النموذج الجديد
الولايات المتحدة الأمريكية هي النموذج الجديد للدولة العالمية منذ الربع الثاني للقرن العشرين.
وهي أقوى دول الأرض وأغناها وأكثرها اشتباكًا بالمصالح والعلاقات في أنحاء العالَمَيْن القديم والحديث.
هذه هي الدولة التي كان الساسة فيها يتناقشون إلى ما بعد قيام عصبة الأمم في إمكان العزلة، أو إمكان المضي على تطبيق مذهب «مونرو» بشقيه، فلا يد للأوروبيين في قضايا أمريكا، ولا يد لأمريكا في قضايا الأوروبيين.
وينقضي جيل — أو دون الجيل — وإذا بهذه العزلة ممكنة — إن أمكنت — في كل دولةٍ إلا في دولة الولايات المتحدة.
ولا حجة أقوى من هذه الحجة على سلطان القضاء الإلهي في شئون الدول وشئون بني الإنسان على التعميم.
وهذا النموذج الجديد يأتي بدورٍ سياسيٍّ مفروضٍ على الدولة التي تمثله، كما هو مفروض على الدول التي تناصرها أو تعارضها، فإذا قال قائلٌ: ماذا يريد هذا السياسي؟ أو ماذا يعني ذلك البرنامج؟ فمن الحتم اللزام عليه أن يسأل مع هذا السؤال: وماذا يستطيع إن أراد؟ وماذا يحدث على غير تقديرٍ إذا حدث هذا الحادث، أو ذلك على حسب التقدير؟
إن الولايات المتحدة عرفت أدوار الاستعمار جميعًا، وإن صحبت أشواطًا منه في منتصف الطريق ولم تصحبها من أوائل الطريق.
كانت مستعمرة للتوطن والاستغلال والهجرة، وكانت تنازع أبناء أمريكا الأصلاء وتأبى أن ينازعها الوافدون الدخلاء، من غير المهاجرين الأولين.
وشغلها الخلاص من «الاستعمار الأوروبي» في تاريخها الأول عن الدخول في ميدان الاستعمار والمغامرة مع المستعمرين، ثم شغلتها حروب التوحيد والتوطيد عن السياسة الخارجية في غير هذه القضية، ثم شغلها بعد ذلك أن تحمي نفسها من الإغارة الجديدة، فشرعت لها مذهبًا يحرِّم على الأوروبيين أن يحتلوا أرضًا من العالَم الجديد، أو يتدخلون في مشكلاته بقوة السلاح، وأوشكت أن تجعل «التعامل» معه مُحرَّمًا على غيرها، لولا أن التعامل الاقتصادي في تلك الحقبة على الخصوص لم يكن قابلًا للتقييد.
وبادرت الدولة البريطانية إلى الاعتراف بمذهب «منرو»، وتأييده في شئون القارة الأمريكية؛ لأنها تكسب بذلك حماية البقية الباقية لها في أمريكا الشمالية وأمريكا الوسطى، وبعض أطراف الجنوب.
واستراحت الولايات المتحدة إلى هذا الاعتراف؛ لأنه أعفاها من العناية بحراسة المحيط الأطلسي، فتحولت بعنايتها الخارجية جميعًا إلى المحيط الهادئ، أيام أن كان هذا المحيط الهادئ «بحرًا هائجًا» لا هدوء فيه.
كانت الدول الأوروبية قد تزاحمت على استعمار الصين، واكتساب الرخص والامتيازات في مرافقها الداخلية، وكانت اليابان تتحفز للهجوم على القارة الآسيوية، وروسيا من الطرف الآخر تتحفز لتعويض نصيبها من المستعمرات بعد أن حيل بينها وبين مضايق البوسفور والدردنيل، ورصدت لها إنجلترا قوتها عند خليج فارس، وعلى الطريق الوسطى إلى الحدود الهندية حتى بلاد الأفغان.
وفي أثناء ذلك كانت الولايات المتحدة تفعل كل ما تستطيعه لتوسيع رقعتها في القارة الأمريكية، بالتعاهد والشراء أو بالقوة إذا تعذَّر الاتفاق على التعاهد والشراء، واشترت «ألاسكا» في سنة ١٨٦٧ من روسيا، وحاربت إسبانيا سنة ١٨٩٨ من جرَّاء الفتنة في جزيرة «كوبا»، فأسفرت الحرب عن نزع جوام وبورت ريكو وجزر الفلبين من الدولة الإسبانية، وضمها إلى أملاك الولايات المتحدة، ثم استتبع ذلك أن تُضَم إليها جزر «هواي» تلبيةً لدعوة المتوطنين من رعاياها.
