تخيلْ هذا
الابتعاد عن كل شيء
كانت باساي عند الحد الأقصى من حدود أركاديا، وهي منطقة جبلية في جنوب اليونان. كانت أركاديا قريبة من مدن اشتُهرتْ في أرجاء العالم القديم؛ فإلى الجنوب كانت هناك أسبرطة، الأشبه بمعسكر حربي مسلح أكثر منها بمدينة، وكانت مدينةً «أسبرطيَّةَ» الطابع على النحو الذي نستخدم به الكلمة في وقتنا الحالي؛ وإلى الغرب كانت تقع أوليمبيا، وبها معبد زيوس العظيم الذي كانت تقام فيه كل أربعة أعوام أروع احتفالات الرياضيين في عموم اليونان، وتلك الاحتفالات هي سلف الألعاب الأوليمبية الحديثة؛ وإلى الشمال والشرق كانت هناك مدينتا أرجوس وكورنث المزدحمتان؛ وإذا ابتعدنا قليلًا كانت هناك أثينا. إلا أن الإغريق كانوا يرون في أركاديا منطقة برية تحكمها الطبيعة، موطن الإله بان، الإله الذي نِصْفه إنسان ونصفه ماعز. وقد ورد في الأساطير الإغريقية أن بان من شأنه أن يعتدي جنسيًّا على أي كائن يطوله؛ فتاةً كان أو حوريةً أو حيوانًا. وقد صوَّره الفنانون الإغريق مصاحبًا لأتباع ديونيسوس المنتشين في احتفالاتهم.
يخبرنا المؤرخ هيرودوت، الذي أرَّخ لانتصار أثينا الضعيفة في صدامها مع الفرس الأقوياء، كيف أن الأثينيين أرسلوا عدَّاءً إلى الأسبرطيين كي يطلبوا منهم العون في صد غزو جحافل الفرس. قابل هذا العَدَّاء بان مصادفة وهو في طريقه عبر أركاديا. ورغم أن الأسبرطيين لم ينجحوا في إرسال المساعدة في الوقت المناسب، فإن بان ساعد الأثينيين، الذين «أرعبوا» العدو حتى الهزيمة. وفي المقابل أقيمَ لبان ضريح مقدَّس أسفل هضبة الأكروبول في أثينا، وفي كل عام تقدم القرابين ويعقد سباق لحمل الشعلة تكريمًا للمساعدة التي قدَّمها.
أضافتْ نسخة لاحقة من القصة أن العَدَّاء نفسه جرى من ساحة المعركة في ماراثون كي يجلب أنباء النصر على الفرس، وبعد أن ألقى ما في جعبته من أنباء تُوفِّي من الإرهاق. وإلى اليوم لا يزال سباق الماراثون في الألعاب الأوليمبية يحتفي بهذا العمل البطولي، وإن لم يكن من المفترض أن يُكلِّف العَدَّائين أرواحهم.
أيضًا ساعد اختراع بان للأداة الموسيقية المعروفة باسم «أنابيب بان» في تمييز أركاديا بوصفها موطنًا للموسيقى والغناء. إن بوليبيوس الذي كتب (كما رأينا في الفصل الرابع) سردًا باليونانية، من أجل اليونانيين، للغزو الروماني السريع للعالم، كان نفْسُه من أهل أركاديا؛ حيث وُلد في المدينة الكبيرة. وهو يخبرنا أن الأرض كانت قاحلة جرداء لدرجة أن الغناء كان كلَّ ما يُخفِّف عن أهلها تلك الحياة التي لا تُحتمل.
لكنْ في روما سيطرتْ أفكار أخرى عن أركاديا. فقبل أن يكتب فرجيل ملحمته «الإنياذة»، كان قد أنتج مجموعة من القصائد «الرعوية» (المعروفة باسم «المختارات»). تستحضر هذه القصائد عالَمًا خارج العالَم التاريخي للمدن والسياسة والحرب، مكانًا يجلس فيه الرعاة، مثلما جلسوا دومًا، دون أيِّ منغصات أسفل الأشجار الظليلة التي تمنحهم المأوى من شمس منتصف النهار، يتبادلون الأغنيات أو ينعَوْن حظَّهم العاثر في الحب. في تلك الأثناء ترتاح حيواناتهم أو تشرب الماء في حرارة النهار. تلك البيئة الشاعرية يُطلق عليها «أركاديا».
