وهم الجمال
هذه رسالة أحسبها قد برئت في معناها من السلوة والحب جميعًا، وخرجت بموضعها عن الرضا والغيظ معًا، ولم تجئ من برد على الكبد، ولا من حرة في الصدر، فلا يخيل إليَّ فيها أني أنسكب في تعبيري كما كان يعتصرني هذا القلم في غيرها حنينًا وغرامًا أو سخطًا وموجدة.
أكتبها وقد تكافأ جانبا الحب في نفسي هونًا هونًا، واعتدلت مقاديرها شيئًا شيئًا، فلا أعتد بسبب تصغر به الحقيقة الكبيرة، أو تكبر الصغيرة، أو يجاوز بمعنى حده، أو يقصر بمعنى آخر عن حقه، ولا أحجر فيها على كلام صحيح أن يتصرف بقدر أدلته وبراهينه؛ لما أخشى من سوء موقعه في الحب، ولا أطلق فيها لكلام مزور أن يتزايد في مغالطته وكذبه؛ لما أرجو من حسن أثره عند الحبيب.
وأكتبها وقد خرجت إلى دنيا الناس، وكنت في الحب وإياها كالمنقطع في صحراء ضل فيها ضلال القفر، واختبل من خبال الوحشة، فهو يرى اجتماع اثنين في ذلك التيه وقيامهما معًا كأنه تكوين دولة من الدول العظمى …
•••
إن البلاغة التي كتبت بها رسائلي من قبل، وما احتلت لها به، وما صورت من فنونها — هي بعينها التي تنتهي في هذه الرسالة إلى أن جمال المرأة الجميلة، ليس في ذات نفسه إلا أسلوبًا من الخداع، كالذي يكون في تزويق الكلام وتمويه الحقيقة ببلاغة التركيب، غير أنه أسلوب حي في لحم ودم، ثم تزيده المرأة بفنونها وتعمية؛ لأن جمالها في صورة أخرى من صوره الكثيرة هو نفسه الرقق والاستعباد محببًا في خلقة جميلة؛ ليطلب ويعشق. استعباد حي متى بدأ استمر يقوى ولا يضعف، وينمو ولا ينقص، ومن هذا كان قيد الجمال لا يفك أبدًا إذا غل به أسيره من العشاق، بل يكسر كسرًا، ويصبح فيه أمر العاشق من حبيبه كالاستقلال في الأمم المستعبدة: لا يعطى بل يأخذ، ولا بد فيه من الجرأة والمصابرة والاقتحام وسلاح من الأسلحة أيها كان، إما حاطمًا أو مفزعًا أو متهددًا أو محتالًا أو سلاح الرضا أو سلاح الثمن … وما إليها لا بد من سطوة ينقلب بها الأسير المستعبد إلا أن يكون مالكًا بوجه من وجوه التملك في تلك المنطقة الإنسانية السحرية المسماة في لغات الناس بالحبيب …
•••
فكأن الجمال في حقيقته وسيلة طبيعية لخداع صورة بشرية بصورة بشرية مثلها؛ ومتى كان كذلك فلا حقيقة له في الوجود، ولم يعد صورة في الطبيعة، بل عملًا أداته الصورة، ومن ثم فلن يكون الحب إلا إسرافًا لا قصد فيه، وخيالًا لا عقل له، ولن يكون في حقيقة بل في وهم، ومن ذلك ظن فلن يكون أبدًا إلا تغييرًا في معاني الصورة الجميلة! فإن الإسراف لا يثبت على حد محدود، والخيال لا يقف عند شيء حقيقي، والوهم لا ينحصر في معنى صحيح.
وكل شيء جميل في الطبيعة تراه يتخذ من هذا الأصل شبهًا عند متأمله والناظر فيه، حتى لكأن الجمال يقول للإنسان: إذا أردت أن تسر أيها الإنسان وتبتهج بي، فلا تفهمني في نفسي أنا بل في نفسك أنت، ولا تأخذني على ما أنا للوجود والطبيعة بل على ما أكون لك ولأغراضك، ولا تدعني لذاتي بل غيرني في وهمك وخواطرك، فإنك إن غيرتني فقد خلقتني، وإن خلقتني فقد جعلتني لك.
