في العتاب
«وكتب إليها مرة كتاب هوى، فتفترت في الرد عليه تريد أن يطول به الانتظار فيؤلمه، أو تريد أن تزيد به الشوق فيؤلمه، أو كأنها تطمعه بألا تطمعه ليتألم»!
كتبت إليك من أيام يشفع لها قربك من نفسي فلا أقول إنها بعيدة وتمر قديمة، ولكن ما في النفس منها ومن آلامها يجعلها دائمًا جديدة وكأنها تجري بي إلى الفناء فهي تطول إلى غير حد، وتأخذ معنى اليأس الذي يمضي به الأمس فتلقي به في معنى الأمل الذي يأتي به الغد، والأيام تعد بالأرقام، ولكنك أنت جعلت هذه الأيام تعد بأنها لا تعد …
وانتظرت رد كتابي، أو ورقة من شجرة عتابي، فما زالت تتقطع الساعة من الساعة، ويلتقي اليوم باليوم، ويذهب اللوم إلى العتاب، ويجيء العتاب إلى اللوم، وكتابك على ذلك كأنه مغمى عليه لا هو في يقظة ولا هو في نوم …
فسبحان من علم آدم الأسماء كلها لينطق بها، وعلمك أنت من دون أبنائه وبناته السكوت …، والسلام عليك في أزلية جفائك التي لا تنتهي. أما أنا فالسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت!
ما هذا يا سيدتي، وليس خيط عمري في إبرتك، ولا ما يتمزق من أيامي تصلحه «ماكينة الخياطة» بقدرتك، وإن كنت أنا أقل من (أنا) فلست أنت بأكثر من (أنت)، وما علمنا أنك مع القدر تحركت، ولا مع القدر سكنت!
أتحسبينك لما خفت (المحاكم)، في قتلي جعلت تقتلين بهجرك أيامي، ولما عرفت أنك من أشد سروري أردت أن أعرف كذلك أنك من أشد آلامي؟ أم أنت في نورك وظلامك تريدين أن تنقصي من الأعمار، كما ينقص منها الليل والنهار؟ أم تحسبيننا خلقنا بهذه الرقة؛ لنعرف بها كيف يتحجر قلبك ويجمد، وأنبتنا الله في مزرعة العمر؛ ليجيئنا منك صاحب المزرعة فيحصد؟ أم أنت خلقت في يد الله إرادة ماضية وخلقنا عليك اتكالًا، وجئنا على الطاعة شكلًا واحدًا وجئت أنت من يد الله في الكبرياء أشكالًا …؟
فإن كان قلبك يا سيدتي غير القلوب فما نحن شيئًا غير الناس، وإن كنت هندسة وحدها في بناء الحب فما خلقت أعمارنا في هندستك للقياس، وهبي قلبك خُلق «مربعًا» أفلا يسعنا «ضلع» من أضلاعه، أو «مدورًا» أفلا يمسكنا «محيطه» في «نقطة» من انخفاضه أو ارتفاعه، وهبيه «مثلثًا» فاجعلينا منه بقية في «الزاوية» أو «مستطيلًا» فدعينا نمتد معه ولو إلى ناحية …!
ما بال كتابنا يمضي «سؤالًا» من القلب فيبقى عندك بلا «جواب» و«نبنيه» نحن على «حركة» قلوبنا فتجعلينه أنت «مبنيًّا على السكون» ثم «لا محل له من الإعراب» … وما بالنا نقطع في انتظار الرد مسافة من هجرك لو طار فيها البريد؛ لانتهى بكتب الحسنات والسيئات إلى السماء، ولو طاف الأرض؛ لتقدم حتى لا يبقى في الأرض أمام، وتأخر حتى لا يبقى من الأرض وراء، فإن كنت تضنين أن توجهي إلينا من عرشك خطابًا، أو تنزلي علينا من سمائك كتابًا، فقد أقفل باب النبوة من قبلنا فما هذا الباب، واحتجب الوحي من زمن بعيد، فيا سيدتي ما هذا الحجاب؟
•••
لقد هممت أن أعاقب القلم الذي كتبت به إليك فأحطم سنه، وأجعله من ناحيتي في خبر (كان) حتى لا يبقى من ناحيتك في خبر (إنه)، وقلت: كف — ويحك — سودت وجه صحيفتي بما هو في سواده مداد مع المداد، وفي نفسه سواد أقبح من السواد؟ فقال: وهل أنا في (نغمات) حبك إلا «عود»، وهل صورت إلا حركات وجدك من قيام وقعود، وسل الدواة من أمدها، والصحيفة من أعدها، وسل أناملك كيف كانت تضغط عليَّ كأنها تسلم على الحبيبة سلامًا، ولا تخط إليها كلامًا، وسل نفسك كيف كانت في حركتي تضطرب، وقلبك كيف كان من كلمة يبتعد وفي كلمة يقترب؟
ولعلنا ولعلك … والسلام!