أسباب الاستعمار
كل حركةٍ كبيرةٍ مشتركةٍ في تواريخ الأمم لا بد أن ترجع إلى أسباب كثيرة، ولا تنحصر في سببٍ واحدٍ بالغًا ما بلغ من التشعب والاتساع.
وكل سببٍ واحدٍ ينتحل لتفسير حركة من هذه الحركات يقصر عن تفسيرها في النهاية، ولا يصلح لتحقيقها في التاريخ ما لم تقترن به أسباب مصاحبة له، أو بعيدة منه في مبادئها وعواقبها.
والاستعمار حركة من هذه الحركات المشتركة في تواريخ الأمم الشرقية والغربية، كل سبب فريد يُذكَر لها يقصر عن تفسيرها، ويحدث مثله في فترةٍ من فترات التاريخ، فلا يؤدي إلى مثل نتائجها.
قيل كثيرًا إن سبب الاستعمار هو إغلاق الطريق على تجارة الهند والبلاد الشرقية، ولكن تجارة الهند والبلاد الشرقية كانت متصلة من طريقٍ غير طريق البحر الأبيض المتوسط، ثم أُغلِقَت بعد فترةٍ من الزمن، ولم تنشأ من إغلاقها حركةٌ ترمي إلى السيطرة على تلك الطريق المغلقة.
كانت في روسيا طريق للتجارة الشرقية تسلكها الشركات الهولندية والبريطانية، وشركات الموانئ على بحر الشمال، وكان قياصرة الروس يشجعون هذه الشركات، ويرحبون بها ويغنمون منها الإتاوات والهدايا في ذهابها وإيابها، ثم أغلقت الدولة الروسية هذه الطريق على الشركات الهولندية والبريطانية بعد استيلاء تلك الدولة على الشواطئ الأستونية؛ لأنها أرادت أن تحتكر الغنيمة كلها لنفسها، وتُشرِف على سَيْر القوافل من داخلها، ولم تحدث من جرَّاء إغلاق هذه الطريق على التجارة الشرقية حركةٌ من قبيل حركة الاستعمار.
وقيل كثيرًا إن حركة الاستعمار نشأت من زحام السكان في القارة الأوروبية، ونزوعهم إلى الهجرة والتعمير في البلاد النائية.
ولا يصدق هذا التعليل على بلدٍ واحدٍ من البلاد الشرقية التي اتَّجَه إليها المستعمرون في الخطوات الأولى من حركة الاستعمار؛ فإن جملة النازحين إلى الشرق من الأوروبيين لا يكفون لتعمير قرية واحدة، وكل مَن هاجر إلى الشرق فإنما كان يرتاده زائرًا متاجرًا ليعود إلى وطنه ويستقر فيه بعد رحلةٍ أو بضع رحلات، وإنما يصدق ذلك التعليل على المهاجرين النازحين إلى القارة الأمريكية، سواء كانوا من البريطان والهولنديين أو من الإسبان والبرتغاليين، وسواء قصدوا إلى الشمال أو قصدوا إلى الجنوب، ولم تلبث هجرتهم أن تحوَّلَتْ إلى إقامةٍ دائمةٍ، فاتخذوا من مقامهم الجديد وطنًا يملكونه دون أبنائه الأصلاء ودون الوافدين إليه على السواء.
وقيل كثيرًا إن كشف الطريق إلى الشرق كان سبب الاستعمار الأول، وهو قول لا يمنع السائل أن يسأل: وما سبب الكشف عن ذلك الطريق؟ ولكننا ندع هذا السؤال وننتهي مع الطريق المكشوف إلى غاية مداه، فهل كان يكفي أن يكشف الأوروبيون طريق الشرق ليستولوا عليه؟ هل كانوا يصلون إليه مستعمرين لو أنهم كشفوه قبل ذلك بمائة سنة أو مائتين؟ وهل كان من المستطاع أن يتم الاستعمار لو لم تصاحبه بواعث الحروب الأندلسية، ونزاع المذاهب الدينية وبحوث العلماء عن الجغرافية والفلك، وتقدُّم الملاحة في الغرب مع تقدُّم الصناعة وتقدُّم التسليح؟
وكل أولئك هل كان يكفي لنشأة الاستعمار لو لم يكن حكم الرجل الأبيض للرجل الأبيض في القارة الأوروبية، قد وصل إلى نقطةٍ من نقط التحول التي لا — بعدها — من التغيير.
فما كان الرجل الأبيض ليفكر في دعوى الأمانة على حكم الدنيا، وهو مُسخَّر للحكم أو قابل للتسخير، وقد كان هذا الرجل الأبيض مغلوبًا على أمره في عهد الإمبراطوريات الأوروبية التي دانت لها بالطاعة شعوب أوروبية متعددة الأجناس واللغات، ثم تمزقت هذه الإمبراطوريات، وخرج منها أمراء الإقطاع بفتاتٍ من السلطة والاستقلال، ثم تجمعت الأوطان التي تدين بالطاعة لأبنائها وتأبى الخضوع للحاكم الأجنبي عنها، ثم نبتت أمانة الرجل الأبيض حين نبت الرجل الأبيض المستقل بحكم نفسه عن غيره من أبناء جنسه؛ ولهذا تأخَّرَ في ميدان الاستعمار أولئك الأوروبيون، الذين وجدوا في قلب القارة مَن يحكمونهم ويقنعون بحكمهم، ولعلهم لو استقلوا جميعًا بحكم أنفسهم قبل عهد الحضارة الحديثة التي اشتهرت باسم الحضارة الأوروبية، لما تخيَّلوا لهم رسالة إنسانية يحسبونها معلَّقَة في عنق الرجل الأبيض، ولوقفوا عند حد الرسالة الدينية التي اندفعوا إليها زمنًا في حملات الصليبيين.
