لَهْو … طيور النورس!
هبطَت الطائرةُ في مطار العاصمة المكسيكية في الصباح الباكر … بعد أن استغرقَت الرحلةُ وقتًا طويلًا من القاهرة …
استقلَّ الشياطين سيارةَ أجرةٍ من المطار … حملَتهم بحقائبهم الصغيرة إلى فندق «الثورة»، وخلال الطريق شاهد الشياطين العاصمة «مكسيكوسيتي» وهي لا تزال راقدةً في نوم عميق، وقد ظهرَت شوارعُها خاليةً من المارة … وبدَت العاصمة كامتزاجٍ مدهشٍ بين المدينة الحديثة المتمثلة في البنايات الهائلة الارتفاع وناطحات السحاب والطرق الحديثة على الشكل الأوروبي وبين المنازل القديمة والطرقات الضيقة والميادين الواسعة على الطراز الإسباني … وقد احتلَّت الميادينَ تماثيلُ عديدةٌ لأبطال ثورة التحرير المكسيكية … على حين تناثرَت الهضابُ وقممُ التلال على البعد … وأحاط بالعاصمة جوٌّ لطيفٌ قبل شروق الشمس …
أخيرًا استقرَّت السيارة الأجرة أمام الفندقِ الضخمِ المبنيِّ على طرازٍ حديثٍ … وكانت هناك ثلاثُ حجراتٍ محجوزة بأسماء الشياطين، فحمل موظفو الفندق الحقائبَ لأعلى … على حين بَقيَ الشياطين الستة في كافيتريا الفندق لاحتساء القهوة والإفطار …
ألقى «خالد» نظرةً إلى ساعته، وقال: من المفروض أن يأتيَ العميلُ ذو الوجهَين للتعارف علينا في الساعة السادسة تمامًا.
ابتسم «عثمان» قائلًا: لعلَّنا الآن تحت رقابتِه … وألقى نظرةً إلى الكافيتريا الواسعة الخالية فلم يلمح أحدًا …
أحمد: برغمِ كلِّ وسائل التكنولوجيا المتقدمة، فهي لا تزال تعتمد على العنصر البشري اعتمادًا خاصًّا … وبدونه لا يكون لأجهزة الأمن أية قيمة.
تساءلَت «إلهام» بعد لحظة: هل تظنون أن الطائرة الشبح ستعاود الظهورَ مرةً أخرى ومهاجمةَ حقولِ البترول في هذه البلاد … خاصةً وأن تحرُّكَ أجهزةِ أمن «المكسيك» لكشف أسرار هذه الطائرة لا بد وأن يكون قد لفت أنظارهم؟
أحمد: هذا سؤالٌ ذكيٌّ … وما أتوقَّعُه أن الضربةَ ستحدث في موعدها تأكيدًا على أن أصحاب هذه الطائرة لا يخشَون أحدًا … ولأنهم لا يمكن أن ينسحبوا فجأةً بعد أن أنفقوا مئاتِ الملايين في تجهيز هذه الطائرة ليخسروها فجأةً.
عثمان: إنك على حقٍّ في ذلك … ولكن ما أخشاه أن تُغيرَ الطائرةُ الشبح من مكانِ ضربتِها القادمة … فلا تختار حقولَ البترول المكسيكية بل مكانًا آخر.
أحمد: لا أظنُّ أن أحدًا يجرؤ على الاقتراب من آبار البترول الأخرى … فهناك أجهزةٌ في غاية الدقة والتكنولوجيا تقوم بحراستها وحمايتها …
وعلى ذلك فالهجوم عليها يمثِّل مخاطرةً غيرَ مأمونةِ العواقب حتى بالنسبة للطائرة الشبح.
إلهام: ولكنه يظلُّ احتمالًا قائمًا … وربما لأجل ذلك كان قرار رقم «صفر» بإرسالنا إلى «المكسيك» للوصول إلى سرِّ هذه «الطائرة الشبح» ومَن يقف خلفها … فربما تكون الضربةُ التالية بعد «المكسيك» هي آبارَ بترولِ دولةٍ أخرى.
