أن تكون هناك
نحن جميعًا ذاهبون لقضاء عطلة صيفية
لقد قمنا جميعًا بزيارة رومانسية لباساي. ربما لم نذهب قطُّ إلى اليونان؛ ولكننا جميعًا فتحْنا كتيباتٍ سياحيةً ونظرْنا إلى ملصقات وصور، وفي مخيلتنا قُمنا برحلة إلى المعبد في الجبال.
تحْمل كلمة «اليونان» الآن معاني كثيرة، ولا شك أنها تحمل من المعاني أكثر مما كان عليه الحال قبل قرنين من الزمان؛ فهي بلاد الشمس والشواطئ، وملذات شاطئ البحر؛ هي بلاد لا تُلقي للوقت بالًا؛ حيث تجد كبار السن من الرجال يجلسون لساعات على المقاهي يشربون الأوزو ويلعبون الطاولة، وهي بلاد لا تزال تنتشر فيها تقاليد الضيافة في أوساط الفلاحين. ولكنَّ جزءًا أساسيًّا من تصورنا لليونان هو مزيج خاص من أنقاض العالم القديم والمناظر الطبيعية الجبلية الوعرة التي تكاد تطغَى على كل صورة لباساي. قد يكون هناك بالفعل العديدُ من البقاع الأخرى من العالم يمكننا أن نجد فيها مشهدًا مماثلًا؛ فهناك مثلًا مواقع في جبال تركيا تشبهها كثيرًا. ولكن، بالنسبة لنا، فإن صورة باساي تلك ترمز إلى «اليونان». ولسنا بحاجة إلى شرح على الصورة ليبين لنا أين هي.
في الوقت نفسه، ذلك المشهد اليوناني يمثل التراث الكلاسيكي؛ ففي أوروبا كلها، وكذلك في أجزاء من أفريقيا وغرب آسيا، تنتشر بقايا الماضي الكلاسيكي. وفي كل منطقة كانت يومًا جزءًا من الإمبراطورية الرومانية، من اسكتلندا إلى صحراء أفريقيا، لا تزال هناك آثار مادية لتاريخها القديم. يقع بعض أفضل ما بقي من المدن الرومانية في صحراء تونس؛ حيث توجد منازل ومعابد ومدرجات، وفسيفساء تفوق ما تبقى من بومبي، ولا يزال أثر مثل سور هادريان يعطي انطباعًا قويًّا؛ إذ يقطع بوضوح شمال إنجلترا، في الموضع الذي كان يومًا ما يمثِّل الحدَّ الروماني بين العالم المتحضر والأراضي البربرية. ورغم كل ذلك، فإنَّ تصوُّرَنا للعالم القديم لا يزال محصورًا في تلك الصورة للمعبد اليوناني في بيئته الجبلية البرية.
كلَّ صيف يقوم الآلاف من الناس بزيارة لباساي (وتنطق أيضًا باسيه أو فاساي)، فيُحِيلوا تلك الرحلة الرومانسية التي في مخيلتهم إلى جولة واقعية ملموسة. باساي هي أحد أكثر الأماكن جذبًا لأي مسافرين في رحلة عبر شبه جزيرة بيلوبونيز. في السنوات الأولى من القرن العشرين، عندما كان المرء يضطر إلى ركوب البغال في رحلته، فُتِنَ أكاديميٌّ من أكسفورد (هو إل آر فارنيل، مؤلف الدراسة الكلاسيكية عن الدين في مختلف المدن اليونانية) بجمال كل شيء فيها، لدرجة أنه قال إن زيارته تلك جعلتْه يشعر بأنه «أَشبعَ معظَمَ تطلعاته الدنيوية». ومن بعده جاء إتش دي إف كيتو، المعتنِق لمبدأ وحدة الوجود، الذي عمل أستاذًا لليونانية في بريستول لمدة طويلة في منتصف القرن العشرين، ليروي مقدارَ ما شعر به من مرارةٍ وخيبة أمل لأنه لم يأتِهِ وحيٌ من أبوللو في منامه في ليلة تمام البدر خارج معبد باساي. أما اليومَ فباساي هي نقطةُ توقُّفٍ للرحلات البحرية التي تطوف الجزر اليونانية (وتقضي النهار في الميناء)، أو طريقٌ فرعيٌّ مريحٌ للرُّحَّال الذين يكتشفون اليونان «البِكْر». وقلما تجد دليلًا حديثًا يتوقع واضعوه أنك ستغفل زيارة باساي، بل تجدهم يشرحون لك كيفية القيام بتلك الزيارة وما سوف تجده هناك.
