القسم الأول
(يمثل الملعب هيئة جزيرة إسبانيولا قرب قصر كريستوف كولومب.)
المشهد الأول
(فرنسيس (معتمد الملك) – جنود – جمهور من الإسبان – فرنان (رفيق
المعتمد))
فرنسيس
:
إخوتي، لقد ملأَتْ آذانَ إسبانيا أخبارُ تعاستكم وشقائكم في هذه البلاد
الوافرة الثروة الغنية بخصبها ومعادنها. عجبًا يحدثون عن هذه الأرض بأن
تربتها ذهبية وببقعة منها ما لا يوجد في جميع خزائن الملوك. لقد أصبحتم في
هذه الحال:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما
والماء فوق ظهورها محمولُ
فوالله إن مصيركم يستنزف الدموع ويستبكي الصخور، تركتم بلادكم طمعًا
بالثروة الوافرة فاشتهيتم الكِسَر التي تملَئُون بها أجوافكم، فما هذا
المصير؟ وكيف تصبرون على الضيم؟ لا شك أنكم جبناء، لقد بلغ مسامع الملك
أنينكم الجارح وتذمركم من تصرفات كولومب السيئة؛ فأرسلني إلى هذه الأقطار
لأتولى الفحص عما أجراه ويجريه هذا الرجل حتى إذا ثبت عليه كل ما نسب إليه
أدَّبته تأديبًا يستحقه كل ظالم ناكر للجميل. اخرج أيها الجندي وأحضر دياكو
شقيق كولومب.
رجل
:
بلساني ولسان الجالية الإسبانية أرحب بك يا من أتيت لإنقاذنا من مخالب
الظلم، وبراثن الاستبداد.
فرنسيس
:
وقد بلغني أن كولومب قد شنق ثمانية من إخوتنا الإسبانيول ولم يزل ثمانية
في أعماق السجون ينتظرون الساعة الرهيبة، فهذا الأمر أرعد فرائصي، يا لها
من فظاعة بربرية! ألِأَنَّهم ثاروا عليه يطلبون قوتهم يقضي بشنقهم؟ ما هذه
العدالة؟! إن نيرون لم يحلم بهذا الظلم، ولم يخطر لفرعون على بال!
رجل
:
قد فعل أكثر من ذلك يا مولاي ولو …
فرنسيس
:
فعل ما فعل وقد أتت الساعة، ساعة الانتقام من البغاة.
(يدخل دياكو.)
المشهد الثاني
(المذكورون ودياكو كولومب)
فرنسيس
:
فباسم الملك فرديناند أخاطبكم فاسمعوا، اقرأ يا فرنان هذا الأمر (يدفعه إليه فيقرؤه).
فرنان
(يقرأ)
:
نحن فرديناند ملك إسبانيا قد عهدنا إلى فرنسيس بوفاديليا أمر الفحص عن
إجراءات كريستوف كولومب في العالم الجديد، وأمرناه أن يفعل كل ما تطلبه
الحكمة ويقضي به العدل.
فرنسيس
:
أعرفتَ الآن من أنا يا دياكو وما هي مهمتي؟ باسم الملك فرديناند آمرك أن
تطلق سراح المسجونين لأطلع منهم على بعض الأمور المتعلقة بمهمتي.
دياكو
:
إن هذا لا يكون بدون أمر من أخي، إن أخي يتجول الآن في سهول الفاغا، حيث
يعمل فيما تطلبه الشروط المحررة بينه وبين الملك، فإذا شئت تكرم بصورة
الأمر لأرسله إليه، ولا يبعد أن يحضر في الحال.
فرنسيس
:
كأنك لم تعتد بهذا الأمر، فلنشنف آذانك بالأمر الثاني فلعله يخفف من
خُيلائك، اقرأ يا فرنان.
فرنان
(يقرأ)
:
نحن فرديناند ملك إسبانيا، نأمر معتمدنا فرنسيس بوفاديليا أن يتولى أحكام
الجزيرة إذا قضت بذلك الظروف، وعليه أن يقضي بالعدل بين شعبنا الإسباني في
تلك البلاد.
فرنسيس
:
ألا تسلِّم الآن يا دياكو؟ ألا تخرج المسجونين؟!
