الهدف … الفتاة «كاتي»!
استقرَّت الطائرة فوق ممرِّ الهبوط الضيق وتوقَّفَت قبل نهايته بأمتار قليلة. وتأمل «خالد» ممرَّ الهبوط من النافذة القريبة منه ثم التفتَ إلى «أحمد» قائلًا: لقد كنت على حقٍّ يا «أحمد» … إن هذا الممر أقامَته القوات الأمريكية لهبوط طائراتها وسط الغابات في منطقة الحدود بين فيتنام وكمبوديا لإخفائها عن عيون الثوار الفيتناميِّين.
أحمد: إذن بقيَ أن تعرف غرضَ المختطفين … وأعتقد أنه لن يمرَّ الليل حتى ينكشفَ لنا كلُّ شيء … وبلهجةٍ محذرة أكمل وهو ينظر لرفيقَيه: تذكَّرَا … اضبطَا أعصابكما إلى أقصى درجة … إن أرواح ثلاثمائة شخص مقيدةٌ إلى أعناقنا، فلا يجب أن نسعى إلى بطولة من نوع ما قبل أن نؤمِّنَ النجاةَ لركاب الطائرة.
ونقل «خالد» كلام «أحمد» إلى «إلهام» و«ريما» بصوت هامس فهزَّت الاثنتان رأسَيهما موافقتَين. وكان أغلب الركاب قد حلَّ بهم الجوع، وعلى الفور شرع مضيفو الطائرة في تقديم وجبة باردة صغيرة إلى كلِّ راكب تحت إشراف المختطفين. وبدَا على المختطفين أنهم ينتظرون وصولَ شيء ما … كما كان من الواضح أيضًا أن أحدًا في العالم لا يعرف مصيرَ الطائرة المختطفة أو مكان هبوطها … كما أن أحدًا لن يدور في ذهنه أن الطائرة حتى إذا ما تمَّ التقاطها فوق شاشات الرادار فإن أحدًا لن يفكرَ أنها ستهبط وسط الغابات.
التفت «عثمان» بغيظ إلى رفيقَيه قائلًا: لقد رتَّب هؤلاء المختطفون خطَّتَهم جيدًا.
أحمد: إن بعض المختطفين والإرهابيِّين يتلقَّون فنون الإرهاب في مدارس خاصة.
قال «خالد» بأسًى: هذا مؤسف جدًّا … بل إن هناك بعضَ الدول تُقدِّم العون للإرهابيِّين وتسمح لهم باللجوء إليها والتدريب فيها.
وهبط الليل، وأحاط بالطائرة ظلامٌ كثيف في الخارج … وبدأت أضواءُ الطائرة الداخلية تضعف مما دل على نفاد طاقتها الكهربية. هتف «عثمان» بعنف: يبدو أننا سنقضي ليلتَنا وسطَ الظلام. ردَّ «أحمد» وهو يراقب زعيم المختطفين: إنه نظر ثلاث نظرات إلى ساعته في وقت قليل … إن هذا يدل على أن شيئًا سريعًا سيحدث الآن …
وصح استنتاج «أحمد»؛ فقبل أن تمرَّ دقيقةٌ واحدة حتى ظهر ضوءُ مصباحَي سيارة جيب كبيرة تشقُّ الطريق وسط الأشجار متجهةً نحو الطائرة وتوقَّفَت أسفلها، وقفز منها أربعةُ أشخاص ذوي ملامح آسيوية بعضلاتٍ مفتولة وعيون تطلُّ منها القسوة والإجرام، وقد وضع كلٌّ منهم عددًا من السكاكين الطويلة حول وسطه في حزام عريض … كانوا يحملون في أيديهم مجموعةً ضخمة من الحبال … وانفتحَت أبوابُ الطائرة ليدخلَها الأشخاص الأربعة الذين تبادلوا كلماتٍ سريعةً مع المختطفين.
قال «أحمد» بعيون ضيقة وهو يراقب المختطفين وزملاءَهم: لقد بدأتُ أُدرك الخطوة التالية، سوف يُقيدوننا في مقاعدنا.
