من قلمها
فلسفة تأخير الرد
أخرت جواب رسالتك؛ لتجيب عني بظنك، وستجيب بأنواع متناقضة مما يسوؤك ويسرك، وتضع في أجوبتك مائة «نعم» ومائة «لا» … ثم يأتيك بعد كلامي فينزل من نفسك منازل لا منزلة واحدة؛ إذ تقابله بكل ما قدرت في نفسك من قبل، فيسرك على قدر ما أحزنت هذه النفس، ثم يعطيك من اليقين ما يسرك من ناحية بإثبات الحقيقة، ومن ناحية أخرى بمحو الظن!
هذه سياسة بعض ما يحتاج إلى الشرح في بعض علاقات النفوس يكون السكوت الطويل فيها هو أول شرح للكلام الذي يأتي بعده … يفسره تفسيرًا غير مكتوب …!
طفولة فلسفية
أظن هذه الفترة التي انقضت في سكون ظاهر كانت كلها أحاديث، أحاديث طويلة لو تعلم.
إذا أنا سألتك مرة: أين البرهان؟ لم يعجزك أن تأتي به من بلاغتك، وقد لا تكون ثمة قضية يقوم برهانها، ولكنك تجعل البلاغة الساحرة نفسها قضية على ما ترسم، كأنك مهندس منطق … وبذلك تطمئن دائمًا؛ لتأثيرك قوة براهينك، أي لإقناعي أنا راضية أو غير راضية …
أما أنا فأقدم برهاني بسذاجة الأطفال الذين لا يعرفون ولا يستطيعون إلا أن يكونوا أطفالًا … وأقوى برهان الطفل أن يكون الطفل نفسه برهانًا عليه، فما عساك تقول؟ أترى الطفل هو عندك أيضًا قضية بلاغة؟
لله من الكناية إليك! ما أشدها طربًا وأشدها صعوبة في وقت معًا! فأنا أخاف لأنك تستشف من الأحرف ما لا يتبينه سواك من الصفحات، وغريب أنني — مع شدة هذا الخوف — لا أكاد أمسك القلم حتى أسير به أو يسير بي أو نسير معًا: ليس في أحدنا تروية ولا حذر، كأنني أخاطب نفسي، أو هو يكتب مذكراتي، أي من قلبي لقلبي. أتعجبك هذه الطفولة في الحديث؟
نعم هي ألفاظ كالتي في ألسنة الأطفال، لا كتلك التي في الكتب أو في صناعة البيان، ولكن إذا أنت لم تغض عن ظاهرها فأين إذًا الحفاوة بالمكنونات التي لا يراها إلا من خبئت له؟
قياس الأشياء في الحب
كم أراك تحتاط بطريقة ناعمة لا تصدم كبرياء النفس إلا قليلًا! ولكن أيذهب عنك أنها حين تصدمها قليلًا تكون صدمتها وكفى …؟
إذا كنت على ثقة من هذه القضية، فانا الآن راضية عن هذه الابتسامة الطويلة التي أثق أنك تبتسم بها، وإن كنت لا أراها!
البربرية
باركت الوخزة التي فجرت منك هذه الآيات الساحرة، وكدت أدعو لك بالآلام والأوجاع ما دمت لا تكتب إلا من جرح … أتعجبك تمنيات هذه الصديقة البربرية؟
ألا فليهنأ بك هذا القلم الذي أوتيته، فإن ما كتبت به سيبقى دائمًا على آفاق هذه اللغة سحابة وحي تحمل تنزيلها.
وتالله من يتذوق طعم هذه الحلاوة التي تقطر بها براعتك؛ ليظل من بعدها في جوعٍ دائم إليها كجوع الأغنياء للذهب.
أراك تبتسم الآن بسمة الرضا: أفيعجبك ثناء هذه الصديقة البربرية؟
السيد
تقول: إن حبك مسرف، وعداوتك مقتصدة، وإن هذا الحب كخضوع المستبد، والاستبداد في نفسه قوة، فهو إذا خضع كان واثقًا أن خضوعه قوة أيضًا، وإن هان وإن ذل.
يا صديقي السيد … نعم ثم نعم، ولكن كلمتك تجعلني أرى في صلتنا هذه نوعًا من تطفل الفتاة على سيادة الرجل؛ إذ تقتحم بها الفتاة، وإذ تجرؤ على ألا تضع هذه الصلة فوق موضعها الطبيعي؟ إن هي إلا خضوع وطاعة وعبودية للسيد …
أليس كذلك أيها السيد؟!
أما والله إن الرجل مهما يغلب نفسه، ويحملها على الرقة؛ ليصلها بنعومة الأنوثة من جانبها المصقول الناعم، فلا بد أن تغلبه نفسه مرارًا حتى تظهر حقيقته الجافية الخشنة التي خلق منها ولها …
ولو أن حجرًا أحد جوانبه ماس ثمين، وسائر جوانبه الأخرى حجر، ثم مسته الحياة فتمثل بشرًا سويًّا؛ لكان رجلًا متحببًا متظرفًا مثلك يا سيدي، وهو من جانب واحد يعتبر الحب، أي الماس، ومن ثلاثة جوانب يعتبر السيد أي … أي الحجر …!
السيد أيضًا
لا يسؤك أيها الصديق! فوالله ما أنا بالتي ترغب الإساءة إلى عدو، فكيف بها إلى صديق وإلى صديق عزيز؟ أيغضب السيد من وصفه بالسيد؟
ولكن ما كانت الصداقة لتحمل في يدها ميزان العدل لكل كلمة، وكل معنى، وكل إشارة؛ بل إنها لتصفح كثيرًا عن كثير لتجعل الحق الذي لها أن تستوفيه كاملًا كأنه حق عليها تؤديه كاملًا، فتكبر بتسامحها وتنمو.