•••
وعلى ذلك الأصل فجمال المرأة المشوقة إن هو إلا خرافة رجل من الناس، وبكونها خرافة عادت لا حقيقة لجمالها، وكأن الحب إن هو إلا زيادة شعاع في العين تنظر النفس به نظرًا نافذًا إلى موضع لذتها أو فِكرها أو هواها، فإذا خطف هذا الشعاع على من يضيء في وجهه بالحب، نقل إليه النفس ببقيتها ووهمها جميعًا فاختلطا على تلك الصورة فهما هناك شيء واحد: الوهم هو اليقين واليقين هو الوهم، فكل شيء من ذلك الجمال هو عقيدة ثابتة لا موضع فيها لجدل، ولا مساغ لنقض، ولا محل لرد، وحينئذ لا يكون أكبر عمل المحبوب في سياسته وتدبيره إلا أن يلم أو يوفق بين عقله هو وبين جنون عاشقه، وأن يحاول الملاءمة بين حياة الخيال الشارد في إرادة هذا المجنون وبين حياة الواقع الراهن فيه هو، وبذلك فلن ترى حبيبًا إلا هو من محبه بمنزلة الطبيب من مريضه، يطب له أو يزيد في علته، أو يهلكه … هذا حين ينبعث ذلك الشعاع، فأما حين يخمد فمنذا الذي تراه مطيقًا أن يصعد السماء إلى النجم الذي انطفأ؛ ليضيئه كما كان يضيء …؟
•••
ولو بقيت عين المحب على عنصرها؛ لكان الجمال في روح الجميل وشمائله وطباعه لا في وجهه وجسمه وزينته، ولعل أجمل نساء الأرض حينئذ لا تكون إلا عجوزًا من العجائز … ثم عسى أن تكون أشد النساء فتنة أشدهن قبحًا ودمامة، وأبعثهن في معاني الشهوات على النفرة والجفوة والاشمئزاز، وهذا إن لم يكن هو الواقع في اعتبار العين والخيال والحب، فهو الواقع في اعتبار الفضيلة والحقيقة والكمال.
•••
إنما التركيب الجميل في الشكل الفاتن إتقان للكذب بهذا الشخص على حواس عاشقه، وهو لن يحب ويعشق حتى تكون معاني هذا الاتقان موزعة على تكوينه وقسماته وتقاطيعه ومعارفه ومجاهله … كأن جسمه بكل ما فيه عبارة مركبة يؤخذ المعنى من جملتها كلها، ولكن كل جزء فيها يسوق إلى هذا المعنى، ولذا تظهر الصورة الجميلة الفاتنة كأنها انتباه نفسي محتفل مستوفز يشد ويتوثب ليزيد، ويتكسر ويتقتل ليزيد أيضًا، ويخلق حوله من الثياب والزينة والفتنة جو الأشعة والألوان والنفحات ليزيد كذلك.
وهل رأيت قط كذبًا يصلح كذبًا أو خداعًا يكون خداعًا إلا وهو قائم على مثل هذه الحال من التنبه في النفس؛ ليتغطى ولا ينكشف، ويبقى ولا يضمحل؟ ثم هل رأيت قط شبيهًا لمن أضل رأيه وصوابه في وجه فاتن يعشقه إلا ذلك الذي أضل حذره وفطنته حين أحكمت له الخديعة في حلاوة الظاهر، وطلاقة الكذب، وتبرج الحيلة في زينتها حتى غفل ووقع؟ فهذا كما ترى.
•••
وعندي أنه لو شبه العاشق وجه حبيبه بالصحراء المجدبة المقفرة قد ضل فيها رشده وضربته بكل جهاتها وضاع في معناها الأبدي معنى عمره الوقتي؛ لما رضيت له الحقيقة غير هذا التشبيه المنطبق المحكم، ولا رأت أقرب ولا أدق ولا أبدع منه، ولكن الوجه الجميل كذب ظاهر ولا يلائمه إلا كذب مثله، ومن هنا فاض الشعر وأصبحت أوصاف الجمال كلها تمويهًا على الغرير، وتزويرًا للبشريه في غير حقيقتها وتلبيسًا على روحانية الإنسان، وعاد الوجه الجميل كالصالح المنافق: صالح ومنافق معًا، أي منافقان في شخص واحد …!
