الثواب والعقاب في قصة آدم
لعله كان أولى بنا أن نبدأ بقصة آدم، ولكن هل نسوق هنا عرضًا تاريخيًّا؟ إنما نحن نُلقي نظراتٍ سريعةً خاشعة على السرد في قصص القرآن الكريم، فلا جُناح علينا أن نَضرِب عن الترتيب الزمني صَفْحًا. والقرآنُ نفسه لم يُورِد قصة آدم في بداية سُوَره القصصية. يقول تعالى في سورة طه، (الآية ١١٣، وما بعدها):
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا * وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى.
لا شك أن كل قارئٍ سمع عن التمهيد في القصة والأعمال المسرحية على السواء .. أرأيتَ القرآن هنا كيف يسوقُ التمهيد في لغةٍ شريفة لا لبس فيها ولا غموض؟ لقد حذَّر الله آدم. وقال إن إبليس هذا عدوٌّ لك ولزوجك .. في روعةٍ أخَّاذة معجزة. يشير سبحانه وتعالى إلى أن إبليس عدوٌّ للجنس البشري جميعًا ولم يكن الجنس البشري يومذاك إلا آدم وزوجه. ثم هذه الإيماءة الوامضة إلى الزوجة هنا .. إنها إيماءة لا تتأتَّى إلا من فوق سبع سموات .. فالزوجة هنا عنصرٌ رئيسي، فما وقع بعد ذلك حدث، فذكرها إشارة إلى الحدَث دون كشفٍ للحدَث .. فأنت تريد أن تعرف مشوقًا إلى ما حدَث بعد ذلك، وتلك هي تمامًا وظيفة التمهيد. وقد قدَّمه سبحانه وتعالى لا يزيد كلمةً عما يجب أن يكون في جملٍ حاسمة حازمة قوية الدلالة تأْسِر القارئ فلا تُفلِتُه أو يصل من القصة إلى غايتها.
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى.
أترى الجنة التي هيَّأها الله لآدم وزوجه؟ لقد وعدَه فيها ألا يجوع ولا يَعْرى ولا يظمأ ولا يَضْحَى، فماذا فعل آدمُ أمام هذه الوعود؟
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى.
أرأيتَ سردًا أكثر اكتمالًا وقصرًا في وقت معًا مثل هذا في جُملٍ قليلة؟ قدَّمَ الحدث أجمعه، ثم عقَّبَ عليه بما يبلوره. وعصى آدم ربه فغوى.
فماذا فعل ربه بعد أن عصى وغوى؟
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى.
إذن فالجزاء من جنس العمل. وحين عفا الله عن آدم رحمه فأنزله إلى الأرض، ثم وفي جملةٍ واحدة بشَّره بأنبيائه جميعًا، فإما يأتينَّكم مني هدى، فمن اتبع هداي فلا يضل فيها ولا يشقى. هذا الهدى هو الأنبياء يُشيد الله بذكرهم دون أن يذكرهم، وإنما يُنبئ آدم بعد أن عفا عنه أن السماء لم تقطع صلتها به، وإنما سيأتيه من ربه هدًى. وسيَمتحِن الأبناء بما امتحَن به أباهم الذي عَهِد الله إليه فنَسِيَ ولم يجد له عزمًا. كذلك الأبناء سيهَب لهم الهدى كما وهبه لأبيهم من قبلُ، فمن نَسِي منهم فسوف يحشُره أعمى؛ لأنه في هذه المرة مجرمٌ عائد لا يستحق العفو، وهو عائد لأنه عرف ما حاق بأبيه حين نَسِي، ومع ذلك لم ينتفع بالمثَل أمامه. أما أبوه فكان أول نَسَّاء للعهد، ولذلك أدركَتْه رحمة ربه. وهكذا ترجع القصة خاتمتها إلى بدايتها؛ فكما ابتدأَت الآيات ذاكرة كيف نسي آدم، كذلك تنتهي القصة بتحذير الأبناء ألا ينسُوا مثل أبيهم.
أنا لستُ بشارحٍ للقرآن؛ فما أستطيع أن أرقى هذا الرُّقي. ولكن هذه المعاني جميعًا كانت تنثال على خاطري وأنا أقرأ الآيات. وأروع أنواع السرد القصصي هو ذلك الذي يوحي إليك بما وراء الألفاظ دون تصريح، فالقصة إنما التمسَت كنوع السرد الفني لتُقِر في النفس أرسالًا من المعاني في لغةٍ غير مباشرة؛ لأن اللغة المباشرة لا تفعل بالنفس ما تصنَعه اللغة القصصية؛ فالحدث في ذاته حُجةٌ أقوى من كل حُجةٍ كلامية. والقارئ الذي يستطيع أن يَستشِفَّ ما وراء الحدث هو الذي يستطيع أن يستمتع بالقصة ويبلُغ منها غاياتها.