جواب غريب
قال صاحبنا: فقرأت الكتاب سطوره وبين سطوره … وأعنت نفسي في تأويل كل عبارة وتعرف سببها الذي أتخيله، وتبين موقعها الذي أتمثله، وجعلت أتوجه بالكلام مستقيمًا تارة وملتويًا، ثم لا أجد الكلمة التي هي من جوارحي، ولا التي يقف عندها قلبي، ولا التي تقول لي أنا من لغتها، ولا الأخرى التي عليها أثر عينيها … وكنت في كل ذلك أرى الكتاب كأنه بين يدي يموت ويحيا من كثرة ما أقول: ليست هذه بل هذه، ولكن هذه … وجعلت لا أكاد آنس بكلمة حتى أجد الوحشة في التي إلى جانبها، وقدرت أن الجواب ربما كان جملة قصيرة أو كلمة مفردة، فصدعني ذلك تصديعًا ذا فنون وكأن مؤلفة الكتب كانت تعلم من علم الغيب أنها ستضرب بكتابها يومًا هذه الضربات على قلب إنسان من الناس، فكانت في تأليف كلامها تصد وتعرض، وفي ترتيب مقالاتها كأنها ترتيب ثورة غيظ من سببها إلى اهتياجها نشأتها إلى عنفوانها.
قال الصديق: ثم كأني كنت دائمًا في ليلٍ طويل وطلعت على وجهي الشمس ضاحية، فإذا أنا كنت أجتهد في غير طائل، وإذا الجواب في آخر الكتاب صفحات متلاحقة، فضلًا عن صفحة، فضلًا عن جملة، فضلًا عن كلمة؛ فكان هذا من ظرفها ومكرها معًا، انتهى.
لقد التقينا وسط جماعات المتفقين فيما بينهم للضحك من سواهم حينًا، والضحك بعضهم من بعضهم أحيانًا.
أنا منهم وإياك غير أن شبهك بهم يسوؤني؛ لأني إنما أقلدهم لأريك وجهًا مني جديدًا؛ وأنت، أتجاريهم بمثل قصدي أم الهزؤ والاستخفاف فيك طوية وسجية؟
ولكن رغم انقباضي للنكتة منك والظرف؛ ورغم امتعاضي للتغافل منك والحبور، أراني وإياك على تفاهم صامت مستديم يتخلله تفاهم آخر يظهر في لحظات الكتمان والعبوس والتأثر.
بنظرك النافذ الهادئ تذوقت غبطة من له عين ترقبه وتهتم به، فصرت ما ذكرت إلا ارتدت نفسي بثوب فضفاض من الصلاح والنبل والكرم، متمنية أن أنثر الخير والسعاة على جميع الخلائق.
•••
لي بك ثقة موثقة، وقلبي الفتيّ يفيض دموعًا: سأفزع إلى رحمتك عند إخفاق الأماني، وأبثك شكوى أحزاني، أنا التي تراني طروبة طيارة، وأحصي لك الأثقال التي قوست كتفي، وحنت رأسي منذ فجر أيامي، أنا أسير محفوفة بجناحين متوجة بأكاليل!
وسأدعوك أبي وأمي، متهيبة فيك سطوة الكبير وتأثير الآمر، وسأدعوك قومي وعشيرتي، أنا التي أعلم أن هؤلاء ليسوا دوامًا بالمحبين، وسأدعوك أخي وصديقي، أنا التي لا أخ لي ولا صديق، وسأطلعك على ضعفي، واحتياجي إلى المعونة، أنا التي تتخيل في قوة الأبطال ومناعة الصناديد!
وسأبين لك افتقاري إلى العطف والحنان، ثم أبكي أمامك وأنت لا تدري، وسأطلب منك الرأي والنصيحة عند ارتباك فكري واشتباك السبل، وإذ أسيء التصرف وأرتكب ذنبًا، سأسير إليك متواضعة واجفة في انتظار التعنيف والعقوبة، وقد أتعمد الخطأ لأفوز بسخطك عليّ فأتوب على يدك وأمتثل لأمرك! … وسأصلح تحت رقابتك المعنوية مقدمة لك عن أعمالي حسابًا؛ لأحصل التحبيذ منك أو الاستنكار فأسعد في الحالين، سأوقفك على حقيقة ما ينسب إلي من آثام فتكون لي وحدك الحكم المنصف.
وما يحسبه الناس لي فضلًا وحسنات فسأبسطه أمامك فتنبهني إلى الغلط فيه والسهو والنقصان.
•••
سأستعيد ذكرك متكلمًا في خلوتي، لأسمع منك حكاية غمومك وأطماعك وآمالك، حكاية البشر المجمعة في فرد واحد، وسأتسمع إلى جميع الأصوات علِّي أعثر فيها على لهجة صوتك، وأشرح جميع الأفكار، وأمتدح الصائب من الآراء؛ ليتعاظم تقديري لآرائك وأفكاري، وسأتبين في جميع الوجوه صور التعبير والمعنى لأعلم كم هي شاحبة تافهة؛ لأنها ليست صورة تعبيرك ومعناك، وسأبتسم في المرآة ابتسامتك في حضورك، وسأتحول عنك إلى نفسي لأفكر فيك، وفي غيابك سأتحول عن الآخرين إليك لأفكر فيك!
