الفصل الأول

الخطاب الديني المعاصر: آلياته ومنطلقاته الفكرية

تعتمد هذه الدراسة مجمل الخطاب الديني موضوعًا لها. وذلك دون الأخذ في الاعتبار تلك التفرقة — المستقرة إعلاميًّا — بين «المعتدل» و«المتطرف» في هذا الخطاب. والحقيقة أن الفارق بين هذين النمطين من الخطاب فارق في الدرجة لا في النوع. والدليل على ذلك أن الباحث لا يجد تغايرًا أو اختلافًا، من حيث المنطلقات الفكرية أو الآليات، بينهما. ويتجلى التطابق في اعتماد نمطَي الخطاب على عناصر أساسية ثابتة في بنية الخطاب الديني بشكل عام، عناصر أساسية غير قابلة للنقاش أو الحوار أو المساومة. في القلب من هذه العناصر عنصران جوهريان ستتعرض لهما هذه الدراسة بالمناقشة وهما: «النص» و«الحاكمية».

وكما يتطابق نمطا الخطاب من حيث المنطلقات الفكرية، يتطابقان كذلك من حيث الآليات التي يعتمدان عليها في طرح المفاهيم، وفي إقناع الآخرين واكتساب الأنصار والأعوان. وتتعدد آليات الخطاب وتتنوع بتعدد وسائل طرح هذا الخطاب وأدواته، ومع ذلك فهناك جامع مشترك يمكن رصده وتحليله، خاصة إذا استبعدنا من مجال تحليلنا آليات الأداء الشِّفاهي، وقصرنا تحليلنا على الآليات الذهنية والعقلية التي توجد في كل — أو معظم — وسائل هذا الخطاب وأدواته. وتتوقف هذه الدراسة عند ما تعتبره أهم آليات هذا الخطاب، وهي تلك الآليات الكاشفة عن المستوى الأيديولوجي لهذا الخطاب، وهو المستوى الذي يجمع بين الاعتدال والتطرف من جهة، وبين الفقهاء والوعاظ من جهة أخرى. هذه الآليات يمكن لنا إجمالها فيما يلي:
  • (١)

    التوحيد بين الفكر والدين وإلغاء المسافة بين الذات والموضوع.

  • (٢)

    تفسير الظواهر كلها بردها جميعًا إلى مبدأ أو علة أولى، تستوي في ذلك الظواهر الاجتماعية أو الطبيعية.

  • (٣)

    الاعتماد على سلطة «السلف» أو «التراث»، وذلك بعد تحويل النصوص التراثية — وهي نصوص ثانوية — إلى نصوص أولية تتمتع بقدر هائل من القداسة لا تقل — في كثير من الأحوال — عن النصوص الأصلية.

  • (٤)

    اليقين الذهني والحسم الفكري «القطعي»، ورفض أي خلاف فكري — من ثم — إلا إذا كان في الفروع والتفاصيل دون الأسس والأصول.

  • (٥)

    إهدار البعد التاريخي وتجاهله، ويتجلى هذا في البكاء على الماضي الجميل، يستوي في ذلك العصر الذهبي للخلافة الرشيدة، وعصر الخلافة التركية العثمانية.

ومن الضروري — قبل الدخول في صلب موضوعنا وجوهره — أن نكشف عن بعض مظاهر التطابق بين تياري الاعتدال والتطرف، على مستوى المنطلقات الفكرية، وذلك من خلال «الحوار» الإعلامي الذي بدأت تديره وتشرف عليه سلطات الأمن في مصر بعد اغتيال رئيس الجمهورية السابق. والمتابع لهذا الحوار أو لبعض حلقاته — سواء ما يذاع منها عبر الأثير أو ما ينشر في الصحف — يدرك على الفور أنه حوار مستحيل، حوار الصم، أو هو — في بعض الأحوال — حوار بين «الصوت» و«الصدى». في إحدى هذه الحلقات تورط أستاذ جامعي — وكان عميدًا لإحدى الكليات النظرية آنذاك — حين جابهه أحد أمراء الجماعات الإسلامية متسائلًا في خبث عن معنى آيات الحاكمية الثلاث التي وردت في سورة المائدة، فردَّ الأستاذ قائلًا في يقين وحسم قاطع: «نعم لا حاكمية إلا لله» رددها ثلاث مرات، ثم أردف بعد تردد: «ولكن» ثم أخذ يعدد مظاهر الإيمان في المجتمع المصري … وبلغ به الحماس في تأكيد تديُّن المصريين وحسن إسلامهم مبلغًا جعله يزعم أنه، في صلاة الجمعة، يؤم مئات الطلاب في مسجد الكلية ناسيًا — غفر الله له — أن يوم الجمعة إجازة، ولا يسمح جهاز الأمن فيها للطلاب بدخول الجامعة. هذا مع افتراض أن للكلية — أية كلية — مسجدًا يتسع لمئات الطلاب.

هناك إذن اتفاق وتطابق في الإيمان بالمبدأ — مبدأ الحاكمية — ولذلك لم يتردد الأستاذ، أو يتلعثم في تقرير المبدأ، إنما كان التردد والتلعثم في تكفير المجتمع، وما يتأسس على هذا التكفير من تكفير للسلطة السياسية وللحكام الذين يديرون شئون هذا المجتمع. ويتكرر الموقف نفسه — أو ما يشبهه — في طريقة صياغة البيان الذي أصدره مجموعة من علماء الدين مؤخرًا، بعد أحداث عين شمس عام ١٩٨٥م. والذي يبدو لافتًا في هذا البيان أنه لم يتعرض إلا لقضيتين من القضايا الكبيرة التي تثيرها الجماعات الإسلامية في خطابها: التكفير وتغيير المنكر باليد. أكد البيان في القضية الأولى أنه لا يحق للإنسان أن يكفر إنسانًا غيره. وفي القضية الثانية قصر تغيير المنكر باليد على ولي الأمر بالنسبة للمجتمع، وعلى رب الأسرة في حدود ولايته.١ وقد وردت في البيان عبارة شديدة الدلالة والخطورة في الوقت نفسه فيما يرتبط بمفهوم «الحاكمية»، كما أنها تعكس موقف العلماء من السلطة السياسية، وهو الموقف الذي يمثل أساس الخلاف مع «المتطرفين». تقول هذه العبارة: «إن المسئولين لا يردون على الله حكمًا، ولا ينكرون للإسلام مبدأ»، وهي عبارة مراوغة، تُدين وتُبرئ في الوقت نفسه. إنها — في ظاهرها — تبرئ، وهي من حيث المظهر موجهة للعامة، أما من حيث حقيقة معناها ودلالتها فهي تُدين. إن اعتماد العبارة في صياغتها على النفي يوهم أنها تثبت — بطريق المخالفة — براءة الحكام مما تتهمهم به الجماعات الإسلامية، لكن الحقيقة أن العبارة تنفي عن الحكام صفة «الكفر» لتنسب إليهم — بهذه الصياغة — صفة «العصيان» ما داموا لا يردون أحكام الإسلام ولا مبادئه، وهم في الوقت نفسه لا يطبقونها.

إن الخلاف بين «المعتدلين» و«المتطرفين» يكمن إذن في «تكفير» الحاكم والمجتمع، وإن كنا سنكتشف بعد قليل أن هذا الخلاف خلاف «هامشي» وليس خلافًا «جوهريًّا» كما يوهم البيان السابق. والخلاف حول مبدأ «تغيير المنكر باليد» إنما هو خلاف حول التوقيت — توقيت التطبيق — لا التطبيق ذاته. يقول الشيخ محمد الغزالي — أحد العلماء الذين صدر البيان باسمهم — في حديث لجريدة «الشعب»: «إن الوثنية كانت المنكر الأكبر، فماذا صنع النبي عليه الصلاة والسلام معها؟ إنه لم يهدم صنمًا حول الكعبة التي نصلي إليها حتى بلغ الحادية والستين من عمره. أي قبل وفاته بعامين، كان يغيِّر المنكر بلسانه، ويُعِد الأمة لتغييره باليد في أول فرصة سانحة، وقد سنحت هذه الفرصة عند فتح مكة.» وإذا كان هذا الرأي يؤمن بالتروي والتريث و«التدرج» في انتظار الفرصة السانحة، فإن كاتبًا آخر — من ممثلي تيار الاعتدال — كتب مقالة في الجريدة نفسها عنوانها «لا بد من تغيير المنكر باليد»، وذهب فيها إلى أن هناك اتفاقًا بين علماء السلف على أنه «لا يُشترط للقيام بمهمة الحِسبة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) موافقة ولي الأمر وإذنُه؛ إذ كيف يكون الإذن شرطًا ضروريًّا إذا كان الأمر والنهي موجهَين في بعض الأحيان إلى الحاكم نفسه أو إلى بعض من يُولِيهم ثقته.»

ولا يكفي الكاتبَ في مقاله الاستنادُ إلى سلطة السلف، بل يوحد بين الآراء والاجتهادات وبين «الإسلام» ذاته، فيقرر في يقين وحسم أن «هذا هو جوهر الموقف الإسلامي المعتدل … إذا كان الإسلام نقطة البدء والمرجع، فإن الإسلام لا يُدين العنف في ذاته، الإسلام لا يعادي المبدأ بإطلاقٍ ولكن يضع له الشروط والضوابط.»٢ في هذا النمط من الخطاب «المعتدل» نلاحظ بعضًا من آليات الخطاب الديني التي أشرنا إليها — والتي سنناقشها تفصيلًا بعد ذلك — وهي هنا: «التوحيد بين الفكر البشري والإسلام/الاستناد إلى سلطة السلف والتراث/اليقين الفكري والحسم الذهني.»
إذا كان بيان العلماء يرفض تكفير الحكام والمجتمع فإنه قد امتنع أيضًا عن تكفير فكر الشباب. وهذه هي نقطة الخلاف الوحيدة بين هذا البيان وبيان صدر قبل ذلك عن المؤسسة الدينية الرسمية بتوقيع «شيخ الأزهر» أثار العديد من ردود الفعل العنيفة والحادة من جانب المعتدلين والمتطرفين على السواء. ومن الواضح أن بيان العلماء كان يستهدف، في أحد جوانبه على الأقل، تخفيف حدة التوتر التي أثارها بيان الأزهر، هذا إلى جانب ما يحققه للسلطة السياسية — أمام الجماهير على الأقل — من التفاف العلماء حولها. لذلك حرصت السلطة السياسية — ممثلة بوزير الأوقاف — على إشراك بعض رموز المعارضة من العلماء، وهكذا اشترك الشيخ الغزالي، واستُدعي الشيخ يوسف القرضاوي من «قطر» على عجل، كما صرح بذلك لجريدة «الشعب». ولعل هذا يفسر لنا تقديم العلماء لأنفسهم — بين يدي البيان — بأنهم ليسوا «من علماء السلطة ولا من مفكري الشرطة» كما يفسر لنا أيضًا عدم رضاهم — الغزالي والقرضاوي خاصة — عن محصلة هذا البيان، فقد وصفه القرضاوي في تصريحه لجريدة «الشعب» بأنه: «لا يكفي وحده لحل القضية، بل قد يُفسَّر من وجهة نظر الشباب الذي يوصف بالتطرف بأنه خدمة للحكومة، ومبرر لضرب العمل الإسلامي كله والجماعات الإسلامية كلها باسم ضرب التطرف.»٣
إن بيان الأزهر المعبر عن فكر المؤسسة الدينية الرسمية يرد على التكفير بمثله قائلًا: «إن الإسلام حق وحقيقة، وليس عبارات أو أقوالًا ينقصها العمل، وإن تلك الأعمال المدمِّرة التي نُشرت (في الصحف) تنذر بالخطر على المجتمع. إن الأمور بمقاصدها، وإن الأزهر الشريف ليدعو إلى الوقوف بحزم وعدل ضد هذه الفتنة القائمة باسم الدين، إذ الإسلام منها وممن يحترفونها براء «ومعظم النار من مستصغر الشرر»، فليأخذ المجتمع كله حِذره، وليطهر مساجده وأنديته من قالة السوء ومن مُثيري الفساد ومن الداعين إلى الخروج على النظام.»٤ إن الرد على التكفير بمثله يؤكد ما نذهب إليه من أن الخلاف بين الاعتدال والتطرف خلاف هامشي وليس خلافًا سياسيًّا، إنه خلاف حول مجال تطبيق المبدأ لا حول المبدأ ذاته، تمامًا كما أن الخلاف حول مبدأ «تغيير المنكر باليد» — كما سبق أن رأينا — خلاف حول «التوقيت» أو «الظرف المناسب» لا حول المبدأ ذاته.

