دقة التبسيط في قصة موسى
ألوان الرواية كثيرة؛ فمنها الرواية التي تتخذ مادَّتَها من الجماعة أو الأسرة. ومنها الرواية التي تتخذ مادتها من الفرد وحربه ضمن الظروف أو المجتمع .. وفيها الرواية التي تتخذ قوامها من تشابُك الظروف فيها .. وهناك الرواية الرمزية. وهناك الرواية التي ترسم المجتمع في فترةٍ معيَّنة من الزمن .. وهناك أيضًا الرواية التي ترسم الأزمة وأثَرها ومدى ما تنداح دائرتها في أوساط المجتمع. وما أحسبُني قادرًا أن أُلِم بكل ألوان الرواية.
ولعل قصة سيدنا موسى من أعظم أنواع الروايات التي تلُم بين أطوائها جملة ألوانٍ من فنون الرواية؛ ففيها صراع الفرد ضمن القوة الطاغية .. ثم صراع المرء ضد الظروف .. ثم صراع الجماعة في سبيل الحق .. ثم ارتباط الناس بما تعوَّدوه من حياة لا يغيِّرون ما بهم مهما تتغير أفكارهم وعقائدهم .. إنها قصة من القصص المُعجِز .. وما أحسبُني قادرًا أن أجمع كل ما تتسم به من إعجاز وشمول في أسطرٍ قلائل .. ولكن نستطيع أنا وأنت أن نُحاوِل قراءتها، لعلنا نصل إلى بعضٍ من أسرار إعجازها إن كان إلى ذلك من سبيل .. وما أظن.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ١ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (سورة القصص: آية ٧).
بدايةٌ معجزة؛ فالله سبحانه وتعالى لا يُخفِي عنك نهاية القصة .. وإنما يضعُها أمامك منذ سطورها الأولى؛ فقصص القرآن لا يُزجَى إليك ليُسلِّيَك، وإنما تُضرَب به الأمثال. وأنت طبعًا تعرف قصة موسى، وتعرف أنه صار نبيًّا. فهذه الحقيقة تُوضَع أمامك منذ اللحظة الأولى، ولنَمشِ مع القصة بعد ذلك.
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ.
وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (سورة القصص: من آية ٩–١٣).
قصةٌ مُعجِزة قدَّمَت لنا طفولة موسى منذ نشأته الأولى، ولولا الإنسانية التي تتسم بها ما قصَّها القرآن .. ومن هنا نستطيع أن ننفُذ إلى قاعدةٍ قصصية تغيب عن كثيرٍ وهي أن القصة لا بد أن تقدِّم شيئًا غريبًا .. لم يعهَدْه المجتمع من ناحية الوقائع التي تجري حولها القصة. وهي مع ذلك تقدِّم ردود الفعل النفسية الطبيعية التي يعرفها المجتمع؛ فانفصال وليد عن أمه أمرٌ عجيب لم يعهده المجتمع. ولهفة الأم على وليدها أمرٌ طبيعي يعرفه المجتمع، فالقارئ حين يُطالِع هذا اللون من القصص يريد واقعةً عجيبة غريبة على مألوف عاداته، ثم يُمسِك به التشوُّق أن يعرف كيف تصرَّف الشخص الذي واجه هذه الواقعة الغريبة.
نسير مع القصة لنرى سيدنا موسى .. وهذا المُضطَرَب الضخم من الأحداث التي خاضها:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ٢ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ٣ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (سورة القصص: من آية ١٤–١٧).
إعجاز في القصة التعليمية .. ما الذي تهدف إليه قصص القرآن؟ إنها جميعًا تهدف أن تضرب الأمثال للناس. وسيدنا موسى هنا قاتل، ولكن الله غفر له، إنما المغفرة لا تُعطَى هكذا بدون حسابٍ واضح. إنه وقع في خطأ. وإنه أحسَّ بهذا الخطأ الذي وقع فيه فاستغفر ربه فغفر له .. وأحسَّ أن الله غفر له بالطمأنينة تسري بين جوانحه، ويشكُر ربه أنه لن يكون بعد اليوم ظهيرًا للمجرمين، فبهذه الآيات القليلة يضرب الله سبحانه وتعالى من واقع القصة المثل على أن بابَ التوبة مفتوحٌ لمن أحسَن التوبة. وفي هذه الآيات أيضًا معنًى واضح وإن تخفَّى وراء النص، يا بني آدم حتى الأنبياء يُخطِئون، فلا تثريبَ عليكم، فكلُّ ابن آدم مُعَرَّض للخطأ. إعجاز في العرض وإعجاز في تقديم الأمثال. وتمضي الآيات حتى يقول سبحانه:
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (سورة القصص: آية ٢٠، ٢١).