هذه تحديدًا هي الكيفية التي قُدِّمتْ بها باساي في رواية سايمون ريفن المكتوبة في مستهلِّ سبعينيات القرن العشرين بعنوان «تعالَ مثل الظلال»، التي فيها يصل الميجور فيلدينج جراي، والذي يُعيد كتابة سيناريو لفيلم يتناول ملحمة أوديسا لهوميروس، إلى «فاساي» على ما يبدو في حالة انهيار، فكان «يُجاهد من أجل فهْم بُحور الشعر سداسي التفعيلة وما يكافئها من نثر مختصر، وكم كان هوميروس يستحق هذا الجهد …» لكنه في الواقع تعرض للاحتجاز والتخدير والاستجواب على يد عميل أمريكي، يُدعَى ألويسيوس شيث يعمل في موقع «الكلية الأمريكية للدراسات الإغريقية». وبينما كان ساشا وجول يحتسيان عصير الليمون وإلجين في مكان آخر، أخذ شيث فيلدينج «في جولة في معبد أبوللو المخلِّص في فاساي … «والشيءُ الغريب في هذا المعبد … أنه كان قد شُيِّد في أبعدِ بقعةٍ نائية في البلاد … كانت الأعمدة الرمادية تنبثق من الصخور الرمادية» … سماء رمادية، شجيرات رمادية، وصخور رمادية. ولا يوجد على مرمى البصر أثرٌ لرجُل ولا لحيوان. ولا أثر لبيت … إلا بيت أبوللو المخلِّص. «على ارتفاع أربعة آلاف قدم، فإننا …»»
مفاجأة بعيدًا عن الطريق
الكُتيبات الإرشادية تحذر الزائر اليقِظ من وجود مفاجأة تنتظره. ولكنها لا تفعل شيئًا يُذكر لمواجهة ما سيشعر به أي شخص من خيبة أمل عندما يزور طَلَلًا رومانسيًّا شهيرًا وإذا به يُفاجأ بشيء مختلف تمامًا؛ إذ يجد ذلك الطلل محاطًا بقماش حديث يفتقر إلى الرومانسية. قليلة هي الكتب التي تقترح عليك إلغاء رحلتك بالكلية: «لابد أن يقال إن الزوار على الراجح سيُمنَوْن بخيبة أمل، إذا لم يُثنيك هذا …» وتجد معظم تلك الكتب تُحاوِل أن تُبرِّر الحاجة إلى وضع هذه الخيمة لحماية بقايا المعبد: لحمايتها من المطر الحمضي، أو لتوفير مأوًى للعمال الذين يعملون في برنامج الترميم الطويل، أو (وهذا هو السبب المُعلَن رسميًّا) للحفاظ على الأُسُس الحساسة من التآكل بسبب المياه. بل إن بعض الكتب تحاول جعل ذلك كله يصب في مصلحة السائح، وذلك بأن تدَّعي أن الخيمة في حدِّ ذاتها مثيرة للإعجاب: «إنها في حد ذاتها لها شكل رائع ومتميز، وهي تضيف جوًّا خاصًّا حين يَصِير المرء في الداخل.» وكأن القوم يصيحون: زوروا عوارض اليونان!
