تحت السطح
ماذا عن العُمَّال؟
يدفعنا وصف باوسانياس لمعبد باساي إلى التساؤل عما نريد أن «نعرفه» بشأن العالم الكلاسيكي. في أعيُن العديد من الأثريين المعاصرين، كان باوسانياس يتخبَّط دون هدًى في رحلته في أرجاء اليونان. وهو ليس مسئولًا فقط عن كمٍّ كبير من المعلومات المضللة عن المواقع التي اختار زيارتها، بل كان كذلك يتسم بالقصور الشديد فيما كان على استعداد لأنْ يراه. لقد كانت رؤيته للعالم اليوناني تتكون بالأساس من المدن العظمى، علاوة على القليل من المواقع الدينية الريفية (كهذا الموجود في باساي) المُقحَمة عَرَضًا. ماذا عن اليونان خارج المراكز الحضرية؟ ماذا عن الريف، الذي عاش فيه أغلب سكان العالم القديم؟ ماذا عن الأسواق الريفية، والمزارع التي كانت تُنتِج الغذاء الداعم للحياة في المدن؟ وماذا عن المزارعين الذين كانوا يعملون بها؟ لا يُحدِّثُنا باوسانياس بشيء تقريبًا عن هذه الأمور.
أيضًا ليس لدى باوسانياس الكثيرُ ليحْكيَه عن ذلك التاريخ «الآخر» للمواقع التي يُدرجها؛ تاريخ الناس الذين بَنَوْها، والأموال التي دُفعتْ لهم، والرجال والنساء الذين استخدموا هذه المواقع واعتنَوْا بها. ربما كان مِن صميم مشروعه أن يُغفل تفاصيل من هذا النوع. فعلى أي حال، هل هناك دليل إرشادي حديث يكرس الكثير من الوقت للحديث عن حال المحاجر والعُمَّال الذين بَنَوا المباني التي يَصِفُها الدليل في إعجاب؟ ومع ذلك، بالنسبة لنا، لا محالة أن تثير لحظة تفكير عابرة في هذا المعبد المنعزل بين التلال أسئلةً بشأن الكيفية التي بُني بها والغرض من وراء بنائه. مَن الذي تجشَّم عناءَ بنائه في هذا المكان القصيِّ المنعزل؟ وكيف بُني؟ وما الغرض من وراء بنائه؟
أغلبُ مستكشفي العصر الحديث، بداية من كوكريل وأصدقائه فصاعدًا، تساءلوا عن الأساليب التي وظَّفها الحِرفيون القدماء في إقامةِ صفوف الأعمدة غير المدعومة بأساس على هذا النحو الأنيق المستقيم، ومحافظتِهم على اصطفاف الجدران على نحوٍ متوازٍ. كيف بحقِّ السماء تم عمل هذا باستخدام الأدوات والمعدات المحدودة التي كانت متاحة في القرن الخامس قبل الميلاد؟ في وصف كوكريل نفسِه للمعبد، قدَّم كوكريل رسومًا معقَّدة تفسر البناء الدقيق لأعمدته وسقفه، علاوة على قسم طويل ختامي يغطي المنظومة المعقدة للنِّسَب الرياضية التي لا بدَّ أن جرى استخدامُها في عمليتَيِ التخطيط والبناء.
يستحيل أن يكون مستكشفو القرن التاسع عشر غيرَ واعِين بالجوانب الأخرى للعمل المطلوب لبناء المعبد. وحين رتَّبُوا رحلة النقل البطيئة التي تمَّتْ على ظهور البغال لألواح الإفريز الثلاثة والعشرين من الجبال إلى البحر، لا بد أنهم بدءوا في التساؤل عن صعوبة جلب كلِّ هذه المواد، وأكثرَ منها بكثير، إلى الموقع أعلى الجبل في المقام الأول. ورغم أن الحجر الجيري المحلِّي الرخيص، الذي تشكَّلتْ منه الجدران الأساسية، كان يَجري استخراجه من منطقة قريبة، فإنه كان لا يزال بحاجة إلى رجالٍ ودوابَّ وعملية تنظيم من أجْل جلْبِه إلى الموقع. أما الرخام الأغلى ثمنًا والمستخدَم في الإفريز وغيره من المنحوتات، فقد جاء من مناطق أبعد، بما يتضمنه ذلك من تكلفة وعِمالة إضافيَّيْن.
