مقدمة
عنوان هذا الكتاب هو خلاصةٌ موضوعةٌ في أربع كلمات، وهو النتيجة التي ينتهي إليها البحث في الكتاب؛ فموقف الشرقيين بين الشيوعية وبين الاستعمار أنه لا شيوعية ولا استعمار.
ولمَن شاء أن يوازن بين الخطَرَيْن، ولكن الموازنة بينهما ليست من أغراض هذه الرسالة؛ فكلاهما خطرٌ وكلاهما حقيقٌ بالحذر والاجتناب، وقد يشتد الخطر من مرضٍ ويهون الخطر من مرض، ولكن الطب لا يبحث الأمراض ليوازن بينها وإن عرف مبلغ الخطر من كلٍّ منها، وإنما يبحث الأمراض ليمنعها جميعًا ويعالج كلًّا منها بالعلاج الذي يناسبه، ويحتاط لكلٍّ منها بالحيطة التي تدفعه، ومَن كان يعلم أن الزكام أهون شرًّا من السرطان، فهو لا يعلم هذا العلم ليختار الزكام ويدفع السرطان؛ إذ لا يُصَاب المريض بالداء إلا على اضطرارٍ لا خيرة فيه.
ولا حيدة بين مصيبتين، ولا إنصاف في الموازنة بين شرين؛ فإن الحيدة والإنصاف عمل القضاء الذي يتساوى لديه الطرفان، وأما المُهدَّد بالمَصَاب فلا حيلة له فيما يهدده غير العداء والمقاومة، فإنْ فعَلَ غير ذلك فهو واقفٌ من الشر موقف الغريب، بل هو واقفٌ موقف الغريب من نفسه ومن وجوده، كأنه ينظر إلى وجودٍ لا يعنيه.
قلتُ في مقدمة كتابي عن هتلر: «في هذا الكتاب ما أنا بقاضٍ ولا يسرني أن أكونه؛ لأنني لا أُحسِن التسوية بين الخصمين في قضية الطغيان والحرية الإنسانية، وأحمد الله أنني خصمٌ قديمٌ فيها منذ نيف وثلاثين سنة.»
وأكرِّر في الكلام على الشيوعية والاستعمار ما قلته عن النازية ودين الغصب والقسوة؛ فلا قضاء هنا بل عداء، ومَن كان يعلم الشيوعية والاستعمار حق العلم ثم ينظر إليهما نظرة الغريب الذي لا يعنيه أمرهما، فهو مجرم، ومَن كان يجهلهما، فهو أحجى ألَّا يقف منهما موقف القضاء ولا موقف العداء.
•••
ويأبى علينا الموازنة بين الشيوعية والاستعمار شيءٌ آخَر، وهو أن الشيوعية استعمارٌ يحيط بعيوب الاستعمار كله، وليس استعمارها طارئًا من طوارئ الضرورة الموقوتة تخضع له اليوم وتنبذه بعد فترة تقصر أو تطول، بل هو أساس من أسس المذهب الشيوعي لا فكاك منه في أول الطريق، ولا في آخِر الطريق، فإنه المذهب الذي يقرِّر لأصحابه أن السيطرة على ثروة الأمة شرطٌ لازمٌ للسيطرة على أزمة السياسة فيها، فمَن رفع يديه عن ثروة بلدٍ من البلدان فلا بقاء لسلطانه فيه.
فالشيوعية والاستعمار — من ثَمَّ — لا يتناقضان، ولا موازنة بينهما على هذا الاعتبار، وإذا جاز أن تنعقد الموازنة، فإنما تكون بين جهد الكفاح للشيوعية وجهد الكفاح للاستعمار، أو بين الخطر المُقبِل والخطر المُدبِر، وسيكون هذا مدار البحث في الفصول التالية لينتهي إلى نتيجةٍ واحدةٍ، وهي أننا لا نختار في مقاومة الخطَرَيْن إلا بمقدار ما نستعدُّ للمقاومة بسلاحها النافذ في جميع الأحوال.