فلما جاء دور الدولة الجديدة في استعمار آسيا الشرقية، لم يكن لها موضع بين أمهات الاستعمار السابقات إلى الصين، وكان التنازع على الرخص والامتيازات قد أوشك غير مرة أن يجر الغرب كله إلى الحرب في الميادين الآسيوية والميادين الأوروبية، فأصبح استعمار الفتح والاحتلال بابًا مغلقًا في وجه الطامع الجديد، وبابًا خطرًا يخشاه الطامعون الأقدمون، وقادت الولايات المتحدة حملة «الباب المفتوح» في تقسيم المرافق الصينية؛ فكل رخصة تُعطَاها دولة من الدول تُعتبَر رخصة عامة على التساوي بين الدول جميعًا، بغير حاجةٍ إلى نصٍّ مكتوبٍ.
وإلى هنا كانت الولايات المتحدة قد اشتركت في أدوار الاستعمار على أنواعها الحديثة، من الفتح إلى التوطن، إلى الهجرة، إلى صفقات البيع والمقايضة، إلى «الاستعمار الجماعي» على برنامج الباب المفتوح.
لكنها تخرج الآن من الحرب العالمية الثانية بنموذجٍ جديدٍ لا تقوى على منافستها فيه دولةٌ من الدول العالمية، فلا تزال سياسة الباب المفتوح أوفق السياسات لها في محاولات النفوذ العالمية؛ لأنها أشبه بالسباق المفتوح أمام الخيل جميعًا، وعلى رأسها الجواد السابق في جميع الأشواط.
فهي اليوم تحتاج إلى كفِّ الآخَرين عن احتكار المستعمرات؛ لأنها تكسب ولا تخسر بالكف عن الاحتكار، وليس مما يطيب لها — بداهةً — أن ينعم غيرها باحتكار سوقٍ من الأسواق، وتتلقى هي النتائج التي يؤدي إليها الاحتكار والتنازع عليه، ومن هذه النتائج حرب عالمية لا تملك العزلة فيها كما كانت تملكها إلى عهدٍ غير بعيد.
وقد يحتاج صاحب الحانوت إلى احتكار سوقٍ من الأسواق إذا كانت له بضاعة فيها ينافسها النظراء، ويقدرون على ترويجها بسعرٍ أرخص من سعره ووسيلةٍ أيسر من وسيلته، ولكن هذا الاحتكار أبغض ما يكون إلى التاجر الذي يعرف ثروته، ويعرف قدرته، ويعرف أن إطلاق الأسواق جميعًا يكاد أن ينتهي إلى احتكارها له على اضطرار من البائع والشاري في نهاية المطاف.
•••
ومن لغو الفضول أن يُضَاع الوقت في إثبات الغرض لكل دولةٍ تعمل في سياسة العالم باسم المصطلح العالمية، أو باسم المصالح الإنسانية، أو باسم المصلحة القومية، سافرة ظاهرة بغير تورية ولا تزويق؛ فإن عمل الدولة لغرضٍ من الأغراض حقيقة مفروغ منها لا تحتاج إلى إضاعة الوقت في الجدل بين الإثبات والإنكار، وبعد ألفي سنة من الآن قد توجد دولة كبيرة — إن بقي المجال للدول الكبار في ذلك الزمن — فيوجد معها لا محالة غرض تسعى إليه، وتقدمه على أغراضٍ تناقضه وتدابره، ويقول القائلون ما شاءوا عن خدمة الإنسانية أو خدمة العالم، فهذا لا يمنع أن يكون للدولة أسلوبٌ في الخدمة يخالف أساليب غيرها، وأن يكون غرضها من السطو والثروة هو الغرض المُقدَّم على سائر الأغراض في زمانها …
- فالغرض الأول: هو كشف النفوذ في السياسة العالمية، والانتفاع في سبيل ذلك بكل ما لديه من الوسائل الاقتصادية والأدبية.
- والغرض الثاني: إحباط الدعوة الشيوعية وضرب الحصار عليها للرجوع بها إلى أضيق حدودها.