إن التكفير — في الحقيقة — يمثل أيضًا إلى جانب «الحاكمية» و«النص» عنصرًا أساسيًّا في بنية الخطاب الديني بشقيه المعتدل والمتطرف على السواء، وغاية الأمر أنه واضح معلن في خطاب المتطرفين، كامن خفي في خطاب المعتدلين.

وإذا كان من المعروف أن تكفير المجتمع والحاكم — بل كل المجتمعات والحكام والأنظمة على وجه الأرض — قد بدأ في عالمنا العربي المعاصر في كتابات «سيد قطب» استنادًا إلى مفهوم «الحاكمية»، فقد كان فكر قطب — في جانب كبير منه — بمثابة رد على ما اعتبره الإخوان المسلمون آنذاك انفرادًا بالسلطة والحاكمية من جانب ضباط الثورة.٥ وإذا كنا سنعرض فيما بعد لتحليل مفهوم الحاكمية ولبيان أبعاده، فإن الذي يهمنا هنا هو:

أن التكفير ظل مبدأ محايثًا للخطاب الديني المعاصر، يكمن حينًا ويظهر حينًا آخر، اعتمادًا على قرب المتحدثين به — أو بُعدهم — من جهاز السلطة.

لذلك لم يكن غريبًا — وإن كان مفاجئًا في الزمان والمكان — أن يعلن أحد العلماء الذين ساهموا في صياغة البيان «المعتدل» — في برنامج تلفزيوني — أنه سجد — أو صلى ركعتين — شكرًا لله على هزيمة حزيران ١٩٦٧م. والتعليل الذي قدمه الشيخ لا عَلاقة له بالشعور الديني السوي الذي يؤمن بأن الله — سبحانه وتعالى — يُشكر على «الضرَّاء» كما يُشكر على «السرَّاء»، بل علَّل الشيخ شكره لله — وصلاته له — بأن الهزيمة حاقت ﺑ «الشيوعيين» وأن الله قد خذلهم.٦ ولا يحتاج الإنسان إلى أدنى جهد ليدرك أن المقصود بالشيوعيين نظام الحكم في الستينيات. والشيوعية — من منظور الشيخ — معناها الإلحاد. ومن الطبيعي — من منظور الشيخ — أن يكون انتصار إسرائيل — دولة أهل الكتاب من اليهود — على الشيوعيين الملاحدة أمرًا يثير الفرح والبهجة في نفس المؤمن. ولسنا هنا بصدد مناقشة صحة تصوُّر الشيخ أو خطئه، وإنما الذي يهمنا هنا «التكفير» الذي يوجهه الشيخ إلى حكام تلك الفترة رغم أنهم مثل خلفائهم في السبعينيات أو الثمانينيات «لا يردون على الله حكمًا، ولا ينكرون للإسلام مبدأ».

ليس غريبًا إذن هذا الموقف وإن كان — كما قلنا — مفاجئًا في المكان والزمان، فالمكان هو الجهاز الإعلامي الجماهيري الخطير التأثير، الذي تسيطر عليه الدولة التي تعتبر نفسها امتدادًا للنظام الذي يلصق الشيخ به تهمة الكفر. وإذا كان معروفًا أن كل ما يصدر عن هذا الجهاز يخضع لرقابة دقيقة فليس من الصعب أن يستنتج الإنسان «موافقة» المسئولين على كل ما قيل. أما المفاجأة من حيث الزمان فهي أن «التكفير» الذي تُعلنه الدولة على لسان أحد علمائها «المعتدلين» يصدر في الوقت نفسه الذي يبدو فيه أن الدولة تجند علماءها وإعلامها للقضاء على هذا «المرض الذي يكاد يفتك بجسم الأمة» كما جاء في بيان شيخ الأزهر. وإذا كان «التكفير» — كما هو واضح — جزءًا من بنية الفكر الديني جملة فهو كذلك جزء من أيديولوجية الدولة سواء في تبرير توجهاتها الاقتصادية والاجتماعية، أو في مواجهة خصومها من المعارضين. وليس بعيدًا عن أذهاننا استخدام رئيس الجمهورية السابق هذا السلاح الأيديولوجي بشكل واسع — في خُطَبه وأحاديثه — ضد كل خصومه السياسيين، بصرف النظر عن اتجاهاتهم وانتماءاتهم.

ولكن الشيخ المعتدل — محمد متولي الشعراوي — نسي في غمرة تعبيره عن سعادته وبهجته بهزيمتنا — أو لعله تناسى — أن يفتينا في أمر ضحايا تلك الحرب، هل هم «شهداء» يجوز الترحم عليهم، أم أنهم مجرد «قتلى» لنظام ملحد كافر يحق للمؤمنين — من أمثاله — أن يبصقوا على دمائهم؟ وما بالُ الشيخ يُلقي بنفسه وفكره في أتون السياسة، الذي كان دائمًا يمتنع عن الخوض فيه؟ «كان كلما سئل في موضوع في السياسة امتنع عن الإجابة، وأَذكُر أن محرر إحدى المَجلات الأسبوعية المصرية قد سأله في مقابلة مشهورة، عن رأيه في اتفاقية كامب ديفيد. فكان رده أنه لا يتكلم في السياسة، وفي اعتقادي أن الامتناع التام عن معالجة الشئون السياسية يتناقض مع دعوة الشيخ، ومعه معظم الحركات الإسلامية المعاصرة، القائلة إن الإسلام دين ودنيا، وإن الإسلام لا يعرف انفصالًا بين الدين والسياسة. ويبدو أن الدين والسياسة لا ينفصلان في نظر القطب الكبير إلا عندما يكون السؤال محرجًا.»٧ وقد يبدو الامتناع عن الخوض في السياسة نوعًا من «التقيَّة» والحرص على المركز والمنصب والجاه، ولكنه يمثل — علاوة على ذلك كله — تأييدًا باطنيًّا عميقًا.

وكما يتفق المعتدلون والمتطرفون في هاتين الركيزتين الأساسيتين، «التكفير» و«تغيير المنكر باليد»، يتفقان كذلك — رغم الخلاف الظاهري والجدل المتبادل — في كثير من القضايا الثانوية، أو التي يزعم بعض المعتدلين أنها كذلك. ويكفينا هنا الاستشهاد بموقف الجميع من «الآداب والفنون»، فيذهب كثير من شباب «الجماعات» إلى تحريم فنون الغناء والموسيقى والتشكيل بشكل خاص، ويعتبرون العروض المسرحية نوعًا من اللهو المكروه. أما الشيوخ المعتدلون فيرون أن الإسلام ليس ضد الفنون والآداب الراقية، وأن التحريم ينصب على تلك الفنون والآداب التي تثير الغرائز، وتخاطب في الإنسان جانبه الحسي المادي. وقد يتفق نقاد الأدب والفن مع جانب من هذه الصياغة، وهو الخاص بإثارة الغرائز، ويستبعدون كل ما كان هذا شأنه من مجال الأدب والفن. أما مخاطبة الحواس فلا يمكن أن تكون معيارًا تُحاكَم على أساسه الفنون، فهو معيار يؤدي في الواقع إلى نفي كل الفنون التشكيلية واستبعادها، أي يؤدي إلى «التحريم» من باب خلفي، ذلك أن هذه الفنون جميعًا تعتمد على التأثير الحسي في أداء وظائفها الجمالية.

