البحر
لقد كنت والله من وثاق المرض كالسجين المغلغل: يحمل على أعضائه أعضاء من قيود وسلاسل، فلا يجد كل الأمكنة أوسعها وأضيقها إلا جسمه والجسد الحديدي الذي فيه جسمه، وكأنه من الكرب لم يقيد، وإنما أقفل على روحه من ذلك الحديد بقفل يكف هذه النفس، ويحول بينها وبين الدنيا.
فلما احتواني البحر جعلت سلاسلي تذوب فيه شيئًا من شيء في يوم من يوم، ثم كأنها لم تكن إلا آثار لون أسود فغسلها البحر ومحاها، أو كانت جمرات ألم أحمر فأطفأها وسال عليها.
ألا ما أعجب رحمة الله! فبينا هموم الإنسان في موضع هي أشد اندماجًا من الحديد، إذا هي في موضع غيره متخلخلة أسرع ذوبانًا من الملح المبتل: كأن مكانًا يلبس أنفسنا، ومكانًا يخلع عنها، أو كأن الأرض بتباين أمكنتها وبقاعها تقابل الأقدار في اختلاف عللها وتصاريفها، حتى يكون السفر من بلد إلى بلد أحيانًا كأنه تحول من قدر إلى قدر.
•••
ولكن أيها البحر! ما هذا البريق الذي تسطع به حتى لكأنك تحت الشمس أرض من الزمرد والفيروز والماس؟
وما هذه الرقة في هذا الأديم الذي تتعرى به حتى لكأن كل موضع فيك عليه بضاضة وإشراق من جسم فاتنة عارية؟
بل ما هذا التوحش في هذا الموج الذي تزأر به زئيرًا يتردد في كل نواحيك حتى لتلوح كل موجة من كل موجة كأنما هي لبد أسود بيض غاطسة في الماء يحمل بعضها على بعض للقتال؟
وما هذا الهدوء ساعة تستقر في جو خافت كهمس التسبيح فتبدو كقلب المؤمن رسب في أعماقه اضطراب الظن بالحياة، وطفا على اطمئنان التوكل على الله؟
وما هذه الثورة ساعة تستقر في جو صاخب كمعمعة المعركة، فتظهر كالمخبول ثارت خواطره فهن كأمواجك مبعثرة طائرة، وكأن زوبعة سكنت فيها؟
•••
ولكن أيها البحر! هل يقال لك: ما هذا؟ وما هذه؟
كلا، فما أنت إلا كذلك الجمال المعشوق: يسطع ويرق ويتوحش ويهدأ ويثور، وله الأشعة الزاهية البراقة، والعري الحريري المخمل، والزئير والهمس، والأعاصير والزوابع، ثم لا يسأل في كل هذا ولا مرة واحدة: ما هذا؟ وفي كل هذه ولا مرة واحدة: ما هذه؟
•••
ورأيت يا حبيبتي هذا البحر مضيئًا ممتدًا كأنه نهار أبدى أمسكته الدنيا؛ لينير النور في قلوب أهلها فإن النور يظلم فيها.
ورأيته كالمعاني الندية بثها الله من رحمته في جفاف الحياة ومعانيها، ورأيته استواء واحدًا في وضع الجمال، ليس فيه موضع أعلى من موضع.
ورأيته دائم الترجرج كأنه متهيئ أبدًا؛ ليسكب معانيه في فكر الناظر إليه.
ورأيته لا يحمل أن يوضع لإرادته حد فهو دائمًا يصدم الشاطئ كأنه يقوله له: اذهب من هنا …!
•••
رأيت فيه كل هذا؛ لأن مثل هذا كله في جمالك أنت وفي معانيك.
فأنت بجمالك المشرق لمعة من نهاري.
وأنت بعواطفك رحمة من الله لقلب لولاك لجف.
وأنت بحسنك لؤلؤة كلها وضع واحد في الحسن.
وأنت دائمة الترجرج في خواطري دائمة الانسكاب في قلبي.
وأنت لا تحتملين أن أضع شاطئًا لإرادتك.
وأنت، أنت، أنت …