جاذبية التشويق في قصة الخليل
في لونٍ آخر من القصص المُعجِز نجد قصة إبراهيم عليه السلام. دعُونا نعجَب معًا من السرد الفريد الرفيع الذي قدَّمها به القرآن الكريم.
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (سورة الأنبياء: من آية ٥١–٧٥).
أرأيتَ السخرية في السؤال؟ ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ كأنما لا يدري ما هذه التماثيل .. نوعٌ من الاستنكار الرائع ليس فيه صُراخ السخرية البشرية، وإنما هو سخريةٌ مترفِّعة متأبِّية مُستكبِرة. ويستمع سيدنا إبراهيم لأبيه وقومه وهم يشرحون ما هذه التماثيل، فهم بسذاجة يقعون في الفخِّ الذي هيَّأه لهم ويشرحون، وكأنه لا يعرفُ ما يشرحون.
وفي هذه السورة نجد المنولوج الداخلي أو تيَّار الوعي الذي لم تعرفه القصة العالمية إلا على يدَي جويس وبروست .. ولم تعرفه القصة العربية إلا في أواخر الأربعينيات من هذا القرن. أتُراك عرفتَ أين هو المنولوج الواقعي في هذه الآيات. إنه واضحٌ ولا يحتاج إلى أعمال بحث.
قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ.
إلى هنا والحديث واضح. يرجع إلى أبيه وقومه الذين يجري معهم ما سبق الآية من حوار .. فالحوار ما زال حوارًا مُعلَنًا، ولكن انظر وتابعه.
تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ..
لا يمكن أن تكون هذه الآية مُعلَنة .. إنما هي منولوجٌ داخلي .. يقولها في نفسه ولا يُعلِنها .. وروعة القرآن هنا أنه لا يقول وأسرَّ إبراهيم في نفسه، أو قال إبراهيم في نفسه .. وإنما انتقل من الحوار المُعلَن إلى الحوار الذاتي، أو المنولوج الداخلي، أو تيَّار الوعي دون أية إشارة، معتمدًا على ذكاء القارئ الذي لا يمكن أن يتصوَّر أن إبراهيم سيُعلِم قومه بأنه سيُحطِّم آلهتهم.
وننتقل من المنولوج الداخلي إلى الحدث يُورِده القرآن الكريم في جملةٍ قصيرة آخذة كأنها الرعد، أو كأنها الصاعقة. جملة تصُك. تجمع الحدَث وتتواءم معه، فلا يمكن أن نتصوَّر الحدث يُوصَف إلا بهذه الجملة .. إن طالت فقدَت قوَّتَها ورهبتَها وترفُّعها.
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا١ إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (سورة الأنبياء: آية ٥٨).
لقد حطَّم دين آبائه بهذه الجملة .. لأول مرة في تاريخ البشرية تُحَطَّم الأوثان بدينٍ جديد. ونسير مع الآيات:
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (سورة الأنبياء: من آية ٥٩–٦٠).
أرأيت إذن أن تهديدَ إبراهيم لم يكن مُعلَنًا، وأنهم حين وجدوا آلهتهم جُذاذًا راحوا يتلمَّسون الفاعل حتى اهتدَوا إليه بالاستنتاج لا بالعلم؟
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (سورة الأنبياء: من آية ٦١–٦٣).
أرأيتَ السخرية مرةً أخرى؟ سخرية مترفعة. سخرية نبي. ثم هي سخرية تعتمد على المنطق الطبيعي. وأعظم السخرية هي تلك التي تعتمد على المنطق الطبيعي. أنتم تعتقدون أن هذه الآلهة تضُر وتنفع، فهي إذن تحيا وتسعى وتعقل وتفعل، فلماذا لا يكون كبيرُهم هذا هو الذي حطَّم الآلهة الصغيرة؛ لأنها لا تعجبه، ولأنه أراد ذلك؟ أليس إلهًا وكبير الآلهة؟ منطق لا يقبل المناقضة. وحين يبلغ المنطقُ قمَّتَه لا يمكن أن يكون جوابه إلا القوة الباطشة. يلجأ إليها الظالمون؛ لأنهم لا يستطيعون أن يَلجَئوا إلى المنطق؛ فلو ملَكُوا المنطق ما احتاجوا إلى القوة.
