تعاليم فيثاغورس
الطائفة الفيثاغورية
نظرًا لأن أتباع فيثاغورس لهم مواهب وميول طبيعية مُتباينة تباينًا واسعًا فقد بدَا من غير العملي ملاءمة حياة الطائفة للجميع على نحو واحد؛ لذلك وزَّع تلاميذه في فئات مختلفة باختلاف المزايا والمسئوليات والامتيازات، وكذلك حسب مناهج التعليم المُطبَّقة بالنسبة لكل فئة. واستطاع بذلك توفيق المقرَّر الدراسي ليتلاءم مع طبيعة كل منهم.
وكان أول مظهَر للتمييز هو التمييز بين الإقامة الكاملة مع الطائفة، وبين أولئك الذين يَسكُنون المناطق المحيطة ويَلتزمون بمتابَعة محاضَرات فيثاغورس بانتظام. وإذا شئنَا الدِّقة في الحديث نجد أن الفريق الأول يَحمِل اسم الفيثاغورِيِّين، بينما الفريق الثاني اسمه أتباع فيثاغورس، على الرغم من أن هذا التمييز نادرًا ما يبدو واضحًا ومفهومًا للغرباء، وكان الفِيثاغورِيُّون يخضعون لفترة امتحان ومحاضَرات صارمة طويلة قبل الإقرار بقبولهم على نحو كامل، واعتادوا العيش بشكل دائم معًا، وأن تكون ملكياتهم مشترَكة، ويتطلعون إلى بلوغ حياة فيثاغورية كاملة.
ولكن أتباع فيثاغورس فقد كانوا على العكس؛ إذ كان من بينهم أبرز شخصيات كروتون ومُدن أخرى في جنوب إيطاليا، واعتادوا قضاء وقت أقل في الدراسة؛ نظرًا لمسئولياتهم الأُسرية والسياسية ومَهام مشروعاتهم التجارية. واعتادوا الاستماع رجالًا ونساء إلى محاضَرات فيثاغورس دون السماح لهم بالمشارَكة في الحوار أو المحاجاة. ونظرًا لعدم توفُّر وقت لازم لديهم للبحث والتأمل، فقد ساد اعتقاد بأن المعارف التي قد يَتحصَّلون عليها من خلال المقرَّرات الدراسية المتقدِّمة ستكون غير كاملة ومليئة بمظاهر سوء الفهم، ومع هذا كله استفادوا هُم أنفسهم، وأفادوا أقرانهم من مواطني بلدهم فائدة جمَّة بفضل تعريفهم ما ينبغي عليهم فعله.
وينقسم الفِيثاغورِيُّون نزلاء المجتمع المحلي إلى فريقين، فريق يضم الرجال والنساء الذين أكمَلوا دورة الرياضات والمجاهَدات واسمهم التلاميذ ومسموح لهم بتجاوُز الحجاب ليشهدوا السيد مباشرة وهو يُحاضِرهم. وتنسدل ستارة بعرض قاعة الاستماع التي يتحدَّث فيها فيثاغورس بحيث تَحُول دون رؤيته. وتعلَّم التلاميذ قوانين وبراهين العلم والإلهيات، ويتمتعون بكل الفُرص الممكنة للنفاذ إلى أعماق الحكمة.
وثَمَّة وجْه آخر للتمييز بين التلاميذ والمستمِعِين؛ إذ يَجري التفرقة بينهم على أساس ميول كلٍّ تجاه أفكار بعينها في مجالات المعرفة؛ إذ انخرط بعضهم في مجال دراسة الأخلاق والتجارة والتشريع ويُسمَّون السياسيِّين، وهناك مَن درسوا الهندسة والفلك ويُسمَّون الرياضيِّين؛ وهناك آخرون نذروا حياتهم بشكل خاصٍّ للتأمُّل والطقوس الدينية ويُسمَّون أصحاب الفضيلة أو السماحة.
ويَخضَع كل راغب في الالتحاق بالجماعة في كروتون لامتحان قاسٍ قبل قبوله مقيمًا داخليًّا، ويسأل فيثاغورس أول ما يسأل عن علاقتهم بالأبَوَين والأُسرة، ثم يلحظ ثانية نَغمة الحديث والضحك، ويستفسِر عن الرَّغبات، وعن الصداقات، وكيفية قضاء وقت الفراغ، وأسباب الشعور بالبهجة أو الحزن. ويَحرِص على ملاحَظة أوضاع كلٍّ في جلسته أو مشيته وشكْل وحركات الجسم؛ لأنه كان يرى في كل ذلك إشارات واضحة للعيان على صفات الرُّوح. وبعد أن يَخضع كل مرشح لعملية الفرز الدقيقة هذه تَجري دعوة المُؤهَّلِين للقبول للالتحاق بالطائفة كمستمِعين لفترة سنوات ثلاثة، ويعمِد فيثاغورس خلال هذه الفترة إلى مراقبتهم بدقَّة لمعرفة طبيعة شخصية كلٍّ منهم وعاداته، وتقييم إمكانية المرء للاستسلام لرغباته أو انفعالاته، ومدى تأثُّره بالنِّزاعات أو مشاعر الإحباط، ويَختبر رغبة المرء في تحصيل المعارف وشعوره بالزَّهو، ويُولي قيمة كبرى لخصال الكرم، والتَّكتُّم، والتواضع.
وبعد تَقصِّي كل هذه المظاهر السلوكية يوجِّه فيثاغورس اهتمامه إلى طبيعة ذاكرة المرء وسهولة التعلُّم لديه. ويَختبِر قدرة كل امرئ على تَتبُّع ما قال بسرعة ودقة، ثم يستكشف ما إذا كان الحافز رغبة صادقة وحبًّا خالصًا من أجل استيعاب المذاهب والنُّظم المعروضة عليه، واعتاد التأكيد على أهمية العقل المتفتِّح، وهذا هو ما سمَّاه الثقافة، ورأى أن الطبيعة المناوئة لذلك إنما هي رافضة للتعلم؛ ولهذا تقترن دائمًا بالكسل والتعصُّب.
وبعد العام الثالث يُطلَب من كل مَن ثَبت عدمُ أهلِيَّته بسبب إخفاقه في أيٍّ من هذه التفاصيل؛ ترْكُ الطائفة. وأما مَن بقي وثبتَت أهلِيَّته فيلتحق بنظام التَّلمَذة؛ ونظرًا لأن فيثاغورس اعتبر إمساك اللسان أصعب تَحدِّيات المرء، فقد كان لزامًا على المستمِعين التزام التَّكتُّم والصَّمت الكامِلَين خلال هذه المرحلة لمدة خمس سنوات، ويَتخَلَّون عن كل ممتلكاتهم للطائفة وتكون تحت إمْرَة الأُمناء، وبعد خمس سنوات من الصَّمِت يَجري إلحاق مَن قَبِلهم فيثاغورس بالطائفة تحت اسم التلاميذ، ولكن إذا حدَث بعد طقوس التَّطهُّر الكثيرة والدروس على مدى فترة طويلة من الرياضات والمجاهَدات أن تَبيَّن أن أحد المستمعِين بطيء في تعلُّمه، أو فاقِد للثقة بنفسه، أو أنه على أي وجه من الوجوه غير مؤهَّل لمتطلَّبات الحياة الفيثاغورية؛ فإن الجماعة ترفُضه. تُعلِن الطائفة عن إبعاده وتُعطيه ضِعْف الثروة التي مَنحَها سابقًا للطائفة، ثم يَجري إقامة نُصُب؛ تكريمًا له وكأنه تُوفِّي، وبعد ذلك يتعامَل معه الفِيثاغورِيُّون باعتباره غريبًا إذا حدَث وأن التقى به أحد منهم؛ ذلك لأنهم يُؤمِنون بأن الجزء الخاص به الذي شارَكهم الدراسة والتعبُّد مات.
وأوضح فيثاغورس أن قواعد التهذيب وضبْط النفس الاستثنائية التي يفرضِها على المُريدين ضرورية للتخلُّص من أهل الشهوة والنَّهَم والإفراط في المُتع وهي أمور تَطمِس القدرة العقلانية الطبيعية للروح، وقال: «الإفراط تتولَّد عنه الشهوة والسُّكر والانفعالات الجامِحة، وهي أمور تُلقِي بالرجال والنساء إلى هاوية ما لها من قرار.» وقال أيضًا: «النَّهم يُولِّد الغيرة والسرقة والاستغلال، ويتعيَّن استئصال كل هذه الأدغال التي تَغص بها الرُّوح، والسبيل إلى ذلك الالتزام المُنظَّم بتشذيب وتدريب النَّفس. إن العقل الذي تحرَّر مِن مثل هذه الشرور هو سبيلُنا الوحيد لكي نتمكَّن مِن غرس ما هو خير ونافع داخل الروح.»
واتَّبعت الطائفة نظامًا صارمًا، وأوْلَت الطائفة اهتمامًا خاصًّا لوقتَين اثنين في النهار؛ ساعة الصَّحو وساعة الاستسلام للنوم، ونَصح فيثاغورس تلاميذه بالالتزام خلال هذين الوقْتَين بالمراجَعة الدقيقة لأنشطتهم وتأمُّل كل ما دار، وشجَّعَهم على ترديد الأشعار التالية عند اليقظة والالتزام بتعليماتها بدقة:
ويتألَّف طعام الغداء عادة من الخُبز، وعَسَل النحل، أو أقراص عسل النحل بدون نبيذ، بعد ذلك يَستقبِلون الضيوف. وجدير بالذِّكر أن هؤلاء الزائرين لهم أماكن خاصة بالزيارة لا يَتعدَّونها، وتقتصِر الزيارة على فترة زمنية قصيرة، ويخرج الفِيثاغورِيُّون بعد الظُّهر للممشى، ولكن ليسوا فُرادى كما كان الحال صباحًا؛ إذ يخرجون مَثْنى أو ثُلاثَ؛ حيث يعيد أحدهم على مسامِع الآخر محفوظاته أو يَختبِر كل منهم الآخَر فيما يتعلَّق بتدريبات وممارَسات الصباح الباكر.
ومع اقتراب المساء يَستحِم كل من النُّزَلاء، ثم يجتمع الشَّمْل في القاعة المشترَكة لتناوُل طعام العشاء، ويؤدِّي كل منهم هنا طقوس سَكْب الماء للأرباب مع تَقْدِمات من الأعشاب والبخور، ويُتبِعون ذلك بالعشاء الذي ينتهي عادة قبل غروب الشمس. ويَقتصر طعامهم على الأطعمة النباتية، والأعشاب والخضروات الطازجة نَيئة أو مَغلِية، وفطائر الشعير والخبز. وبعد أن يفرغوا من عشائهم يَصُب المسئول عن النبيذ بعضًا منه بعد أن يُرتِّل أكبرهم سِنًّا بعض المأثورات الأخلاقية المقدَّسة؛ مثل: لا أُقسم أيمانًا باسم الأرباب، أو إذا بدأت مسيرتُك فلا تَراجُع أو عودة إلى الوراء، ونجد بعضًا من هذه المأثورات محفوظة في القصيدة المعروفة باسم النَّظم الذهبي.
وعَقِب وجبة العشاء يجتمع التلاميذ في قاعة الاستماع؛ حيث يستمعون لمحاضَرة من فيثاغورس، ويَصطَفُّ التلاميذ وفقًا لمراتب ومنزلة كل منهم؛ التلاميذ في المُقدِّمة أمام الفيلسوف، والمُستمِعون وأحبَّاء فيثاغورس في الخَلْف، وقد أُسدِل ستار بينهم وبين الفيلسوف، ونادرًا ما يَقلُّ عدد الحضور عن سِتِّمائة للاستماع للمحاضرة، وعَقب المحاضَرة يتفرَّق التلاميذ كلٌّ إلى صومعته، أو إلى بيته في الأحياء القريبة من المدينة.
المعرفة
وأكد فيثاغورس على شيء واحد له الأولوية والأسبقية على تفاصيل هذا المقرَّر؛ إذ أكَّد أولًا على أهمية التعلُّم في ذاته. ورأى من العبث النظر إلى العقل باعتباره أهم ملكاتنا دون بَذْل جهد كبير لتنميته وتطويره. وأحصى سِتَّ مزايا للمعرفة تَفُوق كل الخيرات الأخرى؛ مثل: السُّلطة، والشهرة، والجمال، والقوة.
المجتمَع أيضًا؛ ذلك لأن اكتشافات الفلاسفة
تصبح مِلكية مشترَكة بين الجميع.
بدون المعرفة نعجز عن الاستمتاع بمنافع
الخَيْرات الأخرى.
الناس.
أو الطبيعة وَسائل التقدُّم في الثروة
أو السُّلطة، ولكن الجميع يملكون القُدرة
على التقدم في المعرفة.
شهرة خالدة على عكس البَدن الذي يَنحَلُّ ويموت
على الرغم من كل ما نبذله من رعاية له.
الآخَرِين.