•••
وربما اكتملت في قومٍ من الأقوام جميع البواعث، والأسباب التي تُحسَب من بواعث الاستعمار وأسبابه، ولكنهم لا يتحركون لاستعمار قُطر من الأقطار قبل أن يتم لهم كيان دولي أو شخصية سياسية، وكذلك كانت حال إيطاليا في عهد الاستعمار قبل استقلالها، وبعد اتحاد أجزائها في دولةٍ مستقلةٍ، فإن أطوارها الاجتماعية والاقتصادية قبل الاستقلال لم تكن تختلف في شيءٍ جوهريٍّ عن الأطوار المعهودة في إسبانيا والبرتغال، مما كان سببًا في رأي المؤرخين لدخولهما في حومة الاستعمار، ولكن إيطاليا — غير المستقلة — لم يكن في وسعها بطبيعة الحال أن تدخل الحومة كما دخلها الإسبان والبرتغاليون، ولا بد لها من السيادة القومية أولًا قبل أن تفكر في بسط السيادة على غيرها، فلما ظفرت بهذه السيادة لم تكن أسبابها الاجتماعية أو الاقتصادية هي الحافز لها على استعمار الأقطار الشرقية، ولم تكن لها رءوس أموال تثمرها في خارج بلادها، ولا معامل صناعية كبرى تحتاج إلى المستعمرات لتصريف مصنوعاتها أو جلب خاماتها، وإنما كانت مسألة الاستعمار في لبابها مسألة «وجاهة دولية»، ومناظرة بينها وبين الدول اللاتينية التي سبقتها إلى المضمار، وأصبحت في عداد الدول الكبرى؛ لأنها في عداد الدول التي تملك المستعمرات وتحكم الشعوب.
فعلى خلاف الشائع عن ضرورة الاستعمار لتثمير الأموال في الخارج، كانت شركات إيطاليا في الخارج إلى سنة ١٨٨٠ تصفي رءوس أموالها، وتسلم أعمالها للحكومة لتدبرها بإشراف موظفيها؛ ففي سنة ١٨٧٠ أسَّست الشركة الملاحية الكبرى — شركة روباتنيو — مرسى لها في ميناء عصب على البحر الأحمر، ولم تمضِ عشر سنوات على تأسيسه حتى كانت قد باعت سفنها، وأسلمت مرساها للحكومة خوفًا من إشهار إفلاسها، ولما حاولت الحكومة أن تستفيد من هذه السفن — بعد الاستيلاء على ميناء مصوع أيام حرب الدراويش — تحرجت العلاقات بينها وبين أمراء الحبشة، وتعذَّرَ الاتفاق بين الطرفين على نقل الصادرات والواردات بواسطة القوافل أو السفن الإيطالية، ولم يكن عند الدولة الناشئة فضل مال تُنفِقه على الحرب لإرغام أمراء الحبشة على قبول معاملتها، ولم يكن لها فضل من التجارة تروِّجه في خارج بلادها، ويكفي لاستخدام سفنها في البحرين الأبيض والأحمر، بل كانت معاهدتها التجارية مع فرنسا قد انقطعت في تلك الآونة لحنق فرنسا من مسايرة وزارة كريسبي للسياسة الألمانية في أوروبا الوسطى، فلم تكن عند الإيطاليين أموال يديرونها يومئذٍ في الصناعة أو التجارة، ويطلبون من أجلها إدارة المستعمرات، ولولا البواعث النفسية — بواعث الوجاهة الدولية — لما شعر الإيطاليون بضرورةٍ قَطُّ تُلجِئهم إلى الدخول في حومة الاستعمار.
ولعل هذه البواعث النفسية كانت في الحرب الإيطالية الحبشية الأخيرة أظهر منها في الحرب الأولى، التي أعقبت أَزْمَة سنة ١٨٩٦، وانتهت بالهزيمة النكراء في عدوة، فإن العظمة الرومانية التي حاول موسليني أن يبني عليها مجد إيطاليا ألفاشية كانت ضربًا من الخيلاء الخاوية أمام شبح الهزيمة النكراء في الحرب الحبشية الأولى، وقد أراد موسليني في الواقع أن يغزو بلاده بالدعوى والدعاية، حين أقدم على غزو الحبشة بعد أربعين سنة من العار وسوء السمعة العسكرية، وأراد أن يغزو أوروبا بالدعوة والدعاية بعد ما افتضح من ضعف إيطاليا، وتسليمها في الحرب العالمية الأولى. ولو أن الحملة الإيطالية على الحبشة صفيت من جميع هذه البواعث النفسية، لما بقي لها باعث اقتصادي أو سياسي يغري الحاكم المسئول بالتصدي لمشكلة الحرب، وما يتبعها من سوء السمعة وسوء العلاقة بالدول الأخرى.
وكم تقلب من أسباب الاستعمار بين رحلات البرتغال في القرن السادس عشر، وبين غزوات الإيطاليين من أواخر القرن التاسع، أيْ أوائل القرن العشرين؟ فهل يخطر على البال أنها أسباب واحدة عملت في ثلاثة قرون، وعملت في روما كما عملت في مدريد ولشبونة، وعملت في هذه جميعًا كما عملت في لندن وباريس وبرلين وبروكسل وأمستردام؟
إنما هي حركة التاريخ كله بما احتواه من عوامل الحياة المشتركة بين الأمم والحكومات، وكل اختزال لهذه العوامل فهو اختزال للحقيقة في فهم كل حركةٍ كبيرةٍ من الحركات العالمية.
وأوجز ما يمكن من التلخيص لهذه العوامل المتغلغلة في جوانب الحياة الإنسانية أن نثوب بها إلى شطرين كبيرين يقتسمان بينهما تلك العوامل في تفصيلاتها، وهما شطر العوامل النفسية وشطر العوامل الاقتصادية، وأول الشطرين أرجحهما وأقواهما على الدوام في جميع الحركات التاريخية الكبرى، ومنها حركة الاستعمار.