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (سورة الأنبياء: آية ٦٨–٧٠).
وقد تصلُح القوة الباطشة لمن لا نصير له، فكيف إن كان النصير هو الله جل وعلا؟ يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم. فهي برد وسلام على إبراهيم، والكافرون هم الأخسرون. ولا نستطيع أن نُنهيَ حديثًا عن إبراهيم قبل أن نلقي نظرةً متأنية على هذا الحوار السماوي الرائع الذي بين إبراهيم وأبيه وقومه.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ٢ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (سورة الأنعام: آية ٧٤–٧٩).
لقد اتخذ إبراهيم عليه السلامُ من الشمس والقمر وسائلَ تعليمية .. إنه يعرف الحقَّ منذ اللحظة الأولى، ولكن يريد أن يُعلمَ قومه لعلهم يهتدون .. النجم إنه يأفُل. إذن فالقمر .. ولكن القمر يأفُل أيضًا .. فاهدني اللهُمَّ كأنه حائر .. أرأيتَ روعةً في العرض مثل هذه؟ ثم هو يُظهِر الضيق بهذه الأشياء التي هانت أن تكون أربابًا، فيتوجَّه إلى الله القدير الذي يعرفه منذُ أول برهة .. إن لم يهدني ربي لأكوننَّ من القوم الضالِّين.
صرخة رجاء أن يهديه ربه، وهو منذ أول الأمر على هدًى. وإنما يُظهِر أمام قومه أنه يبحث ليهتدوا هم، لا يهتدي هو؛ فهو عليه السلام يعرفُ الهُدى، ولكن الكفر لا يُقتلَع من النفوس مهما يكن الحق واضحًا؛ فأهله لا يؤمنون به، وإنما يناقشونه ويبالغون في النقاش، فهو يصيح بهم:
وَحَاجَّهُ٣ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (سورة الأنعام: من آية ٨٠–٨١).
أرأيتَ كلمة الأمن في مكانٍ ما مطمئنةً كما هي مطمئنةٌ في هذا المكان من الآية الكريمة؟ إن اختيار الكلمة هي قمة العرض الفني، وهي الألفاظ في الآيات القرآنية إعجاز. ابحث ما شئتَ في اللغة العربية، وحاوِل مهما تكن أديبًا أن تغيِّر لفظًا بلفظ. لا تفعل فإنك لن تستطيع .. إنه الإعجاز.
امضِ مع الآيات:
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.
إنه الله سبحانه يريك أن أنبياءه ينالون ما تصبو إليه نفوسهم من هداية الناس، فإن لم يهتدِ قومهم فإن ذريتهم على هدًى؛ فهو سبحانه أعظم من أن يترك نبيَّه إلا أن يُرضيَه. إن لم يُرضِه قومه أرضاه من يأتي بعده، ذريته، وهل هناك أعظمُ من عدل أرحم الراحمين؟
وإنني لا أشُك لحظة أن كُتَّاب القصة القصيرة في منشئها قد قرءوا هذا القرآن وتعلَّموا منه. وقد قيل إن سرفانتس هو أول من أنشأ القصص القصيرة. وقد كانت قصصًا متناهية في الصغر، وإن كتابه حين ظهر تداوَلته الأيدي والأعين والنفوس في شغف وإقبالٍ منقطع النظير وتطوَّرَت بعد ذلك القصة القصيرة حتى كتب فيها فأبدع جي دي موبسان وأوهنري وجوركي وغيرهم، ثم انتقلَت إلى الأدب العربي. وهي تكاد تغلب على أدب الشباب اليوم.
