آداب الاستعمار
تعوَّدَ الناس من الاستعمار قلة الصدق وكثرة الكذب، وأَلِفوا منه نقض المواثيق وخلف المواعيد، وتسايرت الأمثال بهذه الخلة فيه حتى شهد بها زبانية الاستعمار كما شهد بها ضحاياه، ولكنهم يشهدون بها اضطرارًا ليقولوا إنها واسطة تبرِّر الغاية، وإنها حيلة معيبة في سبيل مصلحةٍ محمودةٍ، وربما غلا بعضهم في دعواه، فزعم أنها مصلحة للمغلوبين ومصلحة للغالبين، وأنها في أمر المغلوبين كمصلحة الطفل القاصر الذي يُسَاق إلى نفعه ولا يقدر على إدراكه.
والاستعمار على اتفاق الأقوال كذوب، إلا أن الكذب خليقة نفسية يُوصَف بها الإنسان، ولا تُوصَف بها الحركات الاجتماعية أو حركات الأمم والحكومات، وأصح من ذلك أن يقال إن الاستعمار مستغل يقوم على الأثرة، وأن آدابه كسياسته في هذه الخلة، فما تواضع عليه من آداب فهو آداب استغلال، وما تواضع عليه من سياسة فهو سياسة استغلال.
•••
إنه يستغل الرذيلة كما يستغل الفضيلة: يستغل الجبن والخسة والحرص على المنفعة العاجلة كما يستغل المبادئ الكريمة والخلائق المحبوبة، فلو جمع ما قيل في الدعوة إلى الحرية والسلام والرقي والحضارة لوقعت حصته الكبرى في جعبة المستعمرين، وما انقضت فترةٌ قَطُّ في العصور الأخيرة على غير «رسالة إنسانية» جميلة، يترنم بها دعاة الاستعمار من أصحاب السيف والنار إلى أصحاب الأقلام والأفكار.
إلا أننا نتبرع للاستعمار بالشرف الأكبر إذا قلنا مع القائلين إنه يخلق ثلث الدعوات، ويخترع رسالتها اختراعًا من عنده؛ ليدرك بها مأربه ويخدم بها قضاياه.
وفي بعض المفسرين الماديين للتاريخ وَلَعٌ بإسناد الرسالات الإنسانية منذ القِدَم إلى سماسرة الاستغلال من الساسة وأصحاب الأموال، فلا غيرة في رأيهم على حرية الأرقاء، ولا على قضية السلام، ولا على أمثالها من القضايا، لولا المآرب التي يعمل لها المستعمرون والمستغلون، ويحاربون من أجلها مَن يحاربون، أو يسالمون مَن يسالمون.
عدو جاهل ولا مراء، ولو قال هؤلاء الماديون إن آداب الاستعمار زائفة وإن نياته غير خالصة، وإنه يستغل المبادئ بعد وجودها واصطلاح الناس على إكبارها وتأييد العاملين لها، لصدقوا وبلغوا ما يريدون من كشف النيات، والتحذير من الخدع والأضاليل، ولكنهم يصيبون الإنسانية بكذبٍ أقتل لها من كذب الاستعمار في أخبث دخائله حين يجحدون على الإنسانية قدرتها على التقدم، وينوطون فضائل التقدم كلها بأكاذيب المنافقين وأباطيل المكرة الخادعين.
فالاستعمار أعجز من أن يسبق الإنسانية قيد شعرة إلى فضيلةٍ لا تحسها، ولا ترتفع بآدابها إليها، ولا تكون فيها المنفعة للعديد الأكبر من أبنائها، فتصلح من ثَمَّ للاحتيال بها على بلوغ المطامع، وتدليس العقائد أو الدعوات. وقد حمل الاستعمار علم الحرية والدفاع عن الرقيق، وفعل ذلك لاستبعاد الشعوب الحرة لا لإطلاق الأرقِّاء المستعبَدين، وقد أرسل المستعمرون أساطيلهم ترود البحار وترصد السواحل، وتعترض السفن وتقتحم الموانئ، وتستبيح المواقع في الأقطار المستقلة؛ بحثًا فيما زعموا عن النخاسين والأرقِّاء، ولكنهم لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن أصبح «الفتح» منكرًا يحتاج إلى المعاذير، وبعد أن أصبح تحرير الرقيق مأثرة يدَّعِيها المدَّعِي ويرشو بها الضمائر، فتقبل الرشوية خالصةَ النية أو متواطنةً على الخداع، أما قبل ذلك فقد كان هذا الاستعمار يرسل أساطيله علانية؛ ليقود حملات النخاسة، وينقل الشحنة بعد الشحنة من الأرقِّاء المُغتَصَبين بغير ثمنٍ أو المبيعين بأبخس الأثمان، سِلعًا لا سعر لها في سوق البغي غير سعر الصيد المباح.