رمز سِرِّي خاص بالعبادة السِّرية أو القَسَم باسم الواحد – اتبع الذي يفيض منه الوجود، إنه فكرة رياضية ورمز ميتافيزيقي يشتمل في داخله على مبادئ العالَم الطبيعي، وتناغُم الكوزموس، ويتصدَّره المقدَّس الواحد، وأسرار العالم القدسي.
وألزم فيثاغورس تلامذته بعدم تسجيل تعاليمه كتابة، مؤكِّدًا أن موضوعات بحثه ودراسته إذا ما أُتيحَت لغير المُريدين أو بدون مساعدة من مُعلِّمين مدرَّبِين ستكون غير ذات قيمة، بل ربما تَضرُّ مَن يَطَّلع عليها عن غير عِلم بأسرارها، ورأى أن الكشف عنها في صيغتها الفيثاغورية المُعتادة سيكون مَدعاة لأقاويل تَصفها بأنها هُراء أو حُمْق، وإذا حدَث وعَمَد أحد إلى تبديلها أو تغييرها لكي تكون يسيرة على الفَهم، فإنها ستفقد معناها أو تغدو أقوالًا مُبتذَلة، وإذا عرَضَها أحد للبيع، فإن قيمتها سوف تنحصر في المُساوَمة على ما يجنيه البائع من ربح.
ونتيجة لذلك حافَظ الفِيثاغورِيُّون على تعاليم السَّيد طَيَّ الكتمان، ومِن ثَمَّ إذا ما ضُبِط أي من المريدين يتحدَّث عنها وسط العامة يتم طردُه من الطائفة. ويحكي التراث أن أحد الفِيثاغُوريِّين خَسِر ثروته، وحاوَل تعويض خسارته عن طريق تعليم مَذهب الأعداد الصَّمَّاء، أو يمكن القول عن طريق تعليم بعضٍ من اكتشافات فيثاغورس الهندسية مُدَّعيًا أنها له هو، ويقال إن القوى الإلهية غَضبَت لهذا، ولَقِي الرَّجُل حتْفَه غرقًا على أيدي الآلهة.
لذلك نجد أن مِن ممارَسات الفِيثاغُوريِّين الإعلاء من قيمة الكتمان وتنمية قدرات المرء على الانتباه وتَقوية الذاكرة، ويرجع في الحقيقة تقدُّمُهم في المعرفة إلى قدرتهم على استيعاب وتذكُّر ما سمعوه؛ ولهذا أوْلَوا تنمية الذاكرة اهتمامًا عظيمًا، كما كان يتعيَّن عليهم امتلاك ناصية كل عنصر من عناصر التعليم قبل البدء في الجزء التالي منها.
وحقق منهج فيثاغورس التعليمي نجاحًا كبيرًا حتى أضحَت مدرسته مؤسَّسة تدريبية تدرَّب عليها جيل من الفلاسفة العظام يندرج بعضهم في مصافِّ أعظم المفكِّرِين القريبين نفوذًا، وجدير بالذِّكر أن من بين هؤلاء «الفلاسفة الطبيعِيِّين»؛ من أمثال: إمبيدوقليس، وبارمنيديس، والفيلسوف الأخلاقي إبيكارموس، والمعلِّم الديني الكريتي إبيمينديس.
الروح
وتُغادر الروحُ البدنَ عند الموت، ويقودها إلى خارج الأرض هيرمس، رب مُجنَّح ذو قدمين، يسميه فيثاغورس «حارس البوابة»، ويُرافق هيرمس الأرواح الطاهرة إلى سِدْرة المُنتَهى في أعلى عِلِّيين، بينما يَسجِن الأرواح الدَّنِسة الملوَّثة مع أرواح الانتقام تحت الأرض في أسفل سافِلين، وهناك أرواح تحرَّرَت من أجسادها تَسبَح في كل أنحاء الفضاء، وهذه هي الأرواح الحارسة التي تعيش جنبًا إلى جنب معنَا، تهدينا وتتدخَّل في شئون حياتنا، وتصوغ أحلامنا، وتَهَبنا الصحة، وتصيبنا بالمرض، ولنا أن نستحضرها للنبوءات، وعند التماس الرأي والحكمة، وعند شعائر وطقوس التطهُّر.
وعرف على سبيل المثال أنه إيفوريوس وهو مُحارِب خاضَ حروبًا بطولية في حرب طروادة، وكثيرًا ما اعتاد التَّغنِّي بأشعار من نَظْم هوميروس التي تصف موت إيفوريوس، وكان يُغنِّيها على أنغام القيثارة.
وبعد وفاة إيفوريوس انتقلَت روح فيثاغورس إلى جسد رجل يُدعَى هيرموتيموس. وإذ أراد هيرموتيموس أن يُبَرهِن على هُويَّته ذهب إلى مَعبَد أبوللو في برانكيداي على ساحل آسيا الوسطى؛ حيث نذر مينيلاوس درع إيفوريوس بعد أن بَلِي ليكون تَقدِمة عَقِب انتصاره في طروادة، وكان هيرموتيموس واقفًا خارج المعبد يصف تفاصيل الزخارف العاجِيَّة التي يتحلَّى بها الدِّرع وهي كل ما تبقَّى منه، وأحضره ليراه مَن بالخارج وكان مصداقًا لوصفه له. وعقب وفاة هيرموتيموس عادت روحه إلى بيرهوس وهو صياد من ديلوس.
ولم يكن بمقدور فيثاغورس أن يستعيد ذكريات حَيواته الماضية فقط، بل كان بمقدوره كذلك النفاذ ببصرِه إلى أرواح الآخَرِين، وحدَث ذات مرة أن رأى كلبًا يضربه رجل بقسوة شديدة فاندفع نحوه وأمسك بصاحب الكلب، وهو يقول له: كُفَّ عن ذلك، أعرِف من صوت صيحات الكلب أنَّ بداخل جسده روح صديقي الراحل إبيديس. وفي مرة أخرى حدَّد بأن روح ملك فريجا الأسطوري المدعو ميداس تسكن جسد ميلياس من كروتون، وسبَق أن سافر ميلياس، بناء على إلحاح فيثاغورس إلى آسيا لأداء شعائر الغفران عند مقبرة ميداس.
وجدير بالذِّكر أن تعاليم فيثاغورس عن الروح امتد نفوذها إلى أبعد من العالم الهيليني حتى وهو لا يزال على قيد الحياة. ونذكر على سبيل المثال أن أحد تلامذة فيثاغورس واسمه زالموكسيس، وقد سُمِّي كذلك؛ لأنه اعتاد لبس جلد دُبٍّ، نَقَل معارفه إلى وطنه تراكيا في أقصى الشمال الشرقي لليونان، وبدأ زالموكسيس حياته بالعمل عبدًا لدى الفيلسوف، ثم عتَقَه والْتَحَق بعد ذلك بالطائفة الفيثاغورية، واكتسب محبة فيثاغورس الذي أوْلَاه عنايته، ولقَّنه تعاليمه السِّرية التي تمثِّل سِرَّ الأسرار، كما علَّمه فن شفاء المرضى.
وعاد زالموكسيس بعد ذلك إلى شعبه وأهله، الجيتاي وحدَّثهم عن خلود الروح، وأوضح لهم كيف يمكن شفاء البَدن عن طريق تطهير الروح. وتم تنصيب زالموكسيس بعد ذلك ملكًا على جيتاي. وعَقِب وفاته احتل موقع الرب الأعظم في البانيثون؛ أي معبدهم الجامع لأربابهم، واستشعر الناس الأمان والحياة بلا خوف والقدرة على مواجهة الأخطار، والشجاعة في التصدِّي للأعداء بفضل إيمانهم بأن الروح خالدة، باقية بعد الموت.
الصداقة/المحبة
وعلَّم فيثاغورس تلاميذه أن كل امرئ مسئول عن الالتزام بقانون فيليا في كل مجال من مجالات الحياة. وغرس حَوارِيُّوه معنى الصداقة بين الأرباب والبشر، وتجلَّى هذا كمثال في الأضحيات التي لا يراق فيها دم، وفي شعائرهم، وكذلك بين الجسد وعناصر الروح الثلاثة من خلال البحث الفلسفي. وعمَدُوا إلى تأكيد الصداقة بين المواطنين وبين الدول، وذلك من خلال سَنِّ القوانين وعَقْد المعاهدات، وأيضًا الصداقة أو المَودَّة بين الزوج وزوجته، وكذا بين الجيران بفضل الاعتراف بالهدف المشترَك.
واعتَبَر فيثاغورسُ أن جميع مَن تَبنَّوا سبيله في الحياة أصدقاء ورفاقًا له أحبهم، وعلَّم تلامذته الاقتداء به من خلال الحِكَم المُوجَزة؛ من مثل: «الأصدقاء شركاء فيما يملكون.» و«صديقي هو نفسي الثانية.» واعتاد أن يجد مُتعة في مصاحبتهم والتحادُث معهم حال استمتاعهم بالصحة والعافية. وإذا ألَمَّ بهم مرَض سَهِر على رعايتهم وتطبيبهم، وإذا شعروا بالإحباط أو الاكتئاب عمد إلى التَّسرِية عنهم بالأغاني والترنيمات، واشتهر حَوارِيوه بالعمل على رعاية بعضهم بعضًا. ولذلك دأب اليونانيون حتى بداية الحقبة المسيحية على وصف أي شخص عُرِفت عنه الرحمة والرأفة في صورة فريدة ومتميزة بأنه فيثاغوري، وعلم فيثاغورس تلامذته ضرورة أن تبرأ الصداقة من كل مَظاهر التَّنافُس، وأولًا وأساسًا من الغضب، ودعا إلى أن يقتصر الكبار في نَقْدهم على صغار السن فقط، وأن يكون نقدُهم للصغار دائمًا حذِرًا يستهدف الرعاية، وصادرًا عن نِيَّة حسنة، وأكَّد على ضرورة عدم خيانة الأمانة مع صديق، أو إفشاء سر لصديق حتى ولو بالإشارة؛ إذ لو حدث ذلك فلا سبيل إلى استعادة الثقة مرة أخرى.
وتُبرهن القصة التالية على مدى تمجيد الفِيثاغُوريِّين للصداقة. تحكي القصة أن فينتياس السيراكوزي اشتهر بأخلاقه الحميدة. وحدَث أن اتَّهمَته السُّلطات بالتآمر لاغتيال الطاغية ديونيسيوس، وتكاتَف خصومه السياسيون ليُقدِّموا دليلًا زائفًا ضده لإدانته. وألقى ديونيسيوس القبض على فينتياس زاعمًا أن لديه دليلًا قاطعًا على جريمته، وأصدر حكمًا بإعدامه. وأجاب فينتياس قائلًا: إذا كان لا مناص من إعدامه، فإنه يلتمس مَنحَه حريته حتى آخِر النهار حتى يُسوِّي أموره. وعرض أن يكون صديقه دامون رهينة بدلًا عنه، وكان دامون زميلًا له من الطائفة الفيثاغورية عاش معه، ويمتلكان كل شيء شَراكة بينهما. وأَبْدى ديونيسيوس دهْشَته لهذا الطلب، وتساءل هل يَقبل دامون أو أي إنسان آخَر إيداعه السجن مع احتمال إعدامه لصالح إنسان آخَر؟ وأكَّد فينتياس أن دامون سوف يَقبل، وتم استدعاء دامون، وما إن علم دامون بالأمر حتى أبدى استعداده، وقبوله بأن يبقى رهْن الحجز القضائي إلى حين يُسوِّي فينتياس أموره.
وما إن كاد النهار ينقضي حتى بدأ خصوم فينتياس يُعيِّرون سجينهم مُدَّعِين أن صديقه غادَر المدينة، ولكن دون أن يتأثَّر دامون بادعاءاتهم. وعندما أَذِنَت الشمس بالمغيب حضَر فينتياس ليلقى حتفه، وتأثَّر ديونيسيوس أيَّما تأثير لهذا الولاء الذي لا مثيل له حتى إنه احتضن الرَّجُلين، وأطلق سراح فينتياس، وطلَب منهما أن يَقبَلاه صديقًا ثالثًا لهما. وثَمة قصة قديمة أخرى تحكي كيف التزم الفِيثاغورِيُّون جانِب الصداقة الحَقَّة والكاملة مع الآخَرين مِن خارج جماعتهم حتى وإن كانوا غرباء.
تحكي القصة أن أحد الفِيثاغُوريِّين اعتزم القيام برحلة طويلة وحْدَه سيرًا على الأقدام، وتوقَّف عند نُزُل حيث سقط ضحية مرَض عُضال لازَمه فترة طويلة، واضْطُر إلى أن ينفق كل ما معه من مال، ولكنَّ صاحب النُّزل اعتنَى به بدافِع من الرحمة، وأمَدَّه بكل ما يحتاج إليه، وحين أدرك أنه على مَشارف الموت أخرج الفيثاغوري صورة للمثلَّث العَشْري مُثبَّتة على الحزام، وطلَب من صاحِب النُّزل أن يُعلِّقها عند أول الطريق حالَ وافته المَنِيَّة، وقال له: إن أي امرئ يعرف هذه العلامة سوف يُسدِّد لك مُقابِل كل ما قدَّمْتَه لي من عَون ومساعَدة.