في تلك الصورة الإيطالية لأركاديا، أَوْجَدَ فرجيل «مكانًا آخر» خاصًّا، يمكن فيه للخيال أن يَفرَّ من الزمن الدنيوي وأن ينسجم مع مشهد الغناء الأصلي. لقد صار هذا مكانًا يستطيع العقل فيه أن يَهِيم، وقد عاد إليه الشعراء والموسيقيون منذ ذلك الوقت، مُعيدين تخيُّل هذا المجتمع الذي يعني فيه الغناء أكثر من المكانة والممتلكات. لكنْ في الوقت عينه، صَوَّر فرجيل هذا العالم الشاعري الرعوي بوصفه مجتمعًا مهددًا بالفعل من جانب التبعات الكارثية للصراع على السلطة في المجتمع «الحقيقي»؛ فالمدينة وحروبها تُلقِيان ظلالًا كثيفة على حياة وأغنيات هؤلاء الرعاة والمزارعين. يواجه بعضُ هؤلاء الطَّرْدَ والنفي التعسفي، فيما يُكافَأ آخرون، على نحو عشوائي تمامًا، أو يُعفَى عنهم. وفي كلتا الحالتين تكون تلك نتائج القرارات المفروضة من روما، بَيْدَ أنها تتجاوز كثيرًا فهْم المغنِّين الأركاديين. تتضمن رؤية فرجيل كلًّا من براءة الغناء والاعتداء المهدِّد لقوات ضخمة عازمة على تدمير طبيعة أركاديا الرقيقة الهشة. يمنحنا الشاعر لويس ماكنيس شيئًا من هذه النكهة المرة/الحلوة حين يبدأ قصيدته «مختارات لعيد الميلاد» ببيت يقول فيه: «أقابلك في زمن شرير»، ثم يأتي الرد مباشرة: «الأجراس الشريرة؛ أخرجتْ من رءوسنا، كما أرى، التفكير في أي شيء آخر.»
الجنس والإحساس
يُعَدُّ بان ورحلات صيده «الأركادية» أيضًا موضوع قصيدة غنائية شهيرة كتبها صديق فرجيل، هوراس، لكن الأسطورة تحمل نكْهة مختلفة للغاية في هذا القالب الغنائي. تخاطب القصيدة تيندريس، واحدةً من سلسلة النساء اللاتي يُثِرْنَ الرغبة لدى الشاعر. يخبرها الشاعر الراغب في إغوائها أن بان (هنا يحمل اسمه الروماني فاونوس) يَثِبُ من جبال أركاديا مباشرة كي يحمي مزرعته الرعوية في التلال الإيطالية، خارج روما مباشرة. يدعوها الشاعر إلى مزرعته، ويقدم لها أفكارًا عن حماية بان وعن آلته الموسيقية العذبة التي يتردد صداها بين الوديان، ويَعِدُها كذلك بكل ثروات الريف، وأن يمنحها أذنًا مصغية لغنائها، وكئوسًا بريئة من النبيذ في الظل: هنا لا حاجة بها إلى القلق، فلن يختَطِفَها محبٌّ غيور ويمزِّق ملابسها وينتزعها، وهي التي لا تستحق مثل هذه المعاملة …
إن تطمينات الشاعر مبالَغ فيها؛ إذ تُلمح كلماتُه بمواربة أقل إلى أن هناك ثمنًا لقاء قبولها حماية هوراس. فمثلما لا يمكن أن تأمن حورية على نفسها من بان، لا يمكن لأي أنثى بشرية أن تأمن على نفسها من اﻟ «بان» الرابض في كل ذكر بشري. بعبارة أخرى، إن هوراس يطلب من تيندريس أن تَقْبل محاولاته للتقرب منها قبل أن يتحول (كما سيفعل هو، أو كما سيفعل بان) إلى الرعب والعنف والاغتصاب. إن العالم المتخيَّل هنا لأركاديا لا يقل عن كونه صورة خيالية عن الإغواء، إغواء تخيلي. لقد صار هذا العالم الأسطوري فيما وراء المدينة ملعبًا لأحلام اليقظة الذكورية؛ حيث تُهدد الطبيعة بإطلاق العنان للرغبات الأساسية. ويمكنك أن تجد نسخة «أنثوية» حديثة لهذه الصورة في قصة رحلات فيونا بيتكيثلي إلى اليونان؛ حيث يأخذها سعيُها خلف ما تُسمِّيه «مبدأ بان» إلى جميع أرجاء أركاديا بان. إن «المنظر الرومانسي» لباساي يُغويها، نهارًا وليلًا، إلى هذا «المعبد المهيب [الذي] سرَّ قلوب أجيال من العشاق.»