لهذا كانت البرتغال أسبق من إنجلترا إلى المضمار، ولو لم تكن العوامل النفسية قوتها الراجحة في هذه الحركة لكانت إنجلترا أولى بالسبق إليها؛ إذ كانت عندها السفن وعندها الخبرة بالملاحة، وعندها الحاجة المُلحَّة إلى التجارة الخارجية، وعندها بوادر الصناعة الحديثة وأدواتها، وعندها الشركات التي ترتبط بكل مكانٍ في القارة الأوروبية.
•••
ولا حاجة إلى الإطالة في سرد المسائل التي تنطوي في شطر العوامل النفسية، فهي تتلاقى بجملتها في الدين والعنصر والأفكار العلمية.
ولا حاجة كذلك إلى الإطالة في سرد المسائل الاقتصادية، فهي تتلاقى بجملتها في التجارة والصناعة وأحوال المعيشة.
أما عامل الدين، فتكفي نظرة إجمالية في تاريخ أوروبا منذ القرن الثاني عشر إلى مفتتح عصر الكشوف، لنعلم أن الشواغل الدينية كانت تغمرها في مشرقها إلى مغربها، فلا يتأتى أن تصدر عنها حركة عامة دون أن تمتزج بالدين في ناحيةٍ من نواحيها، إن لم تمتزج به في جميع نواحيها؛ ففي عصر الصليبيين شملتها الدعوة الدينية من القسطنطينية إلى الجزر البريطانية، ثم انقسمت القارة إلى ثلاثة معسكرات في الشرق والوسط والمغرب، لم يكن معسكر منها يخلو من مشكلةٍ حيويةٍ لها علاقة وثيقة بالدين، فكانت أوروبا الشرقية مشغولة بمدافعة الترك العثمانيين عن حدودها، وكانت أوروبا الوسطى مشغولة بمقدمات حرب الثلاثين وجرائرها، فضلًا عن المنازعات بين الكنيسة وطلاب الإصلاح، وكانت أوروبا الغربية مشغولة بأمثال هذه المنازعات مع اشتغالها ببقايا الفتن المتخلفة في حروب الإسبان والبرتغال والمغارِبَة.
ففي مثل هذا الجو الذي تغمره الشواغل الدينية، لا يتأتى أن تصدر عن القارة حركة عامة بمعزلٍ عن البواعث الدينية في تدبيرها أو تنفيذها.
وليست مسائل العنصر بأقل من مسائل الدين شأنًا في امتزاجها — تدبيرًا وتنفيذًا — بأسباب الحركات العامة.
ويبدو لنا أن المؤرخين الأوروبيين لم يولوا مسائل العنصر حقها في تقدير الحوادث السياسية، بل في تقدير الحوادث الدينية التي نشأت من تنازع السيادة بين العناصر القومية، فما من مشكلةٍ دينيةٍ خلت من مشكلةٍ عنصريةٍ تسبقها أو تصاحبها، وما من خلافٍ على المعتقد خلا من آثار الخلاف بين طبائع الأقوام التي تتألف منها شعوب القارة الأوروبية، وهي في مجموعها شعوب اللاتين وشعوب الجرمان والثيوثون، وشعوب الصقالبة أو السلاف.
لِمَ كان اللاتين جميعًا — إلا القليل منهم — تابعين للمذهب الكاثوليكي والكنيسة الرومانية؟!
ولِمَ كان الجرمان والثيوثون جميعًا — إلا القليل منهم — تابعين لمذاهب لوثر وكلفن وغيرهما من الخارجين على مذهب الكثلكة؟
ولِمَ كان الصقالبة جميعًا — إلا القليل منهم — خارجين على المذهبين؟
بل لماذا بقيت الكثلكة حيث اجتمعت السيادة العنصرية وسيادة الإمبراطورية المقدسة في الدولة النمسوية؟
ليس أدل على تغلغل هذا الباعث العنصري في كل علاقةٍ بين شعوب الغرب من بقاء آثاره في علاقات المستعمرين خارج القارة، كما حدث في علاقات الإنجليز والهولنديين والإسبان والفرنسيين.
لقد اختلف هؤلاء المستعمرون، وتصارعوا على الأملاك والأموال في القارة الآسيوية، ولكن الإنجليز والهولنديين تفاهموا على المساومة، حيث تعذَّرَ هذا التفاهم بين الإنجليز والفرنسيين، وبين الإنجليز والإسبان، في أوائل عهد الاستعمار، فكان الخلاف بين الجرمان واللاتين — حيث كان — خلاف محو واستئصال يقابله خلاف التفاهم والمساومة، كلما اختلفت أُمَّتَان من عنصر الجرمان والثيوثون.
ولم يزل هذا التنافس بين العنصرين اللاتيني والجرماني قويًّا إلى أيامنا هذه في القرن العشرين، ولكنه كان على أشده في أيام نشأته عند نهاية القرون الوسطى، قبل قيام الدول الجرمانية الكبرى ووقوع التنافس بينها على السيادة العالمية، كما تنافس الألمان والإنجليز حتى لجأ هؤلاء إلى محالفة الفرنسيين، ولجأ أولئك إلى محالفة الطليان.
وقد بدأ التنازع بين العنصرين على السيادة العالمية في قلب القارة الأوروبية، ثم امتد إلى القارات الأخرى عند اتجاه الأوروبيين إلى الاستعمار في الشرقَيْن الأقصى والأدنى، فلم ينعزل هذا التنافس قَطُّ بين العنصرين في خطوة من خطوات الاستعمار الأولى، سواء ظهرت في صورة الخلاف بين مذاهب الكثلكة والمذاهب البروتستانتينية، أو في صورة الخلاف على مزايا الحكم، أو مصالح التجارة والسياسة.
