فن إعادة البناء
التخطيط الأساسي
كما رأينا، يركز وصف باوسانياس لباساي على اللقب الذي مُنح هناك للإله أبوللو؛ لقب «المغيث» أو «المعين». ويَعِد باوسانياس بالفعل بتفسير هذا اللقب عند أول إشارة له إلى المعبد؛ حين كان يُزَكي مشهد «التمثال الطويل المصنوع من البرونز البالغ ارتفاعه أربعة أمتار، الذي جُلب [من باساي] من أجل تزيين المدينة الكبيرة»، تلك المدينة الرئيسية في أركاديا. وحين يصل في جولته إلى ذلك المكان، يركِّز دليلَه الإرشادي حقًّا، على نحو حصري تقريبًا، على السبب وراء اللقب الممنوح لأبوللو. ورغم أن باوسانياس يُصِرُّ في الفقرة التالية مباشرة على أنَّ وصْفه هو التسجيل العفوي الأول للزيارة، فإن قدْرًا قليلًا للغاية منه مستقًى من الملاحظة. فهو يخبرنا سريعًا أن المعبد مبنيٌّ من الحجر، من سقف وجدران، وأن ترتيبه الثاني بين كل المعابد في شبه جزيرة بيلوبونيز من حيث الجمال والتناسق. لكنْ لا يوجد شيء مطلقًا عما يوجد داخل المعبد، عدا أن تمثال الإله الذي رآه في المدينة الكبيرة لم يَعُد موجودًا بالمعبد. أيضًا لا يَذكر باوسانياس شيئًا عن الزخارف الموجودة على المعبد من الخارج، سواء أكانت منحوتات أم رسومات، رغم الاحتفاء البالغ الذي يُظهِره بالمعبد.
التوصيفات الحديثة للموقع لها أولوياتها. وقد تَسبَّبَ إنقاذُ الإفريز، كاملًا تقريبًا، والفقدانُ شبه التام لبقية المنحوتات الخاصة بالمعبد لا محالة في تركيز معظم الاهتمام على الإفريز. لكنْ لا يوجد إجماع على نوعية الاهتمام الذي يستحقه. لا تزال اهتمامات باوسانياس — التاريخ «الديني» تحديدًا للموقع والتقدير «الفني» لزخارفه — تشكِّل جزءًا من نطاق اهتمامنا الحالي، لكننا مهتمُّون أيضًا بما ربما يكون باوسانياس قد أخذه كأمرٍ مسلَّمٍ به، أو حتى اعتبَرَه أقلَّ شأنًا من أن يُذكر؛ وتحديدًا نحن مهتمون بالدَّوْر الذي لعبه المعبد في حياة المجتمع المحلي، وما رآه الزائرون في الصور الأسطورية المنحوتة على جدرانه. ورغم أنه ليس من الممكن أن يُنظر إلى باوسانياس ببساطة بوصفه ممثلًا لِرد الفعل «التقليدي» القديم، علينا كذلك ألا نتظاهر بأن أي نظرة حديثة منفردة، حتى نظرتنا، يمكنها أن تمثل كلَّ ردود الفعل.