إن دراسة التراث الكلاسيكي معنية ببحث المشاعر الشهوانية المجسدة في النصوص والفنون القديمة، سواء كانت مصاغةً (كما في هذه القصيدة الغنائية) في صورة شعر بديع، أو مدهونةً في رسمةٍ جدارية غيرِ متقنة أو مرسومةً على قِدْر رخيصة. وفي قصص وخيالات العالم القديم نصادف كل أشكال التنويعات في العلاقة بين الجنسين، وبين أفراد الجنس عينه؛ فالأمر لا يقتصر على اللقاءات الشهوانية بين الرجال والنساء اللاتي تحت طلبهم؛ فعلى مرِّ القرون استُكشفتْ رغبات جنسية مكبوتة وغير تقليدية (ووجدتْ سوابق لها) تحت جناح دراسة التراث الكلاسيكي. وقد قدمتِ الكتاباتُ والفنونُ الكلاسيكية الفرصة لنا كي نتدبرَ السحاق الذي مارستْه النساء على جزيرة لسبوس الإغريقية، وكانتِ الشاعرة صافو هي السبب في شهرته، أو نرتجفَ أمام الجمال السالب للألباب للثنائية الجنسية الشبقة لأيِّ خنثى، أو نقشعرَّ من كَهَنة الإلهة كوبيلي، الذين كانوا يُجْبَرُونَ على بتْر أعضائهم التناسلية كي يَخدموا ربَّتَهم بشكل أفضل. على النقيض، كانت العِفَّة والتبتُّل وحماية عذرية الابنة أمورًا راسخة بثبات في الأعراف الأخلاقية للعالم القديم، مثلما هي في أشد أعراف المتزمِّتين صرامة.
إذن تفعل دراسة التراث الكلاسيكي ما هو أكثر من إثراء المخزون الخيالي لتراثنا الثقافي؛ فهي تقدِّم نَسَقًا من سوابق السلوك الشخصي، وهي «مخالفة» لتلك النسق الموجودة في خبراتنا الفعلية إلى درجة تتحدَّى فهمَنا، وإن كانت في الوقت ذاته «مشابهة» لخبراتنا بحيث تستثير أعصابنا وتقضُّ معتقداتنا اليقينية. إن قراءة أشعار صافو، بما فيه من احتفاء بالحب بين النساء، يعني لا محالة التشكك في «أعراف» السلوك الجنسي، القديم والحديث. وحتى أساطير «أركاديا» الرعوية لا بد وأن تحثَّنا على مواجهة ما نتبعه من أساليب للإغراء والاغتصاب والعنف الجنسي.