وتُوفِّي الفيثاغوري بعد ذلك بفترة وجيزة، والتزم صاحب النُّزل بكل مستلزَمات دفْنِه دون أن ينتظر سَداد نفقاته، ولكنه احترامًا بوصية المَيِّت علَّق العلامة خارج النُّزل في الطريق العام.
ولم تمضِ سنوات طويلة حتى مرَّت امرأة فيثاغورية بالطريق، وسرعان ما لمحَت العلامة، وفَهمَت الرَّمز، وذهبَت إلى صاحب النُّزل لتعرِف منه مَن صاحبُها، وعندما عرفَت ما حدث كانت سَخِيَّة معه، وأعطَت صاحب النُّزل مبلغًا أكبر كثيرًا من الذي أنفقه.
ويذكر التاريخ الكثير من هذه الأمثلة الدَّالة على الفيليا أو الصداقة والمَودَّة عند الفِيثاغُوريِّين، وتَكشِف عن فعالية قانون كوني لا يستهدف فقط عمل الرجال والنساء مِن أجْلِ خدمة كلٍّ منهما الآخَر، بل وأيضًا دعم الرابطة بين كوكب وآخَر، وبين ما هو سماوي بما هو أرضيٌّ، واشتملَت تعاليم فيثاغورس التي اعتاد تلقينها على مقولة: «لن يجد المرء ما هو أكثر كمالًا من ذلك، لا في كلمات، ولا في سُبل، وسلوكيات الحياة.»
الرياضيات
وتَخصَّص فيثاغورس — أيضًا — في استخدام الأعداد والمعادَلات الرياضية لتفسير تعاليمه، وقارَن بين هذا المنهج، وبين استخدام الكلمات التي تُشبه الأرقام من حيث إنها منطوقة شفاهية، أو مكتوبة للدلالة على معرفة. واعتاد أن يُعلِّم تلاميذه أنه إذا كانت الكلمات ملائمة لتوصيل أفكار مشتَركة، فإن الأعداد مثلها تمامًا لها قوة قيادة الرُّوح عَبْر جزئها العقلاني إلى فَهْم أشكال خالدة.
ولعل فيثاغورس مشهور أكثر بين دارسِي الرياضيات المُحدَثين بأعماله في مجال الهندسة التي امتلك ناصيتها في أثناء إقامته في مصر، والمعروف أن مياه فيضان نهر النيل تُغرِق أراضي وادى النيل في فصل الربيع من كل عام مما يُؤدِّي إلى طَمْس حدود الأراضي الزراعية.
لهذا اضْطُر المصريون إلى إعادة قياس أبعاد الأراضي التي زرعوها كل عام، واضْطُروا لهذا السبب أن يبرعوا في الهندسة وهي فن قياس الأرض، ونعرف أن كلمة هندسة المؤلَّفة من كلمتين هما «جيو» وتعني أرضًا، و«متري» وتعني قياسًا؛ أي قياس الأرض، وقدَّم فيثاغورس إسهامات مهمة لهذا البحث أشهرها اكتشافه النظرية التي تحمل اسمه نظرية فيثاغورس، والتي تقول: «إن مُربَّع وَتَر الزاوية القائمة يساوي مجموع المُربَّعَين المُقامَين على الضلعين اللذين يُكوِّنان الزاوية القائمة.»
واستطاع على سبيل المثال أن يصل إلى حد الكمال بنظرية النسبة والتناسب، والتي أصبحَت أساسيه ليس فقط في تاريخ العمارة والتصميم الغربيين، بل وأيضًا في عِلم الأخلاق والفلسفة، واستحق الفضل أيضًا لاكتشافه أسرار ما أصبح معروفًا بعدَ ذلك باسم المُجسَّمات الأفلاطونية: الهرمي، والمُكعَّب، والمُجسَّم الثُّماني، والمُجسَّم ذو الاثني عشر سطحًا، والمُجسم ذو العشرين سطحًا، على الرغم من أنه اعتبر الكُرَة المُجسَّم الأكثر كمالًا؛ ومِن ثَمَّ فهو الشكل الأجمل قاطبة.
ونظرًا لأن تلامذة فيثاغورس أقسموا على الحفاظ على السِّرية، فضلًا عن أنه لم يُعلِّمهم شيئًا مكتوبًا؛ فإن الأعمال والإنجازات الروحية عن فلسفة العدد الفيثاغورية آلَت إلى الضياع على مدى بِضعة أجيال إثر وفاته، ولكن يبدو واضحًا أن الأعداد العشرة الأولى كانت ذات دلالة خاصَّة عند فيثاغورس وحوارييه، ونَلحظ أن هذه الأعداد تُؤلِّف المُثلَّث العَشري الذي قال عنه فيثاغورس في تعاليمه: إنه صورة للمَملكَتين؛ مملكة الخَلق، ومملكة الخلود.
محدود | لا محدود |
فَرْدي | زوجي |
واحد | كثرة |
يمين | شمال |
ذَكَر | أنثى |
ساكن | مُتحرِّك |
مستقيم | مُتعرِّج |
نور | ظُلمة |
خير | شر |
مربَّع | مستطيل |
ثالثًا: الثالوث وهو العدد الأول بالمعنى الحقيقي. يحتوي «الواحد» على البذرة، ويعطي العدد «اثنان» الطاقة الكامنة. ويُحوِّل الرقم «ثلاثة» العدد إلى كينونة – وجود مَن هو السبب في تجلِّي الطاقة الكامنة في داخل الموناد وظهورها بتعبيرها الحقيقي، وهو عالَم الكثرة والتَّعدُّد. ويُعتبَر الثالوث هو مبدأ كل شيء الكلي والكامل، ويجعل كل الموجودات ذات بداية ووسط ونهاية، وينفث في عالَم المادة أبعاده الثلاثة، وعالَم الروح ثلاثية الأطراف.
وحيث إن الثالوث يشتمل على الماضي والحاضر والمستقبل، فإنه يُجسِّد الحكمة والبصيرة، ويستقيم سلوك الناس ويلتزم جادَّة الصواب حين يضعون في الاعتبار كل أقسام الزمان الثلاثة، وتندرج جميع المعارف تحت مظلة الثالوث، وكان الاعتقاد أنه يملك قُوى التنبُّؤ والتدبُّر. وبناء على ذلك قدَّم أبوللو في معبد دلفي نبوءاته من على كرسي ثلاثي الأرجُل مع سكْب الماء ثلاث مرات كتَقدِمة للأرباب.
وحيث إن العدد أربعة يكمل المتوالية ١ + ٢ + ٣ + ٤ = ١٠.
وتتألف النظرية مِن تأمُّل المثلَّث العَشري وعلاقاته الباطنية، وتعني النظرية هنا التقنية الذِّهنية التي يستعين بها أعضاء الإخوة الفيثاغورية لبلوغ المستوى الإلهي، وكان ذلك سابقة ونبوءة لاستخدام أفلاطون الدراسات الرياضية والجدل (الديالكتيك).
ويَكمُن الخماسي أو مبدأ الخمسة في الجمع بين اثنين وثلاثة، الزوجِي والفَردي، الذَّكر والأنثى، ويُمثِّل الزَّواج والتَّصالُح والوِفاق، ولذلك قَدَّسَته أفروديت رَبَّة الحب. وأن الاتحاد الذي يُجسِّده الخماسي يهب الكون الحياة، وهو ما يتجلَّى في الأشكال الجوهرية الخمسة: الرُّباعي، وسُداسي السُّطوح، وثُمانِي السُّطوح، والمُجسَّم ذو الاثني عشر سطحًا، والمُجسَّم ذو العشرين سطحًا. وهو نقطة الوسط في العدد عشرة، ونجد الرقم خمسة مَهمَا كانت طريقتنا في استخدامه للجمع حتى عشرة هو الوسط الحسابي؛ مثال: ٩ + ١، ٨ + ٢، ٧ + ٣، ٦ + ٤.
ويَتَّصِف الخماسي بالشمولية المُميِّزة لظواهر الكون الطبيعية، ولنا أن نقول: إذا كان الموناد هو البذرة التي خرج منها الكون، واكتسب الحركة من الثنائي، فإنه اكتسب الحياة من الخماسي، واحتوتْه العشرة أو الديكاد، ولكن الأعداد ما بين الخمسة والعشرة تشتمل أيضًا على أهمية رمزية عميقة.
العدد ستة أو السداسي هو العدد الكامل الأول؛ نظرًا لأنه كل ناتج عن جميع أجزائه. ويظهر من خلال كلٍّ من جمْع وضرْب عوامله: ١ + ٢ + ٣ = ٦، ١ × ٢ × ٣ = ٦.
ومعنى هذا أنه يعكس حالة الصحة والتوازن، ونراه في الامتدادات السِّتَّة للأشكال الهندسية، وفي الاتجاهات السِّتة للطبيعة: شَمال، وجنوب وغرب، وشرق، وفوق، وتحت. وينبثق مثل العدد خمسة من أول عدد فَردي، وأوَّل أعداد زوجية عن طريق عملية الضرب وحدها ٢ × ٣ دون الجمع، ويرتبط بذلك بالخنوثة أو الجمع بين الذكورة والأنوثة. ويشترك السداسي في الوسط التَّناغُمي؛ إذ ٣، ٤، ٦ تُعتبَر في الموسيقى؛ مثل: ٦، ٨، ١٢، ولهذا اعتاد الفِيثاغورِيُّون الثَّناء على العدد ٦ في عمليات مديح تَتسم بالحماس والحيوية تَقترِن بالشمول، والدوام، والصحة الكاملة.
والعدد سبعة أو السباعي لا يمكنه أن يَتولَّد عن طريق أي عملية للأعداد الأخرى داخل العشرة؛ إنه يُعبِّر عن العذرية ويرمزون له بالربة العذراء أثينا. وإنه بالجمع بين أعداد المُثلَّث الأول والمُربَّع الأول نَحصل على عدد التَّناغُم الأول (٣، ٤)، النسبة الهندسية (١، ٢، ٤) والضلعين (٣، ٤) حول الزاوية القائمة للمُثلَّث النموذجي قائم الزاوية؛ ونظرًا لاستحالة تقسيم العدد على أي عدد آخَر سِوى هو نفسه فإنه يُمثِّل القلعة أو الحصن. ويَتولَّد عن سبعة نظام الطبيعة.
واعتقد الفِيثاغورِيُّون أن العشرة هي جِماع المؤثِّرات الإلهية المُمسِكة بعناصر الكون معًا، أو جميع قوانين الطبيعة. ويَرَون العشرة باعتبارها القَدَر والكون والسماء، بل والرب الإله؛ وذلك لأنها هي المُنظِّمة لجميع الموجودات.
ولا تُوجَد خاصية بين الأعداد أو بين الموجودات التي صاغتها الأعداد وغير موجودة داخل بِنْية العشرة؛ وذلك لأن كل عدد يتكرَّر ويدور عائدًا إلى العشرة، أو إلى عدد ما داخلَ العشرة، ويَتعيَّن فَهْم الطبيعة لكي تَفُض مغاليق وأسرار المعاني الكثيرة التي يُمثِّلها المُثلَّث العَشْري، ويُسمَّى أيضًا الكون، أو الكوزموس، والخلود، والكل.
وهكذا نجد أن الأعداد مِن واحد إلى عشرة تَتمثَّل عند الفِيثاغُوريِّين في صورة المَدى الكامل للظواهر، ابتداءً من الموناد؛ حيث جميع قوانين الطبيعة موجودة في صورة كامنة وصولًا إلى العشرة التي تتجلَّى فيها جميع الكوامن، وتتحوَّل إلى فعل. وجدير بالذِّكر أنه باستثناء الرَّمزية الخاصة لكل عَدَد، فإن متوالية الأعداد من واحد إلى عشرة تَصِف على نحو رمزي عمليات الخلْق والتطوُّر. الواحد هو الوحدة المُطلَقة حيث مصدر الحكمة، ويخلق الكثرة والتنوُّع من داخل ذاته، وإذ يعي ذاته يخلق الكثرة والانقسام، ويتحوَّل الواحد إلى اثنين، وتتولَّد في الحال الثلاثة عن الاثنين — واحد واثنان والعلاقة بينهما. هذه هي البداية للخلْق في تجلياته، وكذا العدد الحقيقي الأول، وانبثَقَت عن هذه العلاقات قيمة الكثرة ذاتها، والتي نُدركها في تمام واكتمال المُثلَّث العَشري الذي هو في الآن ذاته أربعة، وعشرة.
الموسيقى
ودأب أعضاء الطائفة الفيثاغورية على الاستماع كلَّ مساء وقَبْل الرحيل لألحان موضوعة خِصِّيصَى لتحرير أنفسهم من نِزاعات وضغوط النهار، وعَمَد التلاميذ إلى مزج فواصل وتنويعات لَحنية مميزة للصوت، وأحيانًا للكلمات، بحيث تُحقِّق لهم أغاني المساء نومًا هادئًا مع أحلام هادئة تَسُر النفوس، ومع الصباح يستيقظ النُّزلاء على ألحان وإيقاعات مُصمَّمة خِصِّيصَى لِتهيِئَتهم للعمل.
