شجرات الشتاء
يممتهن اليوم فإذا هن ذابلات عليهن الضحى عريانًا، وكن من ورقهن في حلل الظل، وفيهن انكسار ذي العارية، وكان يتجمل بعاريته، ثم ردها فما يتوارى إلا من الأعين التي كان يتعرض لها من قبل … ويحس كأنه أصبح لحنًا من خطأ فاحش في لغة النعمة واليسار، لا يكاد يظهر نفسه إلا قيل له: يا غلطة تحتاج إلى من يصححها …
ورأيتهن واقفات في مثل ذلك الحزن النسائي الغرامي الذي يخلط المرارة في حلاوة المرأة الجميلة فتبدي عن عاطفة مسكينة لا يصورها لك إلا أن … أن تتخيل جزع لؤلؤة تخشى أن تتحول إلى حصاة.
ذليلات ذليلات كأنهن مطلقات الربيع …!
•••
وقالت لي صديقة منهن: لقد كنت في جانب منا، أفمنحرفٌ أنت إلى الجانب الآخر؟ وكان لك فينا من رأي الحب ما يكسونا مع كسوتنا، أفيكون لك من رأي البغض ما يجردنا مع كسوتنا، أفيكون لك من رأي البغض ما يجردنا مع تجريدنا؟ أم ستقول: طاووس انسل ريشه الجميل فرده القبح دجاجة، وشجرة سلبت زينتها فعادت كأن لم يخلقها الله، ولكن أقامها النجار … أما أنت رادنا إلى المسخ فمجرٍ علينا حكم الرجل على المرأة: متى قبحت في عينه قبحت في قلبه؛ إذ لا يطلب إلا معنى فيها تحت الرونق لمعنى فيه هو تحت الدم، فإذا هي لم تعد من إيمانه … كفى ذلك وحده أن يجعلها من كفره …
أظالمني أنت فتعرف لي ذلًّا بعد عزة، وتصف لي خضوعًا بعد كبرياء، ولا تضع بإزائي في ميزان قلبك إلا المعاني الثقيلة التي تلقيها تزن بها ما تكره؛ لكي تملأ نفسك منه بغضًا وكراهة؟
•••
كلا يا صديقتي! إنما تتحولين لأجد منك معنى جديدًا في نفسي. فكأنك تخرجين مني رجلًا في الربيع ورجلًا في الشتاء، وكأني أعرف بك كيف أتحول في بعض معاني الحياة من نسيم إلى عاصفة. أنت كالحبيبة المخلصة حين تبالغ في إصفاء الود، فتمتنع وتهجر لتهب محبها الفكر في جمالها كما وهبته النعمة بجمالها، فيصيب اللذة ومعناها، ثم يجد الشوق الذي يضاعف معناها. فإني رأيت الذي لا يفكر في معاني الجمال حين يمتنع ويبعد، لا يدرك كل معانيه حين يمكن ويدنو.
ومن امتلأ من فقد السرور، كان حقيقًا أن يكون هو الذي يمتلئ من وجوده، فاللذة لذة واحدة بنفسها، ولكنها تتعدد بموقعها وبحالتها، وبمقدار فهمها، وبقوة الشوق إليها، وما أشبه النفس في هذا المعنى بقصر العروس. إن لم تتقدم العروس معانيها فتزين القصر وتزخرفه وتكسوه، وتجعل في كل مكان منه جمالًا يومئ إليها، وزينة تشاكلها، وحسنًا يتمها أو يفسر منها — لم تكن العروس على القصر إلا أرملة …
كلا يا شجراتي، فلست ظالمًا فأجري عليكن حكم المرأة في شتاء حبها، فإن المرأة متى بردت … ظهرت كالسحب الثقيلة المطبقة بأرجائها السوداء: لها في سمائها لون الوحل قبل أن تستوحل بها الأرض … وبها من الظلمة ملء ليل طويل يموت فيه النهار الطالع وشمسه معًا، ويكلح بها وجه الحب، ويبرد ويظلم؛ لتكون في بلائها مادة إنسانية تقع منها صاعقة …!
آه لو أن شجرة لم تحمل كل أغصانها إلا من قشور الثمر المطروحة في الطريق؛ لكانت هذه المرأة أسخف منها، ولو أن شجرة حين أورقت لم تورق من جذعها إلى بواسقها وأعاليها إلا بأجنحة الذباب … ليتقذرها صاحبها، لأشبهتها هذه المرأة!
كلا يا شجراتي، فقد ذهب ربيعي مثلكن، ولم يكن ربيعًا في قلبي، فسأقضي شتائي، وأنتظر أنا وجذوري. إنه عهد ليس أشقى منه لوعة، ولا أسعد منه ذكرى إذا جعلنا نحن إلى حياة ليست في حياتنا، بل ذهبت عنا بحبيب نأى أو حبيب هجر.
•••
•••
أين الجزاء المسكر في الكأس إلا مع غير المسكر فيها؟ وأين المرأة الجميلة إلا مع مكروهاتها يغرك منها ما يغر؟
•••