غابة الموت!
اقترب «أحمد» من «عثمان» … وأعطى كلٌّ منهما ظهرَه للآخر وقد استعدَّا بمدفعَيهما الرشاشَين، وراح الاثنان يدوران حولهما وهما يتفحصان كلَّ شبر في المنطقة المحيطة حولهما … ولكن لم يكن هناك غيرُ الظلام والسكون.
همس «أحمد»: إنني أحسُّ أن الخطر … قريب جدًّا.
ولم يكَد يُتمُّ عبارتَه حتى تحققَ ظنُّه على وجه السرعة … فقد قفزَت ثلاثةُ أشباح من أعالي الأشجار أمام الشياطين، واندفعَت نحوهم الأشباحُ الثلاثة حاملين سيوفًا ذات نصال رهيبة وهجموا على الشيطانَين، وكانت حركةُ الأشباح من السرعة والمباغتة بحيث إن «أحمد» و«عثمان» لم يُتَح لهما الاستعداد لإطلاق الرصاص، وعلى الفور تحاشَى «أحمد» ضربةَ السيف التي شقَّت الهواءَ نحوه فانحنى لأسفل، ثم عاجل أحدَ الأشباح بضربةٍ عنيفةٍ أطاحَت به للوراء … وصدَّ «عثمان» ضربةَ الشبح الثاني بمدفعه الرشاش، وانفجر صوتُ صليلِ المعدن عندما سقطَت ضربةُ السيف بعنفٍ فوق ماسورة المدفع في الليل الساكن، وبسرعةٍ أطاح «عثمان» السيفَ بضربةٍ من مؤخرةِ مدفعِه، ثم انطلقَت ضربةٌ كالعاصفة نحو الشبح فسَمِع صوتًا مكتومًا وارتطامَ جسدِه بالأرض.
أما الشبح الثالث فقد انطلقَت دفعةُ رشاش من «أحمد» نحوه … وما كاد «أحمد» يتوقف عن إطلاق الرصاص الذي شقَّ سكونَ الليل حتى عاد الهدوء يسود المكان.
وبحث «أحمد» و«عثمان» عن الأشباح الثلاثة حولهما … ولكن لم تكن هناك أية آثار لهم، ولا حتى آثار دماء … كأنما كانوا أشباحًا وهمية لا وجود لها … هتف «عثمان» بسخط: هؤلاء الملاعين … إنهم بارعون حقًّا!
ابتسم «أحمد» في الظلام ابتسامةً واسعة … كان دائمًا يعشق القتال المتكافئ الذي يُواجه فيه عدوًّا على قدرٍ كبير من المهارة؛ فهكذا يكون القتال.
التفت «أحمد» ﻟ «عثمان» قائلًا: لقد جاءوا مرة من الأمام ثم من الخلف … ومرة سقطوا من السماء … ترى كيف سيظهرون المرة القادمة؟!
ردَّ «عثمان» ساخطًا: لم يتبقَّ سوى أن يخرجوا لنا من جوف الأرض.
وفجأةً صرخ «أحمد»: حاذر يا «عثمان» … وفي أقل من جزء من الثانية قفز «أحمد» نحو «عثمان»، وأمسك به من وسطه وسقط الاثنان على الأرض في نفس اللحظة التي اندفع فيها حائطٌ خشبي من فوق الأرض قد ثبتَت فيه أوتادٌ حادة قاتلة، ولولا حركة «أحمد» لانغرزَت الأوتاد الرهيبة في جسد «عثمان» وقتلَته في الحال.
وقف «عثمان» و«أحمد» وهما يلهثان … وأدركَا أنهما في غابة للموت بالفعل، وأن كلَّ خطوة يخطوانها داخلها تحمل في جوفها خطرًا رهيبًا بوسائل لا تخطر على بال.
قال «عثمان»: هذه الغابة مليئة بالفخاخ!
نظر «أحمد» حوله متفحصًا المكان وهو يقول: يبدو أنهم غيرُ متعجلين موتنا … ولعلهم يريدون بعضَ التسلية أولًا …
لوَّح «عثمان» بمدفعه الرشاش في غضب وهو يقول: حسنًا … سأجعلهم يتسلون عندما يذوقون طعم رصاصاتي فيقفزون على الأرض كالقردة.
