جزر الكناريا … ورسالة لم تَصِل!
كان نهارُ ذلك اليوم رائعًا … فقد تمدَّد «أحمد» و«عثمان» فوق كراسي الشاطئ الطويلة المتناثرة على شاطئ بلاج «لاس بالماس» في جزيرة «جراند كاناريا»، وهي إحدى جُزُر الكناريا الواقعة في شمال المحيط الأطلنطي. كان المشهد ساحرًا أمام الشياطين؛ فالمياه الزرقاء للشاطئ تمتدُّ إلى نهاية الأفق، والرمال الصفراء اللامعة مثل الذهب تفرش الأرض تحت أقدامهم … على حين امتلأ الشاطئ بالمصطافين من كلِّ جنسيات العالم …
وبرز من قلب الماء «خالد» وقد ظهرَت البهجة على ملامحه بعد أن مارس السباحة لمسافة طويلة لتنشيط عضلاته ودفْع الدورة الدموية إلى عروقه … ومن خلف الخيام المقامة إلى الخلف ظهرَت «إلهام» و«ريما» وهما تحملان صينية تحتوي على مجموعة من الساندوتشات وعُلَب العصير المثلجة … وسرعان ما التمَّ شملُ الشياطين الخمسة حول الساندوتشات اللذيذة، والعصير المثلَّج … وأنهى «عثمان» نصيبَه من الطعام سريعًا، واسترخى فوق كرسيِّ الشاطئ بكسلٍ وهو يقول: يا لَها من إجازة لذيذة لم نحصل عليها منذ وقتٍ طويل!
أحمد: هذه الجزر رائعة! لم أكن أظنُّ أن مثلَ هذا الجمال موجودٌ فوق تلك البقعة من المحيط!
وضحك «خالد» وهو يقول: أما أنا فلم أكن أعرف أن لها وجودًا في هذا العالَم إلا فوق الخرائط وكُتُب الجغرافيا!
وقال «عثمان»: من العجيب أننا وبرغم كونِنا في أواخر شهر نوفمبر فإن الجوَّ هنا دافئٌ جدًّا!
أحمد: هذا لأن مناخَ الجزر أشبهُ بالمناخ الأفريقي … وعلماء الجغرافيا يقولون إن هذه الجزر كانت جزءًا من أفريقيا ثم انفصلَت عنها منذ وقت طويل.
قالت «إلهام» مفكرةً: من المدهش أن هذه الجزر العشر تبعد عن شواطئ إسبانيا بمسافة ألفَي كيلومتر، ولكنها تابعةٌ سياسيًّا لها، في حين أنها لا تبعد جزءًا على عشرة من هذه المساحة من شواطئ المغرب.
قال «أحمد» باسمًا: لقد حصل عليها الإسبان أولًا.
ودار بعينَيه في السابحين حوله، وقال بصوتٍ يَشِي بشيء من الضيق: كنت أتمنَّى لو شاركَنا بقيةُ الشياطين اﻟ «١٣» في هذه الإجازة الرائعة …
زمَّ «خالد» جبينَه مفكِّرًا وقال: لقد تعجبتُ عندما رفض رقم «صفر» أن يقضيَ الشياطين جميعُهم إجازتَهم في جُزُر «الكناريا» واقترحَ أن نقضيَ نحن الخمسة إجازتَنا هنا في حين يقضيها بقيةُ الشياطين في مكان آخر!
ريما: لعل ذلك كان بدافع الأمن من رقم «صفر» … إن وجود الشياطين معًا في إجازة بمكان بعيد ربما يكون فيه بعض الخطر علينا … ورقم «صفر» لا يحتمل فكرة تعرضنا لأيِّ خطر.
إلهام: ربما تكونين محقةً في ذلك لو لم يقضِ الشياطين إجازتَهم معًا من قبل … وسادَت لحظةُ صمت، وتطلَّع الشياطين الأربعة إلى «إلهام» في تساؤل عبَّرَت عنه عيونهم، وقالت «إلهام» ببطء: إن هناك شيئًا لم يُفصح عنه رقم «صفر»!
انفجر «أحمد» ضاحكًا وهو يقول: إنكِ تُصرِّين منذ بدْءِ إجازتِنا على أن هناك شيئًا ما يُخفيه عنَّا رقم «صفر»، أو أن هناك شيئًا ما يدور حولنا … ولو استمعنا إليكِ ما تمتعنا برحلتنا لحظة واحدة، ولظللنا نُراقب الذاهبين والعائدين طوال الوقت …
عادَت «إلهام» تقول بإصرار: أليس من العجيب أن رقم «صفر» لم يتصل بنا ولا مرة منذ وصولنا إلى هذه الجزيرة منذ أسبوع؟!
قال «خالد» محتجًّا: وماذا في ذلك؟ إننا في إجازة، ويفترض أنه لا مهمة تشغلنا، فما الذي يدعو رقم «صفر» للاتصال بنا؟
ردَّت «إلهام» بابتسامة صغيرة: ولكن رقم «صفر» كان دائمَ الاتصال بنا في كل إجازاتنا السابقة … أليس كذلك؟
كانت «إلهام» محقة، فإن رقم «صفر» لم يكن يتوقَّف عن الاتصال بهم والاطمئنان عليهم وإطلاعهم على آخر الأمور حتى وهم يقضون إجازاتهم السابقة.