عند هذه النقطة ربما تكون «الاختلافات» بين أيِّ زيارة حديثة إلى باساي واستكشافات القرن التاسع عشر هي التي تبدو الأكثر لفتًا للأنظار. كان كوكريل ورفاقه يرونها رحلة خطرة، جابوا فيها بلادًا تفتقر إلى الكرم والترحاب والرعاية الصحية، بل إنهم بالفعل خاطروا بحياتهم في مواجهة قُطَّاع الطرق والحُمَّى. أما نحن فنجد سيارات الأجرة والفنادق، ونشتري البطاقات البريدية في القرية المجاورة. لقد أصبحتْ باساي اليوم مكانًا يمكنك فيه قضاء نزهة لطيفة، وهي تَنَال دعمًا وتشجيعًا من جميع موارد أكبر صناعة في اليونان؛ ألا وهي السياحة.
كان الرُّحَّال القُدامَى لا يبحثون فقط عن اكتشافات جديدة من الماضي الكلاسيكي القديم، ولكنْ كانوا يبحثون عن فرصة لسلْب ما عساهم يجدونه، سواء من أجل أنفسهم أو بلادهم. كانت آثار الماضي تنتظر مَن يستولي عليها وينسب ملكيتها لنفسه. على النقيض من ذلك، تعلَّمَ السائحون الذين يقصدون آثار العالم القديم في وقتنا الحاضر أن يَقْصُروا طموحاتهم الاستحواذية على شراء بعض البطاقات البريدية والهدايا التذكارية. واليوم قد يُلقَى القبض عليك إن حاولتَ إخراج أي آثار حقيقية من اليونان، ولو كان وعاءً صغيرًا في قاع حقيبة سفرك، ناهيك عن ثلاثة وعشرين لوحَ رخامٍ منحوتًا. توجِّه الكُتيباتُ الإرشاديةُ السائحَ توجيهًا صريحًا نحو قضايا الحفظ، وكذلك المشاكل الصعبة والنفقات المتعلقة بالمحافظة على بقاء التراث الإغريقي في نفس المكان الذي ينتمي إليه. يقولون لنا هناك إن فقدان رومانسية باساي كان في سبيل حماية الموقع الأثري. ومن ثم فإن تلك الخيمة تُذكِّرنا بقوة بالتغير الذي طرأ على أولوياتنا في مواقفنا من الماضي الكلاسيكي: من ثقافة القرن التاسع عشر التي كان محورها الحيازة والملكية، إلى ثقافة القرن العشرين التي محورها الرعاية والحفظ.
لكن سياح وقتنا الحاضر تربطهم قواسم مشتركة بالرُّحَّال الأوائل أكثر مما يبدو عليه الأمر؛ فيجمع بينهم الشعور المستمر بإثارة الاستكشاف، والتي يشعرون بها في معظم الطرق السياحية المطروقة. كما رأينا، فإن الكتب الإرشادية لا تزال تكتب عما نجده الآن من سهولة التوجه بحافلة أو سيارة أجرة إلى باساي بطريقة تشبه كثيرًا طريقة وصف كوكريل نفسه لرحلته إلى هناك. ونفس الكتب، وهي تقدم للسائح المزيد من النصائح العامة، لا تزال تميل إلى تناول قضاء العطلة في اليونان على أنه رحلة إلى أرض غريبة ويحتمل أن تكون خطرة، حتى مع حلول تحذيرات خفيفة بشأن «اضطرابات المعدة» محل الحكايات المأساوية عن الموت بسبب الملاريا، وتجد بها الآن نصائح حول سائقي سيارات الأجرة المحتالين والنشالين بدلًا من قصص القتْل على أيدي «قُطَّاع الطرق الخارجين عن القانون من أهل أركاديا».