ولا مندوحة من الالتفات إلى هذه الدعوة العنصرية في كل مرحلةٍ من مراحل الاستعمار منذ نشأته إلى أيامه الأخيرة قبل الحرب العالمية الثانية؛ فإن هذه الدعوة العنصرية لم تختفِ قَطُّ من جو السياسة العالمية على ضيعةٍ من الضيع، ولمناسبةٍ طارئةٍ من مناسبةٍ مُدبَّرةٍ ذهب أوانها. فلما اتفق الجرمان واللاتين والصقالبة على الاستعمار، ظهر شعار الرجل الأبيض مقتبَسًا ولا شك من أصول الدعوة العنصرية، ولما خيف أن يختلف المستعمرون من الجرمان واللاتين والصقالبة ظهرت صيحة «الخطر الأصفر» لتوحيد الدول المستعمِرة في وجه الأمم الشرقية الثائرة، ولما انقسمت أوروبا انقسامها الحاسم بين الحربين العالميتين، كانت الدعوة الآرية أجهر الدعوات المترددة في جوانبها، وانتشرت مع الدعوة الآرية دعوةٌ مصاحبةٌ لها تفرِّق بين الآريين الأصلاء والآريين الدخلاء، وتقسِّمهم إلى طبقات تتفاوت في حقوق الحكم والسيادة على غيرها من الشعوب من بيضٍ وصفرٍ وسمرٍ وسودٍ.
•••
أما الأفكار العلمية التي كان لها أثر في نشأة الاستعمار، فأهمها فكرة «استدارة الأرض» وإمكان الوصول إلى مشرقها من الاتجاه إلى آفاقها الغربية.
وهذه الفكرة، في أسلوب تأثيرها على الحوادث، نموذجٌ لسائر الأفكار العلمية في خضوعها لدواعي المصلحة، وفي إخضاعها لتلك الدواعي بالمشيئة والإقناع.
فالأوروبيون الغربيون كانت لهم مصلحة تضطرهم إلى البحث عن طريقٍ للتجارة مع الشرق غير طريق البحر الأحمر، وما جاوره من بلاد العرب والترك العثمانيين، وكانت فكرة استدارة الأرض توافق البحث عن الطريق المقصود وتؤدي إلى تحقيق المصلحة المطلوبة، ولكن هذه المصلحة لم تخلق فكرة الأرض الكروية، ولم تكن وحدها كافية للقيام بالرحلة إلى الآفاق الغربية، بل اجتهد كولمبس سنوات لإقناع أصحاب المصلحة بمصلحتهم، ثم أقنعهم بها فلم يصل إلى ما أراد ولا إلى ما أرادوا من جميع رحلاته، وجاءت خطته في الكشف خاضعة لفكرته العلمية، ولم تكن فكرته العلمية خاضعة لخطته؛ إذ لولا إيمانه باستدارة الأرض لطلب الكشف من طريقٍ آخرٍ، كما طلبه البرتغاليون من طريق الطواف حول القارة الأفريقية.
ولعل الفكرة العلمية أفادت كولمبس وأفادت عصره كله من ناحيتها العامة، التي بعثت في النفوس حب البحث والاستطلاع، وجعلت الوقوف على كروية الأرض بالتجربة العملية مطلبًا مستحقًّا للبحث عنه مع ما فيه من النفع والمصلحة، ولولا حب الاستطلاع لكان اهتمام التجار بالكشوف والرحلات مقدَّمًا على اهتمام الرحالين والمغامرين ممَّن يخدمون التجارة وليسوا من ذويها، فلم يقم كولمبس بالرحلة لأنه تاجر أبرع من زملائه، ولا لأنه تاجر أحرص منهم على الربح والثراء، ولكنه قام بها لأنه مغامِر علمي يحفزه التطلُّع إلى المجهول قبل كل حافزٍ من الكسب والغنيمة.
أما شطر العوامل الاقتصادية في نشأة الاستعمار، فقوامه كما هو معلوم تجارة المشرق في أصناف الأبازير والأنسجة والطيوب، وقد تكررت الإشارة إلى هذه التجارة في كل حديثٍ عن أسباب الاستعمار؛ حتى خُيِّل إلى الناس أنها هي السبب الوحيد للحملة على المشرق، وأنها كانت كافية وحدها لابتداء هذه الحملة والمثابرة عليها، ولكنه ظنٌّ مبالَغٌ فيه، وإشاعة من قبيل الإشاعات التي تثبت بالتواتر، ولا تثبت على التمحيص والاستقراء، فما كانت تجارة المشرق كافية بغير العوامل الأخرى لخلق حركة الاستعمار في حينها، وهي — سواء دارت على الأبازير والأنسجة — لم تكن مما يهم القائمين بالاستعمار خاصةً بين الأوروبيين، ولم تكن مما يعييهم أمر الحيلة فيه …
فالأبازير كانت لازمة على الأكثر لعلاج الأطعمة، وحفظ اللحوم في البلاد الباردة التي تحتاج إلى اللحوم المحفوظة خلال أشهر الشتاء، وليست بلاد الإسبان والبرتغال من هذه البلاد، ولا هي من الأقاليم التي يعييها تدبير غذاء الشتاء بغير علاج الأبازير، وقد مضى على أبناء أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية زمنٌ طويلٌ تعوَّدوا فيه أن يقنعوا من هذه الأبازير بما يصل إليهم من طريق القوافل الروسية والبلقانية، فلم يكرثهم أن يفقدوا مواردها من غير تلك الطريق.