وتوقَّف الاثنان يرهفان السمعَ بآذان كآذانِ الأرانب، ويتفحصان الظلام حولهما بعيون كعيون القطط … لكن المكان شمله الهدوء والصمت … حتى حيوانات الغابة وطيورها كفَّت عن إصدارِ أيِّ صوت كأنها حبسَت أنفاسها ترقُّبًا للحظات القادمة … تمتم «أحمد» بصوت خفيف: إنه الهدوء الخادع … كالهدوء الذي يسبق العاصفة …
وجاءَت العاصفة في نفس اللحظة … فقد شقَّ الهواءَ أزيزُ سهمَين أطلقَتهما يدٌ من مكان ما … والتقطَت آذانُ الشيطانَين صوتَ الأزيز فقفزَا بعيدًا … وقبل أن يتمالك الاثنان نفسَيهما ويحتفظان بتوازنهما، كانت هناك كتلتان من الأشجار الضخمة تسقط من أعلى، ولولا أن تدحرجَا في الوقت المناسب لسحقتهما كتلتَا الأشجار، وما كاد «أحمد» و«عثمان» يُفيقان من المفاجأة الثانية حتى أحسَّا بحبلَين سقطَا من مكان ما، والتفَّ كلُّ حبلٍ حول وسطَيهما.
وأدرك «عثمان» و«أحمد» ما سيحدث لهما … وعلى الفور ارتفع الحبلان بهما ليتعلق الشيطانان في الهواء، وتحرَّكَت حربتان كبيرتان وانطلقتَا نحو الشيطانَين، وصرخ «عثمان» في «أحمد» محذِّرًا، وعلى الفور تحرَّك الشيطانان … كانت المسافةُ بينهما وهما معلَّقان في الهواء لا تزيد عن متر، وتحرَّك «عثمان» و«أحمد» بسرعة بالغة ليتصادمَا معًا، ودفع كلٌّ منهما الآخرَ بعيدًا في نفس اللحظة التي مرقَت فيها الحربتان أمامهما وحفَّت كلٌّ منهما ملابسَ الشيطانَين … وعلى الفور أطلق «أحمد» دفعةَ رشاش من مدفعه نحو الحبال فانقطع الحبلان وسقط «أحمد» و«عثمان» فوق الأرض.
وزحف الاثنان بسرعةٍ ليختفيَا خلف أقرب الأشجار لهما … وعاد السكون والهدوء يشمل المكان من جديد … كان صدرُ «أحمد» و«عثمان» يعلو ويهبط بشدة … كانت الليلةُ حافلةً بالمفاجآت بالفعل … وصدر من حولهما حفيفٌ قليل، كأنه صوتُ أشخاص يقفزون بين الأشجار في رشاقة … ولم يستطع «عثمان» أن يكتم غضبَه أكثر من ذلك، فهتف بغضب بالغ: فلتظهروا أيها الجبناء … دعونا نواجهكم رجلًا لرجل …
وجاء صوتٌ من الأمام … وتحرَّك «عثمان» بسرعةٍ مصوِّبًا رشاشَه بغضب شديد وهو يُطلق رصاصًا منهمرًا … وفجأةً كفَّ رشاش «عثمان» عن إطلاق الرصاص … وفي اللحظة التالية انشقَّت الأرض من تحت أقدامه ولم يحسَّ بنفسه إلا وهو يسقط في حفرة عميقة داخل الأرض، ومن أعلى عادَت الأرض لتتغطَّى ببعض الأعشاب وجذوع الشجر الزائفة لتغطِّيَ الحفرة.
أخذ «عثمان» يصرخ مناديًا «أحمد» … وحاول تسلُّقَ جدرانِ الحفرة ولكنها كانت ملساء لزجة عالية الجدران يستحيل الخروج منها.
لم يشاهد «أحمد» ما حدث ﻟ «عثمان» بسبب الظلام … وكل ما سمعه كان صوتًا مكتومًا كسقوط شخص في مكان سحيق … وأصوات نداءات ولكنها تأتي من بعيد … كأنها صادرة من جوف الأرض … تحرَّك «أحمد» بحذر في خفة النمر … كان يُدرك أن الخطرَ كامنٌ هناك في مكان ما حوله … ربما بأعلى أو بأسفل أو على اليمين أو اليسار …
وفجأةً أحسَّ أن الأرض تنسحب من تحته … وبسرعة ألقى بنفسه نحو حافة الحفرة التي ظهرَت تحته فجأة، ولكن الحافة كانت ملساءَ لزجة؛ فسقط «أحمد» بداخلها.
التفت «عثمان» مذهولًا وهو يشاهد «أحمد» يسقط أمامه، وكانت العتمةُ تسود الحفرة بعد أن غطَّتها الأعشاب والأغصان من أعلى بطريقة أتوماتيكية.
همس «عثمان» ﻟ «أحمد»: هل أصابك مكروه؟
ابتسم «أحمد» برغم الموقف السيِّئ وقال: من المؤسف أن بقية الشياطين بعيدون عنَّا وإلا لكان لنا هناك موقفٌ آخر مع هؤلاء الأشباح!
قال «عثمان» بسخط: لقد تدربنا في المركز الرئيسي على حرب العصابات.