تذكارك المتميز للغاية
أيضًا تتشارك الكتيبات الإرشادية في ثقافة الاستحواذ والتملُّك والعرض. قد يكون صحيحًا أن مسافري عصرنا لا يجلبون معهم حين يعودون إلى أوطانهم سوى البطاقات البريدية، والصور، والبلاستيك الرخيص، أو قطع الفخار غالية الثمن، والنماذج المقلَّدة كهدايا تذكارية، لكنْ لا يزال جزءًا أساسيًّا من صناعة السياحة (في اليونان أو في أي مكان آخر) أن السياح ينبغي «أن يجلبوا معهم شيئًا حين يعودون إلى الوطن». إن النتيجة المباشرة لقضائنا عطلات الصيف أنْ كَثُرَ في بريطانيا القرن العشرين انتشارُ صور العالم الكلاسيكي القديم بقدْرٍ يفوق ما كان عليه الأمر في القرن التاسع عشر مِن نماذج بلاستيكية مصغرة من البارثينون، أو جِرار «إغريقية» نزيِّن بها أرفف المواقد، إلى البطاقات البريدية التي نُعلِّقها على الجدران لتذكِّرَنا بما قمنا به من زيارات لمعالِم العالَم القديم.
كما أننا نسعد كثيرًا حين نذهب لزيارة تلك الأعمال الفنية والإعجاب بها؛ تلك الأعمال التي تَجشَّمَ جوَّالتُنا العظامُ عناءَ جلْبِها إلى الوطن من أراضي اليونان التي استكشفوها، بصرف النظر عن هواجسنا حول مدى نزاهة طريقة اقتنائنا لها. وإنها لمفارقة غريبة أن أيديولوجية القرن العشرين القائمة على الحفظ والتأمين يمكن أن تُستخدم هي نفسُها لتبرير إصرارنا على الاحتفاظ بهذه الآثار الحقيقية للعالَم القديم، في حين أن أسلافنا في القرن التاسع عشر قد استحوذوا عليها بطريقة لا تخلو من طعن. ومِن أشهر ما تسمع من تبريرات نُقدِّمها للإبقاء على رخام البارثينون في المُتحف البريطاني، بدلًا من إعادته إلى اليونان، قولُنا: «إننا» اعتنينا به عنايةً تفُوق ما كان سيلقاه من عناية من اليونانيين أنفسهم.
بطبيعة الحال يمكن ترجمة هذا الاحتفاء الزائد بالنفس إلى إسعافات أولية سخية للمواقع اليونانية حالما تتأثر سلبًا بعمليات التنقيب عن الآثار وجمعها وبالسياحة. في روايته عن «فاساي» يَسْخر ريفين من الأثري الأمريكي المحتال — «ذي الأنف الذي يُشبه عصا الهوكي» — على هذا النحو: «قال ألويسيوس شيث: «بالطبع على مستوى اليونان لا يوجد خارجَ أثينا معبدٌ مُصان أكثر منه. لقد ساهمْنا كثيرًا في ذلك. إنهم في غاية الامتنان. ثم الآن … ستلاحظ أن به ستة أعمدة في الأمام وفي الخلف، وخمسة عشر عمودًا على كلَا الجانبين بدلًا من الرقم المعتاد اثني عشر عمودًا. فلا تزال سبعة وثلاثون عمودًا قائمة هنا، ولكنَّ هناك ثلاثة وعشرين لوحَ إفريز رحل بهم … خمِّن، مَن؟ … البريطانيون …»»
ولكن أكثر ما يربطنا ربطًا وثيقًا بجميع الأجيال السابقة من مستكشفي اليونان هو ذلك التوتر الذي تَوَارثناه منهم بين توقعاتنا لما تكون عليه اليونان وما هي عليه في الواقع، الذي قد يكون مخيبًا للآمال. لقد صُدم كوكريل ومعاصروه حين رأَوُا الفرق بين الصورة المثالية التي كانت في أذهانهم عن العالم القديم وما وجدوه على أرض الواقع من حياة ريفية وضيعة. ومن صُوَر تعاملهم مع تلك الفجوة تبنِّيهم لفكرة الرحلة الاستكشافية البطولية والبرَّاقة. ونحن، بالطبع، لم نرث فقط المُثُل العليا القديمة عن كمال العالَم القديم، ولكننا ورثنا أيضًا تلك الرؤية الرومانسية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر. إن اليونان «الحقيقية» ستكون حتمًا مفاجأة بالنسبة لنا أيضًا.