مضتِ الصُّوَر الأخرى لأركاديا في اتجاهات مختلفة. إن أحد مواضع مجْد نهضة الحضارة الكلاسيكية كانت أركاديا القرن السادس عشر، التي صَوَّرها الشاعر الإيطالي ياكوبو سانازارو. لقد بلغتْ شهرتُه كلَّ بلاط ملكي في أوروبا بفضْل توليفته التي لا تُقدَّر بثمن التي مستْ رعاة الغنم وراعياته الكامنين في خيال كل دوق وأميرة. هذه الأركاديا، بحورياتها المحببة ورعاتها الشباب الجذابين، تجسد المتاعب الملتاعة للمدعو سينشيرو، وهو شابٌّ منفيٌّ من مكانته العالية المستحقة في الحياة، ويتنهد في نغمات عذبة. هذا الحبيب التعيس، الآسر الذي تصلح شخصيته للتجسيد في الأوبرا، يحوِّل نفسه إلى دور أورفيوس آخر، الموسيقي الأسطوري الذي بعد أن فَقَدَ محبوبتَه يوريديس، كان بمقدوره أن يجعل الأشجار ترقص والصخور تسمع. هنا يستطيع قُرَّاء سانازارو أن يَجِدوا تعبيرًا بلاغيًّا مصقولًا عن الحب، حديثًا عذبًا عن السلوى، وأرضًا تُقدِّر الشعر فوق كل شيء. كان ذلك مكانًا ملائمًا كي يضمر فيه الحب.
من بين ردود الفعل المباشرة لهذه الرؤية تحديدًا لأركاديا، كانت «قصائد» البطل الإليزابيثي الإنجليزي، سير فيليب سيدني. إن أركاديا التي يصورها، وهي مكان طبيعي خيالي حطمه الألم والحزن والفَقْد بالفعل، تَعُود إلى المخاوف التي تحف قصائد فرجيل. إنها جنة تَعرف أنها مهجورة ومنهوبة بالفعل، تعرف أن الموسيقى «تفشل» في أن تنقذ الكون، تعرف أن «أركاديا» كابوس مثلما هي قصيدة رعوية؛ عاجزة تمامًا عن أن تُنقِذ نفسَها من جنونها. يقدم لنا سيدني أركاديا مليئةً بالمشاعر والطاقة، تُنحِّي التفصيلات الجميلة التي رسمها سانازارو في رؤيته الساحرة جانبًا مرة أخرى.
هنا، وكذلك في مرات عدة قبلَ ذلك الوقت وبعدَه، وجد فنانون مبدعون رؤيتهم في كتابات العالم الكلاسيكي، وخلال هذه العملية، أكد هؤلاء على جوانب مختلفة من «الأصل»، وقدموا تأكيدات جديدة ودمغوا النتيجة بهويتهم الخاصة. إن كلًّا من سانازارو وسيدني، بعبارة أخرى، يعتمدان على فرجيل ويحاكيانه، وفي الوقت عينه يخلقان شيئًا هو في حد ذاته «أصيل»، مختلف، وينتمي لهما على نحو مميز. لكنهما أيضًا يقدمان شيئًا جديدًا لفهمنا للكتابة الكلاسيكية التي اتخذا منها إلهامًا لهما. فكل قراءة و«محاكاة» جديدة تستثمر نص فرجيل بأهمية متجددة، أهمية كانت موجودة طوال الوقت، لا شك في هذا، لكنها ظلت مستعصية على الإدراك إلى أن جعلتْها عينُ فنان آخر مرئية أمام أعيننا. بتعبير آخر، يحثنا سانازارو وسيدني على أن نرى الاحتمالات ونسمع الأصداء في كتابة فرجيل التي من شأنها أن تَضيع دونهما.
هذا إذن سبب آخر يجعل من المستحيل أن نجعل من التراث الكلاسيكي موضوعًا بعيدًا يختص بالماضي، يبعد عنَّا بألفَيْ عام؛ فالتراث الكلاسيكي يَجِد دومًا شكلًا جديدًا في أعماله الفنية والأدبية — فتتغير معانيه وتتجدد — من واقع ردود الفعل وعمليات إعادة الدراسة المتعددة التي يقوم بها جمهور قرائه العريض عبر آلاف السنين.
