنية أصلية، بل هي بدائل تُشبِهها نُحتت بعد ذلك بقرون في عهد الإمبراطورية الرومانية.
الحقيقة المهمة الأخرى هي أن بعثة باساي كانت رحلة استكشافية إلى اليونان لا إلى إيطاليا. صحيح أن بعض أفراد البعثة زاروا روما. وفعل كوكريل ذلك عندما جعلت نهاية الحرب النابليونية الزيارة ممكنة؛ لأنه في عام ١٨١١ كانت كلٌّ مِن روما ونابولي، في الواقع، مغلقتين رسميًّا أمام الإنجليز. ومع ذلك، فكَوْن اختيارهم وقع على اليونان دون إيطاليا لتكُون موضع رحلتهم الاستكشافية يمثِّل تغييرًا كبيرًا في الاتجاه في أواخر القرن الثامن عشر ومستهل القرن التاسع عشر؛ فلم يَعُدِ الهدف من زيارة العالم القديم في الخارج روما فحسب، ولكنْ شواطئُ أثينا الأبعد وما وراءها.
إن فكرة دراسة التراث الكلاسيكي بوصفها عملية اكتشاف تفسر هذا التغيير جزئيًّا. فإذا كان يُنظر إلى استكشاف أراضي العالم القديم على أنه رحلة بطولية إلى أماكن غريبة ونائية، فإن روما تصير غير مناسبة بعض الشيء. لعل استكشاف إيطاليا كان فيما مضى صعبًا وغريبًا. ولكنْ بحلول عام ١٨٠٠ كان هناك بالفعل الكثير من الفنادق في روما على الأقل، وصار أمر السفر سهلًا نسبيًّا، وكذلك الأدلة والكتيبات الإرشادية؛ باختصار كانت هناك بنية تحتية لصناعة سياحية مزدهرة في مرحلة مبكرة. وبالنسبة لمَن كانوا يبحثون عن الإثارة وخوض المجهول، ولا يرضون ﺑ «عطلة» تلائم أفراد الطبقة الوسطى، كانت الخطوة التالية هي اليونان بتُحَفِها الأثريةِ التي لم يستكشفها أحد ومخابئِها الجبليةِ وأمراضِها الغريبةِ.
صُنِعَ في اليونان، مطلوب في روما
من الصعب معرفة إلى أيِّ مدًى تطفَّلتْ روما حقًّا على الثقافة الإغريقية، أو إلى أيِّ مدًى كان الرومان حقًّا مجرد برابرة متوحشين إلى أن غَزَوُا الإغريق فصاروا متمدنين. ومن الصعب، بنفس المقدار تقريبًا، معرفةُ ما يعنيه أن يُقال عن روما، أو أيِّ مجتمع آخر، إنه ليس لديه «ثقافة» تخُصُّه بذاته، وإن حضارته لم تكن إلا شيئًا استعاروه من غيرهم. ولكنْ بالتأكيد كان الرومان أنفسُهم في كثير من الأحيان يضعون أنفُسَهم في هذا الإطار حين يتحدثون عن علاقتهم باليونان؛ إذ نَجِدهم يُرجِعون ما لديهم من فن وهندسة معمارية، وكذلك العديد من ألوان أدبهم وشِعرهم، يُرجِعونها جميعًا ومباشرة إلى اليونان.
فهوراس، على سبيل المثال، قدَّم شِعرَه على أنه يتبع تقاليد مَن سبقوه من شعراء اليونان، بل كان يقول إن أعماله هي تقليدٌ مقصود لموضوعات الشعر الإغريقي وأشكاله. فَلِكي يُطالِب هذا الرجل بمكانته بوصفه شاعرًا «رومانيًّا» قديمًا، ها هو يُعلِن أنه مَدِين للشعر الذي نَظَمه الإغريق قبل أكثر من ٥٠٠ عام قَبْلَ ولادته، وكان يُدرَس ويُدرَّس منذ زمن بعيد في عالم الإغريق على أنه أدب إغريقي. كما نجد المعابد الرومانية هي الأخرى (والتي كانت أشبه بالمتاحف) تكتظُّ بالأعمال الفنية الإغريقية، وبأعمال فنية رومانية لم تكنْ إلا نُسَخًا لأعمال إغريقية، أو نُسَخ وتنويعات على نفس الموضوعات.
لذلك فإن اكتشاف روما، سواء على أرض الواقع، من بين الأنقاض، أم عن طريق قراءة الأدب اللاتيني في إحدى المكتبات، كان دائمًا يعني أن يُقاد المرءُ إلى اليونان، وكذلك لاكتشاف عالم الإغريق من خلال الرومان. هذا صحيح بالنسبة لنا، أو لرحَّالة القرن التاسع عشر، كما كان الحال بالنسبة للرومان أنفسِهم. كانت الرحلة إلى باساي جزءًا من تلك الرحلة «الثقافية» من روما إلى اليونان بقدْرِ ما كانت جزءًا من البحث عما هو جديد وعن مناطق جديدة كانت من المجهول.
أما بالنسبة للنحت نفسه؛ فهذا الجزء من الرواية ينتهي بسباقٍ وتنافُسٍ على المستوى الدولي؛ فقد تمكن وكلاء الأمير لودفيج من الحصول على جميع التماثيل التي أُخذت من إيجينا، وعاوَنهم في ذلك شيءٌ من التخبُّط اليائس من جانب البريطانيين الذين كانوا أبرز منافس في عملية الشراء. كان الأمر يسيرًا للغاية، حتى إن بعضهم ظن أن في الأمر خدعةً ما؛ إذ توجَّهَ الوكيل البريطاني إلى مالطا (حيث نُقلت الأغراض إلى مكان آمن خارج منطقة الحرب المباشرة)، وكان على ما يبدو لا يدرك أن المزاد لا يزال مستمرًّا في زاكينثوس. وهذا جَعَل الحكومة البريطانية أشد تصميمًا على الفوز برخام باساي لصالح بريطانيا. وقد عُقد مزاد في عام ١٨١٤، في زاكينثوس مرة أخرى. بالنسبة للودفيج، الذي كان قد اكتفى بما حصل عليه من كنوز إيجينا، فقد خرج الآن من السباق. أما فوفيل فقد قدَّم عرضًا نيابةً عن الفرنسيين، ولكنْ فاقَهُ بسهولة عرضُ الإنجليز، الذين قدموا ١٩ ألف جنيه إسترليني.
قد حُمِلت المنحوتات على زورق حربي، وأُعيدت إلى «الوطن» إلى المُتحف البريطاني. وهناك لم يتوقف قَطُّ الجدلُ حوْلها، ليس فقط حول جودتها الفنية وتاريخها، ولكنْ أيضًا حول السياسات المتعلقة باستكشاف اليونان.