كانت غالبية هذه الزخارف ملونة بألوان زاهية؛ فالمنحوتات التي نعجب بها اليوم بسبب رخامها الأبيض المتلألئ كانت مطليَّة في الأساس بألوان خضراء وزرقاء وحمراء صارخة. وهذا أحد أصعب جوانب المظهر الأصلي لأي معبد قديم يكون علينا تقبُّله؛ وهذا يرجع جزئيًّا إلى أنه يتعارض بقوة مع الصورة التي نملكها في أذهاننا عن الكمال الكلاسيكي، أو مع الرؤية الرومانسية الخاصة بمعبد أبيض نقي جاثم في أحضان الجبل. يختلف الأثريون بشأن المقدار المحدد المغطى بالطلاء من أي معبد. والتحليلات الخاصة بالآثار المتبقية من الطلاء ليست حاسمة بعدُ. يرى البعض أن هذه الألوان أُضيفتْ غالبًا للتفاصيل المهمة، بغرض إبرازها وجذْب انتباه الرائي إليها، أو أن مسحة بسيطة من الألوان وُضعتْ على خلفية الإفريز كي تجعل التماثيل نفسَها تَبرُز في وضوح. لكنْ يَقترح آخرون في جرأة أكبر أن الطلاء الزاهي وُضع على الرخام كلِّه، وهو ما من شأنه أن يُقلِّل تأثير تفاصيل النحت والتجسيم الدقيق الذي نَمِيل اليوم إلى الاحتفاء به. وبالتأكيد كانت درجةٌ ما من الألوان، مَهْمَا اختلف مقدارُها، عنصرًا مُهمًّا في المعابد القديمة، وجزءًا من مجموعة زخارفها المعتادة.
لكنْ لم تكن المعابد مبانيَ مُتحفظةً فقط؛ فرغم أنها تنتمي جميعًا بوضوح إلى النوع ذاته، فإن كل معبد منها كان متفردًا بذاته، ويمثل ارتجالًا وتجربة مميزة. وكما يُبين معبد باساي، ففي إطار النمط العام كان هناك نطاق من التنويع، في المعمار وفي الزخرفة على حدٍّ سواء. سنعاود الحديث عن الإفريز نفسِه بعد قليل، لكنِ الآن دعونا نركز على المنحوتات التي تُزيِّن الجزء الخارجي من المبنَى وتلك المحيطة بالجزء الداخلي الإجمالي للمعبد؛ فهذه المنحوتات تساعدنا في رؤية الطُّرُق المتبايِنة التي أَكَّد بها المعبد على تفرُّده.
كان المعبد يُعلن عن هويته بكل وضوح — فهو «معبد أبوللو المغيث» — عن طريق عرض الإله العازف للقيثارة (رفقة مجموعة من الحوريات أو الربات) على لوحة موضوعة فوق بابه الأمامي. أما صورة الإله زيوس فقد تُلمِح إلى قصة معروفة جيدًا وَضعَتْ هذه المنطقة النائية من أركاديا في قلب مسرح أحداث الميثولوجيا الإغريقية؛ فحين وُلد زيوس، هكذا تذهب الخرافة، أُخفي في كهفٍ بين تلك التلال البرِّيَّة كي يظلَّ في مأمَنٍ من والِدِه خرونوس، الذي كان عازمًا على تدمير زيوس، وحَمَتِ المربِّياتُ مخبأ زيوس عن طريق التشويش على صرخاته بجَلَبة عالية غير موسيقية بالمرة. إذا عُرضَتْ هذه القصة في باساي، فستعلن بوضوح لكل مَن يستطيع ربْطَ أجزائها معًا عن أهمية أركاديا في المنشأ الخرافي للنظام العالمي، عند وقت ترسيخ حكم زيوس على الكون بأكمله.
في حضرة الإله
من السهل أن نتخيل موكبًا صاخبًا يجوب المنحدرات آتيًا من فيجاليا كي يتجمع أمام مذبح أبوللو المنتصِب في الهواء الطلق أمام المعبد. ومن السهل أن نتخيل الحشدَ وهو واقف في صمْتٍ مقدَّس، بينما الكهنة يستعدون لرفع صلواتهم وتقديم القرابين للإله. فأيُّ شخص ينظر إلى الزخارف التي تعلو باب المعبد يمكنه أن «يقرأ» زعمًا فخورًا يقضي بأن الموسيقى المتحضرة التي يَعزِفها أبوللو بقيثارته ترجع أصولها إلى الضوضاء الصاخبة التي استُثيرتْ من أجل الحفاظ على والِدِه زيوس؛ في الماضي قرب بداية الزمان، وبالقرب من هذا الموضع عينه.