تساءل «خالد» بقلق: أَلن يُفرجوا عن الركاب؟!
أحمد: ليس قبل أن يُنهوا مهمَّتَهم.
وبالفعل شرع الأشخاص الأربعة ذوو الوجوه الآسيوية في تقييد الركاب في مقاعدهم ليضمنوا عدمَ مقاومتهم … واستسلم الركاب في خوف ورعب …
واقترب الأشخاص الأربعة من صفِّ «إلهام» و«ريما» … وامتدَّت أيدي أحدِ الأربعة نحو «إلهام» في قسوة ليشدَّها بالحبال، وهتفَت «إلهام» متألمةً، فقهقه الرجل باستمتاع، ولم يتمالك «أحمد» نفسَه فاندفعَت قبضتُه بلا وعيٍ تجاه الرجل وضربَه ضربةً عنيفة على أثرها ترنَّح الرجل إلى الخلف متألمًا وأمسك بوجهه وهو يزأر كالثور، واندفع زملاؤه الثلاثة نحو «أحمد» وقد أخرج كلٌّ منهم سكينًا طويلًا كالسيف، وتأهب الشياطين الثلاثة لملاقاتهم، وعلى الفور أوقفَتهم كلماتُ زعيم المختطفين الذي تحدَّث بلغة غريبة خمَّن الشياطين أنها إحدى اللغات الآسيوية.
وتراجع الآسيويون الثلاثة كارهين، وأزاح الآسيوي الذي ضربه «أحمد» يدَه عن وجهه فظهر أنفُه محطَّمًا والدماء تسيل منه … وارتعشَت يداه وهو يقبض على سكين طويل وقد وضح أنه سيدخل في معركة حميمة مع «أحمد» … ولكن زعيم المختطفين أوقفه، وقال بلهجة باردة: إنه لك طالما ننتهي من عملنا ويصير ركاب الطائرة في مسئوليتكم.
جزَّ الرجلُ على أسنانه بصوت مسموع، وحدَّق أحمد بنظرة رهيبة، وشرع الأربعة يُتمُّون مهمَّتَهم في صمت، ومن حين لآخر كان الرجل ذو الأنف المحطم يوجِّه إلى «أحمد» نظرةً طويلة مليئة بالحقد والرغبة في الانتقام.
التفت «أحمد» إلى «عثمان» و«خالد» وقال بأسًى: أرجو أن تعذراني. لقد نصحتكما بضبط النفس وخالفتُ أنا النصيحة.
عثمان: إننا لا نلومك … لقد سبقتَني إلى ما كنت أنوي أن أفعلَه … سوف تكون معركتنا في النهاية معهم رهيبة.
هتف «خالد» بسخط: كيف تركناهم يُقيدوننا هكذا كأننا دجاجات مرعوبة؟!
أحمد: يجب ألَّا نُفصحَ عن هويتنا … إننا مطالبون أن نظلَّ هادئين مثل بقية الركاب إلى أن نرى أين تمضي نهايةُ هذه اللعبة … إنني أحسُّ أن وراءَها شيئًا خطيرًا سوف ينكشف حالًا …
وأخيرًا انتهى الآسيويون الأربعة من ربط ركاب الطائرة … ورفع المختطفون أيديَهم بعلامات النصر … واتجه زعيمُهم إلى أحد المقاعد الأمامية وراح يتفرَّس في إحدى الراكبات … وبهدوء أخذ يحلُّ وثاقَها ثم أوقفها من مقعدها …
وتطلَّعَت إليه الفتاة بوجهٍ شاحب … كانت في العشرين من عمرها … ذات وجهٍ أشقر مليءٍ بالنمش، وشعرٍ بنيٍّ قصير، وعينَين بلون العشب الأخضر …
أشار الزعيم إلى رجاله، وعلى الفور أحاطوا بالفتاة واقتادوها خارج الطائرة …
هتف «عثمان» ذاهلًا: يا إلهي! كيف لم ألاحظ هذه الفتاة من قبل؟! إنها ابنةُ أحدِ المسئولين الكبار في إحدى دول المجموعة الأوروبية … يبدو أن اختطاف الطائرة كان هدفُه منذ البداية هو الحصولَ على هذه الفتاة …
تساءل «خالد» بدهشة: هل يرغبون في طلب فدية من والدها؟!