في الواقع، لم يركز كوكريل أو أيٌّ من أعضاء فريقه تركيزًا كبيرًا على مشكلات التوريد والنقل، رغم أنهم هم أنفسُهم لا بد وأنهم كانوا واعين لها بشكل كبير. على النقيض من ذلك، يرى المؤرخون والأثريون المعاصرون أن هذه القضايا لها أهمية مطلقة، ليست فقط بالنسبة لقصة باساي، وإنما بالنسبة لكل التاريخ والثقافة الكلاسيكيَّيْن. فنقْل أيِّ شيء من مكانٍ لآخر في اليونان وروما القديمة كان عملية مكلِّفة بما يدفع المرء لإعادة النظر في الأمر برُمَّته، وكان النقل البري مكلِّفًا لدرجةٍ تمنع من القيام به. وقد قُدِّر، على سبيل المثال، أن تَكلفة النقل البري لحمولة من الحبوب لمسافة ٧٥ ميلًا تُعادل تكلفة النقل البحري لها لمسافة تمتد بطول البحر المتوسط بأكمله. كيف جرى الترتيب لنقل موادِّ البناء الثقيلة الضخمة هذه؟ ومَن دَفَع التكاليف؟ وبالمثل، كيف جرى الحصول على المواد؟ وكيف جرى تعدينُها أو استخراجها من المحاجر، في وقت لم يكن فيه للماكينات وجود؟
الرِّقُّ
هذه الأسئلة كلها توجِّهنا نحو تدبُّر مسألة الرِّقِّ؛ فرغم أن هناك آراءً مختلفة بشأن مصادر الثروة التي قامتْ عليها الحضارة الكلاسيكية، فإن جزءًا من الجواب لكل سؤال عن المعدات والعِمَالة في الماضي يكمُنُ في وجود عددٍ كبير للغاية من العُمَّال. كانتِ المجتمعات اليونانية والرومانية تُشتَهَر على نحو مُخزٍ بالرِّقِّ، وربما لَمْ تُضاهِهَا مجتمعاتٌ أخرى في هذه الشهرة المخزية. إن حياة الامتيازات التي عاشها مُواطنُ العالَمِ القديم اعتمدت على عضلات تلك الممتلكات البشرية، دون أن يكون للعبيد أيُّ حقوق مدنية؛ إذْ لم يَعدُوا كوْنَهم مجرد مصدر للعمالة: «آلة ذات صوت بشري» (على حدِّ وصف الكاتب الموسوعي المعارف فارو في القرن الأول قبل الميلاد). لا شك أن أعداد العبيد تباينتْ على مرِّ الزمان، ومن مدينة إلى أخرى. ووفق أفضل التقديرات، في القرن الخامس قبل الميلاد شكَّل عبيد أثينا نحو ٤٠ بالمائة (نحو ١٠٠ ألف) من عدد السكان الإجمالي، وفي القرن الأول قبل الميلاد وصلتْ أعداد العبيد في روما إلى زهاء ٣ ملايين. ولا يوجد تفسير لأيِّ شيء جرى في العالم الكلاسيكي — من التعدين حتى الفلسفة، ومن البناء إلى الشعر — لا يأخذ في اعتباره وجود العبيد.