وإذا كانت الفنون التشكيلية، وكذلك فنون الغناء والموسيقى، تمثل إشكالية فعلية في الخطاب الديني كله، بحكم إصراره على التمسك الحرفي بالنصوص الثانوية، فإن هذه الإشكالية يجب ألا يكون لها وجود في مجال النصوص الأدبية في خطاب يُفترض أنه يتأسس على نص «معجز» أدبيًّا بشكل خاص. ومع ذلك فللخطاب الديني معاركه التي لا تنتهي مع نصوص أدبية، يستحيل أن يقال عنها إنها «تثير الغرائز» أو «تخاطب الحواس»، أقرب هذه المعارك — وأقدمها في الوقت نفسه — معركته مع رواية «أولاد حارتنا» للكاتب نجيب محفوظ، التي صودرت ومُنع نشرها في مصر منذ ما يزيد على أربعين عامًا. وبعد أن مُنح الكاتب جائزة نوبل، وتضمن قرار لجنة منح الجوائز إشادة خاصة بهذه الرواية، أمَل البعض من الأزهر أن يعيد النظر في قرار المصادرة والمنع، ولكن أصوات «المعتدلين» ارتفعت احتجاجًا واستنكارًا لهذا المطلب، وتَهدَّد الشيخ محمد الغزالي وتَوعَّد في عموده بالصفحة الأخيرة من جريدة «الشعب»: «هذا ديننا» متمثلًا بالقرآن الكريم في وجه المطالبين بذلك قائلًا: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا. لقد قرر الخطاب الديني الرسمي — منذ ما يقرب من نصف قرن — أن هناك تعارضًا بين الرواية والعقيدة، وها هو الخطاب «المعتدل» يرفض مجرد استئناف الحكم، أو إعادة النظر في القرار، يرفض بكل حسم ويقين وقطع.٨
وليس هذا حال الخطاب الديني في مصر وحدها، أو في العالم العربي وحده، بل هذا ديدن الخطاب الديني في العالم الإسلامي كله، فقد أحدثت رواية نُشرت بالإنجليزية في بريطانيا دويًّا هائلًا في هذا العالم، خاصة في الهند وباكستان وإيران، هذا فضلًا عن ثورة المسلمين في كل من إنجلترا وأمريكا وتظاهرهم ضد دار النشر والمؤلف، ومطالبتهم بمصادرة الرواية. وقد قامت في كل من الهند وباكستان مظاهرات قُتل فيها — فيما نقلت وكالات الأنباء — عدد من المتظاهرين. وقد أصدر الإمام الخميني — الزعيم الروحي للثورة الإيرانية — بيانًا تضمَّن فتوى بإهدار دم المؤلف، واعتبر ذلك واجبًا على كل مسلم يتمكن منه، والمسلم الذي يُقتل في سبيل أداء هذا الواجب يُعَد شهيدًا وينال الخلود في الجنة. وقد رد المؤلف — سلمان رشدي — الهندي الأصل، على الاتهام قائلًا: «ليس في الرواية هجوم على الإسلام، ولا تتضمن أي استهزاء بالعقيدة، كما أنها لا تُعنى بتوجيه إهانة لأحد. وأنا أشك أن يكون الإمام الخميني أو أحد من المعترضين في إيران قد قرأ الرواية، بل هم في الغالب يستندون في أحكامهم على الرواية إلى العبارات أو الجمل المنتزعة من سياقها … وإنه لأمر مخيف أن يكون رد فعل الناس بهذه الدرجة من العنف ضد رواية — مجرد رواية — يتصورون أنها تهدد العقيدة، وتقف ضد التاريخ الإسلامي كله.»٩
في هذه الجملة الأخيرة من حديث مؤلف رواية «الآيات الشيطانية» — وهي شبيهة بما صرح به نجيب محفوظ مرارًا بلغته الهادئة المسالمة — تكمن — أو بالأحرى تنكشف — معضلة الخطاب الديني وأزمته. ولسنا هنا بصدد مناقشة القيمة الأدبية لهذه الرواية أو تلك، فهذا أمر له مجاله وله علماؤه المختصون. ومن المؤكد أن رجال الدين وعلماءه ليسوا من أهل الاختصاص في هذا المجال، لكنهم — رغم ذلك — يقيمون من أنفسهم حراسًا مدافعين عن العقيدة ضد أخطارٍ من صنع أوهامهم وخيالهم. ومع افتراض صحة وجود تناقضٍ ما بين تأويلهم وفهمهم للعقيدة وبين بعض الأعمال الأدبية أو الفنية فهل معنى ذلك أن العقيدة هي بالضرورة الأضعف والقابلة دائمًا للانكسار والهزيمة؟ ألا يعني هذا التصور المبني على الخوف الدائم أن الضعف والتهافت كامنان في بنية الخطاب الديني ذاته؟ وليت علماءنا يتعلمون من الموقف المستنير لبعض رجال الكنيسة الذين رفضوا بشدةٍ المطالبةَ — مجرد المطالبة — بوقف عرض إحدى الروايات التي نُقلت إلى السينما «الإغراء الأخير في حياة المسيح» أو مصادرتها، بدعوى أنها تعرض صورة للمسيح تتناقض مع ما ورد في النصوص الدينية. وكانت وجهة نظر هؤلاء الرجال المستنيرين أن المسيحيين المؤمنين أنفسهم قادرون — إذا أرادوا — على «إسقاط» هذه الرواية بالامتناع عن مشاهدتها ومقاطعة «العرض». وهكذا يتخلى رجال الكنيسة عن منطق «الوصاية» الذي يصر رجال الدين عندنا على ممارسته على العقول والقلوب.

لذلك كله ترى هذه الدراسة أنه من قبيل الظلم الفادح، عن عدم الدقة العلمية، التعامل مع ما يُطلَق عليه «الصحوة الإسلامية» من خلال خطاب «الجماعات» وحده، أي بمعزل عن السياق العام للخطاب الديني بشقيه «الرسمي» و«المعارض» على السواء. قد يوهم الفصل بين خطاب «الجماعات» والخطاب الديني العام أن هذه الظاهرة نبتٌ دخيل على تربة الفكر الديني، وهذا بالضبط ما تروج له أجهزة الأمن، وما يوحي به الخطاب الديني الرسمي. ومعنى أنها نبت دخيل أن الحل الوحيد هو استئصالها من التربة، ولا مجال لذلك إلا بالفأس. هذا هو الظلم الفادح الذي يجب على الباحث لا ألا يساهم فيه فحسب، بل أن يقف بكل وسائله وأدواته ضده. إن هؤلاء الشباب ضحايا بكل معنى الكلمة، وإذا كان يبدو أحيانًا في سياق بعض الأحداث والمواقف أنهم جلادون فإن الجلادين الحقيقيين هم الذين مَلَئُوا عقولهم — عبر أدوات البث والإعلام الجديدة والمختلفة — بكل ما تمتلئ به من أفكار، وضعوا بها في أيديهم السياط والجنازير، بل والقنابل.

ويتجلى عدم الدقة العلمية واضحًا في النظر إلى فكر الجماعات بوصفه امتدادًا طبيعيًّا ناتجًا عن تأثر مباشر ببعض اتجاهات الفكر التراثي، وبخاصة تراث المدرسة الحنبلية كما تعرضها كتابات «ابن تيميَّة» و«ابن القَيِّم» بشكل خاص، والحقيقة أن مثل هذا التصور يُعَد إهدارًا للعلل المباشرة القريبة، وثبًا نحو العلل البعيدة غير المباشرة. إن أي تشابه بين فكر الجماعات وفكر تلك المدرسة لا بد أن يكون قد مرَّ عبر «وسيط» الخطاب الديني المعاصر، وهذا الوسيط ليس بالتأكيد وسيطًا محايدًا. إنه يعيد إنتاج الفكر التراثي من خلال موقفه الأيديولوجي الخاص، وهذا المنتج هو مصدر التأثير المباشر في خطاب الجماعات.

إن أطروحات هؤلاء الشباب في حقيقتها أطروحات «غير نضيجة» على حد تعبير الشَّهْرَسْتاني في وصفه لأفكار المعتزلة الأوائل. ويتبدى عدم النضج في أنها أفكار متناثرة لا يجمعها نسق في ذاتها، وإنما تستمد تناسقها وانتظامها حين توضع في نسيج الخطاب الديني العام. وبعبارة أخرى: إن هؤلاء الشباب لا يقدمون للدين مفهومًا أو رؤية تختلف — أو تتعارض — مع الرؤى والمفاهيم في الخطاب الديني العام، لكنهم يتحولون بهذه الأطروحات من مجال الخطاب إلى مجال الفعَّالية والحركة، وذلك بحكم اكتوائهم بكل آلام الواقع ونفورهم من كل مفاسده وتشوهاته.

أولا: آليات الخطاب

يصعب في الحقيقة في تحليل خطابٍ ما الفصلُ بين آلياته ومنطلقاته الفكرية، فكل منهما يحتوي الآخر ويدل عليه دلالة لزوم. وكثيرًا ما تتداخل الآليات والمنطلقات إلى درجة التوحد في الخطاب الديني خاصة، حتى ليستحيل التفرقة بينهما. وسيؤدي هذا التداخل في تحليلنا إلى الوقوع أحيانًا في تَكرار نرجو ألا يكون أكثر من طاقة القارئ على الاحتمال. وقد كان من آثار هذا التداخل أننا ترددنا كثيرًا بأيهما نبدأ تحليلنا: بالآليات أم بالمنطلقات، وقد بدأنا بالآليات دون مرجِّح في الحقيقة سوى حدْس خافت أن المنطلقات تتأسس — من الوجهة المنطقية الصورية على الأقل — على الآليات، هذا بالإضافة إلى أنه تم في الفقرة السابقة التعرض لبعض منطلقات الخطاب الديني التي نرجو أن تكون قد مهدت تمهيدًا كافيًا لتحليل آليات هذا الخطاب، وذلك قبل مناقشة أهم وأخطر منطلقاته الفكرية بعد ذلك.١٠

وإذا كنا في هذا التحليل سنتوقف عند خمس آليات، هي التي استطعنا رصدها حتى الآن، فمن الواجب ألا نزعم أنها تستوعب كل آليات الخطاب الديني، فلا شك أن مجال الرصد والإضافة — بمزيد من العمق والدقة في التحليل — سيظل مفتوحًا، سواء بالنسبة للآليات أو بالنسبة للمنطلقات. إن هذه الآليات الخمس تمثل — في تقديرنا — الآليات الأساسية والجوهرية التي تحكم مجمل الخطاب الديني وتسيطر عليه. والحكم نفسه ينسحب على المنطلَقَين الفكريين اللذين سنتناولهما بالتحليل بعد ذلك.

التوحيد بين الفكر والدين

منذ اللحظات الأولى في التاريخ الإسلامي — وخلال فترة نزول الوحي وتشكل النصوص — كان ثمة إدراك مستقر أن للنصوص الدينية مجالاتِ فعَّاليتها الخاصة، وأن ثمة مجالاتٍ أخرى تخضع لفاعلية العقل البشري والخبرة الإنسانية، ولا تتعلق بها فعَّالية النصوص. وكان المسلمون الأوائل كثيرًا ما يسألون إزاء موقف بعينه ما إذا كان تصرف النبي محكومًا بالوحي أم محكومًا بالخبرة والعقل. وكثيرًا ما كانوا يختلفون معه، ويقترحون تصرفًا آخر إذا كان المجال من مجالات العقل والخبرة. الأمثلة على ذلك كثيرة، وتمتلئ بها كل وسائل الخطاب الديني وأدواته: من كتب ومقالات وخطب ومواعظ وبرامج وأحاديث. ورغم ذلك يمضي الخطاب الديني في مد فعَّالية النصوص الدينية إلى كل المجالات، متجاهلًا تلك الفروق التي صيغت في مبدأ «أنتم أعلم بشئون دنياكم».

ولا يكتفي الخطاب الديني بذلك، بل يوحد بطريقة آلية بين هذه النصوص وبين قراءته وفهمه لها. وبهذا التوحيد لا يقوم الخطاب الديني بإلغاء المسافة المعرفية بين «الذات» و«الموضوع» فقط، بل يتجاوز ذلك إلى ادعاء — ضمني — بقدرته على تجاوز كل الشروط والعوائق الوجودية والمعرفية والوصول إلى القصد الإلهي الكامن في هذه النصوص. وفي هذا الادعاء الخطير لا يدرك الخطاب الديني المعاصر أنه يدخل منطقة شائكة هي منطقة «الحديث باسم الله» وهي المنطقة التي تحاشى الخطاب الإسلامي — على طول تاريخه عدا استثناءات قليلة لا يُعتد بها — مقاربة تخومها. ومن العجيب أن الخطاب المعاصر يعيب هذا المسلك ويندد به في حديثه عن موقف الكنيسة من العلم والعلماء في القرون الوسطى.

ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن هذه الآلية تتداخل مع آليات أخرى وتشتبك بها، فآلية «اليقين الذهني والحسم الفكري» — مثلًا — يمكن أن تُعَد إحدى نتائجها، وإن كان هذا لا ينفي استقلالها بوصفها إحدى آليات الخطاب. أما آلية «إهدار البعد التاريخي» فهي تُعَد — في جانب منها — جزءًا من بنية آلية «التوحيد بين الفكر والدين»، وذلك أن التوحيد بين «الفهم» و«النص» — حيث يقع الفهم في الحاضر، وينتمي النص إلى الماضي (لغة على الأقل) — لا بد أن يعتمد على «إهدار البعد التاريخي». والخطاب الديني المعاصر يبدو في هذا كله وكأنه يصدر عن مسلَّمات لا تقبل النقاش أو الجدل. وقد مرَّ بنا في الفقرة السابقة بعض الاستشهادات التي تمثل هذا التوحيد بين الفكر البشري والدين، فالجميع يتحدثون عن «الإسلام» — بألف ولام العهد — دون أن يخامر أحدهم أدنى تردد ويدرك أنه يطرح في الحقيقة فهمه للإسلام أو لنصوصه. وحتى الاستناد إلى آراء القدماء وإلى اجتهاداتهم أصبح هو الآخر استنادًا إلى «الإسلام» الذي كثيرًا ما تضاف إليه صفة «الصحيح» فصلًا له عن «الزائف» الذي يمثل اجتهادًا آخر. وإذا كنا لسنا هنا بصدد الحكم على هذا الاجتهاد أو ذاك، فإن الذي يشغلنا هنا ليس قيمة الاجتهاد في ذاته، بل شاغلنا الأساسي الكشف عن ذلك الاقتناع بامتلاك «الحقيقة» في الخطاب الديني. وهو الاقتناع الذي جعله يتخلى عن كثير من فضائل الخطاب السلفي.

يقول واحد من ممثلي تيار الاعتدال: «ليس هناك إسلام تقدمي وآخر رجعي، وليس هناك إسلام ثوري وآخر استسلامي، وليس هناك إسلام سياسي وآخر اجتماعي، أو إسلام لسلاطين وآخر للجماهير، هناك إسلام واحد، كتاب واحد، أنزله الله على رسوله، وبلغه رسوله إلى الناس.»١١ وهو قول ينقضه تاريخ الإسلام ذاته، ذلك التاريخ الذي شهد «تعددًا» في الاتجاهات والتيارات و«الفرق» التي قامت لأسباب اجتماعية اقتصادية سياسية، وصاغت مواقفها بالتأويل والاجتهاد في فهم النصوص. ولكن هذا الإصرار على وجود إسلام واحد، ورفض التعددية الفعلية، يؤدي إلى نتيجتين بصرف النظر عن نوايا هذا الكاتب أو ذاك. النتيجة الأولى: أن للإسلام معنًى واحدًا ثابتًا لا تؤثر فيه حركة التاريخ، ولا يتأثر باختلاف المجتمعات، فضلًا عن تعدد الجماعات بسبب اختلاف المصالح داخل المجتمع الواحد. النتيجة الثانية: أن هذا المعنى الواحد الثابت يمتلكه جماعة من البشر — هم علماء الدين قطعًا — وأن أعضاء هذه الجماعة مبرءون من الأهواء والتحيزات الإنسانية الطبيعية.
لكن الخطاب الديني لا يسلم أبدًا بالنتائج المنطقية لكثير من أفكاره، بل كثيرًا ما يجمع هذا الخطاب بين الفكرة ونقيضها. يقول الكاتب نفسه في سياق آخر: «افتح أي صفحة من صفحات التاريخ الإسلامي، ستجدها ناصعة في كل مرحلة، مكتوبة بفصيح اللسان وصريح العبارة: كما تكونون يكون دينكم.»١٢ وها هو كاتب آخر يتحدث عن نوعين من الإسلام: الإسلام «المستأنس» وهو الذي تباركه السلطة السياسية وترعاه، والإسلام «الحقيقي» إسلام القرآن والسنة وإسلام الصحابة والتابعين.١٣ والإسلام «الحقيقي» في نظر هذا الكاتب هو الإسلام الذي يفصح عنه العلماء في خطابهم، لأنهم — وحدهم — القادرون على فهم الإسلام الصحيح. ومعنى ذلك أن سلطة التأويل والتفسير لا ينبغي أن تتجاوز هذه الدائرة، «فمن ادعى على الكتاب والسنة، وطعن في علماء الأمة فليس بمأمون على تعاليم الدين، ومن أخذ عن العلماء وكُتُب المذاهب مهمِلًا دلائل القرآن والحديث، فقد أهمل الدين ومصدر التشريع.»١٤

وهكذا ينتهي الخطاب الديني إلى إيجاد «كهنوت» يمثل سلطة ومرجعًا أخيرًا في شئون الدين والعقيدة، بل يصل إلى حد الإصرار على ضرورة التلقي الشِّفاهي المباشر في هذا المجال عن العلماء.

ذلك أن دراسة الشريعة بغير معلم لا تسلم من مخاطرات ولا تخلو من ثغرات، وآفات … وهذا ما جعل علماء السلف يحذِّرون من تلقِّي العلم عن هذا النوع من المتعلمين ويقولون: «لا تأخذ القرآن من مُصحَفي، ولا العلم من صُحُفي.»١٥

إن هذا التناقض في الخطاب الديني بين إنكار وجود «كهنوت» أو «سلطة مقدسة» في الإسلام — على المستوى النظري والإجرائي — وبين الإصرار على ضرورة الاحتكام إلى هذه السلطة وأخذ معنى الدين والعقيدة عنها وحدها — على المستوى التطبيقي والفعلي — إنما يمثل تناقضًا خطيرًا ينسف من الأساس المنطلقات الجوهرية لهذا الخطاب، كما يكشف في الوقت نفسه عن الطبيعة الأيديولوجية التي لا يكف الخطاب عن إنكارها والتنصل منها، زاعمًا «موضوعية» مطلقة وتجردًا تامًّا عن «التحيزات» والأهواء الطبيعية في البشر.

رد الظواهر إلى مبدأ واحد

إن الحديث عن إسلام واحد ثابت المعنى، لا يبلغه إلا العلماء، يمثل جزءًا من بنية آلية أوسع في الخطاب الديني. وليست هذه الآلية من البساطة والبداهة التي تبدو بها في الوجدان والشعور الديني العادي والطبيعي، بل نجدها في الخطاب الديني ذات أبعاد خطيرة تهدد المجتمع، وتكاد تشل فاعلية «العقل» في شئون الحياة والواقع. ويعتمد الخطاب الديني في توظيفه لهذه الآلية على ذلك الشعور الديني العادي، فيوظفها على أساس أنها إحدى مسلَّمات العقيدة التي لا تُناقَش. وإذا كانت كل العقائد تؤمن بأن العالم مدين في وجوده إلى علة أولى أو مبدأ أول — هو الله في الإسلام — فإن الخطاب الديني — لا العقيدة — هو الذي يقوم بتفسير كل الظواهر، الطبيعية والاجتماعية، بردها جميعًا إلى ذلك المبدأ الأول. إنه يقوم بإحلال «الله» في الواقع العيني المباشر، ويرد إليه كل ما يقع فيه. وفي هذا الإحلال يتم — تلقائيًّا — نفي الإنسان، كما يتم إلغاء «القوانين» الطبيعية والاجتماعية، ومصادرة أية معرفة لا سند لها من الخطاب الديني، أو من سلطة العلماء.

في هذا الخطاب، وبفضل هذه الآلية، تبدو أجزاء العالم مشتتة، وتبدو الطبيعة مبعثرة، إلا من الخيط الذي يشد كل جزء من العالم أو من الطبيعة إلى الخالق والمبدع الأول. ولا يمكن لمثل هذا التصور أن ينتج أية معرفة «علمية» بالعالم أو بالطبيعة، ناهيك بالمجتمع أو بالإنسان. هذا التصور امتداد للموقف «الأشعري» القديم، الذي ينكر قوانين السببية في الطبيعة والعالم لحساب «جبرية» شاملة، تمثل غطاء أيديولوجيًّا للجبرية الاجتماعية والسياسية في الواقع.

وإذا كنا لا نريد استباق مناقشة آلية «الاستناد إلى التراث» الآن، فإننا نكتفي هنا برصد التشابه في توظيف الآلية. إن معاداة «العلمانية» والهجوم المستمر عليها في الخطاب الديني المعاصر يرتد — في أحد جوانبه — إلى أنها تسلبه إحدى آلياته الأساسية في التأثير، ويرتد — في جانب آخر — إلى أنها تجرده من «السلطة المقدسة» التي يدعيها لنفسه حين يزعم امتلاكه للحقيقة المطلقة الكاملة. ورغم استنكار الخطاب الديني لموقف رجال الكنيسة في بدايات عصر النهضة الأوروبي من العلم والعلماء، فإن موقفه في الحقيقة لا يختلف عن ذلك الموقف الذي يستنكره نظريًّا، وهذه نقطة سنعود لها في سياق هذه الفقرة بعد قليل.