وأيًّا كان التزامنا بترميم الآثار، فلا مناص من أن نشعر بخيبة الأمل إن زُرْنا باساي متوقعين أن نرى أثرًا رومانسيًّا، فإذا بنا نقف أمام معبد يُرى بالكاد من تحت غطاء رمادي يغطيه. مثل الرُّحَّال الأوائل، نحن أيضًا مضطرون لإيجاد وسيلة للتعامل مع ذلك الصدام بين رؤيتنا الوهمية لليونان وما نراه في الواقع عندما نصل إلى هناك. وأيًّا كان مصدر أفكارنا المسبقة، سواء كنا جوالين عظامًا أو ممن يُعِدُّون برامج العطلات، فإن زيارة اليونان تنطوي دائمًا على التوفيق بين تلك الأفكار المسبقة وما نجده على أرض الواقع. إننا لا نتصوَّر في خيالنا عادة «أجواءَ» معبدٍ مغطًّى بغطاء، ومع هذا تظل زيارة اليونان تنطوي دائمًا على رؤًى مختلفة ومتضاربة للعالم القديم وحضارته.
بعبارة أخرى، إننا — معشرَ السياح المعاصرين — نُشبِه الرُّحَّال الأوائل في جوانب ونخالفهم من جوانب أخرى. بالقطع تغيرتْ أولوياتنا، ومما لا شك فيه أن محور اهتمامنا بالمعبد والحفاظ عليه اختلف تمامًا، وتغيرَتِ الظروف المادية لرحلتنا بشكل تامٍّ. ومع ذلك فإننا لا نتشارك مع أسلافنا فقط في خبرة رؤية ما تبقَّى من نفس الأثر (بخيمة أو بغيرها)؛ بل نتشارك معهم أيضًا في الكيفية التي علينا أن نفهم بها زيارتنا، وكيفية التعامل مع الصدام المحرج في بعض الأحيان بين الصورة التي نحملها في أذهاننا لليونان واليونان الموجودة على أرض الواقع. وما هو أكثر أهميةً، على الأرجح، أن خبرتنا باليونان ليست شيئًا نكتشفه بأنفسنا، على نحو جديد تمامًا، بل هي شيء، على الأقل في جزء منه، نرثه من أولئك الرُّحَّال الذين خبروا اليونان قبلنا.
تشابُه واختلاف
هذا الخليط من التشابه والاختلاف يقدم نموذجًا قويًّا لفهم دراسة التراث الكلاسيكي ككلٍّ. وهو يقترح إجابة للسؤال الرئيسي الذي تطرحه هذه الدراسة دائمًا: إلى أيِّ مدًى يتغير التراث الكلاسيكي؟ إلى أيِّ مدًى ظلَّ التراث الكلاسيكي اليوم كما كان منذ ١٠٠ أو ٢٠٠ أو ٣٠٠ سنة مضتْ؟ إلى أيِّ مدًى يمكن أن يكون هناك أيُّ شيء جديد يمكن أن يُقال أو نُفكِّر فيه في موضوع أُشبع كلامًا وحديثًا على مدار ألفَيْ عام أو أكثر؟
والجواب، في ضوء زيارتنا إلى باساي، هو أن التراث الكلاسيكي ظل «كما هو»، وفي الوقت عينه «اختلف» اختلافًا كبيرًا عما كان عليه؛ فعندما نجلس لنقرأ الشعر الملحمي الذي نظمه هوميروس أو فرجيل، أو فلسفة أفلاطون أو أرسطو أو شيشرون، أو مسرحيات سوفوكليس أو أريستوفانيس أو بلوتس، فإننا «نتشارك» في ذلك النشاط مع جميع مَن قرءوا تلك الأعمال من قَبْلِنا. إنه يربط بينَنَا وبين رهبان القرون الوسطى الذين نسخوا بتفانٍ مئات من نصوص العالم القديم (ومِن ثَمَّ حفظوا لنا ذلك التراث)، كما أنه يربط بيننا وبين تلاميذ مدارس القرن التاسع عشر الذين كانت تَعجُّ أيامهم بدراسة «أعمال التراث الكلاسيكي»، كما أنه يربط بيننا وبين قرون من المهندسين المعماريين والبنَّائين في جميع أنحاء أوروبا الذين (مِثل كوكريل) قرءوا ما كَتَبَ فيتروفيوس ليتعلموا كيف يكون البناء.