لكنْ قد يكون تحديد مسألة الرق أمرًا أكثر صعوبة مما قد تُوحي به هذه الأمثلة؛ فآثار العبيد لا يسهل دومًا التعرُّف عليها. وإذا فكَّرْنا في العلامات التي تركها البنَّاءون على أحجار البناء في معبد باساي، فكيف يمكننا فعليًّا أن نعرف أيُّ يدٍ نقشتْها؟ كان من الممكن بالتأكيد أن تكون يدَ أحدِ العبيد، أو يدَ المشرِف على زمرة من العبيد أُحضروا إلى الموقع (مِن أين؟) من أجل عملية البناء العظيمة. لكنْ كان من الممكن بالمثل أن تكون يدَ أحدِ الحِرفيين الأحرار، الذي هو جزء من قوة عاملة ماهرة من المواطنين، يَستخدم العبيد للقيام بالأعمال الشاقة. ببساطة لا يوجد سبيل يُمكِّننا من معرفة حالة الأشخاص الذين كانوا في موقع العمل هناك.
لا ينتمي العبيد لصنف واحد ثابت؛ فالعبيد من مختلف الأنواع يأتون من مصادر عدة متباينة: فمنهم أسرَى الحرب، والمزارعون الواقعون في الدَّيْنِ، وأبناءُ الإماء الذين تربَّوْا في منازل أسيادهم، والمعلِّمون المثقَّفون، والعُمَّال الأمِّيون، وغيرهم الكثير. وليس من الضروري أن يكون العبد عبدًا طوال حياته؛ فهناك سُبُل قد تؤدِّي بالمرء إلى الخروج من حالة العبودية، أو الدخول فيها. وفي روما تحديدًا مُنح ملايين العبيد حريتهم بعد قضاء فترة معينة من الخدمة كعبيد. وملايين المواطنين الرومان كانوا الأحفاد المباشرين لعبيد؛ فالشاعر الروماني هوراس، على سبيل المثال، الذي رأيناه بالفعل يتدبر الدَّيْن الذي تَدِين به روما لليونان يُخبرنا من واقع خبرته ما يكون عليه الحال أن يكون المرء ابنًا لعبْد أُعْتق من ربقة الرِّق.
عُثر على قطعة صغيرة من البرونز في موقع مقدس آخر في باساي، وهذه القطعة تصوِّر بوضوحٍ مشكلةَ عدم القدرة على رؤية مسألة الرِّق التي تَحدثنا عنها. منقوش على قطعة المعدن هذه سِجِلٌّ لإعتاق ثلاثة عبيد من طرف سيِّدهم، كلينيس، الذي فَرَضَ غرامة (تُدفَع إلى الإله «أبوللو في باساي» وإلهين آخرين محليَّيْن) على أيِّ شخص «يَمَسُّهم»؛ بمعنَى أيِّ شخص لا يحترم وضْعَهم الجديد. من ناحيةٍ، إنه لَأمرٌ مذهلٌ أنْ نجد هنا، في ذلك الموقع الجبلي النائي، دليلًا مباشرًا على وجود الرق، والإله أبوللو في معبده الوحيد هذا مرتبط ارتباطًا مباشرًا بمنظومة الرق، لكنْ من ناحيةٍ أخرى، تَلفِتُ هذه الوثيقةُ أنظار العامة إلى هؤلاء العبيد، وتجذب انتباهنا إليهم، فقط عندما انتهتْ حالة عبوديتهم. أما حياتهم «كعبيد» فمستترة تمامًا عنا. ولم نعرف بشأنهم إلا في اللحظة التي دخلوا فيها دنيا الحرية.