كل هذه تخمينات؛ فباوسانياس لم يُخبرنا شيئًا من هذا، ولقد بدأْنا من حفنة صغيرة وحسب من قِطَع الرخام المهشَّمة (يدٍ تَعزِف قيثارة، وجزءٍ من جزع، وشظايا عباءة) لا لكي نُعيد بناء المنحوتة التي كانت تُزيِّن المعبدَ من الخارج، وإنما أيضًا بناء شيء من مغزاها وكيفية تلقِّيها. إن جزءًا أساسيًّا من دراسة التراث الكلاسيكي هو تلك النوعية تحديدًا من «إعادة البناء»، أن نجمَعَ معًا شظايا متناثرة كي نحصل على فكرةٍ عمَّا كان الكلُّ يبدو عليه فيما مضى وما كان هذا يعنيه. إنه عمل قائم على التخمين بالأساس. وفي كل الأحوال تقريبًا يكون التخمين موضع خلاف. فلدَى أشخاص آخرين، على سبيل المثال، أفكار مختلفة بشأن ما كانت هذه اللوحات تعرضه تحديدًا أعلى مدخل معبد باساي. لكنَّ الأمر ليس عملية تخمين وحسب؛ فهو بالأساس يعتمد على القدْرة على رؤية ما تبقَّى، مهما كان متناثرًا على صورة شظايا، في سياق كل الأمور الأخرى التي نعرفها عن العالم القديم.
في حالتنا هذه تعتمد إعادة البناء جزئيًّا على معرفتنا بالتمثيلات الأخرى الباقية للإله أبوللو؛ الذي يُصوَّر عادة وهو يَعزِف على القيثارة. ووجود جزء من يدٍ تعزف قيثارة في هذا المعبد يوحي لا محالة بأن هذا الشكل يمثل الإله أبوللو نفسَه. لكن إعادة البناء تعتمد أيضًا على الإلمام بالخرافات والقصص القديمة الخاصة بالمنطقة، وعلى معرفة أن أركاديا كانت بقعة ذات أهمية خاصةٍ في قصة والد أبوللو، زيوس. بعبارة أخرى، عملية الربط بين أجزاء المعبد تؤدي بنا إلى التعمق في ثقافة المنطقة كلها.
أيضًا تُبين عمليةُ إعادة البناء للزينة الخارجية للمعبد أحدَ السبل التي يكتسب بها المعبد تفرُّده، حتى داخل نمطه المعياري القُحِّ. فبينما تُشير المنحوتات الموجودة أعلى المدخل إلى الإله المرتبط بهذا المعبد تحديدًا وإلى أساطير محلية بعينها، فإن تصميم الجزء الداخلي من المعبد يدلُّ على تفرُّد المعبد بطريقة مختلفة تمامًا.
إن تفاصيل هذا التصميم الداخلي فريدة حقًّا؛ ففي إطار المخطط القياسي، استحدث المهندسون المعماريون الذين صمَّموا المعبد بعضَ الملامح المُذْهلة. على وجه الخصوص، لا يملك أيُّ معبد آخر عمودًا موجودًا في منتصف المشهد، بحيث يجذب انتباه كل زائر للمعبد. أيضًا لا يوجد أي معبد آخر يكون فيه التمثال المبجَّل الأساسي موضوعًا في مكان غير مركزي، ينظر بعيدًا نحو باب جانبي. ولا يملك أي معبد آخر إفريزًا منحوتًا يمتد حول قاعته الداخلية. المبنى كله أيضًا غير معتاد؛ من حيث إنه مبنيٌّ في اتجاه الشمال، بينما كل المعابد الإغريقية الأخرى تقريبًا مبنية في اتجاه الشرق.