أحمد: أعتقد أن هذا ما فكَّر فيه رقم «صفر» تمامًا … فهو لا يترك شيئًا للمصادفة …
زبيدة: لقد استمعتُ إلى نشرة أخبار الصباح في سيارة التاكسي، وعرفتُ أن أسعار برميل البترول قد ارتفعَت ثلاثة دولارات مرةً واحدة مساء الأمس.
إلهام: إن هذا يعكس الشائعات التي انطلقَت في أعقابِ ضربِ حقول البترول الفنزويلية، وتوقُّفها عن العمل … برغم أن دولًا أخرى قد زادَت من إنتاجها لتعويض هذا النقص.
أحمد: لقد لاحظتُ أيضًا سربًا من الطائرات المكسيكية العسكرية كانت تجوب سماء البلاد وتقوم بمناورات ماهرة قبل هبوط طائرتنا بلحظات في مطار العاصمة.
عثمان: لقد لاحظتُها أنا أيضًا.
زبيدة: إنني لا أدري كيف سنقوم بمطاردة الطائرة الشبح عند ظهورها.
أحمد: إن ذلك سيتضح عند ظهورِ رجلِ الأمن المكسيكيِّ الذي يعمل لحساب العصابة. في نفس الوقت، وفي نفس اللحظة أقبل داخل الكافيتريا شابٌّ في الثلاثين بوجهٍ أسمرَ تبدو عليه ملامحُ أهلِ البلاد. وكان يرتدي القبعةَ المكسيكيةَ الشهيرة التي خلعها من رأسه بيده اليسرى وأمالَها جهةَ الكتف اليمنى، واقترب من الشياطين قائلًا بالإسبانية: إن هذا الصباح يبدو ممتعًا لطيور النورس لتُمارسَ لَهْوَها.
كانت تلك هي إشارةَ التعارفِ لرجل الأمن … فتصافح الشياطين معه وجلس الشابُّ قائلًا: اسمي «جونز كويل».
وتم التعارف مع الشياطين بعد أن قدَّموا أنفسهم، وقال «جونز» لقد تأخرتُ قليلًا؛ فقد كنتُ أتلقَّى رسالةً من رؤسائي بخصوصِكم.
أحمد: وما هي الأوامر التي صدرَت إليك بشأننا؟
جونز: سوف نتجه في المساء إلى مدينة «أكابولكو» الساحلية. وعلى مسافة منها يقع أهمُّ حقول البترول المكسيكية والتي حلَّقَت فوقه الطائرةُ الشبح منذ أيام قليلة … وقد أصدرَت الحكومةُ المكسيكية أوامرَها بمنع الاقتراب من ذلك المكان، وأوقفَت ضخَّ البترول فيه لتقليل الأضرار إلى أقصى حدٍّ إذا ما حدث هجومٌ على هذه الآبار.
عثمان: إذن فقد وصلَت معلوماتٌ بحقيقة ما حدث في «فنزويلا» إلى المسئولين في «المكسيك»، فأخذوا احتياطاتِهم أيضًا.
جونيز: هذا صحيحٌ تمامًا … والآن سأترككم لتأخذوا قسطًا من الراحة والنوم؛ فمن المؤكد أن الأيام القليلة القادمة ستكون مليئةً بالمتاعب.
تبادل الشياطين النظراتِ … ونهضوا وغادروا مائدتَهم بعد تناوُل إفطار خفيف، وصَعِدوا إلى حجراتهم، وتجمَّعوا داخل حجرة «أحمد» الذي أشار لهم بأن يمكثوا في مكانهم، وهو يقول: أعتقدُ أننا الآن في حاجة ملحَّة للنوم، هيَّا اذهبوا إلى فراشكم، ونومًا هادئًا.
ثم أخرج من جيبه جهازًا صغيرًا لاكتشاف الميكروفونات المخبَّأة في المكان … وراح يبحث في كلِّ الأركان حتى أضاء الجهازُ بشدة أمام «أباجورة» صغيرة … وكان هذا يعني أنه يوجد بالداخل ميكروفون سريٌّ لنقل ما يدور داخل حجرة الشياطين إلى مكان مجهول.