طالما ظلت الكيفية التي ينبغي بها الحكم على منظومة الرق إحدى القضايا المحورية في دراسة التراث الكلاسيكي. ما الفارق الذي يُحدثه الأمر بالنسبة لفهمنا للعالم الكلاسيكي؟ وكيف يؤثر على إعجابنا (مثلًا) بالديمقراطية الأثينية أن ندرك أنها ديمقراطية قائمة على «امتلاك العبيد»، وأن نرى أنه ما كانت لتصير ديمقراطيةٌ من الأساس لولا وجودُ ذلك العدد الكبير من العبيد؟ إلى أيِّ مدًى علينا أن نأسَى لهذا الوضع، أو لأيٍّ مِن أشكال القسوة الأخرى التي مُورِسَتْ في العالم الكلاسيكي القديم؟ هل كان حال العبد الأثيني أسوأ من حال المرأة الأثينية أم العكس؟ هل مِن الإنصاف أن نحكم على الإغريق والرومان وفق معاييرنا الأخلاقية المعاصرة؟ أم هل من المستحيل ألَّا نفعل ذلك؟
نوعية الحياة
إن دراسة التراث الكلاسيكي معنية بكشف التعقيد الذي يكتنف مثل هذه الأحكام، علاوة على التفاصيل المعقدة للحياة القديمة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي كان العبيد جزءًا منها. إنها لَخطوةٌ أُولى وحسب أن نكون قادرين على أن نقول (بغضِّ النظر عمَّن نَقَشَ بالفعل علاماتِ البنائين) إن عملية بناء معبد باساي لا بد وأنها اشتملتْ — على أقل تقدير — على عدد كبير من العبيد، في استخراج الأحجار من المحاجر ونقْلها بالعربات والدواب وحمْلها. وإنها لَخطوةٌ أولى وحسب أن نعرِّف هذا الأثر الشهير للحضارة الكلاسيكية بوصفه نتاجًا للرق. فنحن أيضًا نحتاج إلى أن نفكر بشكل أوسع في كل الظروف العديدة التي جعلتْ من بِنَاء معبد باساي أمرًا ممكنًا، أن نفكر في نوعية الثروة التي وَقَفَتْ خلف تمويله، وطبيعة المجتمع ككلٍّ (بدءًا من العبيد ثم المزارعين ووصولًا إلى الطبقة الأرستقراطية) الذي دعم عملية البناء وأحاط بها.
إجابة مثل هذه الأسئلة تأتي في طليعة أهداف دراسة الآثار الكلاسيكية في وقتنا المعاصر. إن أغلب الأثريين لم يَعُودوا يهتمون بالتنقيب عن الآثار الكلاسيكية الشهيرة واكتشافها، وبكنوز الفن القديم التي قد يعثرون عليها، فهم لم يعودوا يبحثون عن مباني إكتينوس أو منحوتات فيدياس، بل تحول اهتمامهم بدلًا من ذلك إلى «أساس» الثقافة الكلاسيكية؛ إلى حياة المزارعين في الريف، وإلى الأنماط العامة للاستيطان البشري في الطبيعة (القرى الصغيرة والمَزارع المنعزلة والأسواق الريفية)، وإلى المحاصيل التي زرعها هؤلاء المزارعون، وإلى الحيوانات التي ربَّوْها، وإلى الطعام الذي كانوا يتناولونه.
هذا التغير في التركيز أدَّى إلى تغير في نوعية المواقع التي يجري التنقيب بها وإلى تغير في المكتشفات التي يجري حفظها وتحليلها. فمِن المرجَّح بشكل أكبر أن يستكشف الأثريون اليوم المَزارع عن أن يستكشفوا المعابد. والمواد التي كان يجري التخلص منها أثناء عملية الحفر صارتِ اليوم موضوعات ثمينة للدراسة. ويستطيع التحليل الميكروسكوبي لما مرَّ عبر أحشاء البشر والحيوانات، وصولًا إلى حُفَر المخلفات، أن يقدم كلَّ أنواع المعلومات عن النظام الغذائي للسكان ونطاق المحاصيل التي كانوا يزرعونها. أيضًا تستطيع شظايا العظام أن تُخبِرنا ليست فقط بنوعية الحيوانات التي كان يجري تربيتها، وإنما أيضًا بالعُمر الذي كان يتم فيه ذبح الحيوانات. كل هذا يساعدنا على تكوين صورة أكبر عن الزراعة المحلية، وأن نَخرج باستنتاجات ليست فقط بشأن نوعية الطعام الذي كان يُستهلَك، وإنما أيضًا بشأن ما تم بالتأكيد استيراده من الخارج، وأن نقيس المدى الذي ربما تكون التجارة وأرباحها قد مثَّلتْ به عنصرًا مهمًّا في اقتصاد المنطقة.
