نار الكلمة
ولكن بأية نار تشعل ألفاظ رسائلك؟ وكيف ينبض القلم في يدك هذه النبضات الحية المتمثلة حتى ما يخالجني شك في أنه لو وضع على كتابك ميزان الحرارة؛ لجاءت درجته في حرارة قلب.
•••
أتجهلين …؟ يا بعد ذلك!
أتعرفين …؟ يا حب ذلك!
إنما تأتي رسائلي أيتها العزيزة من تحول الكهربائية التي في قلبي إلى ألفاظ؛ إذ يدفعها الشوق أن تكون عملًا مني بعد أن كانت عملًا منك وهي كالنور، لا يرى حتى يلبس ما يرى فيه، فتلبس الكهربائية ألفاظي وتتراءى.
وإنما تأتي المعاني التي أبدعها فيك من تلك العواطف التي تخلقينها أنت فيّ، وكما لا ينطق فم الإنسان من شفة واحدة: فكذلك لا بد للحب من اثنين؛ ليتكلم فم الحقيقة بكلام الحب!
وما أكتب لك حرفًا حتى أراك قبلُ في مرآة نفسي، وأتمثلني في مرآة نفسك، ثم أضع بيننا مرآة اللغة فتعكس مني ومنك أجزاء وصورًا تكون هي كلماتي.
ولو رأيتني وأنا أتلو رسائلك؛ لرأيت أنك لا تكتبين لي كلامًا، بل تزرعين في الورق زهر أنفاسك فيأتيني فأقرؤه. أي أقطفه … وبهذه الطريقة أكتب كلماتي، أي أزرع تنهداتي يا حبيبتي.
والخائف من شيء يرى لاسمه بعض عمله من تأثير الخوف على أعصابه، فاسم الثعبان عند من لُدغ مرة هو لفظ كالإبرة يمس مكان اللدغة؛ كلمة الذئب تعض … وكلمات الحب يا حبيبتي تتألم.
•••
لست أشعل ألفاظي ولا ينبض القلم في يديّ نبضات حية، ولكن هذا وذلك غليان دمي على أربع نيران، هي خيالي، وغرامي، والفكر الناري الذي هو أنت والجمال الذي أحمي على شبابك حتى بلغ درجة الاحمرار في خديك وشفتيك!
هو الوجد، ذلك الوجد الذي يوحي لكل عاشق بأنه إن امتنع على الفم أن يلقي في القبلة أنفاسه الحرى على وجه الحبيب، فليقابل وجهه بألفاظه الحارة في رسالة …
هو الجمال، ذلك الجمال الذي يريد التعبير عن نفسه تعبيرًا صادقًا حيًّا، فيتخذ العاشق هيأة فكر مثقلة بالآلام وتباريح الصبابة والشعر والخيال عاليًا عاليًا إلى الحكمة، أو نازلًا نازلًا إلى الرذيلة، أو هالكًا هالكًا إلى الجنون.
•••
إنما أضرب على أوتار نفسك ألمسها بأفكاري ونظراتي وأشواقي، وبأفراح المعرفة الغرامية وآلامها، وأخرج من ذلك أنغام حبي التي هي رسائلي!
إن لم تغلبني على الكون يا حبيبتي فقد غلبت على نظرتي إليه! فكل جمال في الكون هو رسالة منك إليّ، وبذلك أصبحت للعالم خلقة أخرى في مخيلتي، عليها أثرك الغرامي، وكأنما نحن عنصران منبثان في كل ما حولنا فما نمس شيئًا أو ننظر شيئًا إلا وضعنا فيه روحانية القلب.
ولن يكون الحب عشقًا ما لم يرتفع بالنفس عن ذاتها، ولا تسمو النفس عن ذاتها ما لم يعل نظرها إلى الأشياء، والنظر الإنساني لا يعلو بشيء إلا إذا ألبسه معناه الإلهي.
•••
أيكون الحب تنقيحًا في معاني الكون بالنفس وخيالاتها، أم في معاني النفس بالكون وحقائقه، أم كليهما؟
أم إني لأستروح أنفاسك وقد ناسمتني كرويحة الفجر عذبة باردة فما تزيدني إلا ضرامًا، كأنما تهب مني على جمرة ذاكية، ولا يكون الشعور بالحب ناريًّا ما لم يكن الحب نفسه مزجًا للنفس العاشقة بالكهربائية السارية في الكون، المالئة لنواحيه وأطرافه، النابضة بكل ما فيه.
وإذا كان هو الشأن فالوجود مقفل حتى تفتحه للرجل امرأة ويفتحه للمرأة رجل، ولا تزال معاني جماله في قناعها، وزخارف حلاه في أستارها، كمتاع القصر من وراء باب القصر المقفل على ما فيه، حتى يدور في قفل الكون مفتاح الحب.
النهار يفتح بالشمس، والليل يفتح بالكواكب، أما الحب فلم يفتح إلا بوجهك يا حبيبتي.
والشمس والكواكب نار؛ ولكنها على الدنيا نور، أما وجهك فنور، ولكنه على قلبي نار!
أتجهلين …؟
أتعرفين …؟