واستطاع بفضل هذا اللحن الذي يُعايِشه وبفضل التوافُق بينه وبين فكره وطبيعة شخصيته أن يؤلِّف ألحانًا تحاكيه ويعزفها بصوته لتلاميذه، أو عن طريق الاستعانة بأدواته الموسيقية المتنوِّعة.
وأدرك فيثاغورس أنه بفضل التَّناغُم الفريد المميز لجسمه كان الوحيد القادر على مثل هذا الإدراك الحسي في كماله؛ لذلك كان لزامًا على الآخَرِين النظر إليه لاكتشاف النماذج المثالية العليا، ويناغمون بين الذات والكون، وقارَن هذا بمشكلة النظر إلى الشمس. إذ لو أن شخصًا عاطلًا من نعمة الرَّب التي تُهيِّئ له قوة النظر إليها مباشرة، فإن بوسعه أن يَشرع في فَهْم ذلك بدراسة انعكاسها على صفحة ماء ساكن أو عَبْر أداة ترشيح لضوء مثل قطعة زجاج ذات لون غائم.
وعلى الرغم من أن فيثاغورس فَهِم قوة تأثير التَّناغُم (الهارموني) الكوني، وعلى الرغم من نجاحه في إعادة إنتاج هذه التَّناغُمات، فإنه اعتقد أن المبادئ الأساسية للموسيقى، وكذا جميع مجالات المَعرِفة الأخرى لا يمكن غرسُها راسخة في عقول تلاميذه دون منظومة تمثيل رمزي؛ لذلك عَزم على اكتشاف وسيلة لوضع تقدير كَمِّي وتوصيل عناصر الموسيقى. وتصادَف أثناء تفكير فيثاغورس في هذه المشكلة أن مَر بمحل حدَّاد، واستمع إلى صوت المِطرقة وهي تَطرُق قطعة حديد فوق سندان. لاحظَ فيثاغورس أن الأصوات الصادرة عن المطارِق مختلفة عن بعضها تمامًا، ولكن لاحظَ أيضًا أنها جميعًا في تناغُم مشترَك. وضَّح أن تماثُل الأصوات تَمثَّل في الثُّماني والرُّباعي والخُماسي، بينما تَمثَّل النَّشاز في الخطوة الكاملة بين الرباعي والخماسي، وأدرك فيثاغورس فجأة أن الأمر الذي سعى قلِقًا لاكتشافه قد ظَهَر له بفضل عون الله له.
وبعد أن عاد إلى البيت عَكَف على تأكيد هذه الفروض، وَجَّه اهتمامه بدايةً إلى الأدوات الوَتَرية ومَدَّ أمعاء أغنام، وأوتار ثَوْر مُستخدِمًا أوزانًا لها النِّسَب نفسها في المطارق بحيث تتوافق مع شِدَّتها، واختبر بعد ذلك القَصَبات أو الأنابيب مع تقطيعها حسب أطوال محدَّدة متنوِّعة. وجاءت النتائج في الحالتين مصداقًا لنبوءاته، ووسَّع نطاق تجربته لتشمل أدوات أخرى من بينها المثَلَّث وكِفاف المَوَازين ذات الأحجام المختلفة، والآلات وحيدة الوتر، وكذا آلة بها وتر واحد عمَد إلى تقسيمه وفق نِسب مختلفة. وتبيَّن له مع كل حالة أن النِّسب نفسها تولَّدت عنها الفواصل الموسيقية ذاتها دون استثناء.
الفلك والكوزمولوجيا١٧
الرياضيات عند الفِيثاغُوريِّين لها أربعة جوانب تتعلق بجميع الظواهر وفْق سلوكها الخاص المميز. وأوضح فيثاغورس أن «قواعد الحكمة أربعة: الحساب، والموسيقى، والهندسة، والفلك، وترتيبها ٤، ٣، ٢، ١» والحساب هو دراسة الكَم، والموسيقى فَهْم العلاقات بين الكمِّيات، والهندسة تتعامَل مع الأشكال الساكنة ثلاثية الأبعاد، ويُمثِّل الفَلك آخِر هذه المباحث الأربعة وهو مَعنِيٌّ بالأجرام حال حرَكتها وتُغيُّرها.
وكان فيثاغورس هو أول مَن أطلق على الكون اسم كوزموس، وهذه كلمة تشير جذورها اليونانية إلى كلٍّ مِن الناموس؛ أي النظام الخاضع لقوانين، كما تشير إلى الزينة، واعتقد أن تدقيق النظر في السموات يكشِف عن جمال رائع متمثِّل في تنظيم مواقع النجوم ونظامها الأصيل في دورانها وحرَكاتها المَدارية، ويَرى أن السموات تُجسِّد الأعداد في نقائها المحض والأرقام في كمالها الخالِص والحركات والعلاقات النقية الموجودة بين جواهر الأشياء، والتي لا يتسنَّى إدراكها إلا بالعقل والفكر. إن الخلود والأبدية أو عدم التغيُّر هي الجوهر ونبْع الحكمة، واعتاد فيثاغورس في الحقيقة أن يُعلِّم تلاميذه الْتِماس المعرفة والخبرة بهذه الأشكال؛ لأن ذلك هو هدف الفلسفة.
وأن التراث الفيثاغوري الذي ورِثناه يشتمل على وَصفين للكوزموس، ويمكن التوفيق بين أيٍّ منهما مع الظواهر المرصودة بالأدوات المتاحة لدى العلماء حتى القرن السادس قبل الميلاد.
وصف دقيق للأفلاك السماوية طبقًا لرؤية فيثاغورس
ونجد عرضًا للاثنين هنا بدلًا من إلغاء أحدهما أو محاولة عمل وبناء تاريخ جديد لكوزمولوجيا متطوِّرة، ويُعرَض الاثنان من ناحية رؤى استبصارية نافذة إلى أعماق الفهم القديم للعالم الطبيعي. ومن ناحية أخرى صورة ميتافيزيقية ممكِنة تعكس العالَم الخالد أو عالَم الخلود الذي تَصوَّره فيثاغورس موجودًا فيما وراء عالَم الشهادة.
ويتألف الكون «كوزموس» في النموذج الثاني من اثني عشر مدارًا أو فلكًا مشترَكة المركز، الفلك الأول والخارجي هو فلك النجوم والثوابت وهنا يعيش الرب الأعظم المتعالي، وتَنعَم جميع القوى الإلهية بالذكاء، ويشير كتاب أفلاطون إلى أن هذا نطاق عالَم المُثل. ويلي ذلك وعلى بُعد مسافة متساوية عن بعضهما حسب ترتيب تنازلي فلك الكواكب السبعة حسبما فَهِم فيثاغورس: زُحل – المشتري – الزُّهرة – عُطارد – الشمس – القمر. وتَلِي فَلكَ القمر أفلاك: النار، والهواء، والماء، ويَرَون أن هذه الكواكب، علاوة على أفلاك أَوَّلية، تدور حول الأرض والتي تدور في موقعها الثابت في مركز الكون. وتفيد هذا النظرية عن الكون ونواميسه «الكوزمولوجيا» أن الفَلك الخارجي الأقصى هو الفَلك الأكثر روعة وامتيازًا والفَلك الخالد، وأن جميع الموجودات تدور في أفلاكها وفْق نظام مُحكَم وصولًا إلى مستوى القمر، ويُوجَد تحت القمر فوضى متزايدة، وقابلية للتغيُّر أبدًا، ومع اعتبار الأرض ذاتها الأقل كمالًا دون جميع الأفلاك.
وعرض فيثاغورس داخل إحدى هاتين النظريتين عن الكزومولوجيا (وربما داخل الاثنتين) عددًا من النظريات عن حركات الأجرام الفلكية، وظلَّت نظريات كثيرة منها موضوع سِجال فكري في الغرب حتى أيام كوبرنيك في القرن الخامس عشر، ولكنْ ثَمَّة اعتراف الآن بدقة بعضها. وأكد فيثاغورس أن الأرض ذاتها تُمثِّل فلكًا في حد ذاتها، وأقام برهانًا على أن الليل والنهار نتيجة لدوران الأرض، وبيَّن أن تَغيُّر الفصول سَببُه مَيْل محور الأرض بالنسبة للشمس، وعلَّم تلاميذه أن القمر يُضيء بسبب انعكاس ضوء الشمس عليه، واستطاع بذلك أن يفهم طبيعة كسوف وخسوف الشمس والقمر، ويُعتَبر فيثاغورس أول مَن قسَّم الأرض إلى خمس مناطق مناخية ابتداءً من المنطقة القُطبية إلى المنطقة الاستوائية الأكثر دفئًا، وهو أيضًا أول مَن أوضح أن نَجمتَي الصباح والمساء هي كوكب واحد هو الزُّهرة أو فينوس.
ونحن لا نعرف شيئًا عن تعاليم فيثاغورس بشأن التأثير المباشر لحركة الكواكب على السلوك البشري، وثَمَّة احتمال أنه اطلع على مبادئ التنجيم في بابِل وشرق البحر المتوسط، ولكن المصادر القديمة ملتزِمة الصَّمْت إزاء هذا الموضوع. بَيدَ أن فَهْم الأجرام السماوية وحركاتها تُمثِّل لُبَّ السيكولوجيا الفيثاغورية، وجدير بالذِّكر أن دراسة السموات، شأنها شأن الرياضيات والموسيقى، قدَّمَت لتلاميذ فيثاغورس دراسة كونية شاملة عن التناغُم والتناسُب، والتي يمكن للمرء أن يستخلص منها قواعد الحياة وأنماط الأقدار.
رعاية النفس
قال فيثاغورس: إن الرجال والنساء هم أكوانٌ صغيرة في الكون الأكبر، ومثلما أن الكون الأكبر يحتوي على أرباب وعلى العناصر الأربعة، وعلى حيوانات ونباتات، كذلك البشر لهم عقول وهي قُوى إلهية. وفينا نحن طبائع النار والتربة والهواء والماء؛ ولدينا وسائل الحركة والنمو والتكاثر، ولكن الرجال والنساء في كل من هذه المجالات هم الأدنى مستوًى، مثلهم مثل الرياضيين الذين يُمارِسون خمس ألعاب رياضية مختلفة، ولكنهم أدنى مستوًى بالقياس إلى البطل الرياضي الذي يُركِّز جهده على رياضة واحدة، وإنَّ قُدرتَنا على الاستدلال العقلي أقل من قدرة الأرباب، ولا نملك سوى جزء ضئيل وغير نَقِي من كل العناصر، كذلك غضبُنا وشهوتنا أضعفُ منهما عند الحيوانات غير العاقلة، وقُوانا للتغذية والنمو أدنى مستوًى منها لدى النبات.
وقال فيثاغورس في تعليمه: إننا لكي نتغلَّب على هذه العوائق الطبيعية يكون لازمًا على الرجال والنساء أن يُولوا صحة الأبدان رعاية كبيرة، والعناية بنمو وتطوُّر شخصيتهم مع الاعتراف بأن هذا كله يُمثِّل خطوة ضرورية على الطريق لتطهير الذات من أجل تلقِّي الحكمة.
وتبدأ الخطوة الأولى في اتجاه الرفاهة قُبَيل الميلاد؛ إذ يتعيَّن على كل رجل وامرأة عند شروعهم في الزواج أن يختار كل رفيق حياته بعناية، ورأى فيثاغورس أنه من العبث أن يُعْنَى مُربُّو السلالات الحيوانية باختيار وتربية السلالة المنشودة، بينما الرجال والنساء يُنجبون للعالَم أطفالًا بإهمال وبشكل عفوي، واعتاد أن يُعلِّم تلاميذه أن الواجب يقضي بأن على كل اثنين شرَعَا في الزواج أن يَعملَا على خَلْق حياة تَتصِف بالهدوء والاعتدال مثل الاعتدال في الطعام وفي الشراب وتجنُّب الغضب والقلق وإدمان الخمر، وأن إهمال ذلك في أثناء الحمل يُمثِّل أهم وأقوى مصدر للفساد الاجتماعي.
ويُمثِّل ضبط النفس مفتاح الحياة الصحية في نَظَر فيثاغورس الذي أكَّد لحوارِيِّيه ضرورة الالتزام بهذا الشِّق. ينبغي بذل كل ما في الوسع لاستئصال جذور المرض من البدن، والجهالة من الروح، والتَّرَف من المَعِدة، والعصيان من المدينة، والشِّقاق من الأُسرة، وكذا تجنُّب الإفراط في كل شيء. ولم يعبأ بالشهرة وإنما علَّم حَوارِيِّيه إيثار الصَّمت ما دام أن إمساك اللسان يَفرِض الاعتدال من منبته.