عالَمهم، أحجيتنا
حان وقت العودة إلى دراسة الإفريز مجددًا، في ضوء ما قلناه للتوِّ. من قَبِيل المفارقة (وفي ظل حقيقةِ أنه ظل باقيًا إلى الآن كاملًا تقريبًا)، يُثير الإفريز مشكلات عويصة بالنسبة لعملية إعادة البناء؛ فمن الآثار التي ترتبت على استخراج الألواح الثلاثة والعشرين من بين الأطلال، ثم تغليفها من أجل عملية النقل، ثم إعادة تجميعها من أجل العرض في لندن؛ أننا لا نملك أيَّ دليل واضح عن موضعها أو ترتيبها الأصلي في المعبد. ويصير اللغز أكثر صعوبة؛ لأن كل لوح منحوت على نحو مستقل؛ بحيث لا يوجد تداخُل تقريبًا بين كل لوح وآخر. وأغلب الألواح يُصوِّر أجسادًا مفرودة متداخلة على نحو محير؛ ونتيجة ذلك أن الشكل الفعلي للإفريز، بمعنى أي لوح كان موضوعًا إلى جوار أي لوح آخر في التصميم الأصلي، لا يزال موضع خلاف حادٍّ بين الأثريين. وكما ذكرنا في الفصل الأول، فإن هذه الأحجية لم تحظَ إلى الآن بحلٍّ مقبول إجمالًا.
ومع ذلك، يتفق الجميع على أن الإفريز يعرض قصتين: الأولى عبارة عن معركة بين الإغريق، تحت قيادة البطل هرقل — أحد أبناء زيوس العديدين — وبين الأمازونيات، وهنَّ جنس خرافي من النسوة اعتدنَ العيش، والقتال، من دون رجال. والثانية عبارة عن معركة بين جنس القناطير الخرافي، الذي يتكون كل فرد من أفراده من نصف رجل ونصف حصان، وبين قبيلة إغريقية تُدعَى قبيلة اللابيثيين. من البدهي الافتراض أن كل قصة من هاتين القصتين كانت تشغل جانبين من جوانب الإفريز الأربعة المكتملة؛ جانبًا طويلًا وآخرَ قصيرًا. لكنْ لا يستطيع أحد أن يُرتِّب القصتين على نحو محكَم وفق هذا الترتيب؛ ففي موضعٍ ما على امتداد أحد الجوانب على الأقل لا بد أن تتداخل إحدى القصتين مع الأخرى. وهذا أيضًا يُفاقم مشكلة إعادة البناء.
ومع هذا فإن الحضور الطاغي نفسه لهذه المشاهد، التي فيها يقاتل الإغريقُ الأمازونياتِ ويقاتل اللابيثيُّون القناطيرَ، لا يقلل من أهميتها. بل على العكس؛ كلما كانت تمثيلات الخرافات أكثر تواترًا وإلحاحًا ووفرة، فمن المرجح أن دَورها كان أكثر محورية في الثقافة الكلاسيكية. وفي الواقع، اضطلعت بعض أكثر دراسات التراث الكلاسيكي إثارةً للاهتمام في الأعوام الأخيرة بالتحدي المتمثل في استكشاف الأهمية الخاصة لمثل هذه الصور، ويجدر بنا أن نتدبر لبرهة في الكيفية التي يمكن بها لمثل هذه الدراسات أن تساعدنا في فهم وتفسير ما نراه على إفريز معبد باساي نفسه. وهذا سيتضمن السماح للفن الإغريقي بأن يأخذنا، ليس فقط إلى داخل عالم الخرافة، وإنما أيضًا، على نحو واسع، إلى عالَم الأديان والقِيَم المتعارف عليها والأيديولوجيات الإغريقية.