إن رد الظواهر كلها «طبيعية واجتماعية» إلى علة أولى أو مبدأ أول، من شأنه أن يقود بالضرورة إلى «الحاكمية» الإلهية، بوصفها مقابلًا ونقيضًا لحاكمية البشر. وهكذا ترتبط هذه الآلية بمفهوم «الحاكمية» وهو أحد المنطلقات الأساسية في الخطاب الديني، ليساهما معًا في الهجوم على العلمانية، «إن العلمانية تنسجم مع التفكير الغربي الذي ينظر إلى الله على أنه خلق العالم ثم تركه، فعَلاقته به عَلاقة صانع الساعة بالساعة، صنعها أول مرة، ثم تركها تدور بغير حاجة إليه. وهذا الفكر موروث من فلسفة اليونان، وخاصة فلسفة أرسطو الذي لا يدبِّر الإله عنده شيئًا من أمر العالم … بخلاف نظرتنا نحن المسلمين إلى الله، فهو خالق الخلق، ومالك الملك، ومدبر الأمر، الذي أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، ووسعت رحمته كل شيء، ورزقُه كلَّ حي، لهذا أنزل الشرائع، وأحلَّ الحلال، وحرَّم الحرام، وفرض على عباده أن يلتزموا بما شرع، ويحكموا بما أنزل وإلا كفروا وظلموا وفسقوا.»١٦ وليس مهمًّا هنا أن يكون مثال «الساعة وصانعها» معبِّرًا عما يسميه الكاتب «التفكير الغربي» كله، فالدقة العلمية ليست مطلبًا في الخطاب الديني، بل المهم هو ما يحمله الوصف «غربي» من دلالات وإيحاءات «بغيضة» في واقعٍ عانَى — وما زال يعاني — من سيطرة الاستعمار «الغربي» واستغلال حلفائه المحليين … المهم — من منظور هذا الخطاب — مد سيطرته من خلال تكريس مبدأ «الحاكمية» الذي يرد كل شيء إلى الله ويلغي فاعلية الإنسان.
ولا يكتفي الخطاب الديني بتوظيف هذه الآلية لتكريس هذا المبدأ فحسب، بل يوظفها أيضًا في هجومه على كثير من اجتهادات العقل الإنساني في محاولته لتفسير الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية وفهمها. ويتم ذلك باختزال كل اجتهاد من هذه الاجتهادات ورده إلى فكرة واحدة تبدو ساذجة متهالكة في تعبير الخطاب الديني عنها. يتم اختزال «العلمانية» الأوروبية في صفة واحدة هي مناهضة الدين، أي إنها تتحول إلى حركة لادينية، مبدؤها الرئيسي وشغلها الشاغل «فصل الدين عن الدولة»، لكن الغريب في الخطاب الديني أن يتباكى على ما حدث من تأصيل لهذا المبدأ في الواقع الأوروبي، رغم إدراكه الواضح لمسئولية رجال الكنيسة بسبب مناهضتهم الدموية — باسم الدين والعقيدة — للعلم والعلماء.١٧ وبدلًا من أن يحاذر الخطاب الديني مقارفة الخطيئة نفسها يضع نفسه في خندق الكنيسة ذاته بمهاجمة العلمانية وتكفيرها بوصفها «ردة». ورغم أن العلمانية أبعد ما تكون عن التأصيل في واقع المجتمعات الإسلامية، فإن الخطاب الديني — في سعيه الدائم لمد سيطرته، ولتأييد الواقع الراهن — يتحدث عنها بوصفها خطرًا ماثلًا، «المنكَر يستعلِن، والفساد يستشري، والعلمانية تتحدث بمِلء فيها.» ويحرص هذا الخطاب حرصًا له دلالته ومغزاه على الربط بين العلمانية المزعوم خطرها وبين الماركسية، بعد أن يقوم باختزال هذه الأخيرة أيضًا في «الإلحاد»، بل يتجاوز ذلك إلى الربط بين كليهما وبين الحركة الصهيونية فيضيف: «والماركسية تدعو إلى نفسها بلا خجل، والصليبية تخطط وتعمل بلا وجل.»١٨ وتصل المبالغة إلى حد الزعم: «إن عندنا آلاف العلمانيين من أتباع ماركس وهَيدجر وسارتر قد تعلموا أن يسايروا كل ما يأتي من أوروبا … إنهم يؤمنون بنظرية المسايرة إيمانًا قويًّا.»١٩
وليس هذا الخلط مما يعنينا مناقشته هنا بقدر ما يعنينا الكشف عن توظيف آلية «رد الظواهر إلى مبدأ واحد» في الخطاب الديني، وقد ألمحنا إلى اختزال الماركسية في الإلحاد والمادية، فليس مهمًّا على الإطلاق في أي سياق ورد قول ماركس إن «الدين أفيون الشعوب»، وليس مهمًّا كذلك أن يكون هذا القول موجهًا إلى الفكر الديني والتأويل الرجعي للدين، لا إلى الدين ذاته، بل المهم أن يؤدي هذا الاختزال غايته الأيديولوجية. وهكذا يؤكد الخطاب الديني — بمثل هذا التأويل والاختزال — مقولة ماركس، في حين أراد أن يدحضها. وبالطريقة نفسها يتم اختزال «الداروينية» في مقولة يصوغها الخطاب الديني بشكل منفِّر، وهي «حيوانية الإنسان»، ويتم بالمثل اختزال «الفرويدية» في «وحل الجنس». يتحدث سيد قطب عن تاريخ الفكر الأوروبي ويرى أنه بدأ ثورته على الكنيسة وعلى التصورات الكنسية ﺑ «تأليه العقل» — لاحظ الصياغة — ثم انتهى عصر التنوير بانتهاء القرن الثامن عشر، وابتدأ القرن التاسع عشر بضربة قاصمة لهذا العقل وللإنسان معه، إذ جاءت الفلسفة الوضعية تعلن أن المادة هي الإله، (كذا) فهي التي تنشئ هذا العقل، وهي التي تطبع في حس الإنسان ما تراه. بذلك تضاءل دور العقل وتضاءل معه الإنسان، لم يعد هذا الإنسان إله نفسه ولا إله شيء من الأشياء، إنما أصبح من مخاليق الطبيعة ومن عبيد هذا الإله. ثم جاء داروين بحيوانية الإنسان … ثم تمت الضربة القاضية على يد فرويد من جانب وكارل ماركس من الجانب الآخر، الأول يرد دوافع الإنسان كلها إلى الميول الجنسية، ويصوره غارقًا في وحل الجنس إلى الأذقان، والثاني يرد تطورات التاريخ كلها إلى الاقتصاد، ويصور الإنسان مخلوقًا ضئيلًا سلبيًّا، لا حول له ولا قوة أمام إله الاقتصاد، بل إله أداة الإنتاج.٢٠

ليس مهمًّا أيضًا في سياق الخطاب الديني إهدار مبدأ «الجدل» الذي يُعَد من أسس الفكر الماركسي ومن أولوياته، وليس مهمًّا دعواه أنه فكر يهدف إلى تغيير العالم — لا مجرد تفسيره — بتغيير وعي الإنسان بوصفه أداة التغيير و«الفاعل» في التاريخ والواقع، فالخطاب الديني لا يستهدف الوعي بقدر ما يهدف إلى التشويش الأيديولوجي. وقد حاول الخطاب الديني مؤخرًا أن ينفي عن هجومه على العلمانية معاداة العلم والمعرفة العقلية، فلجأ إلى حيلة «تَكتيكية» كشفت — عكس المراد منها — عن تهافت هذا الخطاب وتناقض مقولاته ومنطلقاته. لجأ بعضهم إلى إعادة اختزال الحركة عن طريق ترجمة المصطلح الدال عليها إلى «الدنيوية» بدلًا من «العلمانية» غافلًا عن أن مثل هذا التوجيه يضع الحركة الإسلامية المعاصرة في الجانب النقيض للمفهوم من الدنيوية وهو الأخروية، الأمر الذي يتناقض مع المنطلق الرئيسي لهذه الحركة، والذي يذهب إلى أن الإسلام «دين ودنيا». وهكذا نرى أن آلية «رد الظواهر إلى مبدأ واحد» تكاد تكون آلية فاعلة في معظم جوانب الخطاب الديني، وأنها آلية لا عَلاقة لها بالشعور الديني الطبيعي والعادي، وإن كانت تحاول الاستناد إليه لأهداف أيديولوجية.

الاعتماد على سلطة «التراث» و«السلف»

مرت بنا بعض الشواهد الدالة على كيفية توظيف هذه الآلية في الخطاب الديني، وذلك عن طريق تحويل أقوال السلف واجتهاداتهم إلى «نصوص» لا تقبل النقاش، أو إعادة النظر والاجتهاد. بل يتجاوز الخطاب الديني هذا الموقف إلى التوحيد بين تلك الاجتهادات وبين الدين في ذاته. وبعبارة أخرى يقوم الخطاب الديني باستثمار آلية «التوحيد بين الفكر والدين» في توظيف هذه الآلية. أما بالنسبة للآلية الثانية: «آلية تفسير الظواهر بردها إلى مبدأ واحد»، فإنها موجودة بذاتها في ذلك الجانب من التراث الذي يستند إليه الخطاب الديني المعاصر. ومن الواضح أن الخطاب الديني يتعمد تجاهل جانب آخر من التراث، يناهض توظيف هذه الآلية، ويردها على أصحابها، وهذا في حقيقته يمثل «موقفًا» نفعيًّا أيديولوجيًّا من التراث، موقفًا يستبعد منه «العقلي» والمستنير ليكرس الرجعي «المتخلف». ولعل هذا ما يدفع البعض لاستخدام الآلية نفسها، مستندًا إلى العقل المستنير في التراث، متوهمًا بذلك أنه يمكن أن يحارب التخلف بسلاحه نفسه، ومتوهمًا أنه يستطيع بالسلاح نفسه هزيمته.٢١ والحقيقة أن هذا الموقف النفعي من التراث في الخطاب الديني يساعده في توظيف آلية «إهدار البعد التاريخي» وذلك كما سيتضح حين نتعرض بالتحليل لهذه الآلية.

سبق أن أشرنا إلى أن المسلمين كانوا على وعي بوجود مجالات لفعَّالية النصوص، ومجالات أخرى لفعَّالية العقل والخبرة لا فعَّالية النصوص فيها. وقد ظل هذا الوعي حيًّا حاضرًا في ضمير الجماعات والأفراد. ولم ينل من وضوحه في العقل والضمير تلك الخلافات الدامية التي ظل المسلمون ينظرون إليها بوصفها خلافات «مصالح» دنيوية، لا خلافات عقائد دينية. وقد كان الأُمويون — لا الخوارج على عكس ما يروِّج الخطاب الديني المعاصر — هم الذين طرحوا مفهوم «الحاكمية» بكل ما يشتمل عليه من دعوى فعَّالية النصوص في مجال الخصومة السياسية وخلافات المصالح، وذلك حين استجاب معاوية لنصيحة ابن العاص وأمر رجاله برفع المصاحف على أسنة السيوف داعين إلى الاحتكام إلى كتاب الله. وهذه المسألة سنعود إليها تفصيلًا في مجال تحليل مفهوم الحاكمية، لكنها هنا تكشف عن بداية عملية تزييف الوعي، وهي عملية ظل النظام الأُموي يمارسها بحكم افتقاده للشرعية التي ينبغي أن يقوم عليها أي نظام سياسي. وقد ظل الالتجاء إلى الأسلوب الأُموي مسلكًا سائدًا في كل أنماط الخطاب الديني المساند لأنظمة الحكم غير الشرعية في تاريخ المجتمعات الإسلامية.

احتاج النظام الأُموي إلى تثبيت شرعيته على أساس ديني يتلاءم مع مبدأ «الحاكمية» الذي غرسه، فكانت مقولة «الجبر» التي تُسند كل ما يحدث في العالم — بما في ذلك أفعال الإنسان — إلى قدرة الله الشاملة وإرادته النافذة. ثم تحوَّل هذا المبدأ من بعدُ، وتطور مع تطور الفكر الأشعري، في سياق تطور حركة الواقع والفكر، حتى انتهى إلى إهدار قانون «السببية». وإذا كان الفكر الأشعري قد حاول في مجال الفعل الإنساني أن يقيم نسبةً ما بين الفاعل والفعل أطلق عليها اسم «الكسب»، فإنه في مجال الطبيعة، يجعل العمل لله مباشرة. يذهب الغزالي في رده على الفلاسفة إلى أن الله هو الفعَّال على الحقيقة في كل جزئيات العالم وأحداثه، وأن هذا هو معنى الخلق والفعل. وإذا كان معنى «الخلق» — كما يفهمه الغزالي من النصوص وإن كان يوحد بينه وبين العقيدة ذاتها — هو الإيجاد من العدم في كل لحظة، فإنه هو أيضًا معنى العقل وهو «إخراج الشيء من العدم إلى الوجود بإحداثه.»٢٢. ومن الطبيعي بعد هذا التوحيد بين «الخلق» و«الفعل» أن ينكر الغزالي «الفعل الطبيعي»، وذلك ليتجنب الإيهام بأن الطبيعة «خالقة». إن وصف الطبيعة بأنها فاعلة تعبير متناقض من منظور الغزالي، فالإحراق لا يتسبب ضرورة عن النار لأن العَلاقة بين الفعل والفاعل عَلاقة ضرورية، وليست كذلك العَلاقة بين النار والإحراق.٢٣ إن العَلاقة بينهما عَلاقة «لزوم» لا عَلاقة «ضرورة»، إنها أشبه بالعَلاقة بين المصباح والضوء، أو العَلاقة بين الشخص والظل، وهذه ليست عَلاقة «ضرورية»، وليست من ثم «من الفعل في شيء» إلا على سبيل التوسع والمجاز.