أما عن الحالة المزاجية فقد اعتاد الفِيثاغورِيُّون الحفاظ على مزاج رَصِين يَفيض بهجة دون المزاج المتقلِّب ما بين المرَح والعبوس من لحظة إلى أخرى، وإذا ألَمَّ بأحدهم غضَب أو أسًى انسحب من بين صفوف الجماعة، وبَقِي وحيدًا إلى أن تهدأ نفسه، ويتحاشَى كلٌّ من أن يوجه اللوم أو العقاب في حالة الغضب، وتحكِي قِصَّة أن واحدًا من أتباع فيثاغورس يُدعَى أركيتاس وهو إيطالي من بلدة تارينتم عاد إلى أرض الوطن بعد مشاركته في حرب ضد ميسينا. ووجد أن أراضيه الزراعية أصابها الخراب بسبب إهمال عُمَّاله. استشاط غضبًا إلا أنه مع هذا كبح جماح نفسه وفق تدريباته الفيثاغورية، وكان هذا من حُسن حظ العامِلِين لديه؛ إذ لولا ذلك لعاقبهم بقسوة.
وتدرَّب الفِيثاغورِيُّون على ضَبْط النفس والتحرُّر من الحُزن، وتَجنَّبوا الْتِماس الأعذار، والنفاق أو الثَّناء الزائف، وثَمَّة سِمَة جميلة أخرى تَحلَّوا بها وهي النَّأْي بأنفسهم عن الزَّهو والكبرياء وهو ما تمثَّل في أنهم أرجَعوا الفضل في كل شيء أنجَزوه إلى فيثاغورس، ونادرًا ما نجد مَن يَدَّعي مجدًا لنفسه بسبب ما حقَّقه من اكتشافات أو ابتكارات، ولعل هذا هو السبب في أن بعض الأعمال الفلسفية نراها منسوبة إلى فيثاغورس على الرغم من أنه ألزم حوارييه بعدم تسجيل أي من تعاليمه كتابة.
وكان فيثاغورس يُؤمِن بأن رغبات الجسد طبيعية، ولكنها بحاجة إلى فحْص مستمر، اعترف بالحاجة إلى الدفء والطعام والمأوى المُريح والمَلْبس، ولكنَّ السعي للتَّرَف في أيٍّ منها يُعتبَر أمرًا ضارًّا، واعتاد أن يلبس ملابس بيضاء نظيفة، والعيش في مكان يَتَّسم بالبساطة الشديدة مع أثاث محدود، وفي مساحة أرض صغيرة عليها عدد محدود من الدواجن والماشية.
وتضمَّنَت تعاليمه فيما يتعلق بأمور التغذية أن الكَّم مهم مثل الكيف ذلك أن تَغيُّرات طفيفة في الكمية يمكن أن تترتب عليها نتائج ذات أهمية. مثال ذلك أن الاعتدال في تَناوُل النبيذ يمكن أن يكون مفيدًا غير أن الإفراط يهدم الشخصية. واعتاد الناس إهمال ذلك الفارق في أغلب الأحيان عند تناوُل الأطعمة التي تتسبب في نتائج أقل وضوحًا، ولكنه أكَّد أن كل ما تَطْعَمه له أثر عميق على العقل والبدن معًا.
ولقد كان فيثاغورس نفسه نباتيًّا، واشترط على تلاميذه الذين أشرفوا على بلوغ أعلى مستويات التحصيل الفلسفي الالتزام بتناول طعام بسيط سهل غير معقَّد ودون طهي، والامتناع عن اللحم والنبيذ، ورأى بالمِثْل أن من غير المسموح للسياسيين تناوُل اللحم ما دام أن دورَهم هو تحديد وإقامة العدل في المجتمع، وقال في مَعرِض دفاعه عن رأيه: كيف لهم أن يفعلوا ذلك إذا هم أَيَّدوا قَتْل الحيوانات وهي ليست فقط الأضعف بالنسبة للإنسان بحكم الطبيعة، بل وأيضًا تتوحَّد معنا عن طريق التناوُل وتُشارِكنا الحياة.
ولكن كان مسموحًا بتناول اللحم والنبيذ لأتباعه ممن لم تتطهر حياتهم تمامًا مع فرض قيود عليهم في ذلك؛ إذ كان تناوُل اللحم ممنوعًا عليهم خلال فترات مُعيَّنة خاصة بالصيام، ولم يكن مسموحًا لهم أبدًا بأكْل القلب والمخ، وقال فيثاغورس: «إن هذين العضوين هما مرقاة ومُستقَر الحكمة والحياة.»
وثَمَّة أطعمة أخرى مُعيَّنة كانت محظورة؛ مثال ذلك أنواع عديدة من السمك، ونبات الخُبَّازى وهي عُشْب قال عنه: إنه بمثابة علامة دالَّة على التعاطُف بين السماء والأرض. وشاع عن الفِيثاغُوريِّين تجنُّبُهم لكل أنواع الحبوب اعتقادًا منهم بأنها مصدر للسخرية من مَظاهر النقص فيهم. (وثمة قصة تواتَرَت على نطاق واسع تقول: إن فريقًا من الفِيثاغُوريِّين آثَروا القتل بأيدي أعدائهم بدلًا من الهرب داخل حقل للحبوب حتى لا يقعوا في الأسر)، وقال فيثاغورس ينبغي تجنُّب الحبوب؛ لأنه عَرف بخبرته الخاصة بأنها تُشوِّش صفاء الفِكر والرُّؤى التنبُّئِية التي تأتى أحيانًا عَبْر التأمُّل وفي الأحلام.
السحر والمعجزات
تكاد تُجمِع المصادر القديمة في سِجلَّاتها على أن فيثاغورس كانت له معجزات، ولعل أفضل مشورة نلتزم بها لتقييم مدى صدق هذه الروايات أن نتتبَّع ممارسات فيثاغورس نفسه، ذلك أن فيثاغورس في تعليمه لأتباعه دعاهم إلى قبول ما ورد من أنباء عن أحداث خارقة للطبيعة بعقل مفتوح، وأن يَتقبَّلوا النظريات العلمية والدينية غير الجامدة، وأن يُسلِّموا بصِدْق الكثير من القصص التي يعتبرها غيرهم من قبيل الأساطير؛ إذ بدَت جميع هذه الأمور في نظر الفِيثاغُوريِّين قابلة للتصديق وتَستَحِق الدراسة والتجريب.
لقد افتتنوا بوقائع خارقة للعادة من كل الأنواع؛ ورفضوا نَبْذ أي شيء يمكن تفسيره على أنه من أعمال الآلهة، رَأوا أن الغباء فيما يَتعلَّق بكل هذه الأمور مَرجِعه إلى الشُّكَّاك وليس إلى أنفسهم؛ لأنهم يؤمنون بقدرة الآلهة على كل شيء. مثال ذلك ما روَته قصة عن راعٍ أفاد بأنه سمع صوت ترانيم غنائية صادِرة من قبر مُعلِّم فيثاغوري، ولم يتردَّد أحد من تلامذة الراحل في أن يسأل عن ماهية هذه الأغنية، وماذا تقول، دون أن يتشكَّك على الإطلاق في إمكانية أن يُغنِّي الميت.
وإذا كان لنا وعلى المنوال نفسه أن نثق فيما نَسبه كُتَّاب جادُّون من أبناء الأجيال التالية لفيثاغورس يصبح من حقِّنَا التسليم بأنه كان صاحِب سُلطان قوي على الحيوانات؛ إذ يقال إنه اقترب من دُب أحدَث ذعرًا شديدًا في منطقة دونيا، ودمَّر الممتلكات وأصاب عددًا من الناس بإصابات بالغة. وبعد أن اقترب منه وربَّتَ عليه في رِقَّة وحنان أطعمه بيديه بعضًا من الذُّرة وثمار البلوط ألزمه بالقسَم على أن يترك جميع الأحياء في سلام، ثم أطلقه ليغادر المكان وانسحب الدُّب إلى حيث الجبال وغابة كبيرة، ولم يذكر أحد أنه أصاب أي إنسان أو حيوان.
وقصة مماثِلة وقعَت في بلدة تارنتوم، تَحكي القصة أنه شاهَد ثورًا داخِل مرعًى يأكل حبوبًا خضراء، ونصح فيثاغورس الراعي أن يقول للثور إن من الأفضل له أَكْل أنواع أخرى من الطعام. ضحك الراعي وأشار إلى أنه لا يعرف لغة الثور؛ ولكن إن كان لفيثاغورس أن يؤدِّي المهمة ويعرف لغة الثور؛ فإنه يُرحِّب بذلك وليتحدث إليه بنفسه، اقترب فيثاغورس من الثور وهمَس في إحدى أذنيه لفترة من الزمن، وكفَّ الثور تمامًا عن أكل الحبوب وامتد به العمر طويلًا بجوار مَعبد الربة هيرا في بلدة تارنتوم؛ حيث عومل باعتباره كائنًا مقدَّسًا.
وفي إحدى السنين وبينما كان فيثاغورس على سفر مُتجهًا إلى أوليمبيا للألعاب الرياضية، التقى فريقًا من الأصدقاء وانخرط معهم في نقاش عن النبوءات والكهانة والعلامات الإلهية، وعبَّر عن رأيه قائلًا: «إن أهل التقوى والصفاء يَتلقَّونَ دائمًا رسائل من الأرباب إذا ما عرفوا فقط كيف يتوافقون في تناغُم مع نداءاتهم.» وحلَّق نَسر في هذه اللحظة فوق رأس فيثاغورس، ونزل النَّسر قريبًا بناء على إشارة منه ثم حطَّ على ذراع فيثاغورس. ربَّت لفترة عليه دون أن يَتوقَّف عن الحديث ثم أطلق النَّسر.
أثبت فيثاغورس من خلال هذه الأحداث وما شابهها أنه بإمكانه هو ومَن التزم بتعاليمه أن يكون له سلطان على وحوش البَرِّية مثلما كان أورفيوس الذي كان يُغرِي ويأسِر الحيوانات بقوة غنائه.
ويفيد كتاب سيرته الذاتية أيضًا أن فيثاغورس كان موجودًا في يوم واحد ووقت واحد من النهار في ميتابونتوم في إيطاليا، وفي تورومنيوم في صقلية يُعلِّم تلامذته هنا وهناك على الرغم من بُعد المسافة؛ إذ تفصل بين البلدين يابسة وبحر بحوالي ٢٠٠ ميل. وقال البعض إن بمقدوره أن يقطع هذه المسافة بواسطة رمح ذهبي أهداه له أباريس من هايبربوريا.
وحدث ذات مرة أن التقى فيثاغورس وهو في طريقه مسافرًا من سيباريس إلى كروتون فريقًا من الصيادين وهم يسحبون شِباكهم المليئة بالسمك إلى الشاطئ، ورأى فيما شاهده فُرصة لإثبات قُوة وسلطان الحكمة، وقال لهم: إنه يعرف بالدِّقة عدد السمك الذي اصطادوه.
قال كبير الصيادين: لو أصاب فيما قال فإنهم سوف يفعلون كل ما يأمرهم به، وتم حَصْر أعداد السمك وتبيَّن صِدق ودقة نبوءته، وطلب منهم طلبًا بسيطًا وهو إعادة السمك حيًّا إلى البحر، وربما ما هو أكثر غرابة أنه لم تَمُت ولو سمكة واحدة وقتما طرحوا صيدهم على الشاطئ على الرغم من بقائه خارج الماء بعض الوقت، هنا أعطى فيثاغورس لكبير الصيادين ثمن السمك، ثم واصل مسيرته مُتجِهًا إلى كروتون.
وكان فيثاغورس مثل معلمه وراعيه طاليس يتنبَّأ بدقة بالزلازل، واستطاع أيضًا بفضل ما ينعم به من سلطان إلهي وطبيعي أن يقضي على الأوبئة وقمع الأعاصير العنيفة، وأن يُسَكِّن الأمواج الهوجاء في الأنهار وفي البحار لضمان أمْن وسلامة عُبور أصدقائه، وجدير بالذِّكر أن أفعالًا مماثلة قام بها أمبيدوقليس، وأيبيمينديس وقد تعلَّما هذه الفنون على يدي فيثاغورس، وكان أمبيدوقليس يُدعَى في الحقيقة باسم إليكساناموس مُصرِّف الرياح والأعاصير، وذلك لتمتُّعه بهذه القدرات.
ويروي التاريخ أن أباريس سافر إلى جزيرة اليونان الأم وإلى الجزر التابعة لها ليجمع الذهب الذي سيحمله تَقدِمة للإله أبوللو في معبده وسط شعب هايبربوريا، وعاش أثناء هذه الرحلة بين الكهنة الذين زارهم، حيث أبلغ مضيفيه نبوءاته عن المستقبَل في ضوء قراءاته لِمِعَى الحيوانات. وتفيد الروايات أن أحدًا لم يشاهده أبدًا يأكل أو يشرب، وغير معروف بالضبط أين موطنه — وإن زعم البعض أن موطنه الجُزر البريطانية — ولكن حيثما يَكُن كان طريق عودته دائمًا يَتَّجه غربًا من اليونان إلى البحر المتوسط عَبْر إيطاليا، حيث ينزل لزيارة فيثاغورس في كروتون. تفكَّر في كل ما قيل له وسمعه قبل وصوله، وبعد أن شاهد السلوك الإلهي الذي يتحلَّى به فيثاغورس ورعايته لتلامذته وقوة تعاليمه، هنا استنتج أباريس أن فيثاغورس ليس في حقيقته إنسانًا، بل هو أبوللو نفسه وليس أحدًا غيره.