الرجال الخارقون، والنساء الخارقات، والوحوش
افترضْنا بالفعل أن المشهد القوي الخاص بهرقل في صراعه مع المحاربات الأمازونيات شَغل موضعًا شرفيًّا مركزيًّا، فوق العمود الكورنثي. يَظهر هرقل في كل مكان تُوجِّه إليه ناظرَيْك في العالم الكلاسيكي؛ ففي معبد زيوس العظيم في مدينة أوليمبيا تَعرض الألواح الاثنا عشر الرخاميةُ، ستةٌ عند كل طرف من طرفَيِ المبنى، الأعمالَ الاثنَيْ عشر التي أُجبر هرقل على القيام بها ضد وحوش متزايدة الغرابة. وفي روما أيضًا، كما سنرى في الفصل التاسع، لعب هرقل دورًا كبيرًا في الخرافة القومية التي أضفَتِ القدسية على أصول مدينة روما. كان هرقل (هيراكليس) مجسَّدًا في كل مكان؛ لأنه كان يُمثِّل بعضًا من الأشياء التي شغلت كلًّا من الإغريق والرومان وأزعجتْهم وحيرتْهم وجمعتْهم وفرقتْهم في الوقت عينه. لقد كان هرقل، كما تعلمنا أن نعبِّر عن الأمر، يَصلح لضرب المثل دومًا.
عندما حارب هرقل هذا الأمازونياتِ، نرى عرضًا للعُرْي الذكوري البطولي، من الأمام، رفقة سلاحه الشبيه بسلاح رجل الكهف، الهراوة، وجلد الأسد الذي يرتديه ويحمله بدلًا من الدرع. في هذه الصورة يَظهَر هرقلُ قويًّا مفتول العضلات، لكنه خلاف ذلك لا يمكن تمييزه بالكاد عن الرجال الذين يقاتلون الأمازونيات إلى جواره، بخوذاتهم وسيوفهم وعباءاتهم المتطايرة. إن «جند» العدو إناثٌ على نحو واضح، أجسادهن مغطاة على نحو محتشم بالثياب إلا في لحظات الكارثة، لكنهن يُقاتلْنَ كالجند والمشاة والفرسان المدرَّبين. وبغضِّ النظر عن العُرْي، يبدو جيش الرجال، في أوجُهٍ عِدَّةٍ، شبيهًا بالقوة التي تحتفظ بها أي مدينة إغريقية على أهبة الاستعداد لخوض المعارك، لكنه تحت قيادة وإلهام ذلك الرجل الخارق، الذي جاب الأرض وذبح الوحوش كي يُثبِت أنه ابن زيوس.
إن النصر، الذي لم يُحسَم بعدُ، سوف يُعيد الصراع بين الجنسين إلى نصابه الصحيح؛ فسوف يؤكد على الشجاعة الذكورية ويجرِّد الغرباء من هذا الفوج المحارب الهائل. ومع هذا، فالخطأ الذي ترتكبه الأمازونيات، أو ارتكبْنَه، لا يُعلَن عنه بوضوح. تذهب بعض القصص إلى أنهن غزَوْن اليونان. لكن هرقل نفسَه غزا هو أيضًا عالمَهُنَّ البري؛ حيث أُرسل على صورة أحد العمال كي يَسرِق حزام مَلِكتِهن. كيف لنا أن نتفهم ما ستنتج عنه هزيمة الأمازونيات؟ ولماذا يجب أن تُهزَم تلك النسوة المحاربات؟
جزئيًّا، نحن نرغب في التفكير في الأمر بوصفه عرضًا لسلطة الذكور وهيمنتهم على النساء؛ فالرجال يرتدون أحزمة يغمدون بها سيوفهم، أما أحزمة النساء فيفضُّها الرجال، من أجل الجنس. وهنا نرى في الخرافة نساءً تَقلَّدْنَ أدوارَ المحاربين والمقاتلين الخاصة بالرجال، نساءً زُعِم أنهن أنشأْنَ مجتمعًا كاملًا من دون رجال، وتلك النسوة على وشك أن تَهزِمَهن قواتُ النظام الإغريقي الذكوري. إنه تأكيد قوي للأدوار الجنسية الملائمة المتوقَّع من الرجال والنساء الإغريق الاضطلاعُ بها. لكنْ في الوقت عينه، ربما نرغب في أن نربط صراع الإغريق والأمازونيات على نحو مباشر أكثر بالقصة الأخرى المصورة على الإفريز. في تلك القصة، اختطف ضيوفُ حفل الزفاف القناطيرُ العروسَ، وتَعيَّن على العريس أن يقود عائلته وأصدقاءه من أجل إنقاذها. إن القناطير ملعونون لا محالة بسبب ما أحدثوه من غُبن؛ إذ أفسدوا حفل الزفاف بأفعالهم الهمجية الوحشية، أما غرماؤهم فيتلقَّوْن المعونة الإلهية من كلٍّ مِن أبوللو وأرتميس، ابنَيْ زيوس.