وليس من الضروري — فيما يرى الغزالي — إذا قلنا إن الله سبب وجود العالم، وإن المصباح سبب وجود الضوء، أن نستنتج من ذلك أن المصباح فاعل؛ ذلك أن الفاعل لا يكون «فاعلًا صانعًا» بمجرد أن يكون سببًا، ولكنه يكون فاعلًا لأنه سبب الفعل «على وجه مخصوص» أي «على وجه الإرادة والاختيار». ومن الواضح أن الغزالي أوقع نفسه في إشكالية لغوية، وفي شبكة من الألفاظ المترابطة كالفعل والخلق والخالق، وأنه — علاوة على ذلك — خلط بين مجالات الفكر الديني الكلامي — المستند إلى مفاهيم أشعرية — وبين مجالات البحث في الطبيعة. وانتهى به ذلك إلى إهدار قوانين السببية. من هنا جاء الاعتقاد الخطير الذي ساد الخطاب الديني في الثقافة العربية أن النار لا تحرق، وأن السكين لا تقطع، وأن الله هو الفاعل من وراء كل الأسباب.

وحين يستند الخطاب الديني المعاصر إلى هذا الجانب من التراث فإنه يتعمد تجاهل الجانب الآخر، مثل اتجاه «أصحاب الطبائع» من المعتزلة والفلاسفة. ويتم ذلك في أحيان كثيرة بإضفاء صفة القداسة الدينية على الاتجاه الأول، ورد الاتجاه الثاني إلى تأثيرات أجنبية انحرفت به عن الإسلام الحقيقي. ها هو سيد قطب يحدثنا عن «الجيل القرآني الفريد» — جيل الصحابة — الذي يرتد تفرده — من منظور الكاتب — إلى أنه استقى معرفته ووعيه من «نبع القرآن وحده ثم ما الذي حدث؟ اختلطت الينابيع، صُبَّت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفةُ الإغريق ومنطقهم، وأساطير الفرس وتصوراتهم، وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات. واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم، وعلم الكلام، كما اختلط بالفقه والأصول أيضًا. وتخرج من ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل، فلم يتكرر ذلك الجيل.»٢٤ ولا ينبغي أن نُخدع هنا بهذا التعميم الذي يسحبه الكاتب على عصور الإسلام كلها — حاشا العصر الأول — من أنها خضعت لكارثة «اختلاط الينابيع» ذلك أنه — كما سنشير بعد قليل — يعتمد كثيرًا من اجتهادات بعض فقهاء تلك العصور ومفكريها.
ورغم هذا الموقف الانتقائي «النفعي» من التراث — أو ربما بسببه — لا يتورع الخطاب الديني عن التفاخر بهذا الجانب الذي يرفضه من التراث. ولكن هذا التفاخر ينحصر في مجال المقارنة بين أوروبا القرون الوسطى وبين حضارة المسلمين، وكيف تأثرت أوروبا بمنهج التفكير العقلي عند المسلمين خاصة في مجال العلوم الطبيعية.٢٥ وليست هذه المباهاة في حقيقتها إلا مبررًا يطرحه الخطاب الديني يسمح للمسلم ﺑ «استيراد الثمرات المادية للتقدم الأوروبي والثورة الصناعية بوصفها «بضاعتنا رُدَّت إلينا». إننا — طبقًا للخطاب الديني — نسترد ثمرات «المنهج التجريبي» الذي أخذته أوروبا عن أسلافنا، لكننا لا نأخذ عنها ما سوى ذلك من «كفر» والعياذ بالله (يقصد العلمانية)؛ ذلك لأن أوروبا قطعت ما بين المنهج الذي اقتبسته وبين أصوله الاعتقادية الإسلامية، وشردت به بعيدًا عن الله في أثناء شرودها عن الكنيسة، التي كانت تستطيل على الناس بغيًا وعدوانًا باسم الله.٢٦ وهكذا يخضع الإنجاز الأوروبي لمثل ما خضع له التراث من انتقائية ونفعية.
ولا يكتفي الخطاب الديني في استناده إلى التراث بآلية «رد الظواهر إلى مبدأ واحد»، بل يعتمد المنهج الانتقائي النفعي نفسه حين يتعرض بالنقاش لكثير من القضايا. ورغم أننا سنناقش بعض هذه القضايا حين نناقش مشكلة النصوص، فمن المفيد في هذا السياق الإشارة إليها. يعتمد سيد قطب — مثلًا — تقسيم ابن القيِّم لعَلاقة المجتمع المسلم بغير المسلمين عامة وهو — قطب — بصدد مناقشة مبدأ الجهاد. وليس يهمنا هنا مناقشة رأي قطب أو رأي ابن القيم، إنما الهام هو التسليم باجتهاد ابن القيم دون مناقشة، والأهم من ذلك التسوية بين ذلك الاجتهاد والإسلام ذاته. يقول قطب عن المواقف التي حددها ابن القيم للمسلمين من غير المسلمين: «وهذه المواقف هي المواقف المنطقية التي تتفق مع طبيعة هذا الدين وأهدافه، لا كما يفهم المهزومون أمام الواقع الحاضر، وأمام جمهور المستشرقين الماكر.»٢٧ وحين يناقش في تفسيره حد السرقة ومجال تطبيقه، لا يناقش تصورات الفقهاء الذين يعتمد عليهم، إنما يورد آراءهم مورد «النصوص» التي لا تقبل جدلًا أو نقاشًا، ولا يتنبه لخطورة هذه الآراء إذا ما طُبِّقت في الواقع الراهن كما يحلم بذلك كلُّ مَن يطلقون على أنفسهم اسم «الإسلاميين». وطبقًا لهذه الآراء التي يوردها قطب يُشترط في المسروق الذي يقام فيه الحد أن يكون في مكان مغلق أو بتعبير الفقهاء: «أن يكون مُحرَزًا وأن يأخذه السارق من حِرزه، ويخرجَ به عنه.» وهذا معناه أنه لا يُعَد سارقًا يقام عليه الحد كل من يهرب من البلاد بعد أن يستولي على أموال بعض المواطنين — أو يحصل على قروض من البنوك — ما دامت هذه الأموال لم تكن محرَزة. وثمة شرط آخر أشد خطورة، وهو ألا يكون للسارق في المال المسروق نصيب، أي أن يكون المال مملوكًا ملكية خاصة للمسروق منه، وبديهي أن هذا الشرط لا يتوافر في بيت مال المسلمين، أو الخزانة العامة، فكل من يستولي على بعض هذا المال العام — أو كله — لا يقام عليه الحد، لأن له «نصيبًا فيه فليس خالصًا للغير.»٢٨ وهكذا ينحصر مجال تطبيق حد السرقة على النصابين وصغار اللصوص، وهذا هو الإسلام الذي يطرحه الخطاب الديني على الناس، ويبشرهم بأنه قادر على حل مشكلات الواقع.
ويكاد الخطاب الديني المعاصر — علاوة على ذلك — يتمسك بالشكليات ويحرص عليها، مهدرًا كليات الشريعة ومقاصدها، فالعبادات عند كثير من المتكلمين والفلاسفة وعلماء أصول الفقه — مثلها مثل التشريعات — تهدف إلى نفع الناس وتحقيق المصالح؛ ذلك أن الإنسان هو الغاية وهو الهدف في كل ما جاء به الدين من عبادات أو معاملات. ولكن بعض العلماء فصلوا بين العبادات والمعاملات، وأخرجوا الأولى من مجال المقاصد والمصالح، وهذا هو الموقف الذي يتبناه الخطاب الديني المعاصر ويدافع عنه، ويطلق على أصحابه في التراث اسم «المحققين» تمويهًا بأن الاجتهاد الآخر ليس صائبًا، وأن أصحابه ليسوا من المحققين. يقول القرضاوي: «وأنا مع المحققين من علماء المسلمين في أن الأصل في العبادات هو التعبد بها دون نظر إلى ما فيها من مصالح ومقاصد، بخلاف ما يتعلق بالعادات والمعاملات … فلا يجوز أن يقال: إن إنفاق المال على فقراء المسلمين، أو على المشاريع الإسلامية النافعة، أهم من فريضة الحج الأول، أو أن يقال: إن التصدق بثمن هَدْي التمتع والقِران في الحج أولى من ذبح النُّسُك الذي تُعظَّم به شعائر الله. ولا يجوز أن يقال: إن الضرائب الحديثة تُغْني عن الزكاة ثالثة دعائم الإسلام، شقيقةِ الصلاة في القرآن والسنة المطهرة.»٢٩

اليقين الذهني والحسم الفكري

سبق أن أشرنا إلى التلاحم العضوي بين هذه الآلية وآلية «التوحيد بين الفكر والدين»، الأمر الذي نأمل أن تجليه هذه الفقرة. ولا شك أن هذا التلاحم العضوي بين هاتين الآليتين في الخطاب الديني المعاصر هو الذي يقود أصحابه إلى المسارعة بتجهيل الخصوم أحيانًا، وتكفيرهم أحيانًا أخرى. إن هذا الخطاب لا يتحمل أي خلاف جذري، وإن اتسع صدره لبعض الخلافات الجزئية، وكيف يحتمل الخلاف الجذري وهو يزعم امتلاكه للحقيقة الشاملة المطلقة؟ إن ظاهرة «الجماعات الإسلامية» مثلًا لا يصح أن يُسمح بمناقشتها أو بالكتابة عنها إلا للعلماء «أهل العلم بالإسلام»، ذلك «أن أقلامًا كثيرة: جاهلة أو حاقدة أو مأجورة، خاضت في الموضوع بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير، فكان على أقلام أهل العلم بالإسلام، أن تبين ولا تكتم، فتأتيَ البيت من بابه، وتضعَ الحق في نصابه.»٣٠ وفي محاولة لتقديم تعريف لما هو «التطرف» — وهو ظاهرة معقدة تحتاج إلى تعاون مجموعة من المتخصصين في مجالات مختلفة — يصر الخطاب الديني أنه جهة الاختصاص الوحيدة، فلا قيمة لأي بيان أو حكم «ما لم يكن مستندًا إلى المفاهيم الإسلامية الأصلية، وإلى النصوص والقواعد الشرعية، لا إلى الآراء المجردة، وقول فلان وعلان من الناس، فلا حجة في قول أحد دون الله ورسوله.»٣١ وبناء على هذه الأصول — التي يستند فيها الكاتب بالطبع إلى آراء فلان وعلان من القدماء — يُخرج من إطار «التطرف» الآراء المتشددة التي يتبناها الشباب في مجال «الغناء والموسيقى والرسم والتصوير وغيرها، مما يخالف اجتهادي شخصيًّا في هذه الأمور، واجتهاد عدد من علماء العصر البارزين، ولكنه يتفق مع العديد من علماء المسلمين، متقدمين ومتأخرين ومعاصرين. والواقع أن كثيرًا مما يُنكَر على من نسميهم المتطرفين، مما قد يُعتبر من التشدد والتنطع، له أصل شرعي في فقهنا وتراثنا، تبناه بعض المعاصرين ودافعوا عنه ودعَوا إليه.»٣٢ ويدخل في هذا الكثير «المؤصلِ» في التراث التزامُ المرأة الحجاب أو النقاب، وإطلاق اللحية للرجال، ولبس الجلباب بدل القميص والبنطلون، وتقصيره إلى ما فوق الكعبين، والامتناع عن مصافحة النساء وغيرها.