ولا شك أنكَ قرأتَ الكثير من القصص القصيرة فهي تُطالِعك في الإذاعة، وتُطالِعك ممثَّلةً في التليفزيون، وتُطالِعك مكتوبةً في الجريدة والمجلة والمجموعة القصصية. ولا شك أنكَ أدركتَ بحسك ما الذي يجعل القصة القصيرة جيدة، وما الذي يجعلها سيئة. دعنا الآن من القصة الحديثة؛ فهي لا تمثِّل قاعدة يمكن أن نتكلَّم عنها. كما أنها لا تمثِّل مضمونًا مفهومًا يُمكِّنُنا من الحكم عليها؛ فهي تنظُر إلى الغرب في موجةٍ طغت على الغرب وبدأَت تنحسر عنه، ولكن الشباب من أبناء اللغة العربية أخذوا بها. كما أخذو بالشعر المُرسَل والملابس النسائية للرجال، وملابس الرجال للنساء .. وكتبوا القصة غير المعقولة تشبُّهًا بالغرب، وأُوشِك أن أكون على يقينٍ أنهم لا يفهمون ما يكتبون، فما علينا نحن قُرَّاءَهم إذا لم نفهم ما يكتبون.
لنتكلَّم إذن عن القصة القصيرة المفهومة، ولا أُحب أن أقول التقليدية؛ فقد دخل على القصة القصيرة كثيرٌ من التجديد لم يطمس فيها معالم المضمون ولم يجعلها ثابتةً على صورتها الأولى؛ فالحداثة فيها حداثةٌ فنية لم تطغَ على معناها، ولم تُزِل عنها معالم الفهم. يقولون إن من أهم شروط هذه القصة وحدة الزمان، بحيث لا يتطاول الزمان تطاوُلَ الزمن في الرواية؛ فالمفروض في القصة القصيرة أنها حادثةٌ صغيرة على جانبٍ عظيم من الأهمية بحيث تلفتُ نظر الكاتب، وتجعلُه يسجِّل هذه الحادثة، فهي إذن لمحةٌ من الحياة يُمسِك بها الكاتب، ويمنعها أن تسير مع تيار الزمن العادي، فهو يُثبِتها ويضع لها لإطار الفني فتقف ولا تصبح نقطةً عادية من تيار الزمن السائر الرتيب، الوضع الذي يمضي فلا يُحسُّ به أحد؛ ولهذا فوحدة الزمن تُوائِم فكرة اللحظة الفنية التي تلفتُ نظر الكاتب.
ويقولون إن الشرط الآخر هو وحدة الموضوع؛ فحين تسمح لك الرواية أن تتناول جوانبَ عدة من الحياة، لا تسمح لك القصة القصيرة إلا أن تتناولَ جانبًا واحدًا من الحياة تركِّز عليه اهتمامك وتُبلوِره، حتى إذا وُضِع الإطار القصصي أصبح واضحًا جليًّا لا يختلط بموضوعاتٍ أخرى تطغى عليه، وتطمس الأهمية التي لفتَت نظر الكاتب حين اختاره ليكون موضوع قصته.
ويقولون إن القصة القصيرة يجب ألا تكون كثيرةَ الأشخاص؛ فالقصة القصيرة لا تسمح لشخصٍ يظهر فيها إلا إذا كان مهمًّا غاية الأهمية بالنسبة للحدث. وإذا ظهر فلا بد أن يظل موجودًا في القصة حتى تنتهي، في حين أن الرواية تسمح لك أن تتعدَّد الأشخاص، ما شاء لها أن تتعدَّد، وتسمح للشخصية أن تمضي لشأنها إذا أدَّت دَورَها فلا تعود للظهور مرةً أخرى.
ويقولون إن القصة القصيرة يجب أن تكون ذات بداية وقمة ونهاية، تلك النهاية التي يُسمِّيها بعض النقاد لحظة التنوير، وهي اللحظة التي تُدرِك فيها لماذا كتب الكاتب القصة جميعًا.
