الغضبى١
لقد غضبت وكر هجرها على وصلها، وانشق لزمن زمنين، أحدهما مثلها غضبان مبتعد وكأنما كان لها خاصة، فلما ذهبت لحق بها.
إنه الحب يخلق بها خلقًا في وبزمنها خلقًا في زمني؛ ليشعرنا بهذا التغيير الخالق المتصرف أننا لا نتحاب في ذات نفسينا، بل في الجلال الأعظم الذي منه نفسنا ونفسي، فإذا تغاضبنا وقسمتنا أهواؤنا رجعنا قطعتين من المادة ليس في كلتيهما إلا قانون الثقل … وزادت عواطفنا وزنًا جديدًا من الغيظ!
•••
وإني لأحمل في غضبها من الهم ما لا أرهق بأوجع منه لو عاداني كل من معي وجفاني كل ما حولي، ولكانت والله قد هانت لو أنها غضبة عدو، ولكنها غضبة حبيب هو بحبه فيها.
•••
كلا كلا! لقد غضبت لتزيد في أسرار حبها سر الماضي، ولتمر على أيامها اللينة بمسحة من القسوة تخلق فيها إلى جمال الحقيقة جمال الذكرى.
وكانت … وتريد أن تأتي في الحب من وراء ما كانت فذهبت، وهذا في فلسفتها هو المجيء من وراء ما كان. فما غضبت إلا لتعطيني الرضا من بعد.
الفرح بالجمال لذة تقتل نفسها، ولا يمسك على الجمال روح النعمة خالدة في القلب إلا الحزن به أحيانًا: كيوم الغيم، ترى في سمائه قطعًا كأنها الهاربة من الليل، تختبئ الشمس فيها، ثم تسطع من بعد سطوعًا يُخيل إليك أنها ما توارت في خيمة الغمائم إلا لتنضو غلائلها الشفافة وتتعرى.
يريد الجمال المعشوق أن يثبت فينا فيغيب عنا؛ إذ كان بذله يفني منه على قدر ما يعطي فإذا هو امتنع وعز مناله كان جمالًا في نفسه بمعانيه وجمالًا فينا، بالمعاني التي هي فينا، وكان له من اجتماع الحالتين حالة جمال ثالث هي في ألم الرغبة المستمرة أو ألم الغيظ المجنون، ومتى خلق لنا الجمال من قصر الزمن طول الزمن، ومن المتاع بالحسن العذاب بتمنيه، ومن الحبيبة الراضية حبيبة هاجرة، ومن الحاضرة غائبة، فقد ارتفع عن إنسانيتنا، وجاءنا من ناحية سره الإلهي.
•••
ألا يا ثمرة أفرغت في قلبي عصيرها الحلو! لئن بقيت ثمرة في لغة نفسك فإنك القشرة في لغتي أنا …
•••
إنه ليس معي إلا ظلالها، ولكنها ظلال حية تروح وتجيء في ذاكرتي، وكل ما كان ومضى هو في هذه الظلال الحية كائن لا يفنى، وكما يرى الشاعر الملهم كلام الطبيعة بأسره مترجمًا إلى لغة عينيه أصبحت أراها في هجرها طبيعة حسن فاتن مترجمة بجملتها إلى لغة فكري.
كان لها في نفسي الجمال ومعه حماقة الرجاء وجنونه، ثم خضوعي لها خضوعًا لا ينفعني … فبدلني الهجر منها مظهر الجلال ومعه وقار اليأس وعقله، ثم خضوعها لخيالي خضوعًا لا يضرها.
وما أريد من الحب إلا الفن فإن جاء من الهجر فن فهو الحب …
•••
كلما ابتعدت في صدها خطوتين رجع إلى صوابي خطوة …!
•••
كلا كلا! فلا صواب مع مادة الفتنة، وهل يفتتن الإنسان إلا حين يظهر مجنونًا بأسمى ما فيه من العقل؟
أنا عاشق أضم الطبيعة في مهجتي مصغرة فأنا الأكبر … إن هذا لجنون ولكنه عقل … وأنا عاشق أفسر الطبيعة في هذه الحبيبة الجميلة فهي الأجمل … إن هذه لعقل ولكنه جنون!
وقد كانت لهذه الحبيبة نظرة معنوية هي مفتاحها في قلبي، وها هي ذي غضبى نافرة لا أراها ولا تراني، ولكن المفتاح لا يزال يدور في قفله … أجنون هذا أم عقل؟ …
وهي الحبيبة ولكنها كالعدو: صورة من أقسى ما في الطبيعة جاءت تمضي فيَّ قانونًا من عقوباتها؛ أعقل هذا أم جنون؟
لن يقال في الذي تحمله عاصفة وتطير به: إنه مسافر في طيارة …
ولا في الذي رأى صورة دينار في مرآة فحطم المرآة ليأخذ الدينار: إنه وجد شيئًا …
وفي المحب الذي يحطم قلبه على امرأة إنه وجد الحب …!
•••
كلا كلا يا قلبي! إن الغضب يجمع جنون الحب من شخصين في شخص واحد: هأنذا يحوطني الآن هدوء الأشياء، وابتسام الجمال الأزلي المفتر عن نور الدنيا: أنا في كل ذلك، ولست في هدأة ولا ابتسامة غريق في البحر ولا يبتل …!
لقد أصبحت أرى ألين العطف في أقسى الهجر، ولن أرضى بالأمر الذي ليس بالرضى، ولن يحسن عندي ما لا يحسن، ولن أطلب إلا في عصيان الحب! … أريدها غضبى، فهذا جمال يلائم طبيعتي الشديدة، وحب يناسب كبريائي، ودع جرحي يترشش دمًا، فهذه لعمري قوة الجسم الذي ينبت ثمر العضل وشوك المخلب، وما هي بقوة فيك إن لم تقو أول شيء على الألم …
أريدها لا تعرفني ولا أعرفها، لا من شيء إلا لأنها تعرفني وأعرفها … تتكلم ساكنة وأرد عليها بسكوتي. صمت ضائع كالعبث ولكن له في القلبين عمل كلام طويل …
أما والله ما أدري أحاجتي في حبها كانت إلى عزيمة أم إلى صبر أم نسيان أم خضوع؟
يا رواجف صدري! كل ذلك ليست منه فائدة ترجى، فإن حاجتي ألا أكون عرفتها من قبل!
ويا قلبي، ما هي المعجزة التي يمكن أن تمنع الأمر الذي وقع بعد ما وقع …
•••
كلا كلا! ما ذهب الحب، وإن الذي يكذب حبه بإظهار غيظه من الحبيب ليكذبه الغيظ، وإذا انتهى أمر من الأمر وبقي في نفسك حيًّا فما انتهى.
كلا كلا! ما استوفيتك يا رسالة الغضب، فما أكثرك عندي فنونًا، وما أوسعك معاني في نفسي.
كلا كلا! فلو أني كتبتك ملء ليل مظلم طال على محموم. ثم اطلعت هي عليك فأغضبتها ثم جاءت … جاءت تسألني … تسألني. أأنت كتبت هذه؟
آه، تالله إن أجبتها إلا؛ كلا كلا …
ولست أطيل في زينتك يا رسالة الغضب، فإنك كالنعش: لا يزينه قوم إلا ولهم ميت! … كلا كلا!