دياكو
:
لا يا حضرة المعتمد، لا أسلِّم.
فرنسيس
:
إِذَن فاسمع أمرًا ثالثًا، اقرأ يا فرنان.
فرنان
(يقرأ)
:
نحن فرديناند ملك إسبانيا نقضي بتسليم مهام الأحكام وكل شيء مختص
بالمملكة إلى فرنسيس بوفاديليا.
فرنسيس
(إلى دياكو)
:
وكيف الآن، ألم يَلِنْ حديد عزمك يا دياكو؟ أخرج المسجونين وإلا تلونا
على مسامعك الأمر الرابع.
دياكو
:
لا أخرجهم ولو قرأت جميع أوامر الدنيا، اقرأهم، أنا الغريق فما خوفي من
البلل (على حدة) أجنَّ الملك يا ترى أم
ماذا؟ (إلى فرنسيس) نحن نعرف أنفسنا
حكام هذه البلاد، فما أنت إلا مزور يا فرنسيس! فهيهات أن تؤثِّر بي أوامرك
المزيفة.
فرنسيس
:
إِذَن فاسمع الأمر الرابع، اقرأ يا فرنان.
فرنان
(يقرأ)
:
نحن فرديناند ملك إسبانيا نقضي على كريستوف وأخويه بدفع المتأخر قبلهم من
مرتبات المتوظفين مع ديونهم الشخصية حالًا، ونقضي أيضًا على كريستوف بطاعة
معتمدنا فرنسيس بوفاديليا، والامتثال لكل ما يأمره به.
فرنسيس
(إلى دياكو)
:
والآن لا تسلِّم؟
دياكو
:
لا أرضى ولو صارت السماء أرضًا، لا أريد ولو قطعوا لي حبل الوريد!
فرنسيس
:
إِذَن تسلم بالرغم عنك!
دياكو
:
كذبت في وجهك أيها المعتمد الدجَّال فلا …
فرنسيس
:
أتكذبني؟! ويحك يا قليل الحياء! جنودي، كبِّلوا هذا اللئيم بالقيود،
وأنتم يا جنود كولومب عجِّلوا بالهجوم على القلعة، كسِّروا أبواب السجن،
أخرجوا إخوانكم المظلومين من بين تلك الجدران السوداء (يخرجون بحماس ويبقى دياكو مقيدًا) وأنتم
أيها الناس اشهدوا واشهد أنت يا دياكو أيضًا أنني أضع يدي على قصر الأميرال
كولومب الخائن وعلى ما فيه، وأنادي على رءوس الأشهاد أنه أصبح قصري بعد
اليوم، ولا أمل لكولومب وعائلته بالتولي على هذه البلاد بعد اليوم، فمن له
دعوى على كولومب وأخويه فليصدِّرها وأنا أسمع، خُذ أيها الجندي هذا الأمر
إلى كولومب وقل له يعجِّل بالحضور.
الشعب
:
فليحيَ العادل، فليسقط الظالم.
دياكو
:
بل فليسقط الخونة الغادرون.
فرنسيس
:
اخرس يا لئيم، أخرجوا هذا الوغد واطرحوه في السجن.
دياكو
:
ما كنت أحسب أن يمتد بي زمني
حتى أرى دولة الأوغاد والسفل
(يخرجونه.)
فرنسيس
:
لقد طغوا وتجبروا، وحسبوا أن عين العدل مغمضة لا ترى شرورهم وآثامهم، لقد
نال دياكو عقاب تمرده وبقي كولومب، فعند حضوره سنرى، ولكل حادث
حديث.
المشهد الثالث
(فرنسيس – فرنان – المسجونون – جنود)
فرنان
:
علام عوَّلت يا مولاي في مسألة كولومب؟
فرنسيس
:
إلى الآن لم أجزم جزمًا قاطعًا، ولكن أقل حكم هو السجن.
(يدخل جنديان.)
جندي
:
مولاي، قد طرحنا دياكو في السجن، والشعب قد أخرج المسجونين، وكان هزؤهم
شديدًا بدياكو عندما التقوا به على الطريق، وها هم آتون ورائي.
فرنسيس
:
إِذَن قد أخذوا بثأرهم منه، وسيشتمون كولومب إن شاء الله.
