واستبداد
والقيصرية في حكم الرعايا الوطنيين ليست بأهون ولا أرحم من القيصرية في حكم الشعوب الغربية من بلاد الملحقات أو أعضاء الاتحاد، فهذه وتلك قائمة على الاستبداد المطلق من قيود الشريعة والأخلاق؛ فلا قيود لها غير قيود الضرورة القاهرة التي لا يَقْدِر عليها ولاة الأمور.
إن الروسيين الذين أبادهم الحزب الشيوعي يُعَدُّون بالملايين، كان يكفي أن يكون أحدهم من ملَّاك الأرض ليُبَاح دمه بغير محاكمةٍ وبغير سؤال، وكان يكفي في بعض الأحوال أن يأكل الفلاح وآله ذبيحةً من البقر أو الضأن ليُستَباح دمه ويقال عنه إنه معطِّل لمشروع المَزارع الجماعية، يتعمد أن يذبح الماشية لكيلا تُؤخَذ منه للمشاركة في مشروعٍ من تلك المشروعات، بل كان يكفي لاستباحة الدم والحرية ما هو أيسر من هذه التهم الكبار كتهمة الكسل في الزرع، أو التقصير في تسليم الحصة المفروضة على المحصول، وجريمة هؤلاء جميعًا تدخل في عداد جرائم التعطيل والتثبيط التي تُعاقَب بالإعدام.
ولا يقل ضحايا الحزب الشيوعي عن عشرين مليونًا ذهبوا ضحية للقتل الجزاف، أو للحرمان والجوع، أو النفي والتشريد في مجاهل سيبيريا ومعاقل قطب الشمال. ويبلغ من استخفاف دعاة الثورة الحمراء بدم الإنسان أنهم يحسبون كلمة الثورة مسوِّغًا كافيًا لاستباحة دماء الملايين، كأنها الوسيلة الوحيدة لنجاح ثورتهم أو إجراء هذه التجربة في سبيل النجاح، ويقول لينين بغير مواربةٍ في خطابٍ منه إلى الكاتب جوركي: إن إبادة ثلث الجنس البشري ليس بذي بال، وإنما المهم أن تنجح الشيوعية بأية حال.
لكنه عذرٌ لا يستر طبيعة الضراوة بالشر في نفوس هؤلاء الطغاة؛ فإن أعضاء الحزب أنفسهم لا يسلم المقهور منهم من شرور المنتصرين عليهم في التنازع على مناصب الجاه والجبروت، وقد عمل الشيوعيون على الثورة في عهود ثلاثة من قياصرة آل رومانوف، فلم يقتل القياصرة الثلاثة عشر الذين قتلهم ستالين وحده من كبار الزعماء بَلْهَ الصغار المجهولين، وخليفة ستالين نفسه هو الذي يقول: إنه من بين المائة والتسعة والثلاثين الذين انتخبوا في المؤتمر السابع عشر، ثمانية وتسعون اعتُقِلُوا وأُعدِمُوا رميًا بالرصاص خلال عامَيْ ١٩٣٧ و١٩٣٨ على الخصوص … ولم يكن هذا مصير أعضاء اللجنة المركزية فحسب، ولكنه كان مصير أكثر المندوبين الذين اشتركوا في المؤتمر السابع عشر … فمن ١٩٦٦ مندوبًا كانوا يملكون حق الاشتراك في الاقتراع أو يتمتعون بحقوق استشارية، أُلقِيَ القبض على ١١٠٨ أشخاص بتهمة ارتكاب جرائم مناهضة للثورة.