قصة القوة الخارقة
من قَبِيل المفارقة أن قصائد فرجيل المبكرة عن أركاديا لم تكن لتحظى بتلك المكانة الكلاسيكية في روما لو لم يكن مؤلفُها قد عاش ليكتب بعدَها الملحمة الوطنية العظيمة؛ ففي عمله الرائد «الإنياذة»، خاطَبَ فرجيل العالَمَ الرومانيَّ للإمبراطور الأول أغسطس، الذي حكم بين عامي ٣١ قبل الميلاد حتى وفاته عام ١٤ ميلادية (وحينها على الفور أعلن مجلس الشيوخ أنه في مصافِّ الآلهة). لقد كانَ عالمًا في خضم حراك سياسي ثوري، خرج للتوِّ من سنوات من الحرب الأهلية وكان يعتاد بالكاد على فكرة أن نظامه الجمهوري التقليدي للحكْم انهار بشكل جلي، وأن مستقبلَ روما كان مع الأوتوقراطية الإمبراطورية. ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا لم تكُنِ السلطة الفاعلة ستستقر في أيدي نواب الدولة المنتخَبين، أو العائلات الأرستقراطية الكبيرة التي تقاسمَتِ السيطرة على الدولة منذ أبد الآبدين فيما بينها، وإنما سيكون في حوزة إمبراطور واحد، وسلالته الحاكمة.
يتحدث فرجيل إلى عالَمه عن طريق إعادة حكْي قصة معروفة تمامًا ترجع وفْقها أصولُ مدينة روما إلى الميثولوجيا الإغريقية، وفيها يؤدِّي هروب قِلَّة من الطرواديين، عبر سلسلة من المغامرات والكوارث في البر والبحر، إلى تأسيس مدينة روما. في قصيدة فرجيل كل المغامرات والانتصارات والكوارث التاريخية اللاحقة التي مرت ﺑ «المدينة الخالدة» على مدار القرون يُبشِّر بها في سرْد الرحلة من طروادة إلى روما، وفي الصراع من أجل تأسيس المدينة. وعلى وجه الخصوص، ترسم القصيدة شكل البطل المؤسس للمدينة، إنياس، بوصفه سلفَ الإمبراطور أغسطس والنموذجَ الذي احتذاه.
إن إنياس إذنْ يقع في قلب أسطورة عظمى عن المدن والسياسات والحرب التي حاول شعر فرجيل تحديدًا ألا يتحدث عنها. وحين يُحضر فرجيل إنياس، الذي رسا في إيطاليا، إلى الموقع المستقبلي لروما، فإنه يجعله يصل في الذكرى السنوية لزائر آخر؛ هرقل، الذي تخلَّص بطريقته المعهودة من وحش محلي وأسس مزارًا (يطلق عليه «المذبح الأعظم»)، تُقام فيه الطقوس إلى الأبد. كان معاصرو فرجيل يعلمون أن أغسطس نفسَه عاد إلى روما في هذا اليوم تحديدًا، كي يحتفل بانتصاره الحاسم، وبهزيمة ماركوس أنطونيوس (إلى جانب كليوباترا، الملكة المصرية)، الذي منح أغسطس السيطرة على العالم الروماني بأسره. وبهذه الطريقة يَجمع فرجيل بين هرقل وإنياس وأغسطس، ويخلق الرؤية الكلاسيكية عن السلطة والقيادة في روما.
ومع ذلك، حتى في «الإنياذة» يشدد فرجيل على فكرة أن أركاديا لا يزال لها دور تلعبه في تصور روما. يتم الترحيب بإنياس ويُمنح جولة رفقة مرشد عبر التلال السبعة التي ستشيد بها روما على يد الملك إيفاندر، الذي استقر على الموقع المستقبلي لروما بعد أن فر من بلده الأم؛ أركاديا. بعبارة أخرى، في أصول «المدينة الخالدة» ذاتها لن تجد فقط الدم الطروادي، ولكنْ ستجد أيضًا مهاجرين من أركاديا نفسِها ضربوا جذروهم بالفعل في المنطقة. هذه هي «أركاديا» التي ستوجد دائمًا «في قلب» روما. فرغم كل القوة العسكرية المترسخة داخل إنياس وأحفاده، ورغم كل الظروف القاهرة التي جعلَتِ الرومان دائمًا يحاربون متى لزم الأمر، فإنَّ جزءًا من هذه الظروف القاهرة (كما يقول فرجيل ضمنًا) هو حماية البراءة «الأركادية» الهشة للأحباب داخل المنزل والوطن، المدينة والمواطنين؛ أي «أركاديا التي في داخلنا».