وهكذا، فالخطاب الديني حين يزعم امتلاكه وحده للحقيقة لا يقبل من الخلاف في الرأي إلا ما كان في الجزئيات والتفاصيل، وهنا يبدو تسامحه واتساع صدره واضحًا ومثيرًا للإعجاب، يتسع للتشدد والتنطع، بل وللتطرف. ولكن الخلاف إذا تجاوز السطح إلى الأعماق والجذور احتمى الخطاب الديني بدعوى الحقيقة المطلقة الشاملة التي يمثلها، ولجأ إلى لغة الحسم واليقين والقطع، وهنا يذوب الغشاء الوهمي الذي يتصور البعض أنه يفصل بين الاعتدال والتطرف.

وإذا كان البعض يرى أن وصف الآخرين بالكفر، حتى لو كانوا يختلفون في عقائدهم ومنطلقاتهم الفكرية معنا، تطرفٌ وتعصب، بل ومسلك غير متحضر، فإن الخطاب الديني يرى أن هذا المسلك من أسس الإيمان الديني: «ورأينا من يرى أن اعتبار الآخرين من غير المؤمنين بدينه كفارًا تعصبًا وتطرفًا، مع أن أساس الإيمان الديني أن يعتقد المؤمن أنه على حق، وأن مخالفه على باطل، ولا مجاملة في هذه الحقيقة.»٣٣
يقوم الخطاب الديني مثلًا بافتراض أن الإسلام قد تم عزله وإقصاؤه عن حركة الواقع، ثم يقوم — انطلاقًا من هذه الفرضية التي يحولها إلى حقيقة لا تحتمل الشك — بتفسير كل مشكلات الواقع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية، ويرى في العودة إلى الإسلام والاحتكام إلى الشريعة حلًّا لكل تلك المشكلات. هكذا تبدو هذه القضية بديهية في الخطاب الديني، الذي لا ينشغل بطرح أي تساؤل عن: لماذا، وكيف، ومتى تم إقصاء الإسلام عن واقع المجتمعات الإسلامية، أو التي كانت كذلك، مع أنها تساؤلات جوهرية تمثل لب المشكل. ودون مواجهة هذه التساؤلات، ومحاولة الإجابة عنها بطريقة علمية سيظل افتراض إقصاء الإسلام عن حركة الواقع أمرًا قدريًّا، يستعصي على الفهم والتحليل، ولا يقبل التفسير. والواقع أن الأمر يبدو كذلك في الخطاب الديني، أي يبدو هذا الانفصام المفترض بين الإسلام والواقع حدثًا قدريًّا، ولعل هذا يفسر عجز الخطاب الديني عن تقديم حلول تفصيلية لمشكلات الواقع اكتفاءً برفع شعار «الإسلام هو الحل»، ويتم طرح المشكل باختصار وتبسيط شديدين: «كان بيدنا سلاح استخدمناه، مرة للانتصار، ثم ألقيناه فمضينا على طريق الهزيمة والاندثار … وعندما يُطلق سراح القرآن، سوف يُطلق سراح هذه الأمة.»٣٤
هكذا ينتقل الخطاب الديني من الافتراض، إلى توصيف الواقع، إلى اقتراح الحل في ثقة ويقين وحسم قاطع، وكأنه يطرح أولويات أو بديهيات، الخلاف حولها «كفر» أو جهل في أحسن الأحوال. وإذا كان ذلك التحليل المبسط للواقع يعكس رؤية عاجزة عن فهمه وإدراكه، فإنه يؤدي — من جانب آخر — إلى التستر على حقيقة أوضاعه ومشكلاته، وذلك بإرجاعها جميعًا إلى عامل واحد. ويعتمد الخطاب الديني بالطبع في تحليله ذاك على بعض النصوص الدينية المؤولة تأويلًا خاصًّا، مثل «لا يصلح آخر أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أمر أولها» ويظن الاستناد إلى النصوص وحدها فيه الكفاية. إن هذا الدين «صنع الأمة المسلمة أول مرة، وبه يصنع الأمة المسلمة في كل مرة يراد فيها أن يعاد إخراج الأمة المسلمة للوجود كما أخرجها الله أول مرة.»٣٥ وليس من الضروري أن يحدد الخطاب الديني — بنفس الحسم واليقين والقطع — توقيت ذلك «الانفصام» الذي وقع بين الواقع والدين، ولا أن يرصد علله وأسبابه. وإذا كان البعض يعود بهذا الفصام إلى فترة الصراع الذي وقع بين المسلمين في منتصف القرن الأول أو قبله بقليل، فإن البعض الآخر يرد ذلك إلى الضعف العام الذي أصاب البناء السياسي للإمبراطورية الإسلامية، وانتهى بالقضاء على وحدتها، والقضاء على الخلافة ذاتها.٣٦ ورغم استمرار الخلافة استمرارًا شكليًّا تحت سيطرة حكم المماليك في مصر، ثم انتقالها بعد ذلك — أو بالأحرى نقلها عَنوة، وبعد سيطرة الأتراك على مصر — إلى تركيا ذاتها، فإن الخطاب الديني يعتبر أن ما قام به كمال أتاتورك من إلغاءٍ لنظام الخلافة الشكلي كان بمثابة طرد للإسلام وقضاء على دولته.٣٧
وإذا كانت نقطة البداية — على أهميتها — غامضة، فإن البحث عن العلل والأسباب يتسم أيضًا بقدر هائل من الغموض، ويؤدي ذلك كله إلى تعميمات خطابية تتسم بالحسم واليقين والقطع. ومن الطبيعي أن يقود ذلك إلى الخلط بين الأسباب والنتائج، وعلى ذلك يتم تحميل حركة المد الاستعماري الأوروبي مسئولية تخلف العالم الإسلامي، تجاهلًا لحقيقة أن تخلف العالم الإسلامي كان أمرًا واقعًا سهل لحركة الاستعمار مهمتها في تعميق هذا التخلف وفي محاولة تأبيده. وإذا كانت مناهضة كل أشكال الاستعمار بكل الوسائل والأساليب الممكنة أمرًا لا خلاف عليه، فإن تحميل أوروبا وحدها كل المسئولية يؤدي في الخطاب الديني إلى تحويلها إلى «شيطان» يتحتم مناهضة كل ما يصدر عنه. لكن الخطاب الديني — والحق يقال — يفصل بين المنجزات المادية والمنجزات الفكرية والثقافية في الحضارة الأوروبية، فيتسامح في أخذ الجانب الأول، بل يدعو إليه ويحبذه، ويحرِّم الأخذ من الجانب الثاني، واصمًا إياه بالجاهلية والكفر: «إن اتجاهات الفلسفة بجملتها، واتجاهات علم النفس بجملتها — عدا الملاحظات والمشاهدات دون التفسيرات العامة له — ومباحث الأخلاق بجملتها، واتجاهات التفسيرات والمذاهب الاجتماعية بجملتها — فيما عدا المشاهدات والمعلومات المباشرة، لا النتائج العامة المستخلصة منها، ولا التوجيهات الكلية الناشئة عنها — إن هذه الاتجاهات كلها في الفكر الجاهلي — أي غير الإسلامي — قديمًا وحديثًا، متأثرة تأثرًا مباشرًا بتصورات اعتقادات الجاهلية، وقائمة على هذه التصورات، ومعظمها — إن لم يكن كلها — يتضمن في أصوله المنهجية عداء ظاهرًا أو خفيًّا للتصور الديني جملة، وللتصور الإسلامي على وجه خاص. إن حكاية أن الثقافة تراث إنساني لا وطن له ولا جنس ولا دين هي حكاية صحيحة عندما تتعلق بالعلوم البحتة وتطبيقاتها العلمية، دون أن تجاوز هذه المنطقة إلى التفسيرات الفلسفية الميتافيزيقية لنتائج هذه العلوم، ولا التفسيرات الفلسفية للإنسان نفسه ونشاطه وتاريخه، ولا إلى الفن والأدب والتعبيرات الشعرية جميعًا. ولكنها فيما وراء ذلك إحدى مصايد اليهودية العالمية.»٣٨
وهكذا يكون على المسلم المعاصر أن يحيا بجسده في الحاضر معتمدًا في تحقيق مطالبه المادية على أوروبا، وأن يحيا بروحه وعقله وعاطفته في الماضي مستندًا إلى تراثه الديني. ويتم تكريس هذا الوضع المتردي لواقع المجتمعات الإسلامية باسم الإسلام ذاته؛ وذلك أن الخطاب الديني لا يطرح أفكاره تلك بوصفها اجتهادات، وإنما يجزم أن أطروحاته هي الإسلام. «إن الإسلام يتسامح في أن يتلقى المسلم عن غير المسلم، أو عن غير التقيِّ من المسلمين، في علم الكيمياء البحتة أو الطبيعة أو الفلك أو الطب أو الصناعة أو الزراعة أو الأعمال الإدارية والكتابية وأمثالها … ولكنه لا يتسامح في أن يتلقى أصول عقيدته ولا مقدمات تصوره ولا تفسير قرآنه وحديثه وسيرة نبيه، ولا منهج تاريخه وتفسير نشاطه، ولا مذهب مجتمعه، ولا نظام حكمه ولا منهج سياسته، ولا موجبات فنه وأدبه وتعبيره … إلخ من مصادر غير إسلامية، ولا أن يتلقى من غير مسلم يثق في دينه وتقواه في شيء من هذا كله.»٣٩ وإذا كان كل ما هو مادي لا جنس له ولا وطن، فإن كل ما سوى ذلك يدخل مباشرة في مجال العقائد والتصورات التي يجب أن تؤخذ عن الله «هذا هو الإسلام … هذا هو وحده» «وكما أن الله لا يغفر أن يشرك به، فكذلك هو لا يقبل منهجًا مع منهجه. هذه كتلك سواء بسواء لأن هذه تلك على وجه اليقين.»٤٠ ولا غرابة بعد هذا كله أن نجد هذه الأطروحات كلها في خطاب الشباب مطروحة بالدرجة نفسها من اليقين والحسم والقطع. وهذا واضح في البيان الذي أصدرته حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين المحتلة، يهمنا منه هنا هذه الفقرة الخاصة بالدولة القومية وكيف أدخلها الاستعمار الأوروبي إلى العالم الإسلامي، بعد أن خلق لنفسه أعوانًا من أبناء العالم الإسلامي ذاته.
يقول البيان محمِّلًا جرم الدولة القومية على عاتق أوروبا، وخالطًا بين الأسباب والنتائج في تحليل الواقع: «إن انحدار القوة المدنية العسكرية وجمود الفكر في العالم الإسلامي الذي بدأ بعد القرن السابع عشر الميلادي، وإن كان يعود لأسباب كثيرة تراكمت منذ القرون الهجرية الأولى، هذا الانحدار قابلته الحيوية المتصاعدة لأوروبا، ثم تبلور المشروع الاستعماري الغربي. وفي حين اخترق الاستعمار معظم أنحاء العالم بسهولة نسبية إلا أن الجدار الإسلامي، رغم تراكم الضعف، كان لا يزال صُلبًا قويًّا قادرًا على المقاومة لأكثر من قرنين كاملين. ومع تزايد الخلل في ميزان القوى كان لهذا الجدار أن ينهار، إلا أن انهياره لم يتم إلا عبر عملية غاية في التعقيد والشمول. لقد نجح المشروع الاستعماري أولًا في استلاب قطاع واسع من نخبة العالم الإسلامي لصالح مرجعيته الثقافية، ثم نجح ثانيًا في تمزيق العالم الإسلامي بالقوة، قوة السلاح والجند والاحتلال الدموي، من معارك ساحل عُمان إلى ليبيا ومصر وإلى الحرب الأولى، ثم نجح ثالثًا في زراعة الكِيان الصِّهيوني في قلب العرب والإسلام كضمان لديمومة التجزئة والتبعية والإلحاق والهيمنة.»٤١ تبدو الحركة القومية في هذا الخطاب مؤامرة أوروبية لتمزيق وحدة العالم الإسلامي، وهذه مقدمة — تُطرح بوصفها بديهية — لرفض إعلان الدولة الفلسطينية الذي صدر مؤخرًا عن المجلس الوطني الفلسطيني.
وهذه المقدمة البديهية تنبني في الخطاب الديني العام على أساس أن القومية مقولة علمانية تناقض العقيدة والدين، وأن أواصر «الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح المشتركة» عوائق حيوانية سخيفة، وأن الحضارة الإسلامية لم تكن يومًا ما «عربية إنما كانت دائمًا إسلامية، ولم تكن يومًا قومية إنما كانت عقيدية.»٤٢ وبمثل هذا التحليل، وبنفس لهجة اليقين والحسم والقطع يفسر الخطاب الديني الواقع الدولي الراهن ويرد مشكلات البشرية إلى مخالفة الفطرة والابتعاد عن منهج الله: «لم يكن بدٌّ وقد شرد الإنسان عن ربه ومنهجه وهداه … لم يكن بد وقد رفض الإنسان تكريم ربه له، فاعتبر نفسه حيوانًا … وجعل نفسه آلة … بل جعل الآلة إلهًا يحكم فيه بما يريد … وجعل الاقتصاد إلهًا يحكم فيه بما يريد … لم يكن بد وقد جعل الإنسان من المرأة حيوانًا لطيفًا — كما أن الرجل حيوان خشن — غاية الالتقاء بينهما اللذة، وغاية الاتصال بينهما المتاع … لم يكن بد وقد عطَّل الإنسان خصائصه الإنسانية ليحصر طاقته في الإنتاج المادي … لم يكن بد وقد أقام الإنسان نظامه على الربا … وفي النهاية لم يكن بد وقد اتخذ الإنسان له آلهة من دون الله، فاتخذ من المال إلهًا، ومن المشرعين إلهًا، ومن المادة إلهًا، ومن الإنتاج إلهًا، ومن الأرض إلهًا، ومن الجنس إلهًا، ومن الهوى إلهًا، ومن المشرعين آلهةً يغتصبون اختصاص الله في التشريع والعبادة، فيغتصبون بذلك حق الألوهية على عباد الله … لم يكن بد وقد فعل الإنسان هذا كله بنفسه أن تحل به عقوبة الفطرة، وأن يؤدي ضريبة المخالفة عن ندائها العميق، وأن يؤديها فادحةً قاصمةً مدمِّرة. وقد كان — … … — وكُتب على البشرية كلها أن تؤدي الضريبة فادحةً صارمةً ثقيلة: حروبًا رهيبة ضحاياها بالملايين قتلى وجرحى ومشوهون ومعتوهون ومعذبون وأزمات تِلو أزمات.»٤٣ بمثل هذا الحسم واليقين والقطع تُطرح المشكلات وتُقترح الحلول، ولا مجال بعد ذلك للخلاف إلا إذا كان في الجزئيات والتفاصيل، والأخطر من ذلك أن يتم تقديم هذا كله على أنه «الإسلام» الحقيقي.

