الشيوعية من الوجهة العلمية
كان الشيوعيون يسمون مذهبهم بالفلسفة المادية، أو بالاشتراكية العلمية، أو بالاشتراكية التقدمية، ويريدون بذلك أن يميِّزوا فلسفتهم من الفلسفات التي تقوم على المبادئ الروحية، أو تبني الاشتراكية على الدين والعاطفة، وترجع بها إلى قواعد الأخلاق المقرَّرة في العُرف والعقيدة.
وكانت هذه الأسماء تسوغ في الأسماع عند المناداة بها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، قبل أكثر من مائة سنة.
كانوا يومئذٍ يحسبون أن «المادة» شيءٌ ملموسٌ مفهومٌ غنيٌّ عن التفسير، صالحٌ لتفسير كلِّ شيء بحقائقه ومقاييسه.
وكانوا يومئذٍ يظنون أن العلم قادر على كل معضلةٍ، كاشفٌ لكل سِرٍّ، واصلٌ إلى كل حقيقة.
وكانوا يومئذٍ ينكرون العاطفة الإنسانية والمطالب المثالية، كأنها ضلالة مسلمة لا تكون حيثما كانت إلا مناقضة للعقل والرأي القويم، مسترسلة مع الأهواء الكاذبة والأوهام الخادعة.
وكل أولئك اليوم سخف لا يستند إليه صاحب رأي، ولا يُقنِع أحدًا من الماديين أو المثاليين.
فالمادة نفسها غير مُفسَّرة وغير مفهومة، فهي من باب أولى لا تفسِّر ما عداها، ولا تزال سرًّا من الأسرار يتطلب منا الفهم ولا يُدْنِينا من فهم غيره.
كان «المادي» قبل مائة سنة يخبط الأرض بقدمه، ويقول: «هذه هي الحقيقة التي تستند إليها، وأما ما عداها من الآراء المثالية والعقائد الروحية، فهي خيال أو ضلال.»
فاليوم يعلم أن مادة الأرض التي يخبطها بقدمه أبعد حقيقة، وأعسر فهمًا من كل ما يُقَال عن الروحيات والمثاليات.
ما هي هذه المادة؟ هل هي لون؟ هل هي جسم؟ هل هي ثقل؟ هل هي امتداد؟
لا … إن اللون عارض من عوارض النور، والنظر يتغيَّر على حسب الإضاءة وعلى حسب العين التي تراه.
والجسم كله ذرات تنشق فتتحول إلى اهتزاز في الأثير، ولا يدري أحدٌ ما هو الأثير؛ لأنه لا طعم له ولا جرم ولا حركة، ولا فرق في المدلول عند عارفيه بين كلمة الأثير وكلمة الفضاء.
والثقل لا وجود له خارج نطاق الجاذبية، والامتداد شيء لا يُفهَم؛ لأنه لا يتناهى في القِصَر، ولا يتناهى في الطول، سواء نظرنا إلى امتداد الزمن أو امتداد المكان.
فالمادة أخفى من الروح.
والفيلسوف الذي يدق الأرض بقدمه، ويتوهم أنه وضعها على حقيقة الحقائق ليس له رأس أصح من تلك القدم في فهم حقائق الأشياء.
أما «العلم» فقد ذهبت عنه فتنة الغرور الاولى، واضطر — راغمًا — إلى التواضع في دعواه، فغاية ما يدَّعِيه اليوم أنه يصف ويسجل، وأن مجموعة العلم كله إنما هي مجموعة علوم وتسجيلات، وأن ما كان يعرفه علماء العصر الذي نشأت فيه الاشتراكية العلمية لا يفسِّر ظاهرةً واحدةً من ظواهر زمنه، فضلًا عن تفسير الظواهر الطبيعية والتاريخية والنفسية عامةً تامة من مبدأ الخليقة الى آخِر الزمان.
أما الزراية بالعاطفة الإنسانية، فيقابلها في العصر الحاضر إفراطٌ في التعويل على خفاياها وتخريجاتها، ودراسة لكل سرٍّ بمسبار العاطفة حتى «الفلسفة المادية»، وبواعثها من نفوس الماديين.
•••
ولا محل لبيان التناقض بين دعوى «التقدمية» وبين الرجوع في كلِّ رأي إلى فكرة إنسانٍ عاش في أوائل القرن التاسع عشر، كائنًا ما كان نصيبه من العلم والذكاء.