حفزت أسطورة فرجيل عن تأسيس روما كل أنواع ردود الفعل. احتفى الفاشيون، بقيادة موسوليني، بأفكاره في دعايتهم السياسية، بينما صَوَّرَت رواية هيرمان بوش العظيمة المناهضة للنازية، «موت فرجيل»، فرجيل نادمًا على محاولته كتابة القصيدة، وفي حسرة الندم يخشى فرجيل أن تكون قصيدته قد خَدمتْ وحسب القمْعَ الأوتوقراطي ويتمنَّى لو أُحرقتْ رائعته. يشعر فرجيل أيضًا أن العالم في نقطة تحول محورية، وأن عَمَلَه لن يَفعل شيئًا سوى إخفائها. كما ذكرنا في الفصل السادس، كان فرجيل في نظر دانتي يتمتع بروح «مسيحية طبيعية». والقراء مكلفون بتحويل هذا الإحساس بنقطة التحول في تاريخ العالم بوصفه نبوءة للمسيحية، التي وصلتْ بعد وفاة فرجيل بأكثر من جيل في عام ١٩ قبل الميلاد. بعبارة أخرى، كانت المسيحية موجودة في مركز عالم وثني لم يستطع تقدير بداية الثورة التي ستُطيح في نهاية المطاف بالإمبراطورية الرومانية، وتمنح الغرب الإطار الزمني الذي يستخدمه للحديث عن الأحداث على صورة قبل وبعد؛ أيْ قبل الميلاد وبعد الميلاد. وعلينا ألا ننسى أن المسيح هو أبرز منتسِب إلى الإمبراطورية الرومانية على الإطلاق.
متعة لكل أفراد العائلة
هذه الفوضى من المواد في كل ما لدينا من وسائط تأتينا دون تنظيم أو فرز محدد. ومثلها مثل كل صور التراث الكلاسيكي، تدعو إلى كل أنواع الاستجابات وتشجعها. فيمكننا، على سبيل المثال، أن نختار دراسة طبيعة الإمبريالية الرومانية، وسحْقها للحريات القومية، وآليات عدوانها العسكري، أو يمكننا (في الوقت ذاته) أن نختار الاستمتاع بالنكات الموجودة في القصص المصوَّرة عن المحاربين من أجل الحرية، الذين يلقِّنون الغزاة الحمقى درسًا يستحقونه أو درسين. وبالطريقة عينها تقريبًا، يمكننا أن نسخر من صورة الرومان المتزمِّتين، أو نلمس الإثارة التي يحملها شعر كاتولوس عن الشغف والهوى، وفي الوقت ذاته ندرك أنه لم تكن لدراسة الأخلاقيات أو نظرية المعرفة أو الفكر السياسي أن يُكتب لها البقاء من دون أعمال أفلاطون وأرسطو والقديس أغسطين. وحتى التعبير الوثني القديم الذي يقول: «ألقوا المسيحيين إلى الأُسُود» وجد طريقه إلى عالم دعابات الملاعب (مثل عبارة: «النتيجة الآن تشير إلى تقدُّم الأسُود على المسيحيين ٢٥٠/صفر»)، بينما لا يزال يشهد بالمعاناة التي لاقاها الشهداء المسيحيون على أيدي مضطهديهم من الرومان.
تعلُّم كيف نتعلم
تُعنَى دراسة التراث الكلاسيكي بثقافات كاملة، وبالنطاق الكامل لاستجاباتنا نحو تلك الثقافات؛ لذا فهي تهتمُّ بما هو إباحيٌّ، أو منحطٌّ أو مضحك، تمامًا مثلما تهتم بما هو تثقيفي أو يدفع للتحسن. في الواقع، وكما اقترحنا، المادةُ نفسها الآتية من العالم القديم يمكن أن تكون مضحكة ودافعة للتحسن في الوقت ذاته، إباحية وتثقيفية، ويعتمد الفارق بالأساس على الأسئلة المختلفة التي نختار توجيهها عنها، وعلى الطرق المختلفة التي نصوغ بها استجاباتنا.