(يدخل المسجونون.)
سجين
:
اسمح لنا يا سيدي ننطرح على أقدامك ونقبِّلها.
آخر
:
فقد أنقذتنا من العذاب، وأرحتنا من الشقاء.
غيره
:
شكرًا لك يا نصير العدل وعماد الرحمة.
فرنسيس
:
قد فعلت مشيئة ملككم العادل أيها الإخوان، قد سمعت نداء الضمير، وشعرت
بالروح أنكم مظلومون؛ ولهذا قد أنقذتكم، وعن قريب ترون كيف أعاقب الظالم
المتمرد، فادعو إِذَن لجلالة الملك بالنصر.
المسجونون
:
فليحيَ الملك، فليعش الملك.
فرنسيس
:
لماذا قضى عليكم كولومب بالسجن؟
واحد
:
قسمًا برأس الملك، قبض علينا لأننا طلبنا قبض مرتباتنا، سجننا ليتخلص من
مطالبتنا له.
آخر
:
ما أمرَّ ذاك السجن يا مولاي! هواؤه بارد نتن والقذارة تملأ غرفه،
كأنَّما صنع للانتقام والحكم بالإعدام.
فرنسيس
:
إن قلبي يتفطر من سماع هذه الأحاديث المفجعة.
(يدخل خادم.)
جندي
:
مولاي، قد أوشك كولومب أن يصل.
فرنسيس
:
خذ هذا الأمر إِذَن وبلغه إياه قبل وصوله، جنودي كونوا على حذر.
(يدخل كولومب وبرتلماوس في الباب فيدفع الخادم الأمر إلى
كولومب فيقرؤه ثم يقول.)
المشهد الرابع
(كولومب – فرنسيس – برتلماوس – مرتين (خادم كولومب))
كولومب
:
وهنت قواي، خانتني ركبتاي، ماذا أرى؟ أتكذبني عيوني؟ ماذا أسمع؟ أتصدقني
آذاني؟ أهذا توقيع الملك؟ لا أصدق، هذا سحر، هذه طلاسم! الملك يأمر بخضوعي
للمعتمد وأنا ملك هذه البلاد، يا خيبة الأمل بعدلك يا فرديناند! آه ما أتعس
حظي! أماتت الملكة حتى صدر مثل هذا الأمر؟ حتى اقترف الملك هذا الجرم، أمات
ستنجل؟ أتقلبت الأحوال، آه ما أشقاك يا كولومب! أهذا جزاؤك؟ أهذه المكافأة
على خدماتي العديدة؟!
أي حجارة مملكة إسبانيا انطقي، أنا كولومب طفت الدنيا، تعرضت للأخطار
والأهوال حتى أسست مملكة جديدة تخفق فوقها أعلام إسبانيا، أهذا يكون جزائي؟
تبًّا لأحكام هذه الدنيا! لا عدل في هذا العالم، قد فعلت ما فعلت لمجدك
أيها الإله الأعظم، فمنك وحدك أرجو الجزاء! إن ملوك هذا العالم دون عدلك يا
ملك الملوك، أنت ينبوع العدالة يا الله، آه ما أحلى الموت قبل
السقوط!
برتلماوس
:
أخي تجلد ولا تخف، فأنت ملك هذه البلدان.
كولومب
:
لا تاج ولا صولجان ولا ملك بعد الآن (ويسقط على
الأرض).
برتلماوس
:
رباه ماذا جرى؟ أخي بحقك أخبرني.
كولومب
(برباطة جأش)
:
يا من يرد إليَّ ما فقدت يدي
هيهات ليس يُردُّ أمس إلى الغد
فقدت يدي طيب الحياة وهل تُرَى
لي مطمع في الغابر المتجدد؟
قد خانني صحبي وأنصاري وما
قد عاد لي بين الورى من منجد
واليوم فردينان أصدر أمره
يقضي بطاعة أمر باغٍ معتد
قد كنت أُحسَدُ سيدًا في ملكه
وغدوت أحسد عبد عبد السيد!