تساءلَت «إلهام» بلغةِ الإشارات: مَن تظنون قد وضع هذا الميكروفون؟
أجاب «أحمد» بنفس اللغة: إنه احتمالٌ من اثنين … إما أن صاحبنا «جونز كويل» رجل الأمن المكسيكي الذي يرغب في معرفة ما يدور في عقولنا … أو التقاط أية أسرار عن منظمتنا نقولها بالمصادفة في أحاديثنا … ولذلك علينا أن نكون في منتهى الحذر …
عثمان: أعتقد أن الاحتمالَ الثاني أصدقُ؛ فنحن مراقَبون من جهة أخرى … ربما أصحاب الطائرة الشبح.
أحمد: هذا صحيح … فلعلهم قد علموا بمهمتنا من عميلهم، وأرادوا معرفةَ خطوتنا القادمة … ونحن لن نقرِّرَ شيئًا قبل الوصول إلى موقع آبار وحقول البترول ومشاهدتها على الطبيعة … والآن إلى النوم.
تفرَّق الشياطين الستة … فبقيَ «أحمد» و«عثمان» في حجرتهما … واتجه «خالد» و«قيس» إلى الحجرة الثانية … على حين شغلَت «إلهام» و«زبيدة» الحجرة الثالثة.
وفي السادسة مساءً كان الجميع قد استيقظوا وبدَّلوا ملابسهم بعد حمامٍ باردٍ استعادوا به نشاطهم. كان الجوُّ حارًّا رغم غيابِ الشمس والرطوبة عالية … وهو ما يفسِّر سرَّ تلك العادة المقدسة في نوم أهل البلاد وقتَ الظهيرة حين تشتدُّ الحرارة، فيستحيل على أيِّ إنسان القيام بأي عمل … وأيضًا القبعة العريضة التي يستعملها سكان البلاد في حياتهم للحماية من ضربات الشمس …
غادر الشياطين حجراتهم. وكان «جونز» في انتظارهم أمام الفندق بسيارتَي «لاندروفر» مجهزتَين لاختراقِ الصحراء والمناطق الصخرية … وقد جُهِّزَت بالماء والطعام … وحمل الشياطين حقائبَهم القليلة إلى السيارتَين، وتولَّى «جونز» قيادةَ أولاهما … على حين تولَّى «أحمد» قيادةَ الثانية … وقد اتفق الشياطين ألَّا يُخبروا «جونز» بأمرِ اكتشافهم للميكرفون السريِّ …
انطلقَت السيارتان تخترقان العاصمة المكسيكية التي ارتدَت حلةً من الأضواء الساطعة والإعلانات الملونة، ثم ظهرَت مشارفُ الصحراء … والطريق الأسفلتي يخترقها في قلب الظلام … والسيارتان الكبيرتان تخترقانه في سرعة.
وعوَى صوتُ ذئبٍ قريب … ثم تلاشَت مظاهرُ الحياة في المكان … ولم يَعُد يظهر غير رءوس التلال والصخور على البعد … وليس في المكان من ضوءٍ في العتمة وغياب القمر … غير ضوء سيارتَي «اللاندروفر»، وبعد أكثر من ثلاث ساعات من السير المتواصل … هبَّت رائحةُ البحر الصعبة باليود والملح، فشعر الشياطين بالانتعاش.
ظهرَت إلى اليسار معالمُ مدينة «أكابولكو» الساحلية العامرة بالأضواء والنشاط وعددٌ من اليخوت يُرسي فوق شواطئها، ولكن «جونز» انحرف بسيارته يمينًا نحو منطقة صخرية بعيدًا … وفي أقصى اليمين ظهرَت أبراج الآبار البترولية وقد خفَّفت أضواءَها إلى أقصى حدٍّ وتوقَّف نشاطُها وبدَت كأنها مدينةٌ للموتى … على حين كان يُحيط بالمكان عددٌ كبيرٌ من العربات المصفحة والدبابات والجنود المدجَّجين بالسلاح توقُّعًا لهجوم الطائرة الشبح.
واستطاع «جونز» المرورَ بتصريحٍ خاصٍّ … واتجه مع الشياطين إلى منطقة جبلية ذات مدخل من الصلب، وقال للشياطين: سيكون هذا مقرَّ إقامتكم خلال الأيام القادمة …
تبادل الشياطين النظراتِ في دهشة، ثم زادَت دهشتُهم عندما انفتح الباب المصفح … وظهر ما خلفه.