المتوحشة …!
«وكان يومًا في مجلسها فامتد بينهما كلام قالت له في آخره: أنت (متوحش!) وقال لها: وأنت (متوحشة!)، فلما ندر من مجلسها ذهب فكتب إليها هذه الرسالة»:
ماذا أقول في (متوحشتي) الجميلة: وما ظهرت منها على عيب أعيبها به إلا رأيته عند نفسي شكلًا جديدًا من أشكال جمالها، أو فنًّا بدعًا فيما حنيت عليه ضلوعي من هواها؛ إذ ليس بيني وبينها حدود تجعل منها ألفاظ النقد حدودًا لمعانيها؛ بل كل ما فيها من أشياء قلبي، ولو قالت لي: «أكرهك» لما وقفت الكلمة عند هذا الحد؛ لأنها من أشياء قلبي، فيكون معناها: أكرهك لأني مكرهة أن أحبك، أكرهك لأنك أخضعتني، وجعلتني مكرهة أن أحبك، أكرهك لأن كلمة «أكرهك» هي التي أظن أنها تخفي أمام نفسك تواضعي لك في نفسي!
•••
إلا أنه ليس في الحب نصف حب أبدًا، فليس في الحبيب أبدًا إلا كل الجمال، فليس معاني الجميل إلا أنها كلها جميلة.
وإن لمست يد الحبيب بأناملها لمسة حب، فهي يد الحبيب أفلا تكون هي بعينيها يد الحبيب. إن قرصت بأظافرها قرصة حب …؟
•••
قلت أيتها الحبيبة إني (متوحش) فإني كذلك: وإني لمتسعر الدم من حبك بفظاعة تجعله كأنه دم وحش فائر تتنزى به نوازيه للوثبة، ولن يكون الحب القوي إلا متوحشًا؛ لأنه ثورة قذفت في الدم الإنساني فيرتج فيه تاريخ القتال الوحشي الذي ينام في دمنا من إرث أجدانا، فإذا معركة مرسومة لامتلاك الحبيب لم يصنع فيها العاشق أكثر مما يصنع القائد إذا نشر خريطة حرب كانت عنده مطوية.
ومن العجب أن هذا الوحش النائم في الدم لا ينبهه إلا أجفى المعاني وأغلظها في سورة الغضب وجنون الغيظ، أو ألطف المعاني وأرقها في جمال الحب وخلاعة الجمال.
فالعاشق الرقيق على فرط رقته، هو لفرط رقته وحش في عاطفة الحب: ما منه فكر لو فتش إلا فتش عن معنى يفترس إذ يشعر بالحياة في نفسه لا غذاء لها إلا بمعاني حبيبته، فيأكلها حتى بالنظر، ويفترسها حتى بالخاطر!
ولو أننا تمثلنا أسدًا غرثان يطوي البر أيامًا، وهو يهفو على أثر خيال من أخيلة جوفه، ولكنه لا يجد الفريسة، حتى إذا انصفق جنبه على جنبه الآخر من الجوع فتقت له الهواء رائحة ظبية من قريب، ثم تمثلنا مع هذه الصورة عاشقًا مجفوًّا نالته نسمة من قبل حبيبته أو نفحته رويحة من عطرها، ثم ترجمنا ما أفز الأسد من معاني الظبية إلى ترجمة إنسانية، لكانت وحشية الليث في هذه الحالة هي بصورتها لهفة العاشق ولوعته، إلا أن ذلك معنى في وحش، وهذا معنى في إنسان.
•••
ولك صولة على وحشية وأنت بها غالبة أبدًا، حتى لا أستطيع في مغالبتك أكثر من أن أجعل خضوعي أحيانًا في صورة مقاومة …!
والحياة تدل بالوحش على أنها آكلة هاجمة مصممة غير رحيمة، وأنها الشدة تحت مس لين، وأنها القوة الغازية معبأة في إهاب، وأنها أسلحة قاطعة من اللحم والدم، فيا ليت شعري عنك، هل دلت الحياة بجمالك الفتان إلا على رقة قاتلة، ولين مهلك، ولطف معذب، ومعان كالأسلحة في لحمي ودمي؟
لا أثبت لك حبي إلا لتثبتي لي كبرياءك، ولا تقوم هذه الكبرياء ولا تثبت إلا بتعذيبي، والأساليب التي تخفين وراءها حبك بطبيعة الاحتراس الغريزية فيك، هي بعينها التي تعذبني بطبيعة الجرأة التي فيَّ، وما قالت امرأة مثلك عمن تهواه: إني أحبه! إلا وكأنها قالت: إني أعذبه!
ولقد تركتني وما أظفر منك بساعة رضا إلا رأيت في يدي معجزة، وكأني أمسكت من الزمن ساعة كانت هاربة في الأبدية!
وقد تعذبه في بعض دلالها أشد العذاب، وهي تحبه حبًّا ليس عليه صبر، كما كانت تفعل لو أنها كانت تبغضه بغضًا ليس فيه مبالاة، وبذلك تجمع عليه الشبهة والحقيقة، وما أمر عذاب من وجد الضروري له مستحيلًا عليه.
فأوجاع المحب وأحزانه كآلام الفريسة وأوجاعها، كلاهما بالغة السلبية في الحبيبة والمفترس: وصف كامل لسطوة وحش …
وإن حقيقتك لا تزال وراء آلاف وآلاف من ظنوني، كأنما لها هي أيضًا معنى اختباء الوحش في ألفاف الغابة وأشجارها فإذا أنت رضيت فأيسر ما توصفين به أنك جذابة إلى حدٍّ فظيع في التأثير، بل متوحشة في الجاذبية والسحر والفتنة.
وإذا أنت هجرت فأحق الكلام الذي توصفين به أنك في الهجر بلا رحمة ولا شفقة، متوحشة … متوحشة …!