•••
والطفل يرى في أمه البداية والنهاية جميعًا؛ لأن طفولته ستار بينه وبين ما وراءها، وكذلك العاشق: يرى في حبيبته بداية ونهاية معًا؛ لأن حبه ستار بينه وبين ما عداه، يحصره بين أول وآخر في امرأة واحدة، أفلا يكفي هذا دليلًا على بلاهة العاشق وغرارته، وأن الحب كالانتكاس إلى الطفولة في جهة واحدة من جهات النفس؟
وترى الصغير إذا فارقته أمه نظر حوله؛ ليستشف ما انفصل من آثارها المحبوبة على كل الأشياء التي فيها حنين نفسه، وكذلك يفعل المحب في كل ما مسته حبيبته، حتى كل شيء عليه لمحة منها، حتى ليرى بعض الأشياء يكاد يبتسم له، وبعضها يرنو إليه، وبعضها يكاد يتيه ويتدلل ويصد …
وحول الحبيبة، تتفق لعاشقها كل عناصر الحياة المتناقضة إذا شاءت هي، ومنها هي أيضًا تختلف هذه العناصر إذا شاءت، كأنها — أي الحبيبة — حياة لحياته لا مقصر له عنها، وكذلك أمر الطفل من أمه ووهمه فيها.
•••
خلقت المرأة لتلد الإنسان، وهي تلد هذه الحقيقة في الإنسانية، ولكن وجهها يلد في الإنسانية الضلالة …
ولا أدل على وهم جمالها وأنه في نفسه وفي نفسها لا أثر له — لا أدل على ذلك من أن تتراءى الجميلة في مرآتها؛ ثم تنظر نظرتها الساحرة ترف بالقبلة من شفتيها على شفتيها في المرآة …
أما إنها وهي القبلة التي تلقيها الشفاه الحمراء شعلة منها في القلب أو الفكر، وهي القبلة التي احتوت روح الخمر في سيالها المعنوي، وهي القبلة … هي القبلة!
ولكن الجميلة حينئذ ستقول: إنه لا بد من رجل مغفل؛ ليخلق هذه المعاني للقبلة، ويسمي من جنونه تلك الحركة الطبيعية للشفتين باسم مجنون.
ومن ثم فما يعرفه الرجل جمالًا منها إنما هو فن جسمها، أي تعبير تكوينها عن حقائقها النسوية ومجاوبته بمعانيها على ما في نفس الرجل من معان تقابلُها. هذه المعاني الصامتة والصارخة معًا … والتي نسميها تسمية غير مكشوفة وغير مغطاة أيضًا — هي التي نضع لما يشعرنا بها، ويستهوينا منها لفظ الجمال؛ فيكون بذلك مفهومًا وغير مفهوم …
•••
قلنا: فلعله لذلك لا تتجمل إلا الجميلة؛ ليتم بها نفاق الشيطان …!
وإنما أثبتنا هذا التعليق؛ ليوقن من لم يوقن بأن من الممكن أن يأتي الوحي بأسمى البيان، وأعلى الحكمة، وأعجب البلاغة، متى كانت النفس مختارة مصطفاة. كالذي أوحي من الكتب المنزلة، فليس يشك في ذلك إلا غبي بليد الحس لا يدري ما هو البيان وما الإلهام، ولسنا نزعم أن ما رأينا هو من هذا القبيل، وإنما هو الدليل على إمكانه لا غير.
قلت: في هذا التعليق شيء يكشف عن نفس الرافعي وإيمانه ويقينه، وفي كتابنا «حياة الرافعي» فصل ضاف يجد القارئ فيه تمام الحديث عن هذا الموضوع بعنوان: «من شئونه الاجتماعية».