من المُغرِي أن ننظر إلى هذين الصراعين بوصفهما متكافئَين على نحو وثيق؛ بحيث تَكرَّر مزيج المرأة المحاربة التي تمتطي ظهور الخيل وانعكس في الصورة المعتدية على نحو بالغ للقنطور الذي هو نصف رجل ونصف حصان. لو صح هذا، فإن «جريمة» الأمازونيات تتجاوز بكثير مجرد الخروج عن السلوك اللائق المتوقع من النساء الإغريقيات. فبِتَبني تلك الأمازونيات دور الرجل المحارب، بات يُنظَر إليهن بوصفهن «غير طبيعيات»؛ انحرافًا بشع للطبيعة، مماثلًا للقناطير البشعة، التي يتعارض سلوكُها مع أبسط قواعد المجتمع البشري وأكثرِها أهميةً؛ قواعدِ الزواج. وتُمثِّل هزيمةُ القناطير والأمازونيات استعادةً للنظام «الطبيعي» للمجتمع الإغريقي؛ فالإفريز يقترح، بصورة ما، أن الأمازونيات هن تجسيد للخطأ الذي ارتكبه القناطير.
يضع المعبدُ القواعدَ الجنسانية وحرمة منظومة الزواج الخاصة بالمجتمع معًا تحت الحماية الإلهية؛ فهو يقدم منطقًا للكيفية التي ينبغي أن يعمل بها مجتمع يوحِّد بين الآلهة والبشر؛ فالذَّكر عليه أن يُجاهِد كي يحذوَ حذوَ هرقل، ويكتسب الرجولة، تمامًا مثلما يتعين على هرقل نفسِه أن يحارب كي يُثبِت أنه شقيق أبوللو، الذي يُهيمِن دون جهد على معبده من خلف ستار الأعمدة. إن زوَّار معبد باساي يمكنهم أن يجدوا عقدًا للمجتمع البشري مفروضًا عليهم، يحدد قواعد الحرب والزواج، ويُعرِّف الرجال بوصفهم مروِّضين للنساء ومدافعين عنهن. وفي سلسلة منحوتات أبوللو الظاهرة للعيان (من أبوللو العازف للقيثارة بالخارج، مرورًا بتمثال أبوللو الضخم بالداخل، وصولًا إلى نحت أبوللو على صورة رامي السهام القاتل الذي رأيتَه وأنت تُغادِر) يمكن رؤية القوة الإلهية في العالم بوصفها سبيلَ خلاصٍ وعنفٍ في الوقت ذاته، يوصلها فنَّا الحرب والموسيقى.
هذا النوع من التحليل يؤكد على أنه ينبغي لنا النظر عن كَثَب إلى ما يُظهِره لنا النحت، وأن مجموعة المعارك الخرافية المصورة تَحمِل من المعنى ما يتجاوز مظهرَها الخارجي. بَيْدَ أن هذا التحليل لا يعتمد على إصدار الأحكام بشأن «الجودة» الفنية للإفريز بوصفه «عملًا فنيًّا»؛ فالأمر هنا ليس مسألة نجاح أسلوبيٍّ أو جماليٍّ. فعلى أي حال، بينما تتفحص البقايا المهشمة التي أعاد تحليلُنا بناءَها ضمنيًّا إلى صورتها الأصلية (فنحن لم نتوقف كي نشير إلى أنِّ نحْتَ هرقل تنقصه ساق، أو أن غريمته الأمازونية فقدتْ رأسها حرفيًّا)، فمِن المرجح أن تتساءل إلى أيِّ مدًى سوف «تحب» ما تراه أمامك أو «تُعجب به».
