الهبوط وسط الغابات!
تعالَت الصرخاتُ المفزعة وشهقات الرعب من الركاب، وكاد «عثمان» أن يندفع واقفًا في غضب، فأمسك «أحمد» بمعصمه بقوة هامسًا: انتظر يا «عثمان».
تراجع «عثمان» محاولًا كبْحَ ثورةِ غضبه، وقال «أحمد» بنفس الصوت الهامس: لننتظرْ ونرَ أهدافَهم. وعلَا صوتُ زعيم المختطفين في مقدمة الطائرة، وقال بالإنجليزية بصوت هادئ ممسكًا بمسدسه: إننا لا نريد بكم شرًّا … لقد استولينا على الطائرة لغرضٍ لن نكشفَ عنه الآن … وطالما ستظلون هادئين فلن يُصيبَكم أيُّ ضرر … أما أية محاولة للمقاومة فستُواجَه بشيء واحد فقط. ولوَّح بمسدسه في رسالة تهديدية واضحة، حتى إن أغلب ركاب الطائرة انكمشوا في مقاعدهم هلعًا. وعاد زعيم المختطفين يقول: إننا نسيطر على الطائرة تمامًا وسوف نُرسل رسالةً باللاسلكي نُخبر فيها مطار القاهرة بأن الطائرة مختطفة.
صاح أحد الركاب في غضب شديد: أين ستأخذوننا أيها المجرمون؟
ومرَّت لحظة صمت، وقدحَت عينَا زعيمِ المختطفين بالشرر، وتقدَّم من الرجل الذي انكمش في مقعده وكاد «عثمان» أن يُصابَ بالجنون ويد «أحمد» قابضةٌ على معصمه، وهتف «عثمان» في «أحمد» بصوت متحشرج: دَعْني يا «أحمد»، إن هذا المجرم سيقتل الراكب.
تطلَّع «أحمد» إلى عينَي «عثمان» بقسوة قائلًا: قد تُنقذ الراكب من الموت … ولكن قد يدفع كلُّ ركاب الطائرة حياتَهم ثمنًا لذلك … إن معهم قنابلَ ومن الجنون مقاومتهم والطائرة على هذا الارتفاع …
استكان «عثمان» وهدأ في مقعده، وأغمض عينَيه لا يريد أن يشاهد ما سيحدث للراكب … وتوقَّف زعيم المختطفين أمام الراكب الذي انكمش رعبًا في مقعده وقد راح يرتعش ويتساقط العرقُ من جبهته كالمطر … وامتدَّت يدُ الزعيم لتضرب الراكب الذي تهاوَى فوق مقعده فاقدًا الوعي وقد سالت الدماء من مكان الضربة.
وقال زعيم المختطفين بصوت بارد: في المرة القادمة سيكون الردُّ بالرصاص … إنني لا أحب الأشخاص الذين يُوجِّهون الأسئلة.
وتقدَّم اثنان من المختطفِين الذين تسلَّحوا بالمسدسات وقد أمسكَا بقنابل يدوية شديدة الانفجار … كان انفجار أحدها يعني انفجارَ الطائرة وتدميرها … وأخذ المختطفان يتفحصان الركاب وينظران في وجوههم … كان من الواضح أنهما يبحثان عن شخص معين … وانتهى المختطفان من مهمتهما، وكان واضحًا من نظراتهما أنهما عثرَا على بغيتهما، وإن لم يُفصحَا عن ذلك الشخص.
وتبادل المختطفون الأربعة حديثًا هامسًا، وهزَّ الزعيمُ رأسَه، ثم عاد المسلحون يتفرقون في الطائرة والركاب يتابعونهم بأبصارهم في رعب شديد.
راقبَت «إلهام» ما يجري أمامها في صمت … وتطلَّعت إلى «ريما» بنظرة جامدة، فقالت «ريما»: يبدو أنك كنت على حقٍّ أن رقم «صفر» كان يعرف ما يفعله تمامًا … لا شك أنه كان يعرف باختطاف هذه الطائرة مقدَّمًا؛ ولذلك بدَّل تذاكرَنا لنكون بداخل الطائرة المختطفة … ولكن لماذا لم يُخبرنا بذلك مباشرةً ويُبلغنا بتعليماته؟!
إلهام: يبدو أنه يريدنا أن نتصرف من وحي اللحظة … إنه يعلم أن أية تعليمات في مواجهة هذه الظروف قد تؤدي إلى فسادِ الأمرِ كلِّه … لقد ترك المسألةَ بين أيدينا وترك لنا حريةَ التصرف.
هتفَت «ريما» باحتجاج وبصوتٍ خفيض: ولكن لماذا لم يُخبرنا بهذا الاختطاف أو يُخبر السلطات الإسبانية حتى يمكنَ القبضُ على المختطفين قبل صعودهم إلى الطائرة؟!
إلهام: يبدو أن غرض رقم «صفر» مختلفٌ هذه المرة … إنه يريد لعملية الاختطاف أن تتمَّ.
حملقَت «ريما» في «إلهام» بدهشة وهتفَت محتجة: ماذا تقولين يا «إلهام»؟!
إلهام: إن رقم «صفر» متأكدٌ من أن المختطفين لن يُصيبوا الركابَ بأيِّ أذًى، ولا بد أنه يراهم سمكة صغيرة؛ ولذلك تركهم يختطفون الطائرة ليقودنا إلى الحوت الكبير!