ويخرج موسى من المدينة ليواجه الحياة لا يملك إلا إيمانه، وهو حَسبُه.
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ٤ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
أرأيتَ سرعةً في السرد .. وإبانةً مع التفصيل، مثلما ترى في هذه الآيات؟ سقى وقَصَّ وأمَّنَه أبو الفتاتَين .. كل ذلك في آياتٍ قلائل ونقلاتٍ سريعة متلاحقة، تلهث وراءها أنفاسُك في متعةٍ رائعة .. وهل نراكَ لاحظت كلمة على استحياء؟ إنها الإعجاز. لقد وقع موسى من نفس الفتاة موقعًا حسنًا، ولكن القرآن لا يذكر ذلك. وإنما يشير إليه هذه الإشارة المعجزة. فالاستحياء هنا من نفسها أنها تُحِس أنه وقع من نفسها، وهي تستحي من هذه المشاعر التي تُخالِجها. والكلمة في نفس الوقت تمهيدٌ مُغرٍ لما سيجري بعد ذلك من أمور.
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ.
الحب هنا لفظة. وقد كان مشاعر. ولكنه لفظةٌ قرآنية شريفة. لم تقل يا أبتِ أُحبُّه أو يا أبتِ زوِّجني منه .. وإنما استأجِرْه .. ويفهمُ الأب ما يُراوِد ابنته من مشاعر، ويحفظ عليها حياءها فيكفيه أن يسمع ابنتَه تقول إنه قويٌّ أمين. فهي إذن تمتدحه، وهي إذن تَقبلُه.
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ٥ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ٦ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ.
أترى هنا إلى إعجاز البناء القصصي؟ لقد تم عقد بين والد الفتاتَين وبين موسى .. وتم الزواج وقضى موسى أجل العقد .. ثم سار بأهله حتى آنَس نارًا .. وفي كلمة آنستُ نارًا هذه قصةٌ قد يرويها البشر في صفحاتٍ طِوالٍ طِوالٍ لا تنتهي؛ فهي تعني أنهم ضلُّوا الطريق؛ فلو لم يكونوا قد ضلُّوا الطريق لما كان وجود النار أمرًا يستحق أن يُذكَر .. ثم هو يريد أن يأتي لامرأته بجذوة نارٍ لتصطلي، فالبرد إذن شديدٌ قارس. وهناك أمرٌ آخر. لقد قضى مع زوجته سنواتٍ أقلُّها ثمانٍ، وهو يهتمُّ بها، ويُحاوِل أن يأتي لها بنارٍ تصطلي، فالزواج إذن كان مُوفَّقًا سعيدًا؛ كل هذا وأكثر منه في الكلمات القلائل. والإعجاز هنا أن طريقة العرض تُرغِمكَ على أن تُفكِّر فيما وراء الألفاظ حتى تندمج مع القصة القرآنية، وتعيش فيها بنبض إحساسك وكل تفكيرك، وتلك هي قمة الإعجاز في العرض القصصي.
•••
ماذا وجد موسى عند النار؟
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (سورة القصص: آية ٣٠).
جل وعلا. ألا تُحس كأن الدماء منك تجري في غير مُتجَهها؟ وهل تُراك رأيتَ التقديم لنطق رب العالمين سبحانه؟ هذا التحديد للمكان. هذا التحديد وحده يُنبئ أن أمرًا جليلًا سيحدث، بل إنه ينبئ أن أمرًا لم تعرفه الأرض سيهزُّها هزًّا. ليس لك إلا الله يا موسى. إن إله العالمين يخاطبك وهكذا — وليس هذا بعجيب — يصبح اسمك منذ اليوم موسى الكليم. عرضٌ مُعجِز للحظةٍ إلهية تجلُّ عن أي وصف، إن إله السموات يخاطب واحدًا من عباده إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ٧ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (سورة القصص: آية ٣١).