والأنسجة كانت من مطالب الترف التي يقدر عليها أصحاب الثروات الواسعة، ويملكون وسائل استيرادها في طريق البر والبحر في بلاد الفرس والترك العثمانيين، وقد كانت للشركات الإنجليزية «مكاتب توكيل» في البصرة وحلب وسواحل فلسطين، عملت في نقل التجارة بعد انتظام الطرق البحرية حول القارة الأفريقية، وكان في الوسع قبل ذلك تعميم هذه المكاتب والوكالات على طول المسافة بين سواحل الخليج الفارسي وسواحل فلسطين، كما كان في الوسع أن تُذلَّل عقبات السفر والاتِّجَار في بلاد الترك العثمانيين بالامتيازات الأجنبية، التي أخذوا في السماح بها من عهد سليمان القانوني؛ فالذين يذكرون التجارة الشرقية، ويحسبونها سبب الأسباب في نشوء حركة الاستعمار يبالغون — بل يفرطون في المبالغة — ولعًا منهم بتعظيم شأن المسائل المادية في توجيه حركات التاريخ، وغرامًا بتهوين شأن البواعث النفسية التي تمتزج على الدوام بتلك المسائل المادية، كلما اتسع نطاقها وتناولت مختلف الأمم من مختلف الظروف.
وقد كان سوء المعيشة فاشيًا في أرجاءٍ متفرقةٍ من القارة الأوروبية، يوم توجهت الكشوف الأولى للبحث عن طرق التجارة الشرقية، ولكن سوء المعيشة هذا كان على أشده في أرجاء أوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى، ولم يدفعهم إلى الاتجاه نحو المشرق القريب منهم، بل دفعهم على نقيض ذلك إلى الاتجاه نحو المغرب، كما فعل قياصرة الروس وعواهل الدولة النمسوية، وما كان سوء المعيشة في مردِّه إلى أصوله إلا نتيجة للأزمات النفسية التي أثارت الشعوب تارةً لطلب الاستقلال السياسي، وتارةً لطلب الحرية الدينية، وتارةً أخرى للتنازع على السيادة العنصرية … فلما تفرَّقت الأقاليم المستقلة، واختل النظام في الأقطار الواسعة بعد تمزيق شملها وتفتيت مواردها بين صغار الأمراء وولاة الإقطاع، تجمعت تلك الحالة السيئة، واضطربت معيشة الملايين من أبناء القارة في مشرقها ومغربها، وكان قصارى ما بلغ سوء الحال بتلك الملايين أنه استفزها إلى الثورة في أوطانها، أو رسم لها القِبْلَة التي تنتقل إليها إذا خطر لها أن تهجرها … ومثلها في ذلك مثل الألمان يوم شاعت بينهم دعوةُ الاتجاه إلى المشرق، وتصايحوا بشعارهم المشهور «من برلين إلى بغداد، ومن بغداد إلى الهند»، ثم بقي الألمان في بلادهم، وبقي هذا الشعار «قبلة مرسومة» عند أهل السياسة قلما يتعدى دواوين الحكومة والشركات، وكذلك حدث يوم ضاقت بالأوروبيين سُبُل العيش في القرن السادس عشر وما بعده على أول عهدهم بحملات الاستعمار؛ فقصارى ما بلغ الحنق بهم يومئذٍ أنه جعل الاتجاه إلى الخارج أمرًا قريبًا من التفكير، ولكنهم لم يفارقوا أوطانهم جماعات جماعات؛ ليسلكوا طريق التجارة وينعموا بالأنسجة والأبازير، وإنما فارقوا أوطانهم جماعات جماعات بعد أن علموا أن السفر للإقامة الطويلة، وأنهم يسافرون إلى الهند الغربية لا إلى الهند الشرقية، وينازعون الهنود الحمر، ولا نزاع لهم مع هنود الأنسجة والأبازير.
وعلينا — بعدُ — أن نذكر أن عوامل الاستعمار ما بين مادية أو نفسية تتناقض فيما بينها، ولا تطرد على نهجٍ واحدٍ في جميع الحوادث والأوقات، ولا في جميع الدول الغالبة والشعوب المغلوبة، وهي لا تكون طبيعية معقولة إلا إذا عُرِضَ لها هذا التناقض، ووقع فيها الاستثناء كثيرًا أو قليلًا على حسب الأحوال؛ إذ كان الاستعمار قد استغرق من الزمن عدة قرون ومن المكان عدة أقطار، وتقلبت فيه الحوادث، وطرأت عليه المفاجآت من آونةٍ إلى آونةٍ ومن بقعةٍ إلى بقعةٍ، ومن قبيلٍ إلى قبيلٍ، ومحال أن يكون هذا كله قد دخل في حساب المستعمرين من الوهلة الأولى، ومحال أن يكون للاستعمار حسابٌ مختومٌ ينتهي بانتهاء الطبقة الأولى، أو الطبقات التالية من أصحابه القائمين عليه، فإذا اصطدموا على ممر الزمن بمشكلةٍ لم تدخل في تقديرهم، ولم تكن في مقاصدهم، فلا مناص لهم من مطاوعة الضرورات، ومناقضة الغرض الذي كانوا يتوخونه يوم رسموا سياستهم لليوم والغد المعلوم أو المجهول؛ ولا عجب إذن أن نرى البنادقة والمماليك يتحالفون على البرتغاليين، وأن نرى البرتغاليين والمسلمين يتحالفون على المغول، ولا أن يكون بين الهولنديين والعرب حلف وبين الهولنديين والإسبان عداء؛ فهذا كله من اختلاف الاتجاه في عرض الطريق مع الثبات في النهاية على الطريق الأخير. وقد يساعدنا على تصور هذا الاختلاف الموقوت أن نذكر أن السفينة تسير في الجنوب إلى الشمال — مثلًا — ولا يمنع ذلك أن يكون على ظهرها مَن يسير من الشمال إلى الجنوب، بل لا يمنع ذلك أن تعرج السفينة غربًا وشرقًا، وفي كل اتجاه تضطرها عوارض الجو إلى اتخاذه ريثما تعود، فتنتظم في طريقها المقصود من الجنوب إلى الشمال.