ريما: أتقصدين أن هذه المجموعة الإرهابية تابعةٌ لمنظمة أكبر؟
إلهام: بالتأكيد … ورقم «صفر» يريد منَّا الوصول إلى الرءوس الكبيرة وليس هؤلاء الإرهابيِّين الصغار، إن هذا يفسِّر عدمَ تسليحِه لنا أو إحاطتنا بالأمر من قبل … إنه لا يريد أن نتدخَّل بل لنراقب الأمور في صمتٍ إلى النهاية.
تطلَّعَت «ريما» بدهشة إلى «إلهام»، وغاصَت في مقعدها مفكرةً، لقد كانت «إلهام» على حقٍّ في كلِّ كلمة قالَتها … ووصل «أحمد» و«عثمان» و«خالد» إلى نفس الاستنتاج، وهمس «عثمان» متسائلًا: ولكن ما هو غرضُ المختطفين … وماذا سيفعلون بالطائرة والركاب؟
أحمد: من الواضح أنهم يقصدون شخصًا معينًا في هذه الطائرة … إنه الهدف من هذه العملية كلِّها.
عثمان: ونحن … أقصد باقي ركاب الطائرة؟
– سيتركوننا في أقرب فرصة …
– وأين سيهبطون في النهاية؟
– مَن يدري؟ إن مكان هبوطهم النهائي سيحدِّد وجهتَهم والمنظمة التي ينتمون إليها بلا شك.
وتوقَّف أحدُ المختطفين شاهرًا مدفعَه أمام الشياطين الثلاثة وتطلَّع نحوهم بوجهه الذي كان يُغطيه القناع فلا تظهر منه سوى عينَيه القاسيتَين، ولوَّح بمدفعه الرشاش في وجوه الشياطين وهو يقول بصوت أجش مهدِّدًا: إننا لا نحب مَن يتهامسون ويتآمرون … وعادةً تُسكتهم رصاصاتُنا قبل أن يُتمُّوا مؤامراتِهم.
تطلَّع الشياطين الثلاثة إلى الرجل المسلح بصمت وغلَت الدماءُ في عروقهم … ولكنهم كبحوا جماحَ مشاعرهم؛ فقد كانوا يعلمون أنهم مسئولون عن أرواح ما يزيد عن ثلاثمائة شخص، وأن التصرف العاقل هو أن يتقبَّلوا أية إهانة تُوجَّه إليهم … إلى أن تحينَ ساعةُ الرد …
وما أقسى الشياطين عندما يردُّون على مَن يُهينهم!
ظهرَت من أسفل أضواء ممرات الهبوط … وشاهد الشياطين من نوافذ الطائرة العشرات من سيارات الإسعاف والشرطة والجيش تحيط بممر الهبوط …
وجاء صوت زعيم المختطفين يقول: إننا نهبط في مطار قبرص … سنتزود بالوقود ونواصل رحلتنا، وتذكَّروا أن أية مقاومة أو أية محاولة للهرب ومغادرة الطائرة ستُقابَل بالرصاص … لقد أعلمنا المسئولين في مطار قبرص حتى يُزوِّدونا بالوقود بلا مشاكل، أما إذا حاولوا إظهار بطولتهم فإنكم جميعًا ستدفعون الثمن.
كان تهديدُ المختطفين واضحَ المعاني، واحتبسَت أنفاس الركاب وهم يشاهدون الطائرة تستقر في أرض المطار، وحمدوا ربهم أن رجال الشرطة والبوليس ظلوا في أماكنهم عن بُعد يحاصرون الطائرة بدون أن يحاولوا اقتحامها …
وفي هدوء بدأَت سلطات المطار في تزويد الطائرة بالوقود … وخلال ساعة واحدة كانت الطائرة تحلِّق في الفضاء إلى جهة مجهولة، بعد أن امتلأَت خزاناتُها بالوقود عن آخرها … وظهرَت أنوارُ النهار … وتطلَّعَت «إلهام» إلى قرص الشمس الوليد … لم يكن المشهد شاعريًّا هذه المرة مع ما يجري داخل الطائرة؛ فقد انهار بعضُ الركاب وأصابَتهم هيستريا قابلها المختطفون بعنف، وتعالَى بكاءُ الأطفال وأُصيب عددٌ آخر بالإغماء، على حين انخرط البعض في بكاء متشنج … وظهر الأسى في عينَي الشياطين … لأول مرة يجدون أنفسهم عاجزين عن التدخل لحماية الأبرياء ودفعًا للشر المحيط بهم!
قال «خالد» وهو يجزُّ على أسنانه غاضبًا: أُقسم لأذيقنَّ هؤلاء المجرمين أضعافَ ما أذاقوه لهؤلاء الركاب المساكين …
وأخيرًا بدأَت الطائرة تخفض من ارتفاعها وراحَت تحلِّق فوق بعض الغابات الكثيفة، وتطلَّع «عثمان» إلى «أحمد» متسائلًا بقلق شديد: أين نحن؟!
أحمد: أعتقد أننا في مكان ما على الحدود بين فيتنام وكمبوديا … لقد حسبتُ ساعات الطيران وسرعة الطائرة فأمكنني الوصول إلى هذه النتيجة.
تساءل «خالد» في دهشة: ولكن أين ستهبط الطائرة؟! إن المنطقة مليئة بالغابات ويستحيل الهبوط بها …
ولكنه كان مخطئًا في تصوُّره … فقد انكشف تحتهم ممرُّ هبوطٍ طويل، وكان من الصعب الاهتداء إليه وكشْفه إلا لمن يعرف مكانه، وبدَا الممرُّ وسط الغابات العالية كأنما أُقيم خصيصًا لهبوط الطائرة المختطفة!