وعبَّر أباريس عن تكريمه لفيثاغورس بأن قدَّم له رمحًا مقدَّسًا وكان الرمح إحدى مُلصَقات معبد أبوللو في الشمال وحمله أباريس معه إلى اليونان لكي يكون عونًا له في الشدائد التي قد تُلِم به خلال هذه الرحلة الطويلة قاصدًا أرضًا قاصية. وأينما ذهب أباريس وحيثما التقى عقبات كأداة تَسُد أمامه الطُّرق من مثل أنهار، أو بحيرات، أو مستنقَعات، أو جبال يحمله الرمح عابرًا به إلى حيث يشاء، وقيل إنه أدَّى بواسطته شعائر التطهير والوقاية من الأمراض ومن مواد سامَّة شائعة في المدن، مثال ذلك أن إسبرطة بعد أن تَطهَّر به حَمَى نفسه من أن تصيبه عدوى مرض غريب سبق أن استشرَى على نطاق واسع نتيجة غازات سامة مُنبعِثة من أرض ساخنة عند سفح جبل تايجيتوس. ورُويت عن أباريس الكثير من الأحداث المماثلة.
الحياة الأسرية
اعتقد فيثاغورس أن الإنجاب وتنشئة الأبناء مسئولِيَّتان مُقدَّستان، وأكَّد أن هذا واجب الرجال والنساء إزاء الأرباب حتى تتواصل عباداتهم عَبْر الأجيال التالية، واعتَبر انفصال الأبَوين عن أطفالهم إحدى الكبائر، ولذلك اشترط على الأزواج والزوجات المَقبولين أعضاء في طائفته اصطحاب أُسَرهم معهم.
وتزوَّج فيثاغورس نفسه بزوجته ثيانو ابنة برونتينوس، وهو واحد من أقرب تلاميذه إليه، وأنجَب الزوجان ثلاثة أطفال: ولدين، اسمُهما منساركوس وتيلوجيس، وبنتًا اسمها دامو، وكانت ثيانو من أبرز تلامذة فيثاغورس وأعظمهم إنجازًا، ويَعزُو إليها التراث كتابة العديد من المتون التي فقدْنَاها منذ ذلك التاريخ، ويُدعَى زوجها الثاني أرستايوس الذي تولَّى مسئولية قيادة مَن بقوا من أعضاء الطائفة في كروتون عقب وفاة فيثاغورس.
ويحفظ لنا التاريخ عن ثيانو قصة تقول إنها سُئِلت ذات مرة: بعد كَمْ مِن الزمان تصبح المرأة طاهرة إثر ممارسة الجنس؟ وأجابت أنها طاهرة في اللحظة التي تتركُ فيها زوجها، ولكنها لا تعدو طاهرة أبدًا بعد تَرْكها أي إنسان آخر غيره، ورُوِي عن ثيانو أيضًا أنها نَصحَت امرأة كانت في طريقها إلى زوجها بأن تطرح جانبًا الاحتشام في ملبسها، ولكن ترتديها ثانية حين تُودِّعه وتترك مكانه.
ويبدو أن تيلوجيس وافَتْه المَنية وهو لا يزال شابًّا، كذلك كان مصير منساركوس الذي جاءت وفاته إثر وفاة أرستايوس، بينما تلقَّى مينيساركوس التعليم اللازم ليرث مسئولياته عن أبيه رئيسًا للمدرسة الفيثاغورية، وتفوَّقت دامو أيضًا في تعاليم أبيها. وثَمَّة تقليد يفيد بأن أباها قرب نهاية حياته أوْدَع لديها بعض المذكِّرات التي سطرها بنفسه علاوة على تعليمات تُطالبها بألَّا تُفشي هذه المعلومات لأي إنسان من خارج الطائفة، ويَسود ظن بأنَّها باعت هذه الوثائق مُقابل مَبلغ كبير من المال. بَيْد أنها على الرغم من ذلك رفضَت التَّخلِّي عنها اعتقادًا منها أن طاعة أوامر الأب أغلى وأكثر قيمة من الذهب على الرغم من أنها ستظلُّ تعاني من الفقر.
ويتجلَّى لنا تأكيد فيثاغورس على أهمية الأسرة إذا عرَفْنا أنها كانت موضوعًا أساسيًّا في أول الموضوعات التي علَّمها فَوْر وصوله إلى كروتون، إذ يُحكَى أنه في أثناء خطاب له أمام فريق من الشباب تجمَّعوا في نادٍ رياضي، حثَّهم على احترام وتكريم الوالِدَين وكبار السن، وأكَّد لهم قائلًا: ما دام أنَّنا نتعلم من الوالِدَين أن نُوقِّر ونكرم الألوهية فإن هذا يَدعُونا إلى الاعتقاد بأنَّ الأرباب يحبون من أحَبُّوا ووقَّرُوا الأبَوَين بِقدْر حُبِّهم وتوقيرهم للأرباب.
وآمَن بأن الشَّرق أهم من الغرب، والصباح أهم من المساء، والبداية أهم من الخاتمة، ومُخطِّطي المدن أهم من بُناتِها، ويقال بعامة إن الأرباب أجدَر بالتكريم والتَّوقير من أشباه الأرباب، والأبطال المغاوير أهم من الرجال، وتَشهد الطبيعة في كل جنباتها أن الأبَوين يتجاوزان ذريتهما من حيث القوة والحكمة. وقيل كل هذا لكي يثبت عن طريق الاستقراء أن واجب الأبناء تكريم الأب والأم.
ودُعِي بعد فترة قصيرة من ذلك التاريخ، لكي يُوجِّه خطابًا أمام مجلس الألْف وهو المجلس التشريعي في كروتون والمؤلَّف من رجال فقط، وحَثَّ سامعيه على إبداء عاطفة وجدانية أصيلة تجاه أطفالهم، مع ملاحظة أن هذا هو المبدأ الأساسي للحفاظ على جميع الأنواع، وحَثَّهم أيضًا على تقوية أواصر ارتباطاتهم بزوجاتهم، وأن يهتدوا في ذلك بالإيمان بأن الروابط الزوجية تقوى وترسخ بفضل الأبناء على عكس المواثيق والاتفاقيات التي تستلزم عقودًا مكتوبة ومُوثَّقة. وعلاوة على هذا يَتعيَّن عليهم بذْل الجهد لاكتساب حُب واحترام ذريتهم، وأنه لا يكون هذا تأسيسًا على مِيزة مورثة كحسب أو نسب، بل بفضل تأثير شخصيتهم والاختيار القصدي للطفل.
وطالبهم بتجنُّب إقامة علاقات حميمة مع أحد غير زوجاتهم حتى لا تَغضَب الزوجات بسبب خيانة الأزواج ممَّا قد يُحفِّزهن إلى الوقوع في الرَّذيلة ويَكُنَّ سببًا في وصْم أُسَرهن بالفساد، واعتاد أن يُعلِّم الناس مبدأ هاديًا يقضي بأن السلوك الملتزِم بالقواعد السليمة مع الاعتدال وضَبْط النفس يمكن أن يصبح الأزواج نماذج وقدوة ليس لأُسَرهم فقط، بل للمجتمع قاطبة.
ونصح فيثاغورس النساء بغرس مشاعر التواضُع حتى تكون الأرباب أكثر استعدادًا للاستجابة لدعائهن، وأن يَحرِصن على بشاشة الوجه عند الحديث حتى يكتسبن ثقة وعون الآخَرين، وذكَّرهن عند الحديث عن ارتباطهن بأزواجهن أنَّ من بين طبائع النساء أن يُحْبِبن أزواجهن أكثر من حُبِّهن للأبَوين، علاوة على ذلك حَثَّهن على أن يُبدِين لأزواجهن جَمًّا وقوة شخصية، وكأنهن أكفاء لهم، وبِذَا يُؤسِّسْن شهرة طيبة داخل الطائفة.
وجدير بالذِّكر أن أحاديث فيثاغورس عن استقرار الحياة الزوجية وعن الإخلاص كان لها أثرها العظيم على شعب كروتون، وتمثَّل ذلك في قوة الرابطة الزوجية حتى سادت حكمة مأثورة داخل العالَم المتحدِّث باليونانية، وقيل: إن رجال كروتون كانوا أتباع أوديسيوس البطل الهوميري الذي رفض عرْض الخلود؛ لأن ذلك سوف يحرمه من زوجته بنيلوب.
السياسة والعدالة
وجد فيثاغورس عند وصوله إلى إيطاليا أن غالبية المدن هناك خاضعة لحكم الأقليات الغَنِية الذين يعملون بدافع المصلحة الذاتية، أو أن الحُكَّام طغاة انبَثَقوا من رَحِم هذه الطبقات العسكرية، وحَسَم أمْرَه على حثِّهم على التَّحوُّل في اتجاه سُبل حكم أكثر نفعًا وخيرًا، وتذكَّر عنف الطاغية بوليكريتيس الذي أخرجه من وطنه ساموس، كما تَذكَّر الغزاة الفُرس الذين دمَّروا حياته في مصر، وكان يدرك تمامًا أن الشعب لا يمكنه الالتزام بالفلسفة ولا بأي أسلوب مُستقر للحياة وسط حياة القهر، وآمن كذلك أن قيام مجتمَع عادل لا بُدَّ وأن يكون نتاجًا طبيعيًّا لانتشار وشيوعِ الحكمة.
وبدا واضحًا أن رسالة فيثاغورس لم تكن إضافة هياكل جديدة للحكمة؛ بل كان هدفه — على وجه أصح — غَرْس منهج جديد للقيادة بين الطبقات الحاكمة، منهج يَتَّسق مع الأسلوب الفلسفي في الحياة، وحدَّد فيثاغورس معالِم رؤيته عن الحكم العادل في عرض قدمه على مَسامع مجلس الألف، وهو المجلس التشريعي الحاكم في كروتون، وذلك عقب وصوله إلى هناك بفترة قصيرة.
قال لهم بداية إنهم هم المنوط بهم إقامة الجانب الأهم للعدالة؛ ذلك لأن العدالة التشريعية تَصِف ما يَتعيَّن، وما لا يَتعيَّن فِعلُه داخل المجتمَع، وأوضح أن هذه الوظيفة تتجاوز كثيرًا القضاء؛ لأن عدالة القضاء تُشبِه الدواء الطبي لعلاج المريض، هذا بينما العدالة التشريعية فهي وِقاء، تستبق الظروف وتَكفُل الصحة مستقبلًا للروح الجمعية.
وأشار عليهم ناصحًا أن يَبنُوا معبدًا للموزيات التسع [الرَّبَّات التسع الشقيقات اللواتي يُحيين الغناء والشِّعر والفنون والعلوم من الأساطير الإغريقية. (المترجم)]، وذلك ضمانًا للسِّلْم والرخاء، وأوضح أن الموزيات التسع وإن كانت كل رَبَّة منهن لها أدوار ومَهام متمايزة، إلا أنهن جميعًا يلتئم شَملُهن كفريق واحد تحت هُويَّة واحدة، وأنهن حقَّقن أسمى الإنجازات حين عَمِلن معًا في تعاوُن مشتَرك.
وتحقَّق ذلك على أيديهن على الرغم من جميع التحولات التي كانت سببًا للمعاناة بحكم الطبيعة والحظ، واستمر فريق الموزيات قويًّا أبدًا ومُوحَّدًا دائمًا، حقَّقن التَّناغُم والتوافُق والتكامل والسلامة بحيث إن كروتون أصبحَت على مَشارف الرخاء بفضل هدايتهن واتِّخاذِهن قدوة ومثالًا.
وتحدَّث بعد ذلك قائلًا: إن كروتون وديعة مشترَكة استأمنهم عليها الشعب، ومن ثَم لا ينبغي استغلالها وفاءً لأهداف أنانية. ويتعيَّن عليهم أن يَحكموها بالطريقة التي تجعل المحكومين يُصرُّون على أن يعهدوا بها إلى أبنائهم، وكأنَّها ميراث ومِلْكية مشترَكة، وأفضل السُّبل وصولًا إلى ذلك أن يُقر ويعترف المسئولون عن إدارة المدينة بأنهم والمواطنين سواسية، وأن تحتل العدالة وحْدَها مكان السُّلطة المرجعية.
وقال إن المُشرِّعين لن يفيدوا من القَسَم المُعلَن لمناشدة الأرباب، حَري بهم اكتساب الشهرة بأن تكون كلماتهم أفعالًا حقيقية مؤكِّدة الصدق حتى بدون قَسم.
