سباق الاستعمار
من السهل أن نتخيل صدى الخبر الذي شاع في أوروبا عن عودة الأسطول البرتغالي بالبضائع الشرقية، بعد طوافه حول القارة الأفريقية، واهتدائه إلى طريق الهند التي دام البحث عنها زُهَاء عمر إنسان من المعمرين.
لقد أوشك أن يطلق الحكومات والبيوت التجارية في سباقٍ طائشٍ إلى الهند الموعودة بغير قيدٍ ولا ضابطٍ، فإذا كان هذا السباق الطائش قد ثاب إلى شيءٍ من التؤدة، فما كان ذلك عن حكمةٍ ولا روية، ولكنها شواغل الفتن الداخلية والحروب العامة والمنازعات على كشوف الأميركتين، قد أرجأت ذلك السباق إلى حينٍ، وصرفت القوم إلى الخطر القريب اضطرارًا، فصبروا حقبةً أخرى عن الأمل المنظور الذي اقتربوا منه بعد طول اصطبار …
وقد كان السباق بين الدولتين الرائدتين في ميدان الكشوف خطبًا يسيرًا من أول أمره إلى نهايته؛ لأن هاتين الدولتين — وهما إسبانيا والبرتغال — كانتا في كنف الرعاية البابوية تأتمران بأمرها، وتستمدان النفوذ منها في الخلاف بينها وبين الدول الأوروبية الأخرى، فاجتهد الفاتيكان اجتهاده في التوفيق بينهما، وقسم المواقع التي تنكشف لهما حصتين محدودتين على قاعدة الكشف التي اعتمدت عليها كلٌّ منهما، فجعل لإسبانيا جميع المواقع التي تنكشف على قاعدة السفر غربًا للوصول إلى الهند والصين، وجعل للبرتغال جميع المواقع التي تنكشف على قاعدة الوصول إلى الهند عن طريق الطواف حول القارة الأفريقية، وتلحق بها البرازيل، وأقيم بين الدولتين خطٌّ في وسط المحيط الأطلسي ملحوظ فيه ذلك التقسيم.
ثم انتهى السباق بين الدولتين بتوحيد العرشين، فانزوت البرتغال من مجال الكشف والاستعمال، وآلت السياسة الاستعمارية كلها إلى العاصمة الإسبانية.
ثم دارت الدائرة على إسبانيا بعد هزيمتها البحرية في معركة «الأرمادا» المشهورة، فكانت هذه الهزيمة إحدى المراحل الحاسمة في تاريخ الاستعمار، بل في تاريخ العصر الحديث، وبرزت في المجال ثلاث دول أوروبية لم يكن لها شأن فيه إلى ذلك الحين.
استقلت هولندا من سيطرة إسبانيا، فنازعتها السلطان في التجارة وفي التبشير؛ لأن التجارة الهولندية قبل الاستقلال كانت مُسخَّرة للدولة الغالبة، فانطلقت من قيودها طامحةً إلى السيادة في ذلك المجال المشترك الذي عرفته يوم كانت مُسخَّرة فيه، وأملى لها في طموحها أنها كانت تنازع السادة الإسبان في العقيدة كما تنازعهم في السيادة الإسبانية؛ لأنها كانت تدين بمذهب «كلفن»، وتنكر مذهب الكنيسة البابوية، وتنكر معه حق الانفراد بالدعوة المسيحية.
وأكبر من هذا الأثر في مجال الاستعمار ظهور الدولة الفرنسية في مكان الزعامة بين دول القارة الأوروبية، بعد خروج هذه الزعامة من أيدي الدولة الإسبانية؛ فإن فرنسا أصبحت أكبر دول القارة مستعمرات في آسيا وأفريقيا مع مستعمراتها في أمريكا الشمالية، وأصبحت كذلك وريثة الإسبان في قيادة الكثلكة العالمية، ولم تَزَلْ تتشبث بهذه القيادة فترة غير قصيرة بعد فصل الدولة والكنيسة.