رباه ما لي غير حلمك ناصرٌ
في الضيق فلتكمل مشيئة سيدي
(ثم ينهض متجلدًا ويقول لفرنسيس) إن
مولاي الملك يأمرني بالخضوع لأوامرك يا حضرة المعتمد، أتريد أن تفحص عن
تصرفاتي، فهات المدعين فأنا ماثل بين يديك.
فرنسيس
:
لا داعٍ ولا مدَّعٍ، قد عرفت كل شيء يا كولومب.
كولومب
:
إِذَن أنا بين يديك فمر بما تشاء.
فرنسيس
:
باسم الملك فردينان أنا فرنسيس بوفاديليا، قد حكمت على كريستوف كولومب
وأخويه بالإعدام جزاء خيانتهما.
كولومب
:
الإعدام؟! الإعدام جزاء أعمالي؟! هذا خير جزاء!
فرنسيس
:
جنودي كبِّلوا كولومب بالحديد (لا يقدم
أحد) جنودي تقدموا (لا يقدم
أحد) أتخافون هذا الرجل وهو خاضع مسلِّم؟ جنودي تقدموا
(لا يقدم أحد) أساحرٌ هذا الرجل؟ ما
هذا؟!
(يتقدم خادم كولومب الخصوصي.)
مرتين
(خادم كولومب)
:
هاتوا القيود لأكبله (ثم يأخذ القيود ويبدأ
بتقييده).
كولومب
:
يوضاس سبقك إلى هذا العمل يا خادمي الأمين.
الجمهور
:
يغطون وجوههم، والخادم يقيد كولومب وبرتلماوس.
فرنسيس
:
أخرجوا هذين الخائنين إلى السجن حيث أخوهما الثالث، وهناك ينتظرون ساعة
الإعدام.
(يسدل الستار)
القسم الثاني
(يمثل الملعب سجنًا مظلمًا.)
المشهد الخامس
(كولومب ودياكو وبرتلماوس في السجن – دياكو وبرتلماوس
نائمان)
كريستوف كولومب
:
أيُّ قلب نظير قلبي معذَّبْ
وعلى نار حزنه يتقلَّبْ
أنشب الدهر في فؤادي مخلبْ
فأراني برق السعادة خُلَّبْ
ما أمرَّ الحياة! طاب مماتي
أين مجدي والملك والتيجانُ؟
أين أين البرفير والصولجانُ؟
أين جندي بل أين فردينانُ؟
غدروا بي وكلهم قد خانوا
ما أمرَّ الحياة! طاب مماتي
لم يعد لي غير الشقا والسلاسل
وعذابٌ ما إن له من مماثل
ظلموني وحكمهم غير عادل
فكأني لص أثيم قاتل
ما أمرَّ الحياة! طاب مماتي
بعد ذاك العلا وسكنى القصورِ
بعد جوب الدُّنَى وخوض البحورِ
بعدما كنت سيد المعمورِ
بتُّ في السجن مثل مرءٍ حقيرِ
ما أمرَّ الحياة! طاب مماتي
أيها السجن مدفن الأحياء
رقَّ وارحم تعاسة الأبرياء
يا قيودي ألا تجيبي ندائي
خففي الوطءَ وارحمي أعضائي
ما أمرَّ الحياة! طاب مماتي
إيهِ كولومب يا أمير البحارِ
صاحب التاج فاتح الأقطارِ
لا يغرنَّك الزمان حذارِ
فاصطبر واحتمل قضاء الباري
ما أمرَّ الحياة! طاب مماتي
إن قومًا خدمتهم ظلموني
فوق شوك الهوان قد طرحوني
وبهذه القيود قد كبَّلوني
فلقيت العذاب بين السجون
ما أمرَّ الحياة! طاب مماتي
أأرى بعدُ وجه «إيزابلا»
مثل بدر بين الدجى يتلالَى؟
ملكة لا تخيِّب الآمالا
آه يا رب قرِّبنَّ المجالا!
ما أمرَّ الحياة! طاب مماتي
يا إلهي، أشفق على أخويَّا
وبعين الرضا انظرنَّ إليَّ
وغيوث الصبر اسكبنَّ عليَّ
لم يعد لي من ذلك المجد شيَّا
ما أمرَّ الحياة! طاب مماتي
إن شخص المنون بات أمامي
آه من جور معشر الحكام!