أرأيتَ عرضًا أروعَ من هذا للمعجزة التي يقدِّمها الله لنبيه؟ صورة تتحرك فتكاد تراها، ثم كلام الله جل وعلا مباشر لم يسبقه أنه سبحانه نادى موسى، وإنما الجملة مباشرة، يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين .. وتمضي الآيات:
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ٨ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (سورة القصص: آية ٣٢).
وهكذا تبدأ رسالةُ موسى أروعَ ما تكون البداية، وننتقل بعد ذلك مباشرةً إلى موسى يؤدي الرسالة، ولا تعود القصة إلى زوجته ولا تذكُر ماذا كان من شأنها؛ فهذه الآياتُ تفصيلاتٌ لا قيمة لها يتركُها لك القرآن أن تفهمها دون ذكرٍ لها؛ فالأمر أصبح الآن جليلًا خطيرًا. لقد جاءت رسالةٌ من فوق سبع سمواتٍ في هذه التفصيلات. وما قيمتُها إلى جانب هذا الحدَث الضخم الذي تهتزُّ له الأرض هزًّا.
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (سورة القصص: آية ٣٦).
وننتقل إلى سورةٍ أخرى تروي ما كان من أمر موسى وأمر فرعون. وفيها نرى الإعجاز الدرامي للصراع بين الحق والباطل، بين الملك الأرضيِّ الهيِّن وبين الإيمان العظيم بمالك الكون ومن عليه.
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (سورة طه: من آية ٥٦–٥٩).
أرأيتَ التمهيدَ الرائع لهذه المباراة؟ إن الكافرين يكيدون، وإن موسى ليَقْبل التحدي ويضرب لهم الموعد، كم أنت مُشَوَّق أن تعرف النتيجة وإن كنتَ تعرفها! نعم .. فإن الإنسان يُحب أن يسمع الخبر الذي يُحبه مراتٍ ومراتٍ ولا تمَلُّ نفسه منه. ومع أننا نعرف ما كان من أمر موسى والسحرة، إلا أننا نُحب أن نقرأ كيف تَمَّ هذا. ونقرؤه ونقرؤه ولا نمَلُّ قراءتَه حتى يرثَ الله الأرض ومن عليها.
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ٩ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (سورة طه: من آية ٦٥–٦٧).
أرأيتَ هنا الصراع النفسي؟ إنه نبيٌّ بشَر .. لقد خاف، مع أنه مؤَيَّد من ربه، ولكن النفس الإنسانية لا تستطيع أن تتخلَّص من ضعفها أبدًا. وهل تُراك لاحظتَ تركيب الآية الأخيرة: فأوجس في نفسه خيفة موسى. أترى أين جاء اسم موسى؟ إعجازٌ فني في التركيب اللغوي والتركيب القصصي، بل وفي التركيب النفسي، فإن التوجُّس هنا هو المهم؛ ولذلك تقدَّمَت الجملةُ جميعها، ثم جاء اسمُ موسى في آخرها.
قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (سورة طه: من آية ٦٨–٧٠).
إيجازٌ لا شبيه له. قلنا ألقِ ما في يمينك، فأُلقي السحرة سُجَّدًا. لم يجد القرآن داعيًا أن يقول إن موسى عليه السلام ألقَى، وإن ما وعده الله به تحقَّق. فهذه جميعًا بديهياتٌ لا تحتاج إلى إعادة ذكرها؛ فما دام الله وعدَه فهو مُنجِز وعده لا محالة.
آمن السحرة؛ فهم أبناء صنعة، ويعرفون الزيف من الحقيقة. والذي رأَوه ليس سحرًا، وإنما هو معجزة، فماذا إذن يصنع فرعون، وما تُراه يقول؟
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (سورة طه: من آية ٧١–٧٢).
وهكذا تبلُغ المأساة قمَّتَها؛ فالسحرة هم الشعب كفروا بفرعون وآمنوا بربهم رب العالمين.