أحمد: هذا صحيح ولكننا نُواجه أشخاصًا تدربوا عليها لسنوات طويلة.
فجأةً أحسَّ الشيطانان بحركة من أعلى، وانكشفَت فُتحةُ الحفرةِ عن وجهٍ غامضِ الملامح يُطلُّ نحوهما، وأمسك «أحمد» بمدفعه تأهُّبًا، وجاء صوتٌ هامسٌ من أعلى يقول: لا تخشيَا شيئًا.
تعجَّب «أحمد» و«عثمان»! كان الصوتُ نسائيًّا، وكان قريبًا من صوت «إلهام»، فهل يمكن أن تكون تلك الشيطانة البارعة تمكَّنت بطريقة ما من الوصول إليهما لإنقاذهما؟!
وسقط حبلان من أعلى، وعلى الفور تسلَّقهما «أحمد» و«عثمان» صاعدَين … وبأعلى كانت بانتظارهما مفاجأةٌ مذهلة … كانت منقذتهما هي «كاتي» ابنة المسئول الكبير … وقد حملَت مدفعًا رشاشًا …
حدَّق «عثمان» و«أحمد» في الفتاة غيرَ مصدِّقَين، وقال «عثمان» بدهشة عظيمة: أنتِ؟! كيف هربتِ من هؤلاء الإرهابيين؟!
وأكمل «أحمد» بنفس الدهشة: وكيف استطعتِ الوصول إلى هنا ومعرفة مكاننا؟!
قالت «كاتي» بابتسامةٍ غامضة: لقد تعقبتُكما منذ بدأ رجال «تشي يانج» مطاردتكما … وأدركتُ أنكما ستحتاجان إلى بعض المساعدة مني … وأمْر فراري من الكوخ الذي حبسوني فيه كان سهلًا؛ فقد تدرَّبتُ على ما هو أصعب منه عشرات المرات … وببطء انتزعَت «كاتي» شيئًا من فوق وجهها … وعلى الضوء الخافت بانَت لهما الحقيقة المذهلة … كان وجهُ الفتاة المليء بالنمش ليس إلا طبقة من الجلد تُخفي تحتها وجهًا أسمر لوَّحَته الشمس وظهرَت تقاطيعُه؛ ملامح فتاة مناضلة من طراز فريد …
هزَّ «عثمان» رأسَه بدهشة قائلًا: إنني لا أفهم شيئًا!
ببطءٍ قال «أحمد»: أظن أنني قد بدأتُ أُدرك الحقيقة … لقد قام رقم «صفر» بتبديل «كاتي» الحقيقية بأخرى تابعة لمنظمتنا … وقام بتسهيل اختطافها للإرهابيين فلم يضَع حراسة بالطائرة.
قالت الفتاة: هذا صحيح تمامًا … كان يجب القيام بخدعة فلم يكن من الممكن المغامرة بإرسال «كاتي» الحقيقية ليختطفها الإرهابيون، وكان عليَّ أن أتظاهرَ بأنني «كاتي» إلى أن أصلَ إلى معسكر الأعداء ثم أنضمُّ إليكما ونكون جبهة واحدة لمواجهة هؤلاء الإرهابيين والقضاء عليهم … إنكما تستطيعان أن تُنادياني باسم «سونيا».
التمعَت عينَا «عثمان» وهتف بإعجاب شديد: يا إلهي! إن رقم «صفر» رجل بارع حقًّا! إنها إحدى المفاجآت التي لا يمكن أن أنساها في حياتي … لقد قام بخديعة الإرهابيين الذين يُجرون مفاوضات ويظنون أن خطتهم تسير وفقًا لرغباتهم ولا يعرفون أننا نجرُّهم إلى نهاية شرهم الرهيب!
وعلَت ضحكتُه في قلب الليل الصامت لتعبِّر عن سعادته … وفجأةً توقَّف «عثمان» عن الضحك عندما تناهَى إلى أسماعهم أصواتٌ تقترب، وعلى الفور شهرَ «أحمد» و«سونيا» مدفعَيهما الرشاشَين متأهبَين نحو مصدر الصوت …
ولكن المفاجأة جاءت من مكان آخر …
فمن مكانٍ ما انطلق الإرهابيون في مهارة عجيبة ليختطفوا مدفعَي «أحمد» و«سونيا»، على حين أطبقَت عليهما شبكةٌ كبيرة سقطَت فوقهما وشلَّت حركتهما.
وظهر «تشي يانج» أمامهم وخلفه عشرةُ حُرَّاس عمالقة مدجَّجين بالسلاح … وكان في عينَي الإرهابي المدعو «ذو الوجه القبيح» نظرةٌ رهيبة!