وفي تاريخ الاستعمار الشرقي أعمال متفرقة تُحسَب من النتائج الباكرة لتلك العوامل المادية والنفسية التي أجملناها فيما تقدَّمَ، ولكننا إذا أردنا أن نميِّز بينها عملًا واحدًا ترتبط به جميع النتائج اللاحقة في استعمار الشرق، لم نجد بينها ما هو أحق بالتمييز من استيلاء البرتغال على ميناء «سبتة» في سنة ١٤١٥؛ لأنه كان فاتحة المعرفة بالطريق وفاتحة الأعمال «المنفذة» في وقتٍ واحدٍ، وأحرى بنا أن نرجع في سرد مقدمات هذا الحادث إلى مؤرخي الغرب؛ لننفي عن الخاطر مظنة الانقياد للشعور الشرقي في مسألة ترتبط بالعداء القديم بين الاستعمار وضحاياه.
إن الاستيلاء على سبتة وضَعَ البرتغاليين في موضع يهيِّئ لهم معرفة وافية بالقارة الأفريقية لم تكن متهيئة لغيرهم من الأوروبيين؛ فإن الأمير هنري الملَّاح قد سمع في سبتة — ولا ريب — بالقوافل التي ترحل في الصحراء إلى تمبكتو، وتعود منها بالعاج والتبر مقايضة على البضائع من زنوج وادي النيجر، ولعله سمع هناك بالطريق التي تتجه شرقًا إلى غانا محقِّقة بذلك رجاء مَن يرجو أن تكون أفريقيا شبه جزيرة، خلافًا لما قرَّره الجغرافي بطليموس، ولعله قد سمع أيضًا من المصدر نفسه بمصبات بلاد صنهاجة والنيجر، التي قد يتبيَّن لمَن يتتبعها أنها إما أن تكون بواغيز متصلة بالبحر الهندي، أو أنهارًا تنبع في جبال القمر التي شاع في الأخبار المتناقلة أنها منبع الأنهار في وسط القارة الأفريقية، وغلب الاعتقاد بأنها منبع نهر النيل.
وكان التقدم في السنوات الأولى بطيئًا شديد البطء، فلم تتمكن سفينة أوروبية من تجاوز رأس بجادور إلى الجنوب إلا بعد أربع عشرة سنة، وكان ميناء بجادور هذا أول معالم الطريق إلى الغرب من أفريقيا، والعقبة المخيفة أمام السفن التي تتلمس مجراها عند سواحلها، يصد الملاحين عنها تلك الرهبة من بحر الظلمات التي ورثوها من العرب، وذلك الخوف من الأمواه الغالية تحت شمس المدار بأشعتها الملتهبة، التي وقع في أوهامهم أنها تصبغ مَن يصلاها بصبغة الزنوج السود، إلا أن الأمير هنري كان من أولي الصبر والعزم، وكان من أعوانه فتى ناشئ يُسمَّى جيل أيانيس، خرج في رحلة تطوف حول رأس بوجادور، فثبت له أن البحر إلى جنوبها وإلى شمالها متشابهان، وتتابعت رحلات الكشوف بعد سنة ١٤٣٤ على نسقٍ أسرع وأهدأ مما كان قبل ذلك.
وكانت العقبة النفسية الأخرى التي كان عليهم تذليلها اعتقاد بعضهم أن الرحلات الأفريقية لا طائل تحتها، ولا منفعة من ورائها، فظهر خطأ هؤلاء في سنة ١٤٤١، حين عادت إحدى البعثات من الساحل الذي يقع قريبًا من جنوب رأس بوجادور بكيس فيه تبر وجماعة صغيرة من أسرى الزنوج، وقد بلغ عدد العبيد الذين جاءت بهم السفن البرتغالية بعد ذلك إلى سنة ١٤٤٦، نحو ألف عبد بين مأسور ومُشتَرى من زعماء السواحل من رأس بوجادور إلى رأس برانقة التي كشفها الرحَّالون سنة ١٤٤٢، وقد عومل هؤلاء العبيد معاملةً رقيقةً في عُرف تلك الأيام؛ إذ كان سادتهم يعنون عناية دقيقة بتعليمهم عقائد المسيحية، ويستخدمونهم أحيانًا للترجمة في البعثات التالية، واتسعت تجارة الرقيق بعد ذلك، فبنى الأمير هنري مَعْقِلًا ومصنعًا مُخصَّصين لها على جزيرة أرجيوم، فكان هذا المصنع أول معهد أوروبي للاتِّجَار وراء البحار.
ولما رأى الأمير أن الكشوف التي أشرف عليها عادت ذات قيمة تجارية مُجدِية، حصل على رخصةٍ من الملك أخيه باحتكار التجارة مع سواحل غانا، وأراد مع ذلك أن يجعل لمغامرات غانا صفةً دينيةً محبوبةً، فحصل من البابوات المتعاقبين على براءات الغفران لكلِّ مَن عمل في الكشوف الأفريقية، كما حصل على امتيازٍ منهم بحق التبشير بالديانة المسيحية بين الزنوج. وقد كانت عادة الالتجاء إلى البابوات في مسائل الكشوف وراء البحار تقليدًا دبلوماسيًّا هامًّا من تقاليد ذلك العصر، أسفر فيما بعدُ عن مآزق مضحكة يوم اشتركت إسبانيا وغيرها من الأمم في هذه الكشوف البحرية، وانتفع بها الأمير هنري في تحقيق برنامجه الأساسي، الذي كان يبتغي به إخراج البرتغال من مشاكل السياسة في شبه الجزيرة الأندلسية، وفي القارة الأوروبية برمتها؛ كي تشتغل بما هو أوفق لأبنائها الملَّاحين بناة السفن، وأحرى أن يتيح لهم السبق على أممٍ أكبر منهم وأقوى.