تعد مدينة بومبي الرومانية مثالًا بارزًا على تغيُّر أولويات التنقيب في الموقع الواحد. فمنذ مائة عام ركَّز الأثريون على الكشف عن المنازل الغنية للمدينة، آمِلِين تحديدًا اكتشافَ اللوحات والمنحوتات التي كانت تُزيِّنها يومًا ما. لكنْ مؤخرًا حوَّل الأثريون انتباههم إلى الساحات المفتوحة للمدينة أيضًا؛ إلى الحدائق وأسواق الحدائق وبساتينها. وعن طريق صبِّ الجص في الفجوات الموجودة في الحمم البركانية، والتي سبَّبتْها جذور الأشجار والنباتات، تَمكَّن الأثريون من التعرف على الأنواع التي كانت تُزرع. وهذا يمنحنا، للمرة الأولى، فكرة واضحة عن مظهر الحديقة الرومانية، وعن أنواع الفاكهة والخَضْرَاوات المزروعة في الأفنية الرومانية العادية.
تستطيع عمليات المسح الميدانية أن تُجيب عن أسئلة بشأن الآثار الكلاسيكية الشهيرة، علاوة على الكشف عن جوانب خفية للحياة في الريف الكلاسيكي. وفي حالة باساي، اقْتَرحتُ عملية مسح أُجريتْ للمنطقة المحيطة إجابةً للسؤال المحير المتعلق بالغرض الذي بُني من أجله هذا المعبد، رغم ابتعاده أميالًا عدة عن أقرب مدينة.
أظهرت هذه الدراسة أن ذلك المكان المقدس المنعزل في باساي ليس الوحيد في ذلك الجزء من أركاديا؛ حيث يوجد عددٌ من المواقع المقدسة الموجودة فيما يبدو بعيدًا عن العمران، على حدود المنطقة الواقعة تحت حكم المدينة المحلية. في هذه المنطقة كان أغلب السكان يعيشون مشتَّتين في أرجاء الريف، معتمدين في عيشهم على تربية الماعز والأغنام، وعلى الصيد. والاقتراح الذي قدمتْه عملية المسح يتكون من شِقَّيْن؛ أولًا: أن هذه النوعية من المواقع كانت ملائمة تمامًا لبناء مكان مقدس يخدم مجتمعًا ريفيًّا بالأساس، وثانيًا: أن موضع المعبد على حدود أقرب مدينة مجاورة، فيجاليا، كان له أهمية كبيرة في الطقوس التي وحَّدَتِ المركز الحضري السياسي والإداري مع الإقليم النائي وسكانه المتناثرين. ويبدو من المرجح أن المواكب الطقسية، التي تضمنت أعضاء بارزين للمجتمع المحلي، انطلقت من فيجاليا صوب المكان المقدس البعيد في باساي، في تجسيدٍ وتعزيزٍ وتقويةٍ لوحدة المدينة مع إقليمها، وذلك عن طريق السير فوق الأرض.