أعلينا قضيتَ بالإعدام
يا فرنسيس آه من ظلَّامي!
ما أمرَّ الحياة! طاب مماتي
(دياكو وبرتلماوس يفيقان.)
(كولومب يغمى عليه ويسقط على وجهه.)
المشهد السادس
(المذكورون – السجان – جوزف (صديق كولومب))
دياكو
:
أخي كولومب! كريستوف! استفق، لا تجزع.
كولومب
(يرفع رأسه قائلًا)
:
أنا لا أعرف الجزع يا دياكو، أنا لا أخشى الموت فقد استقبلته قبل الآن
وتقت إليه، ولكنه لم يقترب مني، أنا أتألم من الظلم ويذيب قلبي نكران
الجميل، آه من نظرة وداع إلى البلاد التي اكتشفتها، فتلك أعظم أمنية يطلبها
هذا المظلوم.
برتلماوس
:
آه ما أمر الموت! أَنَقضِي غرباء عن الوطن؟! لا يسكب علينا محب
دمعة.
كولومب
:
سيندبنا التاريخ وتبكينا الإنسانية جمعاء يا أخي وكفانا بذلك
تعزية.
دياكو
:
التاريخ؟! ومن يصنع التاريخ غير الناس يا أخي؟!
كولومب
:
التاريخ يُخطُّ بإصبع العدل ومداد النزاهة، وكل تاريخ لم يكن كذلك يداس
من الناس، التاريخ ينصف يا أخي والمرء يُعطَى حقه تحت الثرى، أنا شديد
الأمل بالتاريخ، وعلى هذا الأمل لا أخاف من الموت.
برتلماوس
:
ولكن أهكذا جزاء الشهامة والإخلاص من الملوك؟!
كولومب
:
أتطلب العدل في كل حين، أتطلب الكمال من الناس؟! لا تطمع بذلك يا أخي،
ولكن أشفق على الظالم فهو أولى بالشفقة من المظلوم.
السجان
:
ثلاثة عقبان من بيضة واحدة.
دياكو
:
قد اكتشفت طريقة ننجو بها.
كولومب
:
إنك تهينني يا أخي، أنا أهرب؟! كولومب يضع في تاريخه نقطة سوداء، لا، هذا
لا يكون، لا تحدِّث نفسك بهذا فيما بعد.
السجان
:
ما أكبر نفس هذا الشيخ، وما أعظم شهامته!
(يدخل جوزف.)
كولومب
:
لماذا أتيت في جنح الظلام؟ وهل سمح لك السجان؟
جوزف
:
أتيت لأعزيك في ضيقتك، وأشدد عزمك. (همسًا) والسجان رشوته بالمال.
كولومب
(يهز رأسه)
:
لا، بل أتيت لوداعي قبل دنو الأجل قبل ساعة الإعدام، فشكرًا لولائك
وإخلاصك يا جوزف.
جوزف
:
لا تخف فبينك وبين الموت مسافة بعيدة.
كولومب
:
نعم، ولكن يد الظالمين تقصر هذه المسافة.
جوزف
:
يعزُّ عليَّ أن أراك ساقطًا تحت أعباء الظلم والعدوان، يعزُّ على العدالة
أن تضحَّى على مذابح الجور، وأنت قد أنقذت شعبًا عظيمًا من عبودية
الهمجية.
كولومب
:
ذاك حظ الفضيلة في هذا العالم، ولكن ثق أني إذا تمكنت من العود إلى
إسبانيا فهناك تظهر براءتي أمام الملك. رباه قرِّب تلك الساعة، ولكن هيهات!
فسيف الجلاد أقرب (يغصُّ بالدموع) (إلى
جوزف) اخرج فإني أسمع وقع أقدام، آه أتت الساعة (يدخل فيليجو ويخرج جوزف) أقبل الجلاد، دنا
الإعدام.
المشهد السابع
(المذكورون – فيليجو)
كولومب
:
أإلى الموت يا فيليجو؟
فيليجو
:
إلى إسبانيا يا مولاي.
كولومب
:
بربك أصدق ما تقول؟ عهدتك صادقًا يا فيليجو، قل الحقيقة، فأنا شجاع وقد
تعودت مثل هذه المواقف.