وأكبر من هذين الأثرين معًا في مجال الاستعمار أن الجزر البريطانية انفردت بالسيادة على البحار بعد هزيمة الإسبان البحرية، فلا مبالغة إذا قيل إن بريطانيا العظمى قبضت على زمام السياسة الاستعمارية في العالم، منذ معركة «الأرمادا» إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية في منتصف القرن العشرين.
وكانت بريطانيا العظمى تنافس فرنسا القوية ولا تنافس هولندا الصغيرة، بل لعلها — لولا بعض الخلافات العارضة — قد أخذتها تحت جناحيها؛ لتعمل باسمها كلما دعا الأمر إلى مقابلة الدعوى الفرنسية بدعوى أمة أخرى من الأمم الأوروبية، ومن ذاك أنها استولت على الأملاك الهولندية في الشرق بعد احتلال الفرنسيين لهولندا أثناء حروب نابليون؛ لأنها كانت تحارب الفرنسيين وتحالف الهولنديين.
على أن هولندا — مع صِغَرها بالقياس الجغرافي والعسكري — توضع في الصف الأول بين المستعمرين الأسبقين، وتعتبر خطتها في التسلل إلى المستعمرات بمثابة التجربة التي استفاد منها اللاحقون بها في الزمن، ومنهم الإنجليز.
وتعتبر هولندا على صِغَرها شيخة المستعمرين في كثيرٍ من وسائل الاستعمار وتمهيداته، من قبيل التبشير والاستشراق، واستخدام المعاهدات والمحالفات في كسب الحقوق الشرعية، وهي التي سنت للمستعمرين اللاحقين بها تحويله من عهدة الشركات إلى عهدة الدولة، فأنشأت مجالس الحكم إلى جانب مكاتب الإدارة، ثم جعلته نظامًا حكوميًّا تغلب الصفة الرسمية فيه على صفة الأعمال الشعبية.
وإنما ألجأ الدول إلى انتزاع العمل من أيدي الشركات أنها احتاجت إلى الاعتماد على القوة لإكراه أبناء البلاد الشرقية على قبول معاملتها، كما احتاجت إلى القوة في منافسة بعضها لبعض، وحماية الطريق بين مناطق النفوذ، وقد اضطرتها طبيعة الاحتكار التي لا تفارق الاستعمار إلى كف الشركات عن التنافس فيما بينها على رفع أثمان الشراء، وخفض أثمان البيع مما ذهب بربح التجار وربح الدولة، وكاد أن يقضي على الحركة في مهدها بعد فترة الرواج والازدهار الأولى، وقد أثار هذا الرواج حسد الحاسدين بين أبناء الأمة الواحدة، فهَبَّ فريقٌ منهم يطلب من الحكومة أن تضع أيديها على شركات التجارة الخارجية، وأعانه على ذلك سوء السمعة الذي فشا حول أثرياء التجارة الجديدة، وضجة الشكاية من مظالمهم في معاملة أبناء الشرق ومعاملة أبناء بلادهم العاملين في شركاتهم، وهَبَّ فريقٌ آخَرُ إلى مزاحمة أولئك الأثرياء بزيادة الأثمان التي يشترون بها بضائع الشرق، وخفض الأثمان التي يبيعونها بها في أسواق أوروبا وغيرها من الأسواق، فلم يبقَ في الدول المستعمرة مَن يعارض تحويل النظام بجملته من عهدة الشركات إلى عهدة الحكومات، وكانت سوابق هولندا أول تجربة لحكومات الغرب في هذا التحويل.
وسرعان ما اطردت الدول الثلاث — هولندا وفرنسا وبريطانيا — في سباقها الاستعماري، حتى أدركتها على أعقابها كلُّ دولةٍ أوروبيةٍ ثبت لها كيانٌ قوميٌّ في محيط السياسة العالمية، فلم يتخلف عن هذا المضمار غير الدول التي شغلتها مسألة الوحدة الداخلية في طور التكوين، وكل دولة أوروبية كانت مشغولة بمسألةٍ من هذه المسائل بعد الشوط الأول من أشواط الاستعمار.