- والغرض الثالث: تخيف الضغط الداخلي الذي يتجدد على الدوام من فرط التضخم المالي في الأسواق الأمريكية، فإن إرسال التبرعات والمعونات إلى الخارج مصرف ضروري للأموال المتجمعة في بلاد الولايات المتحدة، وكل زيادة في هذه الأموال داخل البلاد، فهي زيادة في الغلاء وزيادة في أزمات الأجور والعمل، وفي الأخطار الاجتماعية التي يُخشَى أن تنفجر من وراء هذه الأزمات …
والذي يعني أبناء الأمم العالمية من هذه الأغراض الثلاثة هو الغرض الذي يرمي إلى تغليب النفوذ الأمريكي على سياسة العالم؛ فإن حماية النفس توجب على أمم العالم أن تحول بين هذا النفوذ، وبين الطغيان على حرياتها وحقوقها وشعائر استقلالها، وأن تحوِّل النفوذ الأمريكي إلى مصلحةٍ عالميةٍ بدلًا من تحويل المصلحة العالمية إلى نفوذ غالب للدولة الأمريكية.
ولقد وُجِدت في الكرة الأرضية وسائل المقاومة لهذا النفوذ يوم وُجِدت له وسائل الغلبة، واستطاعت دولةٌ واحدةٌ أن تجمع من السلطان ما لم يجتمع لدولٍ كثيرةٍ، مما يوشك أن يجعل السلطان حكرًا لها في العصر الذي ينقضي فيه حكر الاستعمار.
ووسائل المقاومة في هذا الميدان منوَّعة غير مطَّرِدة في كل قضيةٍ، ولكنها تئول في القضايا جميعًا إلى هذه الوسائل الثلاث.
و«أولها» الاستقلال القومي، فإنه في هذا الزمن الحديث قوة يعترف بها الواقع قبل أن تعترف بها النصوص والمواثيق.
والوسيلة الثانية هي التعاون بين الشعوب التي تصبح بالتعاون قوةً عالميةً تثبت كيانها أمام كل دولةٍ عالميةٍ، يكون لها من القوة والثروة فوق ما ينبغي لدولةٍ واحدةٍ.
والوسيلة الثالثة هي الانتفاع بظروف الدول القوية في حالتي الاتفاق والافتراق، أو هي الانتفاع بالأوضاع العالمية الحديثة التي جعلت كل أمةٍ صغيرة قادرة على عملٍ نافعٍ أو ضارٍّ، يحسب الأقوياء حسابه كظرف من الظروف.
ويحاول بعض الساسة أن يلقي في روع الأمم أن «الحيدة» في سياسة العصر العالمية مستحيلة، أو ممكنة بالثمن الذي يجعلها في حكم المستحيل.
والحيدة في رأينا مستحيلة بين الشيوعية والديمقراطية.
ولكنها غير مستحيلة بين الدول والحكومات في قضايا العالَم متفرقات.
فليس كل ما تعمله أمريكا ديمقراطية، وليس كل ما تعمله روسيا شيوعية، وليست كل قضيةٍ من القضايا مقطع الفصل بين العقيدتين.
وينبغي أن تكون الحيدة بصيرة على كل حالٍ، فإن الحيدة العمياء كالتشيع الأعمى خبط عشواء، لا يفرق بين الأعداء ولا بين الأصدقاء.
•••
وننتهي إلى الوضع الصحيح لكل دولةٍ عالميةٍ منذ منتصف هذا القرن إلى أن تتبدل الأحوال على نمطٍ جديدٍ غير نمطها الأخير.
إن المسألة كلها لتعزى اليوم إلى مسألة نفوذ بوسائله، ومسألة مقاومة بوسائلها التى تجدي في كل حالةٍ من حالاته.
ومتى وُضِعت القضية في موضعها هذا، فليس في الأمر فلسفة مبادئ، ولا برامج دعوة، ولا رأي يقبله هذا ويرفضه ذاك.
فأيًّا كانت الفلسفة أو كان البرنامج أو الرأي، فالذي عنده النفوذ يفعل به ما هو قادر عليه، والذي يحذر ذلك النفوذ يفعل كل ما هو قادر عليه لدفعه واتقاء ضرره.
ويشاء حظ العالم أن تكون وسائل النفوذ العالمي مقرونة بوسائل المقاومة العالمية، ولا عبرة اليوم أو غدًا باختلاف العناوين في كل قضيةٍ تخص بعض الأمم أو تعم الأمم جميعًا، إن هي إلا أسماء.