وأوضح لهم أخيرًا أن على مَن يَتوَلَّون سُلطة الحكم ألَّا يرون في الاختلاف معهم إثمًا يثير ضيقهم، بل على العكس حَريٌّ بهم التعامل مع الاختلافات في الرأي بعقل مفتوح، والتقبُّل في تسامح. للمعلومات أيًّا كان مصْدَرها قبْل التَّوصُّل إلى قرار نهائي.
وشرَع الشيوخ بعد سماعهم لكلماته، في بناء معبد للموزيات حسبما اقترح عليهم، وعملوا على مَدى العقود الثلاثة التالية على توفيق وملاءمة أعمالهم السياسية لتتوافق مع أفكار فيثاغورس سواء التي خاطبَهم بها أو غيرها، وقام فيثاغورس خلال هذه السنوات، وبمساعدة تلامذته، بتحرير مُدن: سيباريس، وكاتانيس، وريجيوم، وهيماييرا، وأجريجنتوم، وتورومينيوم من الحكومات الاستبدادية، وساعَد اتباعه على انفاذ القوانين في هذه المدن مما كان سببًا في ازدهارها، وتُصبح في نظر الآخَرين نموذجًا للسِّلم والاستقرار، وأثبَتوا أنهم قادة أكْفَاء؛ إذ اعتبَروا أنفسهم خدمًا للعدالة دون أَجْر أو مُقابِل، وعلى الرغم من أن البعض نظر إليهم بازدراء، فإنهم وجدوا حمايتهم في نزاهتهم وثقة المواطنين بهم.
أما كيف فَهِم فيثاغورس وأتباعه الحكم، فإن هذا ما سوف نفهمه على نحو أفضل إذا ما تَتبَّعْنا مفهومه عن العدالة وصولًا إلى مبدئها الأساسي وعِلَّتها الأخيرة، ويُفيدنا أيضًا في هذا الصَّدد أن نُقدِّم وصفًا للعلة النهائية للظُّلم وافتقار العدل وهو ما يُبيِّن لنا كيفية تجنُّبهما.
المبدأ الأول للعدالة، حسب رأي فيثاغورس، المشارَكة المجتمعية والمساواة. وهذا مبدأ يُقرِّر أن جميع الناس يَعيشون ويُعانون وينجحون باعتبارهم جسدًا واحدًا وروحًا واحدة؛ لذلك نُخطئ عندما نُمايِز بين ما هو لنا وما هو للآخَر. وحقَّق فيثاغورس هذا المبدأ في طائفته، بل ألغى كل أشكال المِلْكية الخاصَّة. إذ كان كل شيء خاصٍّ بتلاميذه هو مِلْكية عامَّة آلت للطائفة، وحَظِي مَن قَبِل هذا الأسلوب في الحياة بمكافأة تمثَّلَت في حالة من الوفرة الحقيقية والتجرُّد من الجشع والحقد.
ومثلما رأى فيثاغورس أن الوحدة بين الجميع هي مصدر العدالة، كذلك رأى أن الأنانية وازدراء الآخَرين عِلَّة الظلم. وأوصى تلاميذه أنهم لكي ينشروا إحساسًا بالأخوة ليمتدَّ إلى أبعد مدًى ممكن؛ حَريٌّ بهم أن يمدوه ليشمل الحيوانات، وقد حثَّهم على معامَلة الحيوانات برقة وعطف ألا يُضحُّوا بها أبدًا عند أداء الشعائر والطقوس، كما حثَّهم على الامتناع، قدر المستطاع، عن اتخاذها طعامًا لهم، وقال في مَعرِض التَّدليل على ذلك: إن مَن يحترمون علاقة النَّسب بين البشر والحيوانات بهذه الطريقة؛ يعرفون أكثر من غيرهم بكثير جدًّا طبيعة وضْعِهم من حيث التكافل المتبادَل بينهم وبين غيرهم من البشر.
وجدير بالذِّكر أن فيثاغورس في معالجته لمسألة العدالة لم يقتصر في تفكيره فقط على علاقتنا بالبشر والكائنات الأخرى الفانية، بل تناوَل أيضًا علاقتنا بما هو إلهي. وحرص في تعليمه على أن يُبيِّن أن العدالة تستلزم اعتراف المدن بوجود قُوًى إلهية والحرص على عبادتها إيمانًا منهم، وعن يقين بأن لهذه القوى اهتمام قوي بِرفاهة الجنس البشري، ويلزم عن هذه الرؤية اللاهوتية أن يخضع سلوك الرجال والنساء لفحص وامتحان لا سبيل إلى تجنُّبها. وهذه مُهمَّة الحكم الإلهي الذي يراقب ولايتنا على الأرض، واعتقد فيثاغورس أن البشر، رجالًا ونساءً، يُقاوِمون بحكم طبيعتهم فرْض أي قيود عليهم، فضلًا على أنهم مُتقلِّبون ومندفِعون. وأنهم لذلك بحاجة ضرورية لهذا النوع من الحكم الاستثنائي الذي يثيب فعل الخير ويُعاقب على الخطأ، وأكَّد أن كل مَن يعترف بقصور الطبيعة البشرية لا بُدَّ وأن يثق بالأرباب ويحرص على عباداتها، وأن يكونوا دائمًا نُصْب العينين والعقل معًا.
ونظرًا لأن الحاجة إلى المال تُحفِّز الرجال والنساء في الغالب إلى الجريمة، فقد حرص فيثاغورس على تعليم الناس ضرورة التواضع في معاشهم وتدبير أمور حياتهم وفقًا لقدراتهم بحيث يُمكِّنهم من الوفاء بكل ضروريات الحياة الميسورة، وأن يَقنَعوا ويَرضوا بالكَفاف والنأي عن الإفراط. ورأى أن التَّرَف هو أول الشرور المُعْدية للبيوت والمدن، والمُفْضي إلى الجشع والصراع مع الآخَرين، ويؤدِّي في النهاية إلى العنف والحرب؛ لذلك يتعيَّن مقاوَمة التَّرف بكل الوسائل، كما يتعيَّن على الرجال والنساء منذ الميلاد أن يأْلَفوا الحياة البسيطة، وأدَّى هذا كله إلى أن أصبح فيثاغورس نفسه في عيون الأجيال التالية نموذجًا أعلى في حياة الاقتصاد لا يَقل بحال عنه في الفلسفة. وحقَّق فيثاغورس هذا بنفسه على الرغم من أنه ورث أملاكًا شاسعة عقب وفاة تلميذه الكايوس، واعتبر فيثاغورس أيضًا أن من الحكمة قبول القوانين القائمة مع عدم الإفراط في الرغبة في التجديد السياسي. ولهذا زخرَت حياته بأفعال التفاني للرب والالتزام بالقوانين.
وقد يكون مفيدًا أن نَصِف أحد أفعاله في هذا الصَّدد ليكون مثالًا لما عدَاه؛ إذ وفدَت إلى كروتون سِفارة من مدينة سيباريس المجاوِرة تلتمس إعادة اللاجئين الذين منحتهم كروتون حق اللجوء، وكان فيثاغورس مدركًا أن بعض أتباعه من أصحاب النفوذ السياسي في سيباريس تَمَّ قتلُهم التزامًا بأوامر هؤلاء السفراء، وكان يعرف كذلك أن أحد هؤلاء السُّفراء شارك بنفسه في عملية القتل، وبينما كان المسئولون في كروتون يتداولون بشأن كيفية الرَّد على التماس سفراء سيباريس قال لهم فيثاغورس: إنني أعجب! لماذا الاختلاف بشأن الموضوع؛ ونظرًا لأنه هو وأتباعه يُعارِضون جَرَّ الأضحيات قسرًا إلى المذبح فإن الواجب يقتضي منهم يقينًا معارَضة إطلاق سراح المَنفِيِّين وتسليمهم لقتلَة سوف يغتالونهم بكل تأكيد.
وجاءه سفراء سيباريس مُحتَجِّين، وعمد الرجل الذي اغتال بعضًا من تلاميذه بيديه إلى الدفاع عن جرائمه، وهنا أعلن فيثاغورس أنه لن يجيب على قاتِل، وهاجمه أحد السفراء لزعمه أنه أبوللو، وهاجمه آخر كان أبوه قد شارك في إعدام الفِيثاغُوريِّين، وتقدَّم نحوه وسَخِر من تعاليمه التي تتحدَّث عن تناسُخ الأرواح في العالَم، وقال: حيث إن فيثاغورس في طريقه إلى هاوية العالَم السفلي، فإنه يَودُّ من فيثاغورس أن يُسلِّم رسالة إلى أبيه ويعود إليَّ بالرد حال عودته.
وأجاب فيثاغورس بأنه لن يَهوِي إلى مملكة الملعونين، والتي يعلم عن يقين أنها المكان الذي يلقَى فيه القتلةُ عقابهم جزاءً وفاقًا، وواصَل بقية السفراء في إهانته، ولكن فيثاغورس استدار ومِن خلفه أتباعه وسار تجاه الشاطئ، حيث أجرى طقوس التطهُّر بالماء وأعلن على مسمع سفراء سيباريس قراره النهائي بأنه لن يُسلِّم المنفيين، وهنا شرع قناصلة كروتون في تأنيبهم بسبب تشويههم لسمعة فيثاغورس وهو مَن لا يجرؤ كائن حي على أن يَسُبَّه ويُكفِّره حتى ولو نطقَت كل المخلوقات بصوت بَشري.
هذه القصة مثال واحد على مدى تأثير فيثاغورس في المواقف السياسية، وتشير أيضًا إلى مدى الكراهية والعنف التي أَبدتْها المعارَضة التي التقَى بها، ومدَى صلابته في المقاومة لها وهي صلابة لا تعرِف الخوف ولا المساوَمة.
الأرباب
جرى تصميم المنهج التعليمي الفيثاغوري لتحقيق هدف أساسي واحد ألا وهو الوصول لحياة البشر رجالًا ونساء إلى حالة من التَّناغُم مع الإله، وأكَّد فيثاغورس في الحقيقة أن المبدأ الأول والمبرِّر العقلاني لكل الفلسفة هو هدايتنا على الطريق إلى الرب؛ إذ مِن الحُمق الْتِماس الخير من مصْدر آخر، ورأى أن من يفعلون ذلك يُشبِهون رجلًا يعيش في بلد يحكمها مَلِك، ولكنَّ الرجل يعطي ولاءه وتكريمه لموظَّف محلِّي صغير، وينسى الحاكم الذي يبسط سلطانه على الجميع.
وتحدَّث فيثاغورس عن إله واحد، وعن إله يتجلَّى في صور عديدة وقادر على ذلك دون تناقُض، ويُجِيز له مذهبه الإلهي أن يعزو صفات إلهية متمايِزة مختلفة الأسماء. وجاء هذا نتيجة لخبراته في حياته وسط فلاسفة إيونيا، والكهنة المصريين، والمجوسية الفارسية، والأسرار الهيلينية في معابد اليوزيس، وديلوس، ودلفي، وكريت، علاوة على هذا فإن الأفكار الكلتية والأيبيرية عن الرَّب والوافدة على أيدي الزائرين الأجانب مِن مثل أباريس؛ لَقِيَت ترحيبًا لدى مجتمع كروتون الذي استوعبها.
وعرَض فيثاغورس وصفًا لِكَونٍ به — على سبيل المثال — إلهٌ متعالٍ، وجميع الأرباب على اختلافهم ممن يَتوجَّه إليهم الرجال والنساء بالدعاء، ويسكن هؤلاء الفَلك الأول الأعلى، واعتاد فيثاغورس في أحيان أخرى أن يشير إلى الشمس والقمر والنجوم باعتبارها أربابًا.
وقال في معرض تفسيره: إن هذه الأجرام السماوية هي أصل المبدأ الذي يُمثِّل عِلة جميع الموجودات.
وتعلَّم فيثاغورس من كتابات أورفيوس أن الجوهر الخالد للعدد هو مصدر الخلود، واستدل من ذلك على أن الطبيعة الأساسية للأرباب طبيعة عدَدية، واستطاع من خلال الأعداد أن يعبد ويتناول مع الإله الذي تَمثَّله في صورة المثَلَّث العَشْري، «التيتراكتيس». ونرى فيثاغورس أحيانًا أخرى يحاكي ممارسات أورفية بأن يُصوِّر الرَّب الأعلى في صورة فَلك يُجسِّد وحدة الرَّب والقُدرة على الإحاطة علمًا بكل شيء.
وجدير بالذِّكر أن مِن بين مجمع الأرباب الإغريقي نظر الفِيثاغورِيُّون نظرة إكبار قصوى إلى شخص أبوللو النصير الإلهي لمعلِّمهم وراعي الطب والنبوءة والموسيقى والفلسفة، وعمَدوا وبقوة إلى المطابَقة بين حكمة فيثاغورس وهذه الألوهية؛ لذلك نراهم وعلى الرغم من أنهم لم يذهبوا دائمًا إلى القول بأنه هو أبوللو نفسه، يُكرِّرون من القول ما يَشِي بهذا الظن، ولم يحدث أبدًا أن نَهَوا آخَرين عن الإيمان بمثل هذا الرأي. وكثيرًا ما كانت إجابتهم إذا ما الْتَمسوا ما يؤكد أن ما قاله شخص ما هو الحق والصدق: «مَن أنت، فيثاغورس؟!» ويُوحي هذا ضمنًا أن فيثاغورس باعتباره أحد الأرباب فإنه مُصدَّق لا يكذب.
