النجوى
•••
آه! وأنا حين أقول: آه، أحسبها شعلة تتلوى ذاهبة ممتدة في قلبي!
آه! وأنا حين أقول: آه، أشعر أن قلبي يمدها طويلًا طويلًا لتصل إلى قلب آخر!
آه! وأنا حين أقول: آه، أراني كأن روحي طارت إلى آخر مدها ووقعت!
•••
وكنا في يوم من أيام الربيع، وكل شيء حولنا يتكلم بلغة الشمس في لمعة وضوء وجمال، وفي الأزهار معانيها الغزلية التي بها وحدها تظهر الطبيعة في رقة امرأة عاشقة.
وفي الزمن ذاتية واضحة أشعرتني أن كل ما حولي هو تعبير يهم أن يتكلم.
وكأنما سقط قوس قزح من السماء، وماجت ألوانه بعضها في بعض فغطى الأرض ألوانًا شتى بأزهارها وأعشابها.
وكأن السماء مازجت قلبي في تلك الساعة فأضاءته بنور الفجر الندي العبق بالنسيم، الملون بالشفق، المتحرك بالسحاب.
وكنا في صباح جميل يشعرنا بكل ما فيه أن شمسه طلعت لنا وحدنا.
وكان كل شيء يرف ويزهو كأنه طبع بقبلة من شفتيها.
قلت: إن فيها «أحبك» وهذا يكفي!
قالت، وزادت في ضحكها: أعني أبغضك!
قلت: ولكنه بغض من تضحك كما أرى …!
قالت، وزوت من وجهها وتكلفت العبوس قليلًا: أعني …
فابتدرتها أقول: إن تكلف وجهك ينطق بأنه لا يعني …!
قلت: بل الآن وصل بي … ما دمت قد قلت «أعني أحبك» وأثبتها أنت فثبتت …
قالت، واستطلق وجهها: إني والله أجد من سروري أن أعجزك، ولكنك داهية لا تعجز، ولا يزال في لسانك جواب ما أقوله وما لم أقله!
فقلت: وأنا والله أجد من سروري أن أقدر، ولكن هل أقدر على ما هو مقدر؟ إن بعض كلماتك هي الآن كلمات، ولقد تكون غدًا حوادث!
فاعترضتني قائلة: أنت تنظر في نور من خيالك مع نور الطبيعة، فترى أشياء كثيرة غير الأشياء.
قلت: ولكنه هو النور الذي يقيد الطبيعة كلها بمنظر واحد …
قالت: أهو منظر جميل؟
قلت: بل الجمال بعضه …
قالت: وما عسى أن يكون باقيه إذا لم يكن الجمال إلا بعضه؟
قلت: إن في قلبي كلامًا يُسمع من غير أن أتكلم به، وفيه جواب سؤالك!
فاستضحكت، وقالت: وعلى هذا فهمت من غير أن أفهم … ألا قل لي، لماذا تكون لغتك هكذا؟
فقلت: لأن الحب يجعل كل سهلٍ واضحٍ في الأشياء غامضًا معقدًا في النفس، وهذا هو سره، وبهذا يرتفع عن الإنسانية، ويجنح إلى التأله، وبسره وتألهه يخلق كل ما يمسه في صورة ثانية مع صورته التي تقوم به، فيجعله بصورتيه من الكون، ومن النفس العاشقة أيضًا، وليس من شيء خلق مرتين، ولكن أشياء الحب كلها كذلك خلق ثم خلق.
ليت شعري، أيعذب العاشق المسكين بهذا التأله الخيالي فيكون عقابًا شديدًا بطريقة غير أرضية؟ أم ينعم به فهو ثواب عظيم بطريقة غير أرضية كذلك؟
إنه لسر عجيب رائع في قلب من تيمه الحب، يدل عليه أنه ما من عاشق إلا وهو يرى أن رضاه عن جمال حبيبته، وتكوين أوضاعها وتناسقها ومشاكلة بعضها بعضًا، كرضا الصانع عن صنعته، وافتنانه بما أبدع واخترع، وبما أتقن وأحكم، كأنه هو قدر وسوى، وسوى وخلق، ولو جاز أن يهبه الله القوة على أن يذرأ ويبرأ، ثم أمره أن يخلق لنفسه امرأة، لما صنع إلا هذه التي أحبها بكل ما يحبه فيها، وإن لم يستطع الحب أن يخلق إنسانًا فهو يخلق إنسانية.
بذلك لا يفهم هذا الحب إلا في أسلوب ملتو؛ لأن له طرفًا غائبًا وراء النفس، كالعود من الأعواد غمس أسفله في الماء فلا يتراءى للعين في صفحة الماء إلا ملتويًا متثنيًا، لا بعمل من ذات نفسه، بل بموضعه، وبتأثير أحكام الضوء في موضعه.