نهض «أحمد» من مقعده فبدَا جسدُه القويُّ المتناسق، وقال باسمًا: لم يتبقَّ لنا سوى ساعات فوق هذه الشواطئ الرائعة، ومن الأفضل قضاؤها في المياه اللذيذة.
وأسرع نحو الماء بخطواتٍ رشيقة، فتَبِعه «عثمان» و«خالد»، وسرعان ما كان ثلاثتُهم يَسْبَحون بقوة ونشاط في صفٍّ متوازٍ وقد بدوَا في قلب الماء كثلاثة تماسيح بشرية لا يمكن لعَقبةٍ أن تقفَ في طريقها.
راقبَت «إلهام» زملاءَها الثلاثة بصمت، والتفتَت إليها «ريما» باسمةً وهي تقول: لو كنتِ استمعتِ إلى نصيحة «أحمد» ما شغلتِ نفسَكِ طوالَ الإجازة.
هزَّت «إلهام» كتفَها قائلةً: لعلني كنت مخطئة … ربما كان «أحمد» معه حقٌّ.
قالَت «ريما» وقد تألَّقت عيناها: لقد فاتتك رحلة الأمس إلى الجبل خارج العاصمة «لاس بالماس» … إن الطريق إليه يُشبه الصعود إلى جبال لبنان … أما عند الوصول إلى قمته فإن المشهد من هناك يبدو رائعًا … في غاية الجمال؛ فارتفاع الجبل يُتيح لمَن يرتقيه أن يشاهدَ أرضَ الجزيرة بالكامل وقد أحاطَت بها المياه من كلِّ جانب فتبدو الجزيرة كما لو كانت زرقاء وسط المحيط الشاسع.
تنهَّدَت «إلهام» بصمت، وتذكَّرَت كيف قضَت نهارَ الأمس بالكامل في حجرتها بالفندق في انتظار رسالة من رقم «صفر» … ولكن الرسالة لم تَجئْ وضاع عليها مرافقةُ الشياطين الأربعة في رحلتهم …
نهضَت «إلهام» وهي تقول: سأذهب لإعداد حقائبنا للسفر فلم تبقَ سوى ساعات قليلة على مغادرتنا هذا المكان …
وتنهَّدَت وهي تقول: لكَمْ أتمنَّى لو عُدتُ إلى هنا مرة أخرى!
انفجرَت «ريما» ضاحكةً وهي تقول: بشرط ألَّا تنتظري رسالةً أخرى من رقم «صفر»!
ابتسمَت «إلهام» واستدارَت مع «ريما» نحو الفندق الصغير والذي كان يشغل مساحةً واسعة من الأرض من الخلف ولا يزيد ارتفاعُه عن طابق واحد شأن فنادق الشاطئ الحديثة، وتساءلَت «ريما»: هل قمتِ بحجز تذاكر الطائرة لنا؟
إلهام: نعم … لقد حجزتُ خمسَ تذاكر على الخطوط الجوية المصرية إلى القاهرة مباشرةً.
ريما: أظنُّ أن بقية الشياطين اﻟ «١٣» سيعودون في نفس توقيت عودتنا … ولا شك أن كلًّا منَّا سيكون لديه الكثير مما يحكيه للآخرين.
قالت «إلهام»: أما أنا فلن أجد ما أَصِفه لهم سوى جدران حجرتي في الفندق وأنا جالسة بالساعات في انتظار رسالة رقم «صفر» التي لم تأتِ أبدًا.
وراحَت تضحك بسرور و«ريما» تشاركها ضحكتها حتى غابتَا داخل الفندق. بينما استغرق الشياطين الثلاثة «أحمد» و«عثمان» و«خالد» ساعة كاملة في السباحة بنشاط، وتسابق ثلاثتُهم ففاز كلٌّ منهم بأحد الأشواط … وأخيرًا اتجهوا خارجين من الماء وقد نبضَت عضلاتُهم بالنشاط وارتسمَت ابتسامةُ سرورٍ فوق وجوههم … لقد كانت رحلة وإجازة رائعتَين حقًّا …
وفي مدخل الفندق استقبلَتهم «إلهام» و«ريما» … واندهش الشياطين الثلاثة من نظرة الفتاتين التي ارتسمَت على وجهَيهما … وهتف «أحمد» متسائلًا بقلق: «إلهام» … «ريما» … ماذا حدث؟ مدَّت «إلهام» يدَها وبها خمس تذاكر من تذاكر الطائرات إلى «أحمد»، وتأمل «أحمد» التذاكر بدهشة ثم رفع عينَيه وقال متسائلًا: هذه تذاكر الخطوط الإسبانية … كنت أظنُّ أننا حجزنا كان على الخطوط المصرية؟!
ردَّت «إلهام»: هذا صحيح. لقد حجزنا أماكن لنا على الخطوط المصرية ولكني وجدت بدلًا منها هذه التذاكر في حجرتي!
ضاقَت عينَا «عثمان» وهو يتساءل: تقصدين …؟!
ردَّت «إلهام» بابتسامة ظريفة: يبدو أن رقم «صفر» قد تذكَّرنا أخيرًا!