ويقول المؤلف: «إن دا جاما مر بأماكن عدة على الساحل الشرقي من القارة الأفريقية لتموين السفن بالماء والوقود، والتقط في ميناء (ملندي) الملاح المسلم ابن ماجد الذي شاء الحظ أن يكون من نوابغ عصره في فنون الملاحة الفلكية، فاستطاع بمعونته أن يعبر المحيط الهندي إلى ميناء قليقوت أحد المراكز المشهورة لتجارة الأبازير، فقوبل هنالك مقابلةً لا تبشِّر برجاءٍ كبيرٍ، وكانت حمولته من الحلي الصغيرة والأنسجة الصوفية بضاعةً مزجاة في الأسواق الهندية، ووجد حاكم قليقوت قليل الرغبة في التخلي عن علاقته المجدية بالعرب، الذين كان منهم عنده جالية من التجار بذلت غاية جهدها لإقناعه بالإعراض عن مطالب البرتغاليين، ولكن دا جاما قد استطاع بعد الإلحاح والمشقة أن يجمع مقدارًا من الفلفل والقرفة عاد بها إلى بلاده، وبدأت من ثَمَّ قصة الدسائس الأوروبية الطويلة مع أمراء الهند الوطنيين، واستغرقت رحلة دا جاما سنتين قضى منها ثلاثمائة يوم على متن البحر، وفقد ما يزيد على ثلث بحارته على الأرجح من إصابتهم بداء الأسخربوط.»
يقول المؤلف بعد بيان حاجة الأوروبيين إلى الأبازير: «إن انتشار تجارة الأبازير في القرن الخامس عشر كان على اتصالٍ وثيقٍ بانتشار الإسلام غربًا وشرقًا منافسًا للمسيحيين والهنود؛ إذ كان الترك العثمانيون يفزعون أوروبا الشرقية، وكانت قبائل أخرى من أواسط آسيا تزحف على الهند، حيث قامت أسر متتابعة على عرش دلهي، وتفرَّقَتْ على الساحل الغربي إلى مدينة (جوا) عدة ممالك يحكمها السلاطين المسلمون، فلم تثبت من بقايا الدول الهندية غير مملكة (فيجاينجار) إلى الجنوب، وكان الإسلام يمتد بحرًا في تلك الآونة، وتستولي الجاليات من أبنائه على مراكز التجارة في أفريقيا الشرقية إلى (موزنبيق) في الجنوب، وراح التجار المسلمون ينشرون ديانتهم في الهند الشرقية، ويؤسسون ثمة إمارات تعمل في التجارة يستوي فيها على العروش أمراء من أمة الملايا بالنسب، ومن المسلمين بالعقيدة يشتغلون بتجارة الأبازير في أهم الجزر التي تخرجها، وحينما ذهب المسيحيون الأوروبيون شرقًا وجدوا المسلمين سبقوهم هنالك، حتى لم يبقَ من تجارة الأبازير إلى سنة ١٥٠٠ شيء في غير أيدي المسلمين.»
•••
إلى هنا يمكن أن يُقَال إننا رأينا أمامنا أسباب الاستعمار الواقعة في دور التنفيذ بين الإحجام والإقدام، والمثابرة على الخطط أو العدول عنها بحكم الطوارئ والمناسبات.
وهذه الأسباب الواقعة في دور التنفيذ أولى بالالتفات إليها من الأسباب النظرية المستخلصة من الواقع، حسبما يراه الباحث المتفلسف تطبيقًا لمذهبه أو رأيه في مجرى التاريخ.
فكثيرًا ما تضللنا الأسباب النظرية عن النتائج العملية؛ لأنها تعطينا عن الحوادث صورة غالطة تجعلنا نتوقع ما لا يُتوقَّع، ونستغرب ما لا غرابة فيه، وتليح لنا أن في الأمر تناقضًا حيث ينبغي أن نرى الأمر على استقامةٍ وسواءٍ مع ما يقتضيه الواقع والتفكير الصحيح.
ولأسباب النظرية التي ينتحلها المتفلسفة لمعظم الحركات الكبرى، كحركة الإصلاح، أو كالثورة الفرنسية، أو رحلات الكشف، أو انقلاب الصناعة؛ توهَّمنا أن هناك شخصًا يعيش ثلاثمائة أو أربعمائة سنة، ويباشر العمل فيها جميعًا لغرضٍ واحدٍ يعلمه منذ البداءة، وينبغي أن تكون أعماله كلها على اطراد مع ذلك الغرض، وإلا وجب أن نشك في الحوادث أو نشك في النتائج والمقدمات.
فهذه الصورة المغالطة لأسباب الأطوار التاريخية تضللنا عمَّا كان وعمَّا يكون، بل تضللنا عمَّا هو واقع بين أيدينا بالقياس إلى ما يشبهه من الأطوار الغابرة.
ولو اعتمدنا على هذه الصورة الغالطة في تعليل أسباب الاستعمار، لتمثلنا أمامنا «تجارة الأبازير» شخصية متيقظة متربصة تسوق الناس أمامها سوقًا إلى تحقيق مرامها في مدى قرنين أو ثلاثة قرون، فلا يملك الناس أمامها إرادة يُصِيبون فيها أو يخطئون، ولا يحتاجون إلى تفكير المفكر، ولا إقناع المقنِع أمام تلك الشخصية التي تقودهم قهرًا على حسب البرنامج المرسوم …
أما الأسباب الواقعة في دور التنفيذ، فنحن نعلم منها عمل الإرادة وعمل الضرورة متجاورتين متساويتين في كل حادثٍ كبيرٍ أو صغيرٍ، ونعلم منها أنه ما من حادثٍ يتم على وجهٍ من الوجوه، إلا ومن الممكن أن يتم على وجهٍ آخَر لو سارت الأمور مسيرًا آخَر في بقعةٍ قريبةٍ أو بعيدةٍ من الكرة الأرضية.