لكن هذا «النطاق الكامل» من الاستجابات لا يتضمن فقط استجاباتنا حِيالَ العالم القديم نفسه، وإنما أيضًا حيال دراسة التراث الكلاسيكي، وحيال الطريقة التي يتم تدريسُه بها، وحيال القِيَم التثقيفية التي يُرى أنه يُمثِّلها، وحيال تقاليد البحْث المتعلقة به. وهنا أيضًا نجد الإعجاب إلى جانب المعارضة الساخرة، والمرح، بل وحتى التسخيف، وهنا أيضًا يلعب الأدب والخيال دورَيهما، بل وحتى الشعرُ (كما سنرى). إن دراسة التراث الكلاسيكي، وبخاصة تدريس اللغتين اللاتينية واليونانية، مغروسةٌ بعمق في كل أنواع الصور الحديثة للتعليم والتدريس والثقافة ككلٍّ.
لن تجد الآن مَن يعتقد أن تعلُّم القواعد النحوية له أيُّ تأثير إيجابي على التفكير المنطقي للتلميذ، اللهمَّ إلا إذا كان متعصبًا معتوهًا. ومع ذلك، تظل الكيفية المثلى (والأكثر إمتاعًا) لتدريس اللغتين اللاتينية واليونانية محل نقاش. وتوجد اليوم طرق عديدة مختلفة لعمل هذا، بيد أنها لا تعنينا في مقامنا هذا. الفكرة هنا هي التأكيد على أن تعليم اللغات القديمة لم يكن مطلقًا، حتى في ظل الحكم الفيكتوري، عمليةً موحدةً أو لا جدل فيها مثلما قد يخيل لنا. لقد استثار الأمر دومًا استجابات متباينة، وهذه الاستجابات أيضًا ينبغي أن نراها بوصفها جزءًا من دراسة التراث الكلاسيكي.
لكن هذا الانتقام لم يقتصر وحسب على هذه الصورة الطفولية؛ فحتى بعض المخْلصين لدراسة التراث الكلاسيكي كثيرًا ما كانوا يتوقفون كي يتساءلوا عن قِيَم وأولويات أضيق صُوَر تدريس القواعد النحوية. كان الشاعر لويس ماكنيس دارسًا للتراث الكلاسيكي بحكم مهنته، وكان صديقًا لإي آر دودز وزميلًا له لبعض الوقت، وقد تعلم اللاتينية واليونانية في كلية مارلبورو في عشرينيات القرن العشرين، ثم اتَّجَه لدراسة التراث الكلاسيكي في كلية ميرتون، جامعة أكسفورد، ثم درَّس الموضوع ذاته في جامعتَيْ برمنجهام ولندن. وفي سيرته الذاتية التي كتبها على شكل قصيدة بعنوان «يوميات الخريف»، تحدَّث في تهكُّم عن الكيفية التي تمَّ بها تدريس هاتين اللغتين له، وعن المزيج المتمثل في مكانة المادة الراقية وتعلُّمه القائم على الاصطناعية النمطية والاستظهار، وعن ذلك يقول:
ليس هذا النقد لتدريس التراث الكلاسيكي صادرًا من شخص غريب على المجال، بل هو جزء من النقاش الدائر «داخل» دراسة التراث الكلاسيكي بشأن الكيفية التي ينبغي أن يتم تدريس الموضوع بها، علاوة على أنه يُعَدُّ (الآن) تمثيلًا للموضوع على يد أحد أشهر شعراء القرن العشرين. وعلى هذا، فهو يُعينُنا على أن نرى لماذا يجب على التراث الكلاسيكي أن يتضمن الكيفية التي يتم بها تدريس هذا التراث الكلاسيكي.