وقد يجوز قبل مائة سنة أن يُقَال عن دعاوى الفلسفة المادية إنها مقررات علمية تنظر إلى الوقائع المحسوسة، ولا تُنبِئ عن نتيجة من نتاج الأطوار الاجتماعية، إلا كانت حقيقة من حقائق الرياضة التي لا تقبل الاختلاف بين حاسبٍ وحاسبٍ ولا بين حينٍ وحينٍ.
فلعل هذا كان جائزًا قبل مائة سنة … أما اليوم فكل الحقائق المحسوسة التي أنبأ بها كارل ماركس، فهي أباطيل محسوسة لا يمتري فيها ماديان ولا مثاليان.
كان يقول: إن أمم الصناعة الكبرى هي الأمم المُعرَّضة لظهور الشيوعية فيها. فإذا بالأمر ينقلب من النقيض إلى النقيض، وإذا بالشيوعية تظهر بين الأمم على قدر خلوها من الصناعة الكبرى.
وكان يقول: إن إلغاء رأس المال يقضي على أسباب الاستبداد، ويمنع تعدُّد الطبقات. فإذا بإلغاء رأس المال في روسيا ينتهي إلى استبداد يتحكم في السياسة والثروة العامة والخاصة، ويتحكم في الأرواح والأقدار، ويُخرِج للمجتمع طبقةً من الحكام أقوى من الطبقة المعاصرة لها في كل أمةٍ من أمم رأس المال.
وكان يقول: إن الثروة تتجمع ولا تتوزع. فإذا هي تتوزع وتنتشر حتى يعد الشركاء في المصنع الواحد بالألوف.
وكان يقول: إن المطبعة والورق والبارود والمدن التجارية هي عوامل التاريخ في الحضارة الأوروبية. فإذا بهذه العوامل جميعًا قد وُجِدَت في الصين قبل وجودها في الغرب بألفي سنة، وبين حضارة الصين وحضارة الغرب أبعد ما يكون من فارقٍ بين حضارتين.
كذلك لم يظهر من حركات الشيوعية في العصر الحديث أنها حركات خاصة بالصناعة الكبرى، أو بحالةٍ دون غيرها من الحالات الاقتصادية أو الاجتماعية، فإن هذه الحركات قد ظهرت بين زراع سبرطة، وبين عمال روما وبين طوائف الزنج في البصرة، ولم يكن لها من سببٍ في جميع هذه الحالات إلا ازدحام المتذمرين في مكانٍ واحدٍ، واغتنامهم للفرصة من ضعف الدولة على إثر هزيمة حربية أو كارثة داخلية؛ فما حدث في روسيا بعد الحرب العالمية الأولى كان يصح أن يحدث فيها قبل ألف سنة، كما حدث في غيرها، وما كان حدوثه في روسيا لأنها بلاد صناعية، ولا لأنها تطورت بالأطوار الاجتماعية التي قرَّرتها الفلسفة المادية، ولكنه حدث لأن الجيوش المنهزمة ثارت فاستولت على زمام الثورة فيها طائفة منظَّمة، كالطائفة التي استولت على حركات النازيين والفاشيين بين الألمان والإيطاليين.
ونكاد نعتقد أن حركات الثورة التي نشبت في روسيا وما ماثلها، كانت تنشب فيها بعنوانٍ من العناوين غير الشيوعية، لو لم يولد كارل ماركس، ولم ينتشر بين أتباعه مذهب يُسمَّى بالفلسفة المادية أو الاشتراكية العلمية، فما كان حتمًا لزامًا أن يشيع في روسيا مذهب رجل وُلِد في ألمانيا، ودرس مذهبه في انجلترا وجمع مؤتمراته في سويسرا أو بلجيكا أو بلاد الشمال، وكلُّ عنوان صالحٌ لإلصاق اسمه بالحركة الثورية متى هزلت الحكومة وتجمَّعَ الثوارُ متمردين في مكانٍ واحدٍ، فإذا كانت للشيوعية مَزِيَّة في هذا الباب على سائر الدعوات، فمَزِيَّتها أنها غنية عن المجهود العقلي في إقناع المتمردين المتذمرين بالاستماع إليها، فإنه ما من مذهبٍ من المذاهب الثورية إلا وهو في حاجةٍ إلى بعض المجهود العقلي لتعليم المبادئ وبث العقائد وتقرير الآراء إلا الشيوعية … فهي على نقيض ذلك لا تحتاج إلى مجهود للإقناع، بل إلى إسقاط كل مجهودٍ، وإعفاء الذهن من كل إقناع، فلا وازع ولا عُرف ولا رياضة للفكر أو للخلق على سُنَّة مُتَّبَعة، ولا مبدأ مرعي ولا صفة مطلوبة، بل المطلوب كله نكسة إلى حالة البهيمية السائمة، أو إلى شرٍّ من حالة البهيمية السائمة؛ لأن البهيم في القطيع يدين ببعض الموانع، ويحجم عن بعض الدوافع، وليس للشيوعي مانع يمنعه ولا دافع يحجم عنه، إلا أن يكون مانع القيد ودافع السوط والعصا.