رغم أننا نبدو وكأننا ابتعدنا كثيرًا عن اهتمامات باوسانياس، فإن هذا الاقتراح بشأن وظيفة معبد باساي يَدِين بالكثير إليه. فمِن خلال وصف باوسانياس لفيجاليا نعرف بوجود هذه المواكب الطقسية، التي تنطلق من الريف إلى معبد محدد في المدينة. لا يذكر باوسانياس باساي تحديدًا بوصفها وجهة لهذه المواكب، لكنْ يبدو في حكم المؤكد تقريبًا أن هذه المواكب قصدت باساي. أيضًا لا يصف باوسانياس مواكب فيجاليا بأيِّ قدْر من التفصيل، لكنْ في وصفه لمدينة أخرى جنوبي اليونان كتب عن طقوس لا بد أنها كانت مشابهة للغاية؛ يتقدمها الكهنة والمشرِّعون المحليون، يتبعُهُم الرجال والنساء والأطفال يقودون بقرة إلى معبد الجبل الذي يقصدونه من أجل تقديمها كقربان.
في جوانب أخرى، أيضًا، لا يزال دليل باوسانياس الإرشادي يمثل أساسًا للعديد من المشروعات الأثرية الحديثة وعمليات المسح الميدانية. فمن الموضوعات الواردة في توصيفه لليونان الرثاء للمدن اليونانية التي زارها وكانت مجيدة فيما مضى، لكنها وقْتَ كتابته عنها تستحق بالكاد لقب «مدن»؛ إذ تهدَّمتْ أجزاء منها ولا يسكنها سوى عدد قليل من السكان الباقين الذين يسكنون مبانيَها المتداعية. كانت صورةُ الاضمحلال هذه، صورةُ سقوط اليونان من علياء رخائها السابق، تُعَدُّ جانبًا آخر من بناء باوسانياس لليونان المثالية، في وقت ذروة مجدها في العصر القديم، قبل وقت كتابته عنها بمئات السنين. بَيْدَ أن هذه الصورة قدمت حافزًا قويًّا للأثريين في العصر الحديث.
من الواضح أن عمليات المسح الحديثة حاولت تقصِّيَ مزاعم باوسانياس الخاصة بالنقص السكاني، وأن ترى الكيفية التي تغيرت بها أنماط الاستيطان في اليونان وهي تحت الحكم الروماني. ترسم عمليات المسح صورة تؤكد جزئيًّا ما ذهب إليه باوسانياس في وصفه، لكنها في الوقت ذاته تقترح سبيلًا جديدًا للنظر إلى المشكلة بأسرها. ونحن نؤمن الآن أن الأمر لم يكن وحسبُ مسألةَ نقصٍ سكاني واضمحلال؛ إذ يبدو أن أحد تأثيرات الحكم الروماني هو تركيز السكان في مراكز حضرية أكبر؛ وهو ما أدَّى إلى هَجْر بعض المواقع التي رصدها باوسانياس.
تقدِّم دراسة التراث الكلاسيكي مجموعة متنوعة من الطرق، منها ما هو قديم وما هو حديث، لفهم الماضي الكلاسيكي. ويعتمد الأثريون المعاصرون — على نحوٍ دوري — على أحدث أساليب التحليل العلمي، وعلى أحدث النظريات الخاصة بالتغير الاقتصادي والاجتماعي. لكن «المزج» بين هذه المهارات الجديدة والأدلة المعروفة منذ وقت طويل، والتي أَوْردها كُتَّاب قدماء على غرار باوسانياس، هو دائمًا ما يحقق أبلغ الأثر. وطرق الدراسة الحديثة لا تُنتِج لنا فقط معلومات جديدة، وإنما تدفعنا إلى رؤية معنًى جديد في المعلومات التي سجَّلها كُتَّاب مثل باوسانياس، الذي ربما كانت أعماله معروفة، لكنها كانت عرضة للتجاهل أو إساءة الفهم لقرون. وبذا قد تتضمن دراسةُ التراث الكلاسيكي الجلوسَ في مكتبة لقراءة دليل باوسانياس الإرشادي أو البحث بين بقايا موقع أثري قديم. أو بالأحرى، في دراسة التراث الكلاسيكي يُنظر إلى هذه الأنشطة بوصفها أجزاء متكاملة للمشروع ذاته.