فرعون غاضبٌ ساخط يهدِّد ويتوعَّد، ولكنَّ المؤمنين يسخرون منه. إنك لا تملكُ إن كنتَ تملكُ إلا هذه الحياة الدنيا، وهي دنيا هانت. أما نحن الذين رأينا ما رأينا فلن نخذل إيماننا أبدًا. كل هذا نسمعه في حوارٍ سماوي مُعجِز، الجملة فيه تحمل ألف معنًى وألف نبض وشحنة من القوة لا يُطيق أن يبثَّها فيها إلا ربُّ العالمين .. وتتدخَّل السماء في هذا الصراع.
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا١٠ وَلَا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ صدق الله العظيم (سورة طه: آية ٧٧–٧٨).
وسبحانه الله تعالَت معجزاته! في آيتَين اثنتَين روى انشقاق البحر لموسى وأتباعه من عباد الله .. ونرى كيف طغى اليم على جنود فرعون فانقضى أمرهم. هذه المعجزة التي ظلَّت حتى يومنا هذا وحيًا للفن التشكيلي المتحرِّك والثابت، وإلهامًا للفن الأدبي في كل بقاعِ العالم يقدِّمها القرآن في آيتَين اثنتَين لا تتجاوزان معًا الخمس والعشرين كلمة. هذه الواقعة لو أمسك بها قَصَّاصٌ من البشر لجعل منها روايةً بأكملها، ولكنها السماء تُرسِل تنزيلًا مُعْجِزًا تنزَّه عن الثرثرة، وسما عن التزيُّد، وإنما هو قرآنٌ أُحكمَت آياتُه، فكانت معجزاتٍ تصغُر دونها المعجزات، وسبحانه رب العالمين!
•••
القصة البوليسية فيما تعارف عليه الناس هي القصة التي تُصنَع للتسلية وإزجاء الوقت ثم لا شيء بعد هذا؛ فلا هي تحمل في طواياها معنًى آخر، ولا هي تهدفُ إلى فكرة أو هدف، شأن رواية الفكرة التي يسميها الفرنسيون رومان آتيز أو الرواية ذات الرسالة؛ أي الرواية التي يُقصَد بتأليفها إثباتُ فكرةٍ معيَّنة. الرواية البوليسية بعيدةٌ عن هذا جميعه كل البعد. ولكنها في نفس الوقت أمتع أنواع الروايات؛ فهي تلقَف القارئ لا تتركُه أو ينتهي منها. والرواية البوليسية تعتمد في بنائها على الغموض. حدثٌ معيَّن يدعو إلى الدهشة أو الانبهار، ثم تمضي الرواية بقارئها وهو يضع التفسيرات لهذا الحدث، ويُنشِئها في ذهنه، وتتغيَّر هذه التفسيرات مع كل منعطف للسرد. ولا يزال القارئ بين اقتناعٍ بما وصل إليه ظنُّه وانصرافٍ عنه، حتى تنتهي الرواية إلى تفسير قد يكون بعيدًا كل البعد عما أنشأه هو في نفسه.
وإعجاز القرآن أنه قدَّم لنا رواية ذات بناءٍ بوليسي؛ فهو يعرضها في سردٍ شائق أخَّاذ مُعْجز، ومع ذلك وفي نفس الوقت نجد القصة القرآنية تجعل من هذا السرد روايةً ذات هدفٍ بل أهداف. أليس ذلك هو الإعجاز؟
والأعجب من ذلك في هذه القصة أنها تجمع بين أصول القصة القصيرة وأصول القصة الطويلة في وقتٍ معًا، وهذا أمر لم يصنعه إلا جون شتاينبك القصَّاص الأمريكي المعاصر الذي تُوفِّي منذ قريب، وقد قدَّم هذا العمل الذي يجمع بين القصة والرواية في السنوات الأخيرة القريبة، ومع ذلك فقد كانت القصة القصيرة عند شتاينبك منفصلةً عن الرواية، بحيث إذا نُزِعَت قصةٌ قصيرة من قصص المجموعة لظلَّت الرواية كما هي في بنائها. ولكن القصة القصيرة في رواية القرآن الكريم جزءٌ أساسي في بناء الرواية لا تستطيع أن تفصله عنها.
في هذه القصة القرآنية إذن نوعان من الإعجاز؛ الإعجاز الأول أن الرواية كان بناؤها يشبه بناء القصة البوليسية. ومع ذلك فهي روايةٌ هادفة تحمل الكثير من المعاني والكثير من الأهداف. الإعجاز الثاني أنها قصةٌ طويلة تتكوَّن من عدة قصصٍ قصيرة في مزيجٍ بينها عجيب فلا تصلُح إحداهما إلا بالأخرى.