فيليجو
:
قسمًا برأس مهابتك يا مولاي سنسافر الآن إلى إسبانيا، السفينة مُعدَّة
فتهيأ للذهاب.
أخواه
:
أصحيح ما يقول؟! رباه!
كولومب
فلننهض
:
عليك كل اعتمادي أيها الصمد
ما خاب عبد على مولاهُ يعتمد
(يمشي ويجرُّ قيوده الثقيلة ويتبعه أخواه.)
فيليجو
:
مولاي، أتسمح لي بحل هذه القيود؟
كولومب
:
لا يا فيليجو، قد تعودت طاعة أولياء أمري، بهذا يأمر معتمد الملك، وأنا
خاضع لأمره في السر والعلن.
فيليجو
:
ناشدتك الله تسمح لي.
كولومب
:
لا أيها الصديق؛ فهذه القيود أعظم وسام نلته جزاء أتعابي، ومن لا يفتخر
بالوسام؟! هذه القيود ستحفظ عندي كتذكار عظيم، وستوضع معي في اللحد
لترافقني إلى الأبدية، سيروا بنا ولا تضيعوا الزمان، فالوقت قصير والزمان
ثمين.
(يسدل الستار)
القسم الثالث
(في قصر الملك.)
المشهد الثامن
(الملك – ستنجل – بويَّال الكردينال – ألونزو)
الملك
(إلى ستنجل)
:
لم يرد اليوم شيء من معتمدنا فرنسيس في العالم الجديد.
ستنجل
:
لقد ذهب كغراب نوح ولم يعد.
الملك
:
إِذَن قد اتفق الاثنان عليَّ، أم شبت نار الحسد بينهما فأدت إلى حرب
طاحنة، ولكن لا؛ فكولومب لا يحب الدم.
بويَّال
:
وإذا كان ذلك فلماذا شنق الثمانية وحمَّل الإسبان أحمالًا ثقيلة؟
الملك
:
للضرورة أحكام، ومتى أمثل بنادينا نحاسبه عن كل شيء.
بويَّال
:
ولكن هيهات أن تراه يا مولاي، فهو يدعي الملكية ويطلب الاستقلال.
الملك
:
إلى أين يهرب؟ فلأُنكِّلنَّ به ولو كان في عرين الأسد.
بويَّال
(على حدة)
:
لقد نلت الغاية. (إلى الملك) وإذا
جنَّد يا مولاي عسكرًا من أولئك البرابرة فماذا تصنع؟
الملك
:
نملأ تلك البلاد بأساطيلنا وعساكرنا، ونصب عليها كرات المدافع، وإذا قضى
الأمر فأنا أتولى قيادة الجيش بنفسي كما توليت قيادة جيش غرناطة.
بويَّال
:
جلالة مولاي قدير على كل شيء متى أراد.
الكردينال
:
لا نظن كولومب يعصى هذا العصيان، فهو يطيع الملك عن حب لا عن خوف، ولا
إخاله إلا طائعًا المعتمد بكل ما يقضي.
ألونزو
:
ولكن قطع المخابرات مما يحمل على الريبة وترجيم الظنون.
ستنجل
:
قد أقبلت جلالة الملكة.
(تدخل الملكة.)
المشهد التاسع
(المذكورون – الملكة – أحد البحارة)
الملك
:
هل عرفتِ شيئًا عن العالم الجديد عن كولومب؟
الملكة
:
لا يا سيدي، وهذه المسألة تقلق خاطري!
الملك
:
لقد كنا في غنى عن كل هذا أيتها الملكة لولا …
الملكة
:
نعم أنا كنت السبب، ولم أندم على ما جرى؛ لأن ذلك أعظم فخر للمملكة،
وينبوع ثروة غزير.
الملك
:
ولكن من الاكتشاف للآن لم يرد علينا ما يستحق الذكر.
ستنجل
:
البلاد غنية يا مولاي، فمعادن الذهب فيها لا تحصى.
الملك
:
وفي قلب الأرض معادن، ولكن من يكفل استخراجها؟
الملكة
:
التعب مشروط في كل عمل يا سيدي.