ومن ثَمَّ اختلطت صبغة الفخر وصبغة المظهر بهذا السباق كما تختلط بكل سباقٍ، فأصبحت المجاراة فيه مطلوبة لذاتها غير مشروطة بالمنفعة المرجوة منها، وأصبحت حيازة الأرض المستعمَرة علامة من علامات المساواة بين الدول الكبار، تتطلع إليها كل دولةٍ ناشئة ملكت سيادتها وقرنت بينها وبين السيادة على سواها، وسرت العدوى إلى كلِّ دولةٍ نشأت في أوروبا أو في إحدى القارات الأخرى، فما هو إلا أن تم لألمانيا وإيطاليا كيانٌ قوميٌّ، حتى توثبت كلتاهما للدخول في المضمار، وكذلك صنعت الولايات المتحدة في الأمريكتين، وكذلك صنعت اليابان في آسيا، وجعلت من فخرها الآسيوي أن تكون أحق بالقارة العريقة من الأوروبيين والآسيويين.
- أولًا: لأن الشرقَيْن الأوسط والأدنى لازمان لحماية الطريق إلى الشرق الأقصى.
- وثانيًا: لأنهما في أول الأمر كانا قِبْلَة الطامعين، لم يبحثوا عن قِبْلَةٍ غيرهما إلا لعجزهم عن الاستيلاء عليها، فلما تألَّبَتْ مطامع الاستعمار على الشرق كله عادت إليهما أنظار الناظرين من قديمٍ وجديدٍ، ولا سيما المتأخرين في سباق الاستعمار ممَّن دخلوا في الحلبة بعد فراغ السابقين الأولين من تقسيم غنائم الهند والصين والجزر الشرقية.
- وثالثًا: لأن أقطار الشرق الأدنى وبعض أقطار الشرق الأوسط كانت كلها بقايا تابعة للدولة العثمانية، التي اصطلحت الدول الكبرى على تسميتها باسم «الرجل المريض»، المتفق على تقسيم تركته حلًّا لما سمَّوه يومئذٍ بالمسألة الشرقية …
- ورابعًا: لأن بلاد الشرقَيْن الأوسط والأدنى أسواق صالحة لترويج المصنوعات الحديثة، مذ كانت بلادًا عمَّرتها الحضارة عدة قرون، وعوَّدت أهلها اقتناء اللوازمات والكماليات من مطالب الأمم المتحضرة؛ فهي بهذا الاعتبار أنفع لدول الصناعة من مستعمراتها في القارة الأفريقية، وبعض مستعمراتها في القارة الآسيوية.
- وخامسًا: لأن الحصول على خامات المواد الصناعية ميسور في بلاد الشرقَيْن الأوسط والأدنى، وتشاء المصادفات أن تظهر في هذه البلاد ينابيع النفط الذي يعوِّل عليه أصحاب المصانع وأدوات المواصلات.
- وسادسًا: لأن الدول التي تنتحل الدفاع عن مذهبٍ من المذاهب تجد الذرائع ممهَّدَة لديها للتدخل في شئون الشرق الأدنى باسم الدفاع عن أبناء مذهبها، أو الدفاع عن الأماكن المقدسة، ويكفي لبيان سعة النطاق الدولي الذي تعمل فيه هذه الذرائع، أن نذكر أن حرب القرم التي اصطدمت فيها روسيا وإنجلترا وفرنسا وتركية وسردينية، بدأت بخلافٍ على رعاية معهدٍ من معاهد بيت المقدس، يدَّعِي الروس حق الأولوية في رعايته والإشراف عليه.