سأتصورك عليلًا لأشفيك، مصابًا لأعزيك، مطرودًا مرذولًا؛ لأكون لك وطنًا وأهل وطن، سجينًا لأشهدك بأي تهور يجازف الإخلاص، ثم أبصرك متوقًا فريدًا؛ لأفاخر بك، وأركن إليك.
وأتخيل ألف ألف مرة كيف أنت تطرب، وكيف تشتاق، وكيف تحزن، وكيف تتغلب على عادي الانفعال برزانة وشهامة؛ لتستسلم ببسالة وحرارة إلى الانفعال النبيل؟ وسأتخيل ألف ألف مرة إلى أي درجة تستطيع أنت أن تقسو، وإلى أي درجة تستطيع أنت أن ترفق؛ لأعرف إلى أي درجة تستطيع أنت أن تحب!
وفي أعماق نفسي يتصاعد الشكر لك بخورًا؛ لأنك أوحيت إليَّ ما عجز دونه الآخرون.
أتعلم ذلك، أنت الذي لا تعلم؟ أتعلم ذلك، أنت الذي لا أريد أن تعلم …؟
•••
هناك في تلك الزاوية الضائفة، حيث أقام القدر من دواهيه على صدري جدران الحديد ومعاقل الرصاص، وهنالك قرب حلول الشفق، برزت فجأة أمامي، وأخذت تتكلم عن معانٍ اختفت طي المعاني؛ وأشياء توارت في الأشياء، وممكنات حجبت في المستحيلات … وكانت يدك تتحرك متريثة متأنية فبدت الإشارات سحرية ساهية، كأنما هي انعكاس إشارات خفية على المرايا المتبحرة في مهجور القصر، وضاء الجو حولي بلألاء الشرف والأبهة والسؤدد، ومشى نظرك توًّا إليَّ يكتشف فيَّ جديد العوالم!
نظرت فعلمتني إعزاز الوجود، وأدركت أني ما تخيلت أجلي عند حينه إلا لأتشدد وأتحفز لوثبة كبيرة، كما يتنفس المتسابقون منتعشين متجددين قبيل خطير الأشواط.
فارتدت الحوائط قليلًا قليلًا، وتنحت الحصون مسفرة عن المروج والرياض، واتشحت الكائنات بنقاب وسيم لا تنسجه سوى يد الوجود على زعيم المتيمين! ولكن، أنى جاء الوجد؟
أنت لم تكن تهتم بي وأنا لم أكن أهتم بك، ولكن علام تشلُّ أوصال روحي للدنو من مكان حللته؟
وعلام اضطرابك وارتعاش يديك إذ تلمح خيالي عن بعد؟
أنت لم تكن تنظر إليَّ، وأنا لم أكن أنظر إليك، ولكن لماذا كانت تتبلبل خواطري، وأهرب عند قدومك؟
وأنت إن لم تستطع السكوت فلماذا يخرج صوتك متقطعًا متهدجًا كأنك تجاهد لتقهر تأثرًا ما؟
أنت لم تكن تعبأ بوجودي، وأنا لم أكن أعبأ بوجودك … ولكن لماذا كنت أخاشنك متعملة الإعراض وعدم الانتباه؟ لماذا وأنت مثال الوداعة والتهذيب، كنت تكفر لحضوري وتنقبض كمن يود أن يتجنى عليَّ أو كمن يخشى أن يرمي بالبشاشة والمجاملة، ثم يعود نظرك في المرة التالية يستصفحني عن زلته؟ أنا التي كنت أغتفر لك وأتناسى قبل أن تحدث نفسك بالاستغفار!
أنت لم تكن تفكر فيَّ، وأنا لم أكن أفكر فيك، ولكن لماذا كنت أحيد عن طريقك لئلا ألتقي بك، وأنا التي أود أن أبحث عنك في كل مكان؟ ولماذا كنت تتقن خطواتك إذ تعلم أني أراقبها؟ وتنغم نبرات صوتك وتنوعها إذ تعلم أنها واصلة إليَّ؟
أنت لم تكن لي شيئًا، وأنا لم أكن لك شيئًا، ولكن وجوه القائمين حولك كنت أراها متألقة بنورك، وأنت كانت تدهشك كل حركة مني كأنها لم يأتها قبلي إنسان!
أنت لم تكن لي شيئًا، وأنا لم أكن لك شيئًا، ولكن أليس أن إرادتك حلقت فوق خواطري كيد آمرة، فتقت لأجلها إلى الطاعة والخضوع؟ أَوَليس أنك كنت تحاول إرضائي وإثارة إعجابي حتى ارتفعت بذلك فوق ذاتك المألوفة فتجليت بهيًّا عظيمًا؟
من أنت؟ وماذا كنت؟ أكنت وحيًا من فيض شاعريتي المكتظة، وطيفًا من أطياف شوقي وعذابي؟ أم أنت حقيقة محسوسة مرت في أفق حياتي مرور السفن في البحر إلى الشواطئ النائية؟ …
لقد كنت وحيًا من فيض شاعريتي المكتظة، وكنت طيفًا من أطياف شوقي وعذابي، أنت حقيقة محسوسة مرت في أفق حياتي مرور السفن في البحر إلى الشواطئ النائية.
يا مهذبي …!