قالت، وضحكت: بذلك لا يفهم الحب، وبذلك استطعت أن تجعل لغتك هكذا …
قالت: يا ويحك! فإذا قبلت منك أني دولة عظمى، فكيف أقبل أني «أكاديمية» عظمى … حتى تجعل لي معجمات كثيرة؟ وترى ما الذي يمكنك أن تفسره من معجماتي؟
قالت: أسألك عن مستحيلاتي، ولكن ما هي ممكنات غزالك؟
ولكن آه من تعقيد الحب، إن الفيلسوف المتهزم الآن هو الأسد بلبدته وأنيابه ومخالبه، وبكل ما هو به أسد، والمنتصر هو الغزال بلينه ونعومته وبعينه الكحيلة، وبكل ما هو به غزال!
قالت: آه! ولم تزد.
•••
قلت: آه! أنت يا حبيبتي فيَّ، وأشعر بك دائمة الاندفاق والانصباب في نفسي، كأنك جمال لا ينتهي، وكأني عشق لا يمتلئ، وأنت خارجة عني وبي شوق دائم النزوع إليك، يخيل إليَّ والله أنه ملء الكون لا ملء صدري: وأنه لا يزال شاردًا متسحبًّا على الوجود كله لا يجد ما يستقر عليه، مع أنه واجدك، ومع أنه حائم عليك، وما ذلك إلا لأنك دائمة الدلال، أي دائمة الانحراف عن لمسات قلبي، أي دائمة الاهتزاز بمعانيك الجميلة، كيلا تثبت صفة منك على صفة مني، كيلا نتعانق حتى ولا في المعاني.
أنت اثنتان عندي، وليس في يدي من واحدة شيء، وإذا كثرت الآمال؛ لتكثر حسرات الإخفاق عليها، فلماذا لا تقول إن الأمل هو الاسم الصحيح للخيبة؟
كأننا نعيش في أمس، يجيء يلبس كل يوم من أيامنا لا قوة تناله فتنزعه، ولا قوة تناله فتبليه، فما تزال تتجدد من تحته أيام الحب في سر منا، ونعطي كل يوم عالمنا، ولا نأخذه، ولا نتلقاه!
كأننا في يوم هجر خالد علينا، فكل ما يأتي بعده من الأيام ميت فيه لا محالة؛ إذ أيام الحب إنما هي بنسبتها إلى الحبيب لا إلى الزمن.
كأن هذا الحب قد ضرب بيننا وبين الحقائق بسور ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبلة العذاب، فكل ما رأيناه رأي العين من فرح الأشياء ولذاتها، علمناه في علم أنفسنا أوجاع مكابدة وآلام حرمان …!
•••
قلت: وأما قبل فكأنما أنا المكان الحي الذي تئن فيه الأشياء أنينها الباكي، وتبتغي فيه موسيقى الحب من أوتار متقطعة متبعثرة إن جاءت بشيء فبأنغام موتى أو مرضى، وإني لأحسب الدنيا كلها تصدح من حولك تلقين فيها النغم، ثم لا تحبسين الصمت إلا لي أنا وحدي.
قالت: أف للشاعر من الشاعر نفسه! أنت كما تريد من الحياة مسرة لابتسامك تريد منا آلامًا لعبوسك الشعري، وإذا لم تجد الألم أوجدته واخترعته، كأنه لا بد لمن يصنع شعرًا أن يصنع مقادير يفرح بها ويحزن!
ما أراني أفهم عنك حين تقول: السماء والطبيعة وهي، والشمس والقمر وهي، والخير والشر وهي: فأنت وحدك تفهم هذا؛ لأن للشعراء شياطينهم، فلك مثلهم شيطان يحدثك وتحدثه، وترى ما اسمه.
قلت: اسمه «هي» …
وكأنما كان الشيطان غائبًا في سفر طويل، ورجع عند ذكر اسمه، فلما رآها هي اسمه ألقى فيها سحرًا من سحره فإذا على ثغرها برهان ثغرها … وقالت: اسكت!
قلت: لقد عرفنا الشيطان باسمه …
قالت: اسكت!
قلت: ما يسكتني ولا الشيطان نفسه.
فمدت إلي نظرة طويلة كلها براهين على قوة هذا الشيطان الفاتن، وقالت: اسكت اسكت!
ثم لا أدري ما الذي أسكتني حينئذ … أحسب أن الشيطان سد فمي بفمه! …
•••
آه! وأنا حين أقول آه! أحسبها شعلة تتلوى ذاهبة ممتدة في قلبي!
آه! وأنا حين أقول آه، أشعر أن قلبي يمدها طويلًا طويلًا؛ لتصل إلى قلب آخر!
آه! وأنا حين أقول آه، أراني بعدها كأن روحي طارت إلى آخر مدها ووقعت، آه!
قلت: وانظر ما كتبنا عن ذلك في ص ١٦٥ من كتابنا (حياة الرافعي).