- وسابعًا: إن الرقعة الوسطى بين القارات الثلاث موقع من أخطر مواقع الدفاع والهجوم في الحروب الكبرى، وهذا هو الموقع الذي تقيم فيه أمم الشرقَيْن الأوسط والأدنى، وتتألَّب حوله كلُّ تلك المطامع والتَّعِلَّات.
ويبدو من مراجعة هذه الظروف المتشابكة، أن بلاد الشرقَيْن الأوسط والأدنى أوفر مواقع الأرض حظًّا من المطامع التي تغري بالاستعمار، والتَّعِلَّات التي يتذرع بها المستعمرون للإقدام عليه، فلو لم تكن لهذه الظروف المتشابكة ظروف أخرى تكافئها وتدفع شرورها، لكانت مهمة الاستقلال أشق المهام على طلاب الاستقلال من الشرقيين في تلك البلاد.
إلا أن الواقع أن الظروف من الجانبين تتكافأ وتتعادل، ويرجح منها جانب الاستقلال على جانب العدوان، كلما تقدَّمَ الشرقيون واشتد النزاع على بلادهم بين المستعمرين.
وفي الكرة الأرضية بلاد مستعمرة كثيرة تسكنها أمم على درجاتٍ متفاوتةٍ من التعلُّم والاستعداد للحكم المستقل، وعراقة النسب إلى الحضارات الإنسانية، وليس بينها أمة أحق بمبدأ تقرير المصير من أمم الشرقَيْن الأوسط والأدنى، فإذا اضطرت هيئات الأمم العالمية إلى الاعتراف بمبدأ تقرير المصير، فلا سبيل لها إلى حرمان الأمم الشرقية من حقوقه ومستلزماته في عرض العلاقات العالمية، كائنًا ما كان باعث الاعتراف من نية الصدق والوفاء، أو نية الختل والنفاق.
وإنه لمن الهيِّن على ضمائر المستعمرين أن يمجدوا كل حقٍّ من حقوق تقرير المصير ومستلزماته، لو لم تكن ثمة ضرورة أخرى تَقْسِرهم إلى الاعتراف بها إلى جانب ضرورة الاعتراف بالحقوق والمستلزمات.
ولكن الضرورة الأخرى قائمة على الرغم من الضمائر والرغبات …
وتلك الضرورة الأخرى هي خطر النزاع بين المستعمرين من الكتلتين الشرقية والغربية، وخطر النزاع بين أعضاء كل كتلةٍ على حدة، فلا توجد مصلحة لدولةٍ مستعمرةٍ توازن الخطر على الدول جميعًا من صدمات النزاع المتجدد، وكوارث الحرب العالمية، وتفاقم النذر باشتعالها في كل أزمةٍ من أزمات القضايا الوطنية، أو كل مشكلةٍ من مشاكل السياسات المتعارضة في المعسكر الواحد، أو في المعسكرين المتناجزين، وأهون من ذلك أن تستقل أمم الشرقَيْن الأوسط والأدنى، وأن توكل مسائلها إلى حيلة الساعة، أو وحي المصلحة العاجلة لحظةً بعد لحظةٍ على حسب الطوارئ والمناسبات.
وغني عن القول أن «حيلة الساعة» لا تعطي المستعمرين طمأنينة إلى الشرقَيْن الأوسط والأدنى يستقرون عليها؛ فغاية ما في حيلة الساعة أنها تعطيهم طمأنينة ساعة، وكأنهم بحثوا عن حيلةٍ طويلة الأجل تسعفهم عند الحاجة بطمأنينة مثلها، فلم يجدوا أنفع لهم من دولةٍ يصنعونها بأيديهم، ولا يزالون على ثقةٍ من حاجتها إليهم، فهم يعطونها قرارها وهي تعطيهم ما يفتقرون إليه من قرارٍ.
وكانت دويلة إسرائيل.
وكانت هذه البدعة آخِر شوطٍ من سباق الاستعمار في الشرقَيْن الأوسط والأدنى.
فما أعجب هذه الوريثة النابية لمملكة أورشليم الأولى قبل سبعة قرون!