يقولون إن القصة القصيرة يجب أن تكون مُركَّزةً غاية التركيز في تعبيراتها، بحيث يكون كل تعبير ذا أثَرٍ في تطوُّر القصة. وإن كان بعض الكُتاب العرب يُحبون أن يجمِّلوا قصصهم بالأسلوب العربي الرشيق ناظرين إلى كثرة المترادفات في لغتنا، ضاربين صفحًا عن هذا الشرط من شروط القصة.
تلك هي في إجمالٍ أهم شروط القصة القصيرة .. انظروا إذن هذه المعجزة في هذه القصة القصيرة:
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ٤ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (سورة الصافات: من آية ١٠٠–١٠٧).
في ستين كلمةً اكتملَت قصةٌ مُعجِزة .. من ناحية الزمن لحظة. أبٌ يهمُّ بقتل ابنه ويتلُّه للجبين فيوحي إليه ربُّه قد صدَّقتَ الرؤيا ويُنقِذ الابن.
من ناحية الموضوع واحدٌ لم يتغيَّر .. أبٌ يقول لابنه إنه أُوحي إليه أن يقتُلَه، فيقول الابن في روعة الإيمان وعظمته وأمنه المُطمئِن افعل ما تُؤمَر به. لم تَحِد القصة عن موضعها قيدَ أُنملة.
من ناحية الأشخاص اثنان لا ثالث لهما .. وليس أقل من الاثنَين إلا الواحد، وما أحسب أن الواحد يستطيع وحده أن يصنع قصة.
من ناحية البداية والقمة والنهاية .. البداية ربِّ هَبْ لي من الصالحين، القمة افعل ما تُؤمَر به، وتلَّه للجبين، النهاية وفدَيْناه .. البداية أروع ما تكون البداية؛ فالسورة تبدأ منذ إسماعيل، دعاء يتوجَّه به إبراهيم عليه السلام إلى ربه .. والقمة أروعُ ما تكون القمة، أبٌ يقتل ابنه، وابنٌ يُرحِّب أن يُقتَل في سبيل الله .. والنهاية أروعُ ما تكون النهاية .. لقد وضع الله نبيَّه وابنَه في بلاءٍ عظيم يمتحن صبرهما، حتى إذا أبدياه واضحًا جليًّا عفا .. وأعاد الابنَ إلى أبيه، والحياةَ إلى الابن .. فكلاهما جميعًا في فرحٍ مقيم.
ألم أقُل لكَ إنه الإعجاز؟
وثمَّة شيءٌ آخر. كثيرون يعتقدون أن الشخصية المُسطَّحة عيبٌ في العمل القصصي. وهذا وهمٌ فالشخصية المُسطَّحة دائمًا تقدِّم أعظم الأعمال الدرامية؛ لأن الشخصية المُسطَّحة في القصة أو الرواية، إنما يَبينُ لك منها جانبٌ واحد، هو الجانب الذي اختارت القصة أو الرواية أن تقدِّمه لك، وهو دائمًا الجانب الفذ .. فإسماعيل في هذه القصة شخصية مُسطَّحة، ولكنه في نفس الوقت قمةٌ إنسانية.
وسيدنا إبراهيم في هذه القصة شخصية مُسطَّحة، ولكنه في نفس الوقت قمةٌ إيمانية. ولم تشأ الآيات أن تُظهِر من أعمال سيدنا إبراهيم أو سيدنا إسماعيل .. إلا هذَين الجانبَين .. أبٌ يتمنى ابنًا صالحًا، فيهبه له الله، ثم يأمره أن يقتُله فيمتثل .. وابنٌ مقبل على الحياة يقول له أبوه إني قاتلك امتثالًا لأمر ربي، فيقول افعل ما تُؤمَر به .. القصة لا تريد أن تروي أكثر من هذا الجانب الكامل من النبيَّين الكريمَين .. ولو لم يكن لكلٍّ منهما إلا هذا الجانب الذي قدَّمَته الآيات لكان هذا كافيًا ليصبح الأب أبا الأنبياء جميعًا، وليصبح الابن نبيًّا وابنًا لهذا الأب العظيم.