وأكثر مِن ذلك أن «خبرتنا» بالتراث الكلاسيكي تتأثر حتمًا بخبرة هؤلاء. إن الأمر لا يقتصر على أن اختيار هؤلاء الرهبان من القرون الوسطى لِمَا يجب نسخه هو ما حدد النصوص الكلاسيكية التي عاشتْ إلى عصرنا؛ فتقريبًا كل أدب العالم القديم الذي كُتب له أن يعيش إلى عصرنا قد حُفظ بفضل ما بذله هؤلاء من جهد في نَسخه وإعادة نَسخه. إننا أيضًا نعيش العالم الكلاسيكي القديم في ضوء ما قالتْه الأجيال السابقة عن هذا العالم وكتبتْه وفكرتْ فيه. ولا يتسم موضوع آخر بكل هذا القدْر من الثراء والتنوع.
إننا جميعًا مرتبطون بالتراث الكلاسيكي، بصرف النظر عن القدْر الذي نظن أننا نعرفه عن الإغريق والرومان، قليلًا كان أم كثيرًا. ولا يَسَعُنا مطلقًا أن نتناول التراث الكلاسيكي كغرباء عنه تمامًا. ليستْ هناك ثقافة أجنبية أخرى تُمثل كل هذا القدْر من تاريخنا. وهذا لا يعني بالضرورة أن كل ما يخص تقاليد اليونان وروما هو أسمَى مرتبة مِن أيِّ حضارة أخرى؛ كما أنه لا يعني أن حضارتَيِ العالم القديم هاتين لم تتأثرا أنفُسُهما بالثقافات السامية والأفريقية المجاورة، على سبيل المثال. في الواقع، جزء من انجذاب المعاصرين للعالم القديم يكمن في الطرق التي واجه بها الكُتَّابُ القدماء التقاليدَ الثقافية المتنوعة للغاية لعالمهم، وناقشوا، بلغة عصرنا، التعددية الثقافية لمجتمعاتهم. بالطبع، لعبَتِ العجرفة بل والعنصرية دوريهما في العالم القديم، ولكن، على حدٍّ سواء، تطورَتِ الليبرالية والإنسانية وانتشرتا في ظل نفوذ ذلك العالم.
إن كون التراث الكلاسيكي يمثِّل مركز جميع أشكال ما لدينا من سياسة ثقافية هو العنصر الذي يربط الحضارة الغربية بتراثها. فعندما ننظر، على سبيل المثال، إلى البارثينون لأول مرة، فإننا ننظر إليه ونحن نعلم مسبقًا أن أجيالًا من المهندسين المعماريين اختارت على وجه التحديد ذلك النمط لبناء المتاحف، وقاعات المدينة، والبنوك في معظم مدننا الكبرى. وعندما نمسك «الإنياذة» لفرجيل للمرة الأولى، فإننا نقرؤها ونحن نعلم أنها قصيدة أُعجب بها الناس ودرسوها وقلَّدوها على مدار مئات بل آلاف السنين؛ باختصار هي عمل «كلاسيكي».