ومضى ستالين فلم يَسْلَم كبار الزعماء من استبداد القادرين على الاستبداد، ولم يُتَّهَم أحد من هؤلاء الزعماء بتهمةٍ أقل خطرًا من تهمة الخيانة العظمى، وعداوة الشعب والمروق من مبادئ الثورة، وأشباه هذه التهم التي لا تقل العقوبة في إحداها عن الموت مع التشهير والتحقير، ولا يتطلب الأمر لإثبات هذه التهم واستحقاق العقوبة عليها أكثر من الاقتراع مع القلة في مجلسٍ من مجالس الحزب العليا، أو في هيئةٍ من هيئات الصناعة التنفيذية؛ فإذا قال تسعة إن زيادة المصنوع من الجرارات غير لازمة، وقال عشرة إنها لازمة لا غنى عنها، فالتسعة خونة مُعَادون للشعب مارقون على عقيدة الثورة، دليل إدانتهم أنهم أقل في العدد بواحدٍ من زملائهم المخالفين، وإذا كان من رأي مولوتوف وملنكوف وكاجنوفتش وشبيلوف واثنين أو ثلاثة معهم أن السياسة الخارجية تفرط في اللين أو تفرط في الشدة، وكان من رأي الفريق الآخَر أنهم مخطئون، فهم مخطئون خطأ الأبد الذي لا علاج له غير الموت البدني أو الموت المدني، ما دام القائلون بخطئهم يزيدون عليهم بواحدٍ أو اثنين.
ولو كان هذا الاختلاف مُحرَّمًا على الكبار والصغار في أول عهد الثورة، لجاز أن يُقَال إن الخوف على الثورة يبيح ما لا يُبَاح من فرط الشدة والقسوة جمعًا للشمل ومنعًا للشقاق، ولكنه يُحرَّم بعد أربعين سنة، ويستكثر على أكبر القادة الزعماء من ذوي المبادئ والآراء، وما يحرم على زعيم نيف على الستين وهو في خدمة الثورة والدولة، وارتفع فيهما إلى مكان القيادة منذ ثلاثين سنة، لن يكون مُباحًا لفردٍ من الأفراد محجوب عن أسرار الدولة وبرامجها في السر والعلانية، ما دام المتهم من المنكوبين المنكودين والمنتقم من الظافرين المتحكمين.
وسواء صدق هؤلاء الظافرون أو كذبوا في اتهامهم لخصومهم، فالثورة على الحالين أحقر ما عرف الناس من ثورات في تواريخ الأقدمين والمحدثين.
فليس أحقر من ثورةٍ يخون مبادئها مئات من زعمائها متطوعين بغير داعٍ للخيانة، وهم في مراكز القيادة والرعاية.
وليس أحقر من ثورةٍ تدين المئات من زعمائها ظلمًا، وتفتري عليهم تهم الخيانة واحدًا بعد واحدٍ، وهم مستسلمون بغير نصيرٍ ولا شفيع.
وليس أحقر من استبدادٍ يجري مجراه على هذه الوتيرة بعد أربعين سنة من قيام الثورة، سواء جرى فيها لضرورةٍ أو لغير ضرورة.
فالثورة التي تضطر إلى الاستبداد، ولا تستغني عنه بعد أربعين سنة، هي كارثة بلاء واصب وليست بحركة إصلاح مأمول.
والثورة التي تصطنع هذا الاستبداد، وتقترف آثامه وموبقاته لغير ضرورةٍ هي مؤامرة إجرام لا أمان فيها للمحكومين ولا للحكام.
ولا أمان في نهاية الأمر لمَن يُصَاب بهذا الاستبداد، أو لمَن يشهد المصاب بعد المصاب وهو مُعفَى من نكباته لهوان شأنه على سادته ومُسخِّريه، فكلُّ مَن هلك أو سلم فهو من ضحاياه، ولكن الهالكين يخرجون بالموت من سلطانه الغاشم، وتبقى الآفة «الناجية» بمُصَابٍ أفدح من مُصَاب الهالكين؛ لأنها تبقى وهي مُلغَاة العقول والضمائر تصدق عن فئةٍ من أبنائها بعد فئةٍ أنهم أبطال الشرف والنجدة، وأنهم شياطين الخيانة والدمار، فإن لم تصدق هذا فهي لا تبالي ما تصدق وما تُكذِّب؛ لأنها لا تحفل العدل والظلم، ولا تعرف الغضب للمظلوم ولا الغضب على الظالم، ولا تعدو أن تكون كالماشية التي تُسَاق منها البهيمة بعد البهيمة للذبح، وهي لا تسأل عن شيءٍ غير الجوع والظمأ، أو تكون من بني الإنسان في حالٍ كحال السجناء من أراذل الخلق، لا يحسبون للحرية ولا للسمعة حسابًا ما دام في السجن مسكن وملبس وغذاء.