القمر١
«وكانت تأنس بضوء القمر، ويعجبها نوره على الحديقة خاصة، فسألته أن يناجي هذا «الجميل» في رسالة، فقال: حبًّا وكرامة «للقمر» … وكتب».
إني لأراك أيها القمر منذ علقت معاني ما أرى، ولكني لم أعرف أنك أنت كما أنت إلا بعد أن وضع الحب فيها بينك وبين قلبي وجه من أهواها، كما يوضع التفسير إلى جانب كلمة دقيقة …
عندئذ وصلتك قرابة الجمال بوجهها فاتصل بك شعوري؛ وبتّ على بعدك في أفلاك السماء تسبح أيضًا في دائرة قلبي، واستويت متسقًا كأن عملك لي أن تتمم فن جمالها بإظهارها أجمل منك، وأمسيت عندي ولك مثلها شكل السر المبهم المحيط بالنفس المعشوقة: يدخل كل جمال في تفسيره، ولا يكمل تفسيره أبدًا!
ومن شبهك بوجهها أزهر الضوء فيك ما يزهر اللحم والدم فيها، فتكاد أشعتك تقطف منها القبلة، ويكاد جوك يساقط من نواحيه تنهدات خافتة، وتكاد تكون مثلها يا قمر مخلوقًا من الزهر والندى وأنفاس الفجر!
•••
أما قبل حبها فكنت أراك أيها القمر بنظرات لا تحمل أفكارًا.
كنت جميلًا، ولكن جمال ورق الزهر الأبيض، وكنت في رقعتك المضيئة تشبه النهار مطويًّا بعضه على بعض حتى يرجع في قدر المنديل، وكنت ساطعًا في هذ الزرقاء ولكن سطوع المصباح الكهربائي على منارة قائمة في ماء البحر، وكنت زينة السماء ولكن كما تناط مرآة صغيرة من البلور إلى حائط فتشبه من صفائها موجة ضوء أمسكت ووضعت في إطار معلق!
وكنت يا قمر … كنت ملء الوجود، ولكنك ضائع من فكري!
•••
وأما بعد حبها فأمسيت أراك أيها القمر ولست إلا طابع الله على أسرار الليل في صورة وجه فاتن، كما أن كل وجه معشوق هو طابع الله على أسرار القلب الذي يحبه.
فأنت جميلٌ جمال الجسم البض العاري، تكاد تشبه صدر الحبيبة كشفت أعلاه فظهر في بريق الفضة المجلوة.
وأنت فاتن تحاكي في ضوئك وجهها لولا أنك بلا تعبير.
وأنت زينة السماء، ولكن السماء منك كمرآة سحرية اطلعت فيها حورية من حور الجنة فأمسكت خيال وجهها في لجة من النور، فأنت خيالُ وجهها!
وأنت يا قمر … أنت ملء الوجود، ولكنك أيضًا ملء فن الحب …!
•••
أتذكر أيها القمر إذ طلعت لنا في تلك الحديقة … وتفيأتَ بنورك عليها فغمرت أرضها وسماءها بروح الخلد، حتى وقع في وهمنا أنك وصلتها من سحر أشعتك بطرف من أطراف الجنة فهي ناحية منها؟
أتذكر وقد لمستَ فكري بضوئك لمسة نور فأظهرتها لي كأنها في جمالها الطاهر شكل ديني وُضع ليكون مثالًا لعبادة القلب الإنساني؟
أتذكر إذ نزلت علينا بآيات سحرك فخيلت لي أن العالم قد تحول فيها إلى صورة جميلة مرئية أمست لي وحدي، فملكت العالم كله في ساعة من حيثُ لم أملك إلا الحب؟
أتذكر ساعةَ جئتها بها مِن فوق الزمن، وكان فيها للحديقة جو من زهر، وجو من قمر، وجو من امرأة أجمل من القمر والزهر؟
•••
أترى يا قلبي كأن في الوجود الذي حولنا أنوثة وذكورة فهو بالقمر تحت الليل يعبر عن نفسه تعبيرًا نسائيًّا في منتهى الرقة؛ لأنه قوي شديد، وفي غايته التفتر؛ لأنه مشوب متضرم، وفي كمال الدلال؛ لأنه في كمال الإغراء، وفي أقصى الحياء؛ لأنه يبعث بهذا الحياء فيما حوله أقصى الجرأة؟
تعبيرُ امرأة معشوقة جميلة ترف بأندائها وليس فيها إلا صفات، وبالشمس على النهار يعبّرُ الوجود عن نفسه تعبير رجل مقدام ليس فيه غيرُ القوة والحركة والاندفاع.
أترى يا قلبي كأن مدينة الحياة في النهار بصراعها وهمومها تحتاج إلى قفر طبيعيٍّ يفر إليه أهلُ القلوب الرقيقة بضع ساعات، فلذلك يخلق لهم القمر صحراء واسعة من الضوء يجدون فيها بعد تلك المادية الجياشة المصطخبة روحانية الكون، وروح العزلة، وسكينة الضمير، ويبدو فيها كل ما يقع عليه النور كأنه حي ساكن يفكر.
أترى يا قلبي كأن ضوء القمر صنع صنعة بخصائصها؛ ليبعث في القلوب معاني القلوب الروحية من الفكر والحب، كما صنع نور الشمس؛ ليبعث في الأجسام قواها، ومعانيها المادية من الحياة والدم؟ …
أترى يا قلبي كأن هذا القمر إنما يلقي النور على الحلم الروحاني اللذيذ الغامض الذي يحلم به كل عاشق من أول درس في الحب، ساعة ترسل الحبيبة إلى قلبه رسالة عنها، ولا يحلم بمثله في غير العشاق إلا أعظم الفلاسفة، وفي آخر دروس فلسفته، وبعد أن تكون الليالي الطويلة قد أطلعت في سماء عمره قمرَ الشيخوخة من شعره الأبيض؟
أترى يا قلبي كأن هذا القمر في الحب (تلسكوب) يكبر نوره العواطف حين تبث في ضوئه، فلا يطلع على حبيبين أبدًا إلا كبر أحدهما في عين الآخر؟
أترى يا قلبي أنه ليس في الحب إلا عواطف مكبرة يثيرها دائمًا وجه الحبيب، فلا بد أن يكون دائمًا وجه الحبيب طالعة فيه روح القمر؟
أترى يا قلبي …؟ آه … أترى؟