الاحتفاء بالقديم: أحدث صيحة
دعونا نوضح على الفور أنَّ رد الفعل حيال منظر تلك الألواح كان متضاربًا للغاية «منذ اللحظة الأولى التي اكتُشفَتْ فيها». فأنت لن تُتَّهم بالعمى أو الهمجية إذا وجدتَها بغيضة أو فظَّة أو ذات نِسَب غريبة. على سبيل المثال، لم يَجِد فاوفل، وقت المزاد العظيم الخاص بالمنحوتات، أيَّ غضاضة، فيما يبدو، في أن يَعتبر الإفريز بمنزلة مشتريات من الدرجة الثانية، يَصلُح لأن يُضيِّع البريطانيون أموالَهم عليه. بل إن بعض البريطانيين أنفسِهم كانوا متشككين في قيمة ما اشترَوْه. وبعد هذا بسنوات قليلة كتب إدوارد دودويل، وهو مسافرٌ آخَر ذهب بنفسه إلى موقع المعبد في باساي، يقول: «الأقدام أطول مما ينبغي، والسيقان قصيرة ومكتنزة، والأطراف سخيفة في تصميمها، وغير مثالية في تنفيذها.» وفي تعليقه على كتابات باوسانياس، اتفق فريزر مع هذا الحكم اتفاقًا تامًّا؛ ذاكرًا «العيوب الصارخة» في الصَّنعة، و«الأوضاع الجسمانية الفظَّة» للشخصيات. وقد شعر النقاد المعاصرون بالأمر عينه؛ فعلى سبيل المثال، يُعلِّق دليلٌ له ثقله عن الفن الإغريقي على «غرابة» الطراز و«التنفيذ الأخرق».
طالما قُدمت أعذار لتبرير تلك الألواح الرديئة. وأكثرُ التعليقات شيوعًا وَرَدَ على لسان الرسام بنجامين هايدون، الذي كتب وقتَ وصول المنحوتات إلى إنجلترا يقول: «وصلَتِ الألواح الرخامية قادمةً من فيجاليا، ورأيتُها. ورغم أنها مليئة بعدم التناسُب الفظِّ، فإنها مُجَمَّعة على نحو جميل، وكانت بكل تأكيد من تصميم عبقري عظيم، لكنها نُفذتْ على نحو غير دقيق.» الفكرة الأساسية هنا هي أن هناك بصيصًا من العبقرية الفنية نفسِها التي نُدرِكُها في الأعمال العظيمة للفن الأثيني (روائع فيدياس في البارثينون مثلًا)، لكن منحوتات معبد باساي تعرضتْ للحطِّ بسبب الأصابع غير الخبيرة للعُمَّال الأركاديين الخرقاء التي نحتَتْها. يزعم باوسانياس في فخر أن معبد باساي قد صُمِّم بواسطة إكتينوس، المعماري الذي صَمَّم البارثينون، بجلال قدْره، وصَمْتُه بشأن الإفريز يسمح لنا بأن نلوم القرويين المحليين بسبب فشلهم في تنفيذ ذلك التصميم كما ينبغي.