كن أنت الحاكم على نفسك انتصافًا؛ لما ظلمت به نفسًا أخرى.
وإني أهز يدك بقوة تؤكد لك أن حرارة الإخلاص هي أبدًا قوية من أنها إخلاص، متجددة من أنها قوية، باقية، ما من أنها متجددة، وبكل هذا هي الحب وهي الصداقة!
هو المرض ولكن
نعم هو المرض الذي استحق مني كل هذه العناية، ولكنه المرض على أنه في جسمك …
أنا إنسانية أعطف على كل أحزان العالم، ولكني لو تألمت لكل المتألمين؛ لما أثاروا في نفسي إلا الجزء الأصغر مما تثيره فيَّ آلام صديق.
لو تألمت بنفسي أو لنفسي لاحتملت، ولكن ألمي بك، وشفاءه فيك، فهو ألم وجزع واضطراب، أتألم بثلاثة من حيث لا تتألم أنت إلا بأحدها …
نعم هو المرض الذي أثار فيَّ كل هذا، ولكنه المرض على أنه في جسمك!
جو طليق وحرية
أنا كما تقول: في الجو الطليق، وفي حريتي المعبودة؛ يحويني الفضاء وأحويه، ولا قيد ولا حد، ولكن مع كل هذا فهناك هناك في الجو جاذبية، وهنك للحرية أشواق، وما يعين لنا حدود مسراتنا إلا آلامنا …
أضيفت كلمتك … إلى سجل هفواتك في حق هذه المخلوقة التي لا ذنب لها سوى طيبة نفسها، ومن استحق أن تكون طيبة نفسه من ذنبه فقد استحق أن تكون من عقابه عند نفسه أتريد مني التوبة عن أن أكون لك طيبة النفس؟
افتح للشمس
أعجب لقلبك، يأبى إلا أن يحتبس فيَّ هذه الفكرة المظلمة التي توهمك أني أسأت إليك، وقصدتك بالمهانة … هل القلب يعادي صاحبه أحيانًا فيعاديك قلبك، ويأبى عليك إلا أن تصر وتكابر، وتغلق النافذات كلها، ثم تذهب تتهم الشمس؟
ما حيلة الشمس في الحيطان والأبواب التي أنت تقيمها؟ افتح لها تدخل إليك!
طفل الحب
كيف قلت عن الطفل الذي أشرت إليه؟ أما تعلم أنه طفل خبيث لا يستحق الرحمة الواجبة للأطفال من كل طبيعة، وأنه ذو مكر، وأنه ذو دعابة، وأنه يريد كل شيء قبل أن يفكر في إعطاء شيء؟
إنه يظن أن كل ما يعطاه فإنما يطعاه؛ ليجعله ألعوبة ومعرض عبثه، يلهو به، ويسخر منه إذا كده اللعب أغمض عينيه ونام؛ ليجد من الأحلام لذة لعب آخر … ثم لا يلبث أن يهب من نومه فزعًا خيفة أن تكون ألعوبته قد أخذت منه، ولكنه يجدها فينقلب إلى زهوه، ويكون فزعه كذلك فنًّا من اللعب: ألمثل هذا الطفل تفتح ذراعيك؟
ولكن، ما أكرم عاطفة الرجل الذي يكون في ساعة من الساعات ألعوبة طفله العزيز! إنه في الحقيقة عالم جميل من الرجولة القوية يكتشفه الطفل ساعة يلعب به … وفي هذا اللعب يكتشف الرجل كذلك في طفله عالمًا آخر أبدع وأجمل عالمًا من عواطف قلبه.
الطفل وذئبه
تريد أن أوافقك على ضرورة إيجاد الذئاب لبعض الأطفال …؟ هذا ما لا أسلم به إلا إذا أصبح الذئب حملًا، وتغير فهم اسمه ومعناه.
لست أرى من الواجب أن توجد الطبيعة إلى جانب الطفل شيئًا مما يخيفه، ومع هذا فالطفل جبان يخاف حتى من تغريد البلبل إذا سمي له البلبل بغير اسمه، وصلصلة السلاح تخيف الطفل كالسلاح، ذلك بأنه لا يقوى لا سلبًا ولا إيجابًا، لا على أن يثبت لما أمامه، ولا على أن يفر مما أمامه …
أيعجبك هذا أم أنت تريد أن تنكر عليَّ هذا الحق الذي أسلبه منك؛ لتعرف قيمته حين أرده إليك …؟
من بعيد
أكاد والله أنسى أنني بعيد عنك هذا البعد كله، بُعدًا يتقاذف بكلماتي مسافات ومسافات إلى أن تؤدي إليك شعوري، ولا أعلم هل يسلبها البعد هذه الصيغة الحقيقية التي أراها لها وأنا أكتبها، وأراها لها حين تتركني ذاهبة إلى البريد؟
وأنا — على هذا البعد — يوم أقرؤك أراك وإنك لأقرب إليَّ ممن هو أقرب إليَّ، وأشعر بالكلمات حارة متنفسة بين يدي كساعة كتابتها، كأن قلبي كان عندك وأنت تكتبها فلما جاءته جاءته على عهده بها!
هناك — مهما ابتعدت — دائرة أنس لنفسي تسكن إليها وتتعلق بها، ولا تجعل محيط أفكارها إلا منها، فأنا بنفسي في هذه الجهة البعيدة التي تفصلك عني، ولكني بها أيضًا في المكان الذي أنت فيه.