من ناحية أخرى، تعدُّ خبرتنا بالعالم القديم جديدة في كل مرة؛ فقراءتنا الحالية لفرجيل لا يمكن أبدًا أن تشبه قراءة راهب من القرون الوسطى أو قراءة تلميذ من القرن التاسع عشر. هذا يحدث جزئيًّا بسبب الظروف المختلفة التي نقرأ فرجيل فيها، وهي تشبه ظروف السفر المختلفة. إن زيارة إلى باساي في سيارة أجرة تختلف حتمًا عن زيارة إليها على ظهر بغل سيِّئ المزاج. وبنفس الطريقة تقريبًا نجد قراءة الإنياذة في صورة نسخة ورقية في حجم الجيب تختلف تمامًا عن قراءتها في صورة كتاب قيِّم من الجلد منسوخ بخط اليد، وتختلف قراءتها وأنت جالس في كرسي تمامًا عن قراءتها وأنت في فصل دراسي تحت إشراف مدرِّس مُرْعِب من العصر الفيكتوري.
ولكنَّ الاختلافات تكمن، بصورة أكثر لفتًا للأنظار، في الأسئلة والأولويات والافتراضات المختلفة التي نُسبِغها على النصوص والثقافة القديمتين. لا يوجد قارئ في أواخر القرن العشرين بِوُسعه أن يقرأ أي شيء — سواء أكان كلاسيكيًّا أم لا — بنفس الطريقة، أو بنفس الفهم الذي يخصُّ قارئًا من جيل سابق. فالنسوية، على سبيل المثال، لفتَتِ الأنظار إلى أهمية دور المرأة في المجتمع والتعقيدات المحيطة بها، والبحوث التي أُجريتْ مؤخرًا في تاريخ الحياة الجنسية عززتْ أيضًا فهمًا جديدًا جذريًّا لأدب القدماء وثقافتهم.
بلا شك لم يُفاجأ كثيرون ممن عاشوا في العصر الفيكتوري من تبعيةِ المرأة في كلٍّ من اليونان وروما، وحقيقةِ أن المرأة لم يكن لديها حقوق سياسية في أي مدينة من مدن العالم القديم، والأقوالِ الصريحة للعديد من الكُتَّاب القدماء بأن دَوْر المرأة في الحياة هو أن تلد الأطفال، وتنسج الصوف، وتتجنَّب أن يتحدث الناس عنها. في الوقت نفسِه كان الباحثون في العصر الفيكتوري مشغولين بتجاهل (أو حتى بحذف) العديد من المقاطع في مؤلفات القدامى التي كانوا يَرَوْن أنها تُسرِف في الحديث عن الجنس بين الرجال والنساء، أو اللواط بين الرجال والصبيان. أما دارسو التراث الكلاسيكي المعاصرون فنجدهم لا يَعيبون وحسب على الإغريق والرومان كراهيتَهم الشديدة للنساء، أو يحتفون بعنصر الإثارة الجنسية العلنية لديهم، وإنما يستكشفون كيف أن الأدب القديم أبقى على كراهية النساء تلك أو شكَّك فيها، ويتساءلون عما حدد الطرق التي نوقش بها موضوع الجنس وصُوِّر في الفن والنصوص القديمة. على سبيل المثال، كيف نفهم ما يكمن وراء عبارة فرجيل التي تقول: «النساء» أو «المرأة دائمًا شيء متلوِّن ومتغيِّر»؟ وهذه الاستكشافات نتيجةٌ مباشرة لمناقشاتٍ دارت في القرن العشرين حول حقوق المرأة، ونظريات النوع، والسياسة الجنسية، وتُضفِي الدراسة الكلاسيكية بدورها عمقًا تاريخيًّا حيويًّا في مناقشات القرن العشرين تلك.