ردَّ «أحمد» بعينَين باردتَين ضيقتَين: إن الفدية هذه المرة من نوع آخر.
حدَّق «عثمان» و«خالد» في «أحمد» بدهشة، وأكمل «أحمد» بنفس اللهجة: لقد كنَّا مشغولين بسبب تغيير رقم «صفر» لتذاكر طائرتنا فلم نلاحظ الفتاة وإلا لاكتشفنا الأمر منذ البداية … لقد شاهدتُ صورةَ هذه الفتاة ووالدها عندما زارَا بعض الدول العربية الصيف الماضي وتم عقدُ بعض الاتفاقيات المبدئية لمدِّ المصانع العربية بتكنولوجيا متطورة … إنني أتذكر أن اسمها «كاتي» … ويبدو أن أعداءنا لم يجدوا وسيلةً لنسف هذه الاتفاقيات إلا عن طريقِ خطفِ ابنةِ هذا المسئول الكبير بعد أن انتهَت رحلتُها على الشواطئ الإسبانية في جُزُر الكناريا وتهديده بقتلها إن لم يلغِ الاتفاقيات.
خالد: ولكن لماذا يتكبَّد المختطفون كلَّ هذه المشقة من أجل اختطافها؟! كان من السهل عليهم اختطافُ الفتاة على الشاطئ.
أحمد: لا … لقد شاهدتُ الفتاةَ على الشاطئ وكان يُحيط بها خمسةٌ من الحراس الأشداء، لقد خطَّط المختطفون خطَّتَهم ببراعة وحصلوا على ورقة رابحة باختطاف الفتاة وهي في الطائرة بلا حراسة …
تألَّقَت عينَا «خالد» وهو يقول: لقد وضعَنا رقم «صفر» في قلب الأحداث تمامًا.
أحمد: ولا أظن أننا بحاجة إلى تعليمات للتدخل في الأمر …
تابع «خالد» من النافذة الصغيرة بجواره المختطفين الأربعة وهم يقودون الفتاة خارجًا ويقفون بها أمام السيارة الجيب، وتساءَل بقلق: أين سيأخذون الفتاة؟!
ردَّ «أحمد» بهدوء: إلى قلب الغابات حيث لا يمكن لمخلوق أن يعثرَ عليها أبدًا.
تبادل زعيم المختطفين مع الآسيوي ذي الأنف المحطَّم حديثًا خافتًا، وعاد ذو الأنف المحطم إلى الطائرة وبدَت في عينَيه وهو ينظر نحو «أحمد» أن الطائرة قد صارَت في قبضته … وأن ساعة انتقامه قد حانت … وأنه لم يتبقَّ سوى دقائق لتسديد انتقامه … وبرزَت فوق رءوس الأشجار طائرة هليكوبتر كبيرة هبطَت أمام طائرة الجامبو … ووضح كلُّ شيء أمام أعين الشياطين … سوف يأخذ المختطفون الفتاة إلى مكان ما في قلب الغابات حيث لا يعثرُ عليها أحدٌ بعد ذلك أبدًا.
تألَّقَت عينَا «أحمد» وهتف بصوتٍ سرَى فيه النضال: لقد حان وقتُ تدخُّلِنا … إما الآن أو يضيع كلُّ شيء. ومدَّ يدَيه محاولًا حلَّ قيوده، ولكن رباطه كان من الشدة بحيث يستحيل عليه قطْعُه أو حلُّه، وتقدَّم منه الآسيوي ذو الأنف المحطم ورمقَه بنظرة رهيبة … ثم استلَّ سكينًا كبيرًا وهو ينظر إلى «أحمد» المقيد أمامه وهبط الآسيوي بالسكين في حقد نحو «أحمد».