أتُراك الآن مشوقًا أن تعرف هذه القصة العجيبة؟ أنت تعرفها كل المعرفة. انظر معي إلى تلك الآيات من سورة الكهف:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (سورة الكهف: من آية ٦٠–٦٤).
أرأيتَ هذا التمهيدَ الرائع؟ إن القرآن الكريم يروي كيف بدأَت هذه القصة، أو هذه القصص التي سيرويها لك، فلنَمضِ إذن مع ذلك القصص:
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (سورة الكهف: آية ٦٥).
إذن فبطلٌ جديد قد ظهر في القصة؛ فالأبطال في الروايات يظهرون شيئًا فشيئًا بتتابُع. وقد يبدو أن هذا العبد من عباد الله الصالحين لن يكون له أثَرٌ في القصة، ولكن ما هي إلا أن تنتقل إلى الآية التالية حتى تُدرِك أنه قد أخذ مكان البطولة جميعًا. انظر.
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (سورة الكهف: من آية ٦٦–٧٠).
أرأيتَ تشويقًا أروعَ من هذا التشويق؟ لن تستطيع معي صبرًا. ثم لا تسألني حتى أخبرك. إذن فعبد الله يعلم أنهما سيلاقيان في مسيرتهما هذه عجبًا، وأن موسى سيرى أشياء يُذهَل بها، وأنه سيسأل، إن لم تكن تعلَم ما رأياه .. ألا تتوقُ أن تعرف؟
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا١١.
لو كنتَ لا تعرف قصة هذه السفينة، أليس من الطبيعي أن يتولاك العجب؟
وأليس من الطبيعي أن تروح تُنشِئ في ذهنك الأسبابَ التي تجعل رجلًا أُوتي علمًا من لدُن الله سبحانه وتعالى يَخرِق سفينة؟ امضِ مع الأحداث:
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا.
وقتلٌ أيضًا. أرأيت النبأ كيف استقام للقصص المُعْجز؟ قتل من رجلٍ عامد. ألستَ في ذهول؟ وموسى يسأل، فيُذَكِّره بأنه قال له منذ أول الأمر أنه لن يستطيع معه صبرًا، ولكن موسى يعتذر، وينطلقان.
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (سورة الكهف: آية ٧٨).
وتمضي الآياتُ تتوالى؛ فالسفينة لمساكينَ يعملون في البحر، فأراد أن يَعيبها، حتى لا يستولي عليها ملكٌ ظالم، كان يسير خلف هؤلاء المساكين. هل يمُر هذا السببُ بذهنِ أحد؟
والغلام، ذلك الذي قُتِل، ما شأنُه؟ كان أبواه مؤمنَين، وكان يعلم أنه سيُرهِقها طُغيانًا وكُفرًا فخلَّصَهما منه ليهبَ لهما خيرًا منه وأقرب رُحمًا. أتُراكَ أدركتَ ما يتخفَّى وراء هذه القصة من معنًى رفيعٍ آخر؟ لا شك أن الأبوَين حين فقدا ولدَهما، اعتبرا هذا كارثةً حلَّت بهما، لأنهما لا يطَّلِعان على الغيب، كما يطَّلع العبد الصالح. وراء هذه الآية أنه رُبَّ كارثةٍ حاقت بإنسانٍ ما، فإذا اطَّلَع على الغيب وجدها نعمةً قدَّرَها له الله، فأحسَن سبحانه تقديرها، فما شأنُ الجدار إذن؟ إنه لغلامَين يتيمَين في المدينة. وكان تحته كنزٌ لهما، وكان أبوهما صالحًا، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يحفظ لهما الكنز حتى يبلُغا أشُدَّهما، ويستخرجا كنزهما، رحمةً من الله جل وعز، ثم هو يقول إنه ما فعل شيئًا من هذا من تلقاء نفسه. وإنما كان أداةً لتنفيذ مشيئة رب العالمين.
وتتضح أسرار القصة وتبلغ منتهاها، أروع ما تبلغ قصة منتهاها، إعجازًا من الإعجاز، ولا يقوله غير الله جل وعلا وسبحانه.