واعتاد فيثاغورس أن يُعلِّم أتباعه أن بالإمكان الاتحاد مع الأرباب بطُرق ثلاث؛ أولًا: أن نبدأ بالتحدُّث إليهم سواء مباشَرة أو عن طريق التأمُّل والصلاة والعبادة، أو عن طريق ممارَسات وسيطة؛ مثل الموسيقى والفلسفة والرياضيات. ثانيًا: من خلال السلوك القويم بأن نحاكي سُبل حياة الرَّب وهي السُّبل التي استهدفَت غرْسَها في النفوس الطائفة الفيثاغورية. وثالثًا: الموت؛ إذ مِثلما أنَّ التقشُّف والمجاهَدات والأحلام وهذيان المَرَض تؤدِّي إلى انفصال طَفيف للروح عن الجسد بحيث تبدأ الروح في مُعايَشة وكشْف رُؤًى، كذلك يجب تَطهُّر الروح إلى أقصى حد حال انفصالها عن الجسد عند الوفاة.
وقال فيثاغورس في تعليمه: إنه لا شيء يَحدُث مصادَفة أو بالحظ، بل كل شيء يقع وفق خطة إلهية، وهذا ما يتَّضح جيدًا من خلال قِصة عن الفيثاغوري ثايماريداس مِن نارنتيوم؛ إذ بينما يبحر بعيدًا عن بلده حضر جميع أصدقائه لمعانقته وتوديعه، وحين هَمَّ بالصعود قال له أحد المُودِّعِين: «يا ثايماريداس أَدْعُو أن يهبَك الأرباب كل ما تحب وتهوى.» أجاب: «ادْعُ يا صديقي مِن أجْل شيء أفضل. ادْعُ بألَّا يصيبني إلا ما يَتَّفق مع مشيئة الأرباب.» ذلك لأن ثايماريداس كان يَعرِف أن من الخطأ الشك في حكمة العناية الإلهية أيًّا كانت نتيجة الرحلة.
ونظرًا لأن الأرباب هم مَصْدر كل خير فقد آمن فيثاغورس أنه ليس ممكنًا فقط، بل ضروريًّا أن نسألهم الهداية والرشاد؛ ولهذا نجد من بين الفِيثاغُوريِّين رجالًا ونساءً أتْقَنوا فَنَّ العِرافة. وتعلَّمَوا احترام كل أشكال الكِهانة سواء كانت نبوءات مقدَّسة، أم قراءة الطالع في أمعاء الحيوانات، أم كَشْف الغيب عن طريق الأحلام، بَيْدَ أنهم نَذَرُوا أنفسهم لما تَفوَّقوا به على الجميع وهو التنبُّؤ بواسطة الأعداد، والتَّكهُّن بالمستقبل، وتلقِّي مشورة الأرباب عن طريق تأمُّل الماهِيَّة العدَدية للكون أو الكوزموس.
وأوضح فيثاغورس أن الأرباب تُنعِم علينا بهذا الدَّعم والتأييد ليس فقط كتعبير طبيعي عن خيراتها، بل وأيضًا لأن أرواح الرجال والنساء شريكة في المبدأ الإلهي، ونحن ننأى بأنفسنا عن هذا المبدأ، ونعانِي خطر المرض والفقر واليأس حيثما نسلُك سلوكًا زائفًا أو مفرطًا أو ضد مشيئة الرَّب؛ لذلك من الضروري ألا نغفل عن ذكر الأرباب في جميع الأوقات، وأن نُثنِي عليهم، ونَرُد الفضل إليهم في كل ما نظنه من إنجازاتنا نحن.
وعمد فيثاغورس إلى أن يَذْكُر الأرباب بالإجلال والتوقير في كل مناسبات حتى لا ينسى تسليمه بإرادة الأرباب. مثال ذلك أنه عند تناوُل طعام العشاء يجري طقوس الإراقة (سكْب الماء المقدَّس) تمجيدًا لهم، كما علَّم تلاميذه الاحتفاء بالأرباب كل يوم بترتيل الترانيم. وكثيرًا ما قدَّم لهم أضحية مقدَّسة في صورة حبوب الذُّرة والكعك وأقراص العسل والبخور، وحرص على الاحتفاظ ببدنه طاهرًا نقيًّا، وكثيرًا ما شارَك في شعائر وطقوس التطهُّر.
ونصح فيثاغورس تلاميذه بالتزام الصِّدق في الحديث كوسيلة لبلوغ الكمال بالهُوِية والاتحاد بالرب، ويُبيِّن أن التزام الصِّدق هو السبيل الوحيد لإضفاء صفة الألوهية على الرجال والنساء، وجدير بالذِّكر أنه تعلَّم هذا الدرس من المجوسية في بابل، ومن كهنة الرَّب زرادشت الذين عبَّروا عن عقيدتهم بعبارة موجزة هي «جسد الرَّب مثل الضوء، وروحه هي الحقيقة.»
ويشير كارلو سواريس (Carlo Suares)، (١٩٩٩م) إلى مثل هذا البناء اللغوي في «سِفر التكوين» في قسوة بدايته، وفي فصله الأول، وفي متتالية الأولى من الأعداد، نجد البذرة، ونجد الكل داخل البذرة، ووصف إرنست ماكلين (١٩٧٨م) بناء لغويًّا مماثلًا في محاورة أفلاطون «طيماوس». هذا بينما اكتشف ماهاريشي ماهيس اليوجي أن الكتاب المقدَّس «ريج فيدا» مُوجَز في الكلمة الأولى.
ونحن هنا بِصدَد تفسير مختلِف استمدَّتْه نظرتان مختلفتان للتاريخ. وينزع الباحثون المعاصِرون إلى النظر إلى الفكر العلمي، والكوزمولوجي للعالَم القديم باعتباره فكرًا قديمًا وخرافيًّا، وهذه فكرة دعَّمها أرسطو؛ حيث إن قدرًا كبيرًا من كتاباته استهدفَت بشكل خاص تصوير الفكر الفيثاغوري على أنه خليط مَشوَّش وغير مُتَّسِق. وثَمة باحثون آخَرون من مثل: جون ميتشيل (John Michell)، آر. إيه. شوالار دي لوبيتس، نراهم يأخذون أفلاطون على نحو حَرفي للغاية عندما يَكتب عن حكمة القدماء الذين يعتبرهم بالمقارَنة بالإغريق الكلاسيكيين مجرَّد أطفال، إنهم يُدعِّمون هذه الفكرة من خلال تفسير جديد للمذاهب العلمية والكوزمولوجية القديمة، ويكشفون عن صور لفهم العالم موازية لفهم الفيزياء والكوزمولوجيا في العصر الحديث وإن صدرت مغلَّفة بمذاهب رمزية شديدة الاختلاف.
ورغبةً مِنَّا في تجنُّب النزاعات الأكاديمية التي لا يمكن على الأرجح حسمها، عمَدْنا إلى تقديم النظرة الفيثاغورية عن العدد باعتبارها عملًا موحَّدًا ونَسبْنا إلى فيثاغورس نفسه ما وَصفَته المصادر القديمة بأنه «فيثاغوري».
انظر ميد (Mead)، (١٩٦٥م)، وإذ يقال: إن فيثاغورس تعلَّم من أورفيوس أهمية العدد. فإن أورفيوس يُصوِّره التاريخ في صورة الموسيقِي الإلهي الذي يسحر الأرباب والبشر والحيوانات بِصوته وعزْف قيثارته. ويُعتَبر فيثاغورس إلى حدٍّ كبير جدًّا جزءًا من هذا التراث بفضل قدراته الموسيقية والرياضية.
النظرية التي تحمل الآن اسمه … «تُعبِّر عنها الكُتب الدراسية بشكل نمطي عن النظرية في صيغة أ٢ = ب٢ + ﺟ٢
تتجلى الموناد باعتبارها العدد واحدًا …» يحرص غالبية المعلِّقين على التمييز بين الموناد والعدد «١» على الرغم من أن المصطلَحين يجري استخدام أحدهما محل الآخَر في أكثر الكتابات التي تتحدث عن نظرية العدد عند فيثاغورس.
وإذا اعتبرْنَا الموناد تشير إلى القيمة اللانهائية للوحدة الأساسية لكل ما هو نِسبي، وللخلق المتنوع؛ فإنها سوف تبدو غير محدودة أكثر من كونها محدودة في طبيعتها إلى أن نفهم أن المصطلح الإغريقي لا يعني بلا حدود، وإنما يُعنَى به نظام كامل.
وهذا النظام هو ما نَفقِده عند انقسام الموناد لينبثق عنها الثنائي، والثلاثي ثم جميع الخلق.
ويتجلى هذا في نظرية نشأة الكون (cosmogony) التي ينسبها أرسطو إلى فيثاغورس في كتابه «الميتافيزيقا» أو ما بعد الطبيعة. وجدير بالذِّكر أن أرسطو ليس واضحًا بالمرة في هذا الصدد، وعمدْنَا في كتابنا إلى تأكيد خَلق العدد من الواحد وعبْر العملية التي يشير إليها شواللور دولوبيكس (Schwaller do Lubic)، (١٩٩٨م) ويُصوِّرها على أنها الانشطار الأَوَّليِّ، وكتب ليفاري (Leavarie) عن شمولية هذه النظرية عن أصل الكون ونشأته مع ربطها بالموسيقى وبالعدد على السواء. «فكرة النشوء والتكوين في شمولها عن طريق الانقسام؛ هي ميراث مُتعالٍ للبشرية. إنها تُهيمِن على الإصحاح الأول من الكتاب المقدَّس … ونجد الفكرة نفسها تُحدِّد تفسير أفلاطون للخلْق … ويُعتبَر أفلاطون مَدينًا لفيثاغورس فيما يتعلَّق بهذا التفسير لمبدأ النشأة والتكوين أيًّا كان. ونعرف أن فيثاغورس له تجاربُه على الآلة أُحاديَّة الوَتر، وعلم على هديها حقيقة عامة عن الكون.»
ويبدو أن بالإمكان تحصيل معلومات كثيرة من القصص المنحولة، إذ لم تسقط تفاحة عمليًّا على رأس نيوتن؛ وربما لم يَدُق لُوثر إعلان آرائه بالمسامير على باب الكنيسة (إذ أرسلها بالبريد). ولا دليل على أن أرشميدس قَفَز من حوض الاستحمام وهو يصرخ «إريكا» وجدتُها. بَيدَ أن المبادئ التي تم نقلُها، لها أهمية قُصوى. ولنا أن نُقيِّم القصة بهذه الروح.
ليس لنا أن نَفترِض أن إشارات فيثاغورس إلى النجوم والكواكب إنَّما يقصرها على النظام الشمسي الطبيعي، وإنما هذه أيضًا إشارات إلى الأوصاف الكوزمولوجية لمختلف مستوَيات الخلق؛ التي تُعتَبر السَّلَف الأول لفكرة سلسلة الوجود العظمى. انظر: لافجوي (Love Joy)، (١٩٦٤م)؛ وويلبار (Wilber)، (١٩٩٨م). إن ربط التربة بالهواء والنار والماء لا يُعتَبر — بوضوح — كوكبًا داخل منظومة فلكية مُرئِيَّة، بل هو أحد العناصر في منظومة كوزمولوجية. وجدير بالذِّكر إذا تأمَّلْنا الكثير من التعاليم الغربية ابتداءً من الأورفية والهرمسية (Hermeticism) وحتى القرن السابع عشر نجد أن الشمس مستخدَمة رمزًا لمنبع النور الروحي والحياة في الكون، ونجد مثالًا أوَّليًّا على هذا النزوع عند أفلاطون الذي يستخدم الشمس رمزًا للخير، مصدر كل الحقيقة الواقعة، وهكذا يُصِر أفلاطون في الجمهورية على أن القيمة الباطنية الأصلية للوعي أنه المصدر الأوَّلي للمعرفة الكوزمولوجية؛ يقول: «النجوم التي تُزيِّن السماء، حقًّا إنَّنا نراها — وعن صواب — أدَق وأكْمَل المَوجودات المشاهَدة، إلا أنها أدنى مستوًى بكثير فقط؛ لأنها مرئِيَّة بالقياس إلى الحقائق الصادقة؛ أي بالقياس إلى السُّرعات النسبية الحقيقية، في الأعداد البحتة والأشكال الكاملة للمدارات وما تحمله، وهي مُدرَكة بالعقل والفِكر، وليست مرئية بالعين.»
ويمكن الاطلاع على مزيد من الهوامش ومعلومات إضافية عن فيثاغورس في موقع: Borkeley Hills Boeks.
وهو: www.Berkeleyhills.com.