•••
ودور الاستعمار في قضية السموم والمخدرات كدوره في قضية الرقيق؛ دور المستغل التابع لا دور المخترع المتبوع. فإن الدول التي أقامت المؤتمرات في جميع القارات لمصادرة السموم المخدرة، ومطاردة العصابات القوية التي تخصصت لتهريبها، لم تتورع في القرن الماضي عن حماية هذه السموم، وإكراه الصينيين على استيرادها، وتشجيعهم على تعاطيها، وهل كانت حرب الأفيون — أو حروب الأفيون — التي اشتعلت في القرن التاسع عشر مما تجترئ عليه دولةٌ من الدول لو قامت مشكلتها في هذه الأيام؟ إن سياسة الدول لم تختلف من قبلُ ومن بعدُ لأنها تزهد اليوم في كسب كانت ترغب فيه بالأمس، ولكنها اختلفت لأن العقبات الأخلاقية التي تصد عن تجارة السموم كانت مذللة للاستعمار ممهدة تحت قدميه، فأصبحت في العهد الأخير مخيفة له أو عسيرة عليه.
•••
وقضية السلام من القضايا العالمية التي نرى فيها نوعًا من الاستغلال لكل نوع من الاستعمار، ولا نرى لها صورة من الصور يكون فيها دور الاستعمار دور اختراع وابتكار.
فالمستعمرون الذين شبعوا من الاستعمار ينصرون السلام؛ لأن الحرب إما أن تكون ثورةً عليهم من المغلوبين المطالبين بحقوقهم، أو منازَعَةً لهم من الأقوياء الطامعين في تراثهم، وفي كلتا الحالتين يغنمون من السِّلْم ما لا يغنمونه من القتال.
والمستعمرون الذين تأخرت بهم القافلة — كالنازيين والفاشيين — يستغلون قضية السلام على منهجين متعارضين؛ فهم في سياستهم الداخلية يشعرون بأن دعوة السلام في العصر الحديث قوة لا يستهَان بها، فيحاربونها من أجل هذا ويمثلونها لرعاياهم على غير حقيقتها؛ لأنهم يحتاجون إلى فلسفة الحرب في تربية الصغار وتلقين جماهير الدَّهْمَاء، ولا ينتفعون بفلسفة السلام في هذا المجال، ولكنهم في سياستهم الخارجية يشعرون بقوة الدعوة إلى السِّلْم في العصر الحديث، فينهجون في استغلالها منهجًا غير منهجهم في السياسة الداخلية، ويحاولون جهدهم أن يتهموا أعداءهم بإحراجهم واضطرارهم إلى مجاراتهم في عدد القتال وخطط المقاومة، ومنها تدريب الناشئة على الحرب وتلقين الجماهير صيحات النخوة والحَمِيَّة، ولو لم تسبقهم قضية السلام على الرغم منهم لما كانت لهم مصلحة في اختراعها في كلتا السياستين.
وأمانة «الرجل الأبيض» — وهي قضية الاستعمار الأولى — أحق القضايا أن يخترعها المستعمرون لو كانوا يملكون الاختراع في دعوةٍ من أمثال هذه الدعوات، ولكن الرجل الأبيض قد عاش زمانًا في القارة الأوروبية ضحية للاستعمار من الرجل الأبيض الذي يجاوره، أو ينتمي إلى عنصره وقبيله، وما التفتوا إلى طلب السيادة على السُّمر والصُّفر والسود، ولهم بقية من الأمل في السيادة على البيض من صميم الأوروبيين.
•••
فالاستعمار لا يخلق للأمم آدابًا تروج بينها ونتلقاها منه خدمةً لمصلحةٍ أو إيمانًا بعقيدة، وانما تنشأ الآداب الإنسانية وتبلغ مبلغ القوة والرهبة قبل أن تصبح صالحة للاستغلال والادعاء في سياسة المستعمرين … وهذه الحقيقة جديرة أبدًا أن تتقرر في أذهان الأمم المبتلاة بمطامع الأقوياء؛ لأنها هي الخاسرة إذا لم تفرِّق بين دعوات المستعمرين ونيات المستعمرين؛ فلا مصلحة للعالم في إحباط الدعوات الإنسانية التي ينتحلها المستعمرون، وإنما مصلحة العالم أن يتكشف النفاق عما وراءه، وأن تبقى دعوات بني الإنسان لبني الإنسان وراء كل نفاقٍ واستغلالٍ.