الملك
:
دعونا من هذا الحديث فهو كالأحلام المزعجة، ألم يزل يخشى من ثورة
المسلمين ثانية، أم أخلدوا إلى الهدوء والسكون؟
ألونزو
:
الحالة الظاهرة مرضية، ولكني أظن كل هذا نارًا يغطيها رماد.
حاجب
:
مولاي، بالباب بحري يطلب الدخول، وهو قادم من إسبانيولا.
الملك
:
من إسبانيولا؟ قل له يدخل. (إلى
الحاشية) لا بد أنه يحمل إلينا الخبر الشافي عن مملكتنا
الجديدة.
(يدخل.)
البحري
:
مولاتي، هذا كتاب أمرني كريستوف كولومب برفعه إلى نادي جلالتك.
الملكة
:
هاته (تقرؤه ويظهر على جبينها
الكدر).
الملك
:
وماذا يحتوي؟
الملكة
:
تفضل واقرأ، ظلموك يا كولومب! (وتطرق
برأسها).
الملك
(بعدما يقرأ)
:
كريستوف كولومب مقيد بالسلاسل؟ هذا ظلم، هذا عدوان، ما أفظع هذه
المعاملة!
الملكة
:
هذا بغي أيها الملك، إنها لمعاملة بربرية.
ستنجل
:
يا للجور والبهتان!
ألونزو
:
هذا عار على إسبانيا.
الكردينال
:
ما أقسى قلبك يا فرنسيس!
بويَّال
(على حدة)
:
هذا بعض ما يستحقه ذلك الخائن.
الملك
:
وهل صعد إلى البر مكبَّلًا؟
البحري
:
نعم مولاي، وقد حدثت في المدينة ثورة خواطر، واشمأز الجمهور من هذه
المعاملة، وتصاعدت اللعنات إلى الجو.
الملكة
:
حسنًا فعلوا؛ فهذا ما تأباه النفوس العالية.
الملك
(إلى ستنجل)
:
اكتب إلى رئيس السفينة، ومُره بحل قيود كولومب وأخويه، وأرسل مبلغًا من
المال لينفق على الملبوس اللائق بمقام كولومب وشقيقيه.
البحري
:
مولاي، قد طلب إليه الضابط فيليجو أن يحل قيوده في البحر فأبى؛ لأن ذلك
بأمر معتمد جلالتكم وهو لا يعصي لكم أمرًا.
الملك
:
ما أكرم هذا الرجل! عجِّل أيها الوزير وأصدر الأوامر كما قلت لك وحرر
لكولومب أن يعجِّل بالحضور، وبيِّن له أسفنا الشديد على هذه المعاملة
الجائرة.
(يخرج ستنجل ويتبعه البحري.)
المشهد العاشر
(المذكورون)
الملكة
:
لقد طُعن قلبي بسهم حاد من جراء المعاملة الجائرة.
الملك
:
سنسكب على قلب كولومب المجروح بلسم التعزية، وكفاه فخرًا أننا صرحنا له
بأنه مظلوم، وأن ذلك ساءنا أشد الاستياء.
الكردينال
:
بارك الله بعدلك وحلمك يا مولاي.
الملك
:
ولكن لماذا فعل ذلك فرنسيس، لا ريب أن في الزوايا خبايا.
ألونزو
:
سيظهر كل شيء عند حضور كولومب.
الملكة
:
وا شوقي إلى مرآهُ، ووا أسفي على تعاسته!
بويَّال
:
لا تأسفي يا سيدتي، ومن هو هذا الرجل حتى يستحق أسف الملكات؟!
الملكة
:
اسكت فأنت عدو لئيم، بل سبب كل هذا، أما فرنسيس الماكر فسنريه.
الملك
:
لا تغضبي أيتها الملكة، لا تغضبي، فأنتِ أكبر من الوعيد، هدِّئي روعك
ومُري بما تشائين، عن قريب سيأتي كولومب ولا نخرجه إلا حامدًا
شاكرًا.
الملكة
:
شكرًا لك يا مولاي.
(يدخل جندي.)
المشهد الحادي عشر
(الملك – الملكة – كولومب – جندي)
جندي
:
مولاي، قد أقبل كريستوف كولومب.
الملك
:
فليدخل (يخرج الجندي) انعمي بالًا فقد
أقبل ابنكِ.