وما تقدَّمَ من قصة الاستعمار البرتغالي كافٍ لبيان أسباب الاستعمار الشرقي بين فعل الضرورة ونقل الإرادة، وبين الإصابة بالمصادفة والإصابة بالتقدير، ولكن هذا كله لم يكن حتمًا لزامًا لتحقيق وجود الاستعمار، لولا ظروف أخرى لا عمل فيها لأحد من هؤلاء العاملين الفعالين فيما يبدو من قريب.
ماذا لو وصل البرتغاليون إلى الشرق والأساطيل التجارية الشرقية أقوى من أساطيلهم بتركيب السفن، وبما تحمله من عُدةٍ وسلاح.
وماذا لو انهزمت الأساطيل الشرقية مرةً، ثم عاودت الكَرَّة فانتصرت في الكَرَّة الثانية، ووقفت محاولات البرتغاليين في خطوتها الأولى، أو نكصت على عقبيها عند منتصف الطريق؟
كل أولئك كان من الممكن القريب لولا اختلاف يسير هنا واختلاف يسير هناك، لا يأتي من تدبير العاملين الفعالين، ولا من وحي تجارة الأبازير.
إن وصول البرتغاليين إلى المحيط الهندي كان في الواقع مرحلة مشكوك فيها من مراحل الاستعمار، ولم يجعله مرحلةً حاسمةً ناجحةً غير أمرين بعيدين من تسلسُل الأسباب في هذا السياق.
أول هذين الأمرين أن السفن البرتغالية كانت أقوى بتركيبها وسلاحها، وخبرةِ ملَّاحِيها، وأقدر على القتال من سفن التجارة الشرقية بين سواحل الهند وسواحل القارة الأفريقية.
وثاني هذين الأمرين أن سفن المماليك التي كانت قادرة على مساجلة السفن البرتغالية، قد خرجت من الميدان بعد هزيمتهم في مصر أمام الدولة العثمانية، ودخول مصر في حوزة تلك الدولة؛ فإن سلاطين الترك لم تشغلهم تجارة البحر الأحمر كما شغلتهم حروب القارة الأوروبية، ولم تحفزهم البواعث العاجلة إلى بناء الأساطيل خاصةً لمحاربة البرتغاليين في المحيط الهندي؛ إيثارًا منهم للغلبة على البنادقة في البحر الأبيض، وهم أعداء البرتغاليين وأعداء الترك العثمانيين على السواء.
إن مقدمات الاستعمار في الشرق قد تمت يوم وصل البرتغاليون إلى المحيط الهندي، واعتمدوا على القوة في حماية طرق الملاحة وموانئ التجارة، ولكنها تمَّتْ من جانبٍ واحدٍ هو جانب الغرب، وكان من الجائز أن تنقطع عن نتائجها لو أنها صادفت في الشرق قوةً تصدها وتثنيها على عقبيها.
إلا أن الأحوال التي صادفها البرتغاليون في الشرق لم تكن خليقة أن تصدهم عن سبيلهم، أو تكف غيرهم من المنافسين لهم على اللحاق بهم، فاتصلت المقدمات بنتائجها على النحو المعروف لنا في التاريخ.
لقي أمراء الشرق طلائع الكشَّافين بالريبة التي يلقى بها كل غريب مجهول المقاصد والأسرار، وعرفوا مقاصدهم التجارية والدينية، فلم يحفلوها ولم يروا بينهم وبين تجَّار العرب وملَّاحيهم من فارقٍ، إلا أنهم خبروا هؤلاء ولم يخبروا أولئك الطارئين من الغرب البعيد.
فلما ظهر أولئك الطارئون بقوتهم في البحار، وانكشف من أغراضهم أنهم لا يقنعون بما دون السيطرة والاحتكار، تنبَّهَ الأمراء الغافلون، وسعى ملك قليقوت — أقربهم صلةً بالبرتغاليين — إلى التحالف عليهم مع أعدائهم من مماليك مصر ورؤساء البندقية، وكان هؤلاء يسعون مثل سعيه، ويحذرون الطارئين الواغلين مثل حذره، فأسفرت مساعيهم عن استعداد المماليك بأسطولٍ كبيرٍ ساعدهم البنادقة في بنائه لمُنَازَلة أسطول البرتغال، والتقى الأسطولان عند بمباي فكانت الغلبة في هذه المعركة للمماليك، ثم تجددت المعركة وجمع لها البرتغاليون كل ما استطاعوا من السفن الممتازة بأجهزتها وأسلحتها، وخِبْرتها بالبحار المختلفة، فانهزم المماليك في هذه الجولة هزيمتهم الأخيرة (سنة ١٥٠٩)؛ لأنهم فقدوا مُلْك مصر بعدها، حين افتتحها السلطان سليم الأول العثماني بعد تسع سنوات (١٥١٧).
ولقد كان من المتوقع أن يعاود المماليك الكَرَّة لانتزاع السيادة على المحيط الهندي من أيدي البرتغاليين، فلا تتم لهم الغلبة عليه لولا ما أصاب المماليك من هزيمةٍ لم تقم لهم من بعدها قائمة، بل كان من الجائز أن يتصدى العثمانيون لمنازعة البرتغاليين، لو كانت ملاحة المحيط الهندي تعنيهم كما كانت تعني المماليك، ولكنها مصادفات التاريخ التي لا تقع للغالبين ولا للمغلوبين في حسبان، وهذه إحدى تلك المصادفات …
وما هو إلا أن ظفرت دولة غربية بالسيادة على طريق الهند، حتى بدأ بين الدول الغربية ذلك السباق الذي تعاقبت أشواطه شوطًا بعد شوطٍ زُهَاء أربعة قرون، وانتهى إلى مداه أو كاد في منتصف هذا القرن العشرين.