كان هناك معجبون آخرون أقل ترددًا بالإفريز، ومن بين هؤلاء كوكريل نفسُه، وهو ما يُعَدُّ مَدْعاة للدهشة. وهؤلاء يستفيضون في الحديث عن «طاقة» المنحوتات، من حيث عنفها المثير، والعرض الجريء الواضح لقسوة القتال البالغة. لكنهم أيضًا يعترضون، عن حقٍّ، على حقيقة أننا نبتعد عن التصور الأصلي لهذا التصوير حين نَنْكفئ على دراسة الصور والرسومات الموجودة في الكتب، أو نمشي بالقرب من الألواح الموضوعة عند مستوى النظر في حجرتها بالمُتحف. ألَا ينبغي لنا أن نفكر بدلًا من هذا في النطاق الداخلي المزدحم لقاعة أبوللو وفي الزاوية المائلة التي كان يُنظَر بها إلى الإفريز، الموضوع في مكان مرتفع فوق الزوَّار؟ ما الذي كان يمكن أن يكون أكثر ملاءمة، أو أشد وقْعًا على النفس، من تلك المنحوتات الواضحة التجسيم المزدحمة أعلى الزوار، بألوانها الصارخة وعِراكها الصاخب، وتلك الظلال العميقة المتراقصة التي يُسبِّبها ضوء المشاعل الذي يخترق الظلمات؟
تتضمن دراسة التراث الكلاسيكي العديد من الأحكام المعقدة المشابهة. ومن الصحيح، حتى في وقتنا هذا، أن تُعَد الصفة «كلاسيكي» (عندما يُنعَت بها أي شيء، بداية من الروايات إلى السيارات) علامةٌ على الاستحسان والإعجاب. لكنْ في الوقت عينه هناك الكثير من الجدل بشأن أفضل أعمال الفن أو الأدب الباقية من العالم القديم إلى اليوم؛ فهذه الأحكام تتأثر بشدة عادة بالتغيرات في الثقافة المعاصرة. على سبيل المثال، حين كان الفن التجريدي يحظى بشعبية خاصة في السنوات الأولى من القرن العشرين، كان هناك ميل أيضًا إلى تقدير المراحل الأولى من النحت الإغريقي، الخاص بالقرنين السابع والسادس قبل الميلاد، بأشكالها الضخمة ذات الأسلوب الخاص التي تتخذ شكلًا تجريديًّا. وفي السنوات الأخيرة باتتِ العبقرية البارعة الوقحة لِأوفيد موضعَ تقدير، رغم أن مواهبه كانت في وقت سابق موضع استنكار بسبب ما اتسمتْ به من عَبَثٍ وتمرُّد وتركيز على الانغماس في الملذَّات. وأيضًا الشعراء الملحميون الذين جاءوا بعد فرجيل — الذين كان يجري التغاضي عن أعمالهم بسبب تكلُّفها الحسي، الذي هو نتاج عصر فاسد — يحظَوْن الآن بالقبول من جانب العديد من القراء، سواء من أجْل شَجْبِهم الحادِّ لأهوال الحرب الأهلية أو شجاعتهم السياسية المتمثلة في تصريحهم بآرائهم في ظل الحكم الأوتوقراطي القمعي للإمبراطورية الرومانية.
وكما يتضح لنا من خلال قضية معبد باساي، لا بد أن تتأثر أحكامنا أيضًا بالكيفية التي لا نُعيد بها فقط بناءَ الأشياءِ نفسِها، وإنما أيضًا سياقَها الأصلي وكيفية تلقِّيها. فسوف نحكم على الإفريز على نحو مختلف لو أننا تَدبَّرنا أولًا كيف كان سيبدو وهو في المعبد، ثم نربطه بوظيفة المبنى وبعادات وقِيَم مَن بنَوْه، واستخدموه، وزاروه. والأمر عينه ينطبق على الأدب مثلما ينطبق على الفن؛ فالمسرحية الإغريقية تُمثل نصًّا قُرئ ودُرِسَ في العالم القديم، مثلما قُرئ ودُرِسَ منذ عصر النهضة إلى وقتنا الحالي، لكن هذه كانت نصوصًا كُتبَت ومُثِّلت للمرة الأولى في السياق الخاص للمسرح الأثيني، وسوف نتدبر الدراما الإغريقية على نحو مختلف بمجرد أنْ ننظر إليها من هذا المنطلق. إن الأسئلة الفنية المتعلقة بالتاريخ وإعادة البناء لا تنفصل عن الأسئلة المتعلقة بالجودة والتقييم، مثلما لا تنفصل عن أذواقنا وتفضيلاتنا. تُبقِي دراسةُ التراث الكلاسيكي هذه الاعتباراتِ معًا تحت عملية متواصلة من المراجعة والنقاش.