والمجتمعات الإنسانية منذ كان لها نظام مُتَّبَع في عهد القبيلة تنشئ العادات والشرائع، وتروِّض النفوس على سُنَن الأخلاق والآداب، وتهديها الفطرة إلى ضرورة الوازع لجمحات الجهل والشباب، وتنقضي الأحقاب بعد الأحقاب، ولا يزال الجهل والشباب بحاجة إلى وازعٍ جديدٍ يعزز ما تقادم عليه العهد من وازعٍ قديمٍ. وهذا هو العمل الإنساني الدائم الذي لا يستغني عن جهد العقول ورياضة النفوس، وهذا هو السد الذي يصد التيار الجارف ويسوسه للري والخصب بدلًا من إطلاقه للخراب والبوار. وما من مذهبٍ من مذاهب الثورة والإصلاح يستغني عن رياضة ذلك التيار بشيءٍ من التوجيه والتنظيم، إلا الشيوعية التي تعلن أن الخراب مطلوب، وأن الوازع مكروه، وأن الجهل والشباب معًا لا يحتاجان إلى وازعٍ ولا رياضة، ولا يمنعهما مانع أن يستبيحا كل محظور.
ما حاجة هذا المذهب إلى مجهود؟ إنما يحتاج إلى إعفاء النفس من كل مجهود، ولا صعوبة في ذلك على مخلوقٍ جاهلٍ مغلوبٍ على هواه.
فالشيوعية هي مذهب الطفل الممسوخ الذي نفهم أن الذنب على أبويه، وعلى البيت وعلى المدرسة، وعلى الأمة وعلى الخلق والخالق، ولكنه لا ذنب له في أمرٍ من الأمور، ولا حرج عليه أن يقعد عن كل عملٍ ويكسل عن كل واجبٍ، ويطالب بكل حقٍّ، ويسيء إلى كل إنسان.
•••
ومن الخطأ المتواتر أن يُقَال: إن الشيوعية مذهب الطبقة العاملة أو الطبقة الفقيرة؛ لأنها في لبابها مذهب طباع وأخلاق يتقبله كل مَن تلوَّثت طبائعه بلوثة اللؤم والأنانية، وأسقط عن نفسه تبعة العمل ومئونة التكليف، وغلبت فيه الكراهية والحسد على محبة الخير للناس، ولا يتقبل الشيوعية فقيرٌ محرومٌ برئت نفسه من هذه اللوثة، واستقر في طبعه الإيمان بالجد والكفاية، وإنما يتقبلها المحروم إذا خامرته مع الحرمان رذيلة الحسد والكسل، وسوَّلت له الأنانية أن يطمع في جميع الحقوق، ويُسقِط عن كاهله جميل الفروض والتكاليف، ومَن كان كذلك من الأغنياء فهو شيوعيٌّ، وإذا لم يكن من العاملين باليد أو من ضحايا الحرمان.
وقد أسس الشيوعية اثنان لم يكونا من أبناء الطبقة العاملة ولا الطبقة الفقيرة؛ فكارل ماركس من الطبقة الوسطى، وفردريك إنجلز من الطبقة الغنية، ولكنهما من المستعدين للشيوعية بالطباع والأخلاق، وكلاهما نموذج للطبع الممسوخ في اتجاهين متقابلين.
كان كارل ماركس كما يقول أبوه «أنانيًّا»، لا يربطه بأسرته إلا اعتقاده أنها «مخلوقة من الذهب» تعطيه منه كل ما يبتغيه، وكانت أمه تقول له إنها تخشى أن يظل طوال عمره عالة عليها، وكان صديقه وصفيُّه «إنجلز» يصفه بجمود العاطفة وحب التعالي على أصحابه بهذا الجمود، وعاش داعية «العمل» زهاء ثلاثين عامًا لم يعمل فيها ما يكفي لقوته عامًا أو بعض عام.