الملكة
:
ولي الفخر يا مولاي.
يدخل كولومب ويركع أمام الملكة والملك، فتغص عيناها
بالدموع، ويظل نحو دقيقة لا يتكلم، فتنهض الملكة عن عرشها، وتأمره بالنهوض ثم
تأخذ بيده قائلة:
الملكة
:
انهض يا كولومب، انهض أيها المجاهد العظيم.
(ينهض.)
الملك
:
اجلس عن يميني أيها المخلص الأمين!
كولومب
:
لا أجلس قبل أن تظهر براءتي أمام سيدي، فمر لي بالكلام.
الملك
:
لقد ظهرت لنا براءتك ولا حاجة إلى البرهان، ولكن تكلم.
كولومب
:
ظُلمت يا مولاي، ولكن الالتفات الملوكاني العظيم أنساني كل شيء، أنا لم
أفعل إلا كل ما به خير المملكة، خاطرت بحياتي، كدت أُقتَل من رفاقي، كدت
أغرق، تحملت الجوع والبرد، لم يبق خطر ولم أقع به، ومع ذلك لم أخرج عن
دائرة الواجب، حصَّلت للمملكة شرفًا ومالًا وجاهًا؛ ولذلك يعزُّ عليَّ أن
أُسلَّم إلى الحساد القساة ليفعلوا بي ما يشاءُون وتشاء أهواؤهم، إذا قضت
عليَّ الظروف أن أعامل الشعب بالقسوة فذاك لأن القسوة واجبة، ولولا ذلك لم
أثبت في تلك البلاد البربرية، فأين بوفاديليا وأين من شكاني إليك؟ لماذا
حكم عليَّ بالإعدام؟ ولماذا لم يحاكمني؟ العدل العدل! لا أطلب غير العدل،
فإذا استحققت الموت، فأنا أقبله بكل طوع واختيار.
الملك
:
مهلًا فقد قضينا بإسقاط بوفاديليا جزاء خيانته، وأنت لا تستحق عندنا غير
التجلة والإكرام، وكل ما وعدناك به من الإنعامات، نزيد عليها ما ستراه أيها
الأميرال.
كولومب
:
مولاي، أعظم مكافأة أطلبها هي إرجاعي إلى مقامي.
الملك
:
إن مملكة إسبانيا بل العالم بأسره مدين لك يا كولومب، ولكن رجوعك الآن لا
يوافق؛ لأنك تعبت وصحتك لا تساعدك على ذلك.
كولومب
:
أنا رجل أحب أن أموت في ساحة الجهاد يا مولاي.
الملك
:
ولكن الآن لا يناسب رجوعك إلى ما كنت عليه بسبب القلق السائد في تلك
البلاد، ولكن متى نُسِيت تلك الحوادث تعود إلى رتبتك ومقامك، والآن فقد
أمرنا بإرسال أوفاندو حاكمًا إلى تلك البلاد، وتجهيز ثلاثين سفينة
لسفره.
كولومب
(على حدة)
:
ما أشقاني! يا لتعاسة حظي! ليس بهذا يقضي العدل، (إلى الملك) ولكن أنسيت يا مولاي أن هذا من
حقوقي بموجب الشروط التي وقعتموها جلالتكم في سنتنافه؟ فعاملني بموجب
الشروط وأنصف يا جلالة الملك.
الملك
:
إن الإنصاف الآن وخيم العاقبة، فعد عن هذا الطلب.
كولومب
:
وا خيبة الأمل! (يفكر قليلًا) مولاي،
إِذَن لا أمل بالعود.
الملك
:
كلا أيها الأميرال.
كولومب
:
يقنعني بهذا اللقب، إِذَن مر لي ببضع سفن لأكتشف طريقًا جديدة أعلل النفس
بها بين جزيرة كوبا والأرض التي اكتشفتها.
الملك
:
سنأمر لك بذلك، فطب نفسًا وقرَّ عينًا.
كولومب
(على حدة)
:
هذي مكافأتي العظمى على تعبي
تبًّا لكولومب منكودًا وأي شقي
إني رضيت بما جاد المليك به
جندي
:
من فاتهُ اللحم فليشبع من المرقِ
(يرخى الستار)