الحقيقة الأساسية هي أن التراث الكلاسيكي ظل «كما هو»، وفي الوقت عينه «اختلف» اختلافًا كبيرًا عما كان عليه، وهذه ليستْ قصة بسيطة تدور حول «التقدم» في تفسير التراث الكلاسيكي. فلا شك أن التغييرات في مصالحنا تنطوي على خسائر، وكذلك مكاسب؛ فعلى سبيل المثال، عبر المائتَيْ عام الأخيرة من المفترض أننا فَقَدْنا قدْرًا كبيرًا من التعاطف مع القتال الجسدي القديم، والتدريب العملي على تجربة أهوال السفر عبر البحار المجهولة. ما يُهمُّ هو أن هذه التغييرات لها أثرها. وقراءة ما كتبه فرجيل أبعد ما تكون عن خبرة متماثلة لا تختلف على مر القرون، كما سنبين في الفصل التاسع من هذا الكتاب. والأمر عينُه ينطبق على كل زيارة إلى باساي.
لقد روَينا قصة السياحة الحديثة والاستكشافات التي جرتْ في القرن التاسع عشر لتوضيح هذه النقطة على وجْهِ التحديد، ولتوضيح مدى تعقيد الاستمرارية وعدم الاستمرارية في تجربتنا مع التراث الكلاسيكي. وأهم ما نقوله أننا سوف نجعل هذا الكتاب ينبع مباشرة من هذه التأملات حول الزيارات المختلفة لباساي. وكما قلنا، إذا كانت دراسة التراث الكلاسيكي توجد في «الفجوة» التي تفصل بين عالمنا وبين العالم القديم، فإن ذلك التراث يتحدد في ضوء تجربتنا، واهتماماتنا ومناقشاتنا مثلما يتحدد في ضوء تجربتهم واهتماماتهم ومناقشاتهم. وزيارة باساي تُقدم لنا مثلًا لفهم مدى التنوع والتعقيد الذي يمكن أن تكون عليه إسهامات المعاصرين.
تَصوُّرنا عن التراث الكلاسيكي
تُلخِّص اللوحةُ الصورةَ الرومانسية لباساي؛ إقفار المشهد، وعزلة المعبد وهو يَظهَر عبر إطار من الصخور والأشجار الجبلية الملتوية. تلك هي باساي كما يراها كوكريل وتراها الكُتيبات الإرشادية التي بين أيدينا. ولكنْ في انتظارنا مفاجأة أخرى.
في الواقع، إن هذا المشهد «اليوناني» رُسم في إنجلترا، من الريف الإنجليزي. لا شك أن لير رسَم رسومات كثيرة عندما كان يقوم بجولة في اليونان، وقد ساعده ذلك على الاحتفاظ في ذاكرته بما رآه هناك من مشاهد ومناظر طبيعية. لكن مذكراته توضح جليًّا أن كل تفاصيل الصخور والأشجار التي تَظهَر في تلك الصورة أُخذتْ من واقع ملموس، وذلك باستخدام عينات مناسبة تقع في وسط إنجلترا في ريف ليسترشير.
هذا تذكير قويٌّ بمساهمتنا في صورة التراث الكلاسيكي والعالَم الكلاسيكي. إن لير (وأمثاله) قد صَوَّر لنا «يونانًا» من وحي ذكريات أسفاره معتمِدًا على مَشاهِد مألوفةٍ لديه في بلده. بل أكثر من ذلك، أن هذا التصور يُعينُنا على فهْم التفاوت بين توقعات مَن يزور اليونان وبين ما يجده الزائر على أرض الواقع فهمًا أفضل. إذا كنا نأمل في العثور على نسخةٍ حيَّةٍ للصورة التي رسمها لير لباساي عندما نذهب إلى الموقع نفسه، كيف يمكننا حينها ألَّا نُفاجأ أو نُصاب بخيبة أمل؟ إن صورة لير لم تكن نسخة أمينة للمنظر الغريب الذي رآه في اليونان. فحالها كحال كل صور التراث الكلاسيكي، كانت (جزئيًّا على الأقل) صورةً من بلد لير، كانت جزءًا من ثقافته؛ لأن التراث الكلاسيكي كان هو الآخر جزءًا من تلك الثقافة.