ولم يكن إنجلز عالة على الناس في رزقه، ولا احتاج أن يكون عالة عليهم في أمرٍ من أمور المعاش، ولكنه كان عالة عليهم بطبعٍ مؤنثٍ مدخول يلقي زمامه لكل مَن عاشره ولو كان من النساء، ويحب الثورة كما تحب الطبائع المؤنثة مناظر العنف وسورة الغضب والهياج.
وأقطاب الشيوعية من تلاميذ ماركس وإنجلز يجذبهم إلى «المذهب» طبعٌ فاسدٌ، قبل أن يجذبهم إليها رزقٌ محدودٌ أو عيشٌ مكدودٌ. كان لينين في طفولته يتلهى بكسر أجنحة الطير، وتهشيم الحيوانات الأليفة، ويقول في شرح برنامجه مع مخالفيه إن أسلوبه معهم أسلوب السحق والإبادة، ولا شأن له معهم بالمناقشة والإقناع، ويكتب إلى صاحبه جوركي فيقول إن فناء ثلث العالم الإنساني لا يعنيه، وإنما يعنيه أن تستقر الشيوعية على أساس.
وكان ستالين مجرمًا مُشوَّه الخلق لا يتورع أن يرمي مركبة البريد بالقذيفة المتفجرة ليسطو على مرتبات الموظفين المنقولة فيها، ويقضي صباه بين التجسس للقيصر والحماسة للثورة، ثم يتولَّى الحكم فيبيد من أساتذته وزملائه أضعاف مَن أبادهم القياصرة من آل رومانوف.
•••
وباب النجاة من وباء الشيوعية فيما نعتقد أنها مذهب لا يقوم على آرائه ولا على أخلاقه مجتمعٌ صالح للبقاء والتعمير؛ إذ كانت في صميمها «سلبية» هادمة لا يُقَام عليها بناء من مادتها، ولا تصلح مادتها بحالٍ من الأحوال للبناء، ولو خلص المجتمع الروسي — بعد الثورة — للشيوعية على حقيقتها لما تماسَكَ، ولا انتظم خلال هذه السنين الأربعين، وإنما يتماسك المجتمع وينتظم هناك بمقدار المخالفة بينه وبين الشيوعية لا بمقدار المطابقة والتوفيق؛ فكل ما قامت الشيوعية لهدمه فهو موجود يتمكَّن مع الزمن ولا يؤذن بالزوال. ونظام «رأس المال» لم يتغيَّرْ منه إلا أن رءوس الأموال بحذافيرها قد اجتمعت في أيدي الدولة، فتولت إدارتها لتثبيت أقدامها على الرغم من مشيئة كل ذي مشيئة في البلاد، ولا عبرة بمَن يعيشون ويموتون في كل وطنٍ مُنْسَاقين منقادين بغير مشيئةٍ للموافقة ولا للإنكار … فأمثال هؤلاء سواء في طاعة السادة من الشيوعيين، والسادة من الفاشيين والنازيين، وأصحاب رءوس الأموال، ولا يعدم نظام رأس المال طاعةً كطاعتهم في مجتمعات الحرية أو مجتمعات الاستبداد.
ولا مذهب الآن بعد الإيغال في الابتعاد عنه كلما استحال تطبيقه على مبادئه النظرية، بل تقوم الدولة اليوم مقام المذهب وتود لو تخلصت منه ما استطاعت، ولكنها لا تستطيع؛ لأن بقاء المذهب هو حجة البقاء للدولة وحجة النظام الذي تستند اليه، وهذه هي «النقيضة» التي ستقضي على المذهب أو على الدولة في النهاية؛ فلا بقاء لهما مجتمعَيْن.
يقول الماركسيون: إن نظام «رأس المال» نظام تقضي عليه نقائضه التي لا تقبل التوفيق.
ونقائض رأس المال لم تقضِ عليه حتى الآن، ولكن الخلاص من نقائض الشيوعية يجشمها من متاعب الحيرة ما لم يتجشم رأس المال.
فالسلام في العالم جو لا تعيش فيه الشيوعية؛ لأن طلب القرار وطلب الفتنة نقيضان.
والسلام في العالم حالة لا تستغني عنها الدولة؛ لأنها لا تقوى على محاربة العالم بمذهب يفقد حجته في بلادها، ولا يستطيع أن يخلق له حجة غالبة في خارجها.
لا أمان مع السلام ولا بغير السلام.
ولا بد في النهاية من زوال المذهب أو زوال الدولة.
وقد زال نصف المذهب إلى الآن، وما بقي منه فالدولة حائرة فيه؛ هل تتشبث به وتبقيه أو تتخلص منه وتلغيه؟