الإعجاز في قصة مريم
الحوار من أهم أدوات القصَّاص. وكل كاتبٍ مهما يكن شأنه يستطيع أن يصنع حوارًا، ولكن الكاتب المتمكن وحده هو الذي يجعل الحوار يموج بالحياة. والكاتب المتمكِّن للقصة هو الذي يعرف أين يضع الحوار، فلا يُورِده حين يجمل أن يكون العرض سردًا وضعيًّا، أو سردًا كحوادث. والدخول إلى الحوار ليس ميسورًا لكل كاتب؛ فالكاتب القادر وحده هو الذي يجعلُك تنتقل إلى الجزء الحواري من روايته، دون أن تشعر أن هناك نقلةً قد حدثَت من السرد الروائي إلى السرد الحواري. والحوار صعبٌ صعوبةً بالغة من وجهة نظرٍ أخرى؛ إذ لا بد أن تكون كل جملة حوار تطوُّرًا جديدًا للحدَث أو للشخصية أو للرواية جميعًا.
اقرأ معي هذه الآيات:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ١ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا٢* فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا٣ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (سورة مريم: من آية ١٦–٢١).
أرأيتَ كيف انتقل السرد إلى الحوار؟ أرأيتَ أن الحوار هنا لا يمكن أن يُستبدَل بأي وسيلةٍ أخرى من وسائل العرض القصصي؟ فكأنما خُلِقَ الحوار ليكون في هذا المكان. وقد جاءت النقلة طبيعية؛ فأنت تُحس بها كالطريق الحريري المُمَهَّد تسير فيه الكلمات طيعةً مواتية. ثم أترى إلى العرض النفسي لمريم، وكيف يؤدي الحوار توجسًا وخوفًا في روعة أخَّاذة؟ إن الحوار هنا يؤدي في كل كلمةٍ منه تطوُّرًا في الحدث والشخصية معًا.
ولنَمضِ مع الآيات:
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا٤* وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا.
معجزةٌ لم يشهدها العالم تحدُث، ولكن القرآن يُوردُها في هذا اليسر كأنها أمرٌ طبيعي. ذلك هو الإعجاز. إن المعجزة لا تحتاج إلى ضجيج حولها، لأنها وحدها تحمل ضجيجها. واكتفَى القرآن بشيءٍ واحد؛ أن مريم التي كانت خائفةً هالعة تتمنَّى لو كانت قد ماتت قبل هذا، أو كانت نسيًا منسيًّا، تطمئن وتهدأ وتُطيع هذه المعجزة التي تُناديها مِن تحتها.
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِ يَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا.
ألاحظتَ أنهم لم يسألوا سيدنا عيسى، وإنما تكلَّم هو دون أن يسألوه. لقد انتهى حديثُهم عند إبائهم أن يكلِّموا من كان في المهد صبيًّا، فهم إذن قومٌ عقلاء لا يتصوَّرون أن يخاطبوا هذا الطفل في مهده، فحين تُجيبهم المعجزة يصبح وقعها عليهم عنيفًا مُزلزلًا؛ فإن عقولهم الراسخة الثابتة لم تكن لتَقْبل هذه المعجزة لو لم يَروْها بأعينهم. ولعلكَ تعلم أن معجزات الأنبياء كلها كانت مرئيةً تُخاطِب العين، فهي إذن معجزاتٌ قاطعة لا ينكرها إلا الجبَّار العنيد. ولكن من ناحيةٍ أخرى لم يبقَ للأجيال التالية شيءٌ من هذه المعجزات. المعجزة الوحيدة الباقية التي تحمل أريج السماء حين عبقَت به الأرض هي القرآن. وفي هذا القرآن عرفنا كل المعجزات السابقة التي كانت مرئيةً والتي لم يعرفها إلا القوم الذين عاصروها، ثم أصبحَت من بعدهم رواياتٍ تُروى تحمل التصديق والتكذيب، فمن كان مؤمنًا بهؤلاء الأنبياء فهو يصدِّقها، ومن لا يصدِّقها حتى يأتي القرآن فيجعل منها جميعًا معجزاتٍ لا سبيل إلى نكرانها إلا من ذي النفس السقيمة المريضة.
وفي سورة أخرى نرى جديدًا في سردٍ آخر:
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
أرأيتَ هذا الإجمال في العرض؟ إنها معجزة عيسى جميعًا، ولكن القرآن لم يشأ أن يُفَصِّلها؛ لأن تفصيلَها يقع في مكانٍ آخر، فالقرآن هنا يقدِّمها لك تقديمًا سريعًا؛ لأنها ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي تمهيدٌ لما قام به عيسى بعد ذلك من أعمال، وهي أيضًا تمهيدٌ للمعجزات الأخرى التي شاء الله سبحانه وتعالى أن يهبَها لعبده عيسى ابن مريم.
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ.
في هذه الآية نقلةٌ من أحدث النقلات التي عرفَتْها القصة الحديثة، أو يظن كُتَّاب القصة أنها حديثة، ولكن الآية تدمغها بأنها قديمةٌ منذ نزل القرآن على النبي الكريم ﷺ. لا شكَ أنك لاحظتَ هذه النقلة.
إن القرآن الكريم يتكلَّم بصيغة الغائب .. يعلِّمه الكتاب ورسولًا إلى بني إسرائيل. ثم فجأةً ودون أي مقدماتٍ أني قد جئتكم بآية من ربكم.
انتقل السرد إلى صيغة المتكلِّم فجأة. وهل تحتاج هناك إلى تمهيد وإعجاز؟ هل تحتاج إلى من يقول إن سيدنا عيسى قال لقومه إني قد جئتكم بآية. وكان السرد يستطيع أن يمضي في الرواية بصيغة الغائب، فيقول إنه قال لقومه إنه قد جاءهم. ولكن هذه اللفتة الإلهية المعجزة تقع من الآية موقعًا لا تملك إزاءه إلا الإكبار والإجلال والخشوع. وهل تملكُ أمام كلام الله إلا الإكبار والإجلال والخشوع؟