إهدار البعد التاريخي

تبدو هذه الآلية واضحة وضوحًا ساطعًا في كل جوانب الخطاب الديني، فضلًا عن منطلقاته الأساسية. تبدو واضحة كما سبقت الإشارة في وهم التطابق بين المعنى الإنساني — الاجتهاد الفكري — الآني، وبين النصوص الأصلية والتي تنتمي من حيث لغتها على الأقل إلى الماضي. وهو وهم يؤدي إلى مشكلات خطيرة على المستوى العقيدي، لا ينتبه لها الخطاب الديني. يؤدي التوحيد بين الفكر والدين إلى التوحيد مباشرة بين الإنساني والإلهي، وإضفاء قداسة على الإنساني والزماني، ولعل هذا يفسر لنا تردد كثير من الكُتاب في تخطئة كثير من آراء علماء الدين، بل والتستر أحيانًا على هذه الآراء وتبريرها.٤٤ وإذا كنا في مجال تحليل النصوص الأدبية — وهي نتاج عقل بشري مثلنا — لا نزعم تطابق التفسير مع النص أو مع قصد كاتبه، فإن الخطاب الديني لا يكتفي بإهدار البعد التاريخي الذي يفصله عن زمان النص، بل يزعم لنفسه قدرة على الوصول إلى القصد الإلهي.

وبالدرجة نفسها من الوضوح يبدو إهدار البعد التاريخي في تصور التطابق بين مشكلات الحاضر وهمومه وبين مشكلات الماضي وهمومه، وافتراض إمكانية صلاحية حلول الماضي للتطبيق على الحاضر. ويكون الاستناد إلى سلطة السلف والتراث، واعتماد نصوصهم بوصفها نصوصًا أولية تتمتع بذات قداسة النصوص الأولية، تكثيفًا لآلية إهدار البعد التاريخي، وكلتا الآليتين تساهم في تعميق اغتراب الإنسان والتستر على مشكلات الواقع الفعلية في الخطاب الديني. ومن هذه الزاوية نلمح التفاعل بين هذه الآلية والآلية الثانية: «رد الظواهر إلى مبدأ واحد»، خاصة فيما يرتبط بتفسير الظواهر الاجتماعية. إن رد كل أزمة من أزمات الواقع في المجتمعات الإسلامية — بل وكل أزمات البشرية — إلى «البعد عن منهج الله» هو في الحقيقة عجز عن التعامل مع الحقائق التاريخية، وإلقاؤها في دائرة المطلق والغيبي. والنتيجة الحتمية لمثل هذا المنهج تأبيد الواقع وتعميق اغتراب الإنسان فيه. والوقوف جنبًا إلى جنب مع التخلف ضد كل قوى التقدم، تناقضًا مع ظاهر الخطاب الذي يبدو ساعيًا للإصلاح والتغيير، مناديًا بالتقدم والتطوير.

ولعله يكفينا هنا الكشف عن توظيف هذه الآلية في استخدام الخطاب الديني لمصطلح «الجاهلية»، ما دمنا سنعاود الكشف عن توظيفها — وتوظيف غيرها من الآليات — في سياق تحليلنا للمنطلقات الفكرية. ومن البداية لا يجب الخلط بين الجهل، بمعنى انعدام العلم والمعرفة في لغتنا المعاصرة، وبين الجهل المناقض للحلم في اللغة العربية قبل الإسلام.

الجهل في لغة ما قبل الإسلام يعني الخضوع لسطوة الانفعال، والاستسلام لقوة العاطفة، دون الاحتكام إلى رزانة العقل وقوة المنطق، وهكذا نفهم افتخار بعض شعراء هذا العصر بالقدرة على مقابلة الجهل بهذا المعنى بمثله، وذلك كقول بعضهم:

ألَا لا يَجهلَنْ أحدٌ علينا
فنَجهلَ فوق جهل الجاهلينا

وقول الآخر:

أحلامُنا تزِن الجبال رزانةً
وتَخالُنا جِنًّا إذا ما نَجهلُ

فالجهل هنا ينصبُّ على السلوك المنافي للعقل والمنطق، وهو — كما يُفهم من سياق الاستخدام في شعر ما قبل الإسلام — العدوان الذي لا سبب له ولا مبرر من جهة العقل والمنطق. إنه في التأويل الاجتماعي للغة الاستناد إلى مبدأ القوة والقهر في العَلاقات بين القبائل من جهة وبين الأفراد والجماعات (بطون القبيلة) داخل القبيلة من جهة أخرى. إنه المبدأ الذي صاغه زُهَير بن أبي سُلمى الشاعر في قوله:

ومن لم يذُد عن حوضه بسلاحه
يُهَدَّم، ومن لا يظلم الناسَ يُظلم

ولا شك أن العَلاقات الاجتماعية القائمة على الظلم/الجهل كانت من أهم أسباب التخلف العام في ذلك الواقع، وكان من أخطر ما جاء به الإسلام لتطوير هذا الواقع مبدأ الاحتكام إلى «العقل» ونفي الظلم والجهل. ويمكن استنادًا إلى هذه الحقيقة فهم كل ما جاءت به النصوص الدينية الأولية من تنديد ﺑ «حكم الجاهلية» بوصفه دعوة لتحكيم العقل والمنطق، وهو فهم يتعارض تعارضًا جذريًّا مع فهم الخطاب الديني. إن النصوص تخاطب في الأصل والأساس واقعًا تاريخيًّا محددًا، تتحدد من خلاله — وعبر لغته بكل اجتماعيتها — دلالتها، لكن هذه الدلالة قابلة دائمًا للانفتاح والاتساع شريطة عدم الإخلال أو التناقض، مع الدلالة الأصلية. وهكذا نجد بين المعنى التاريخي لمصطلح «الجاهلية» وبين معنى «الجهل» في استخدامنا المعاصر وشائج، فعدم العلم وانتفاء المعرفة ركيزة أساسية للخضوع لسطوة الانفعال والاستسلام لقوة العاطفة، أو لنقُل ﻟ «التعصب».

تحولت كلمة «الجاهلية» في لغة ما بعد الإسلام لتكون مصطلحًا دالًّا على مرحلة تاريخية في تطور المجتمع العربي، هي مرحلة ما قبل الإسلام. وإذا كان الإسلام يمثل الموقف النقيض فمعنى ذلك أنه يمثل جوهريًّا موقف الاحتكام إلى العقل والمنطق حتى في فهم نصوصه ذاتها. لكن الخطاب الديني — مستخدمًا آلية إهدار البعد التاريخي — يرفض كل ذلك في سبيل أيديولوجيته الخاصة، فالجاهلية طبقًا لتعريفه هي الاعتداء على سلطان الله والاحتكام إلى العقل: «هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخص هي خصائص الألوهية وهي الحاكمية، إنها تُسند الحاكمية إلى البشر … في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع بمعزل عن منهج الله للحياة.»٤٥ وبناءً على هذا التعريف لا يعبِّر المصطلح عن مرحلة تاريخية انقضت ومضت، ولكنه يعبِّر عن حالة أو موقف فكري قابل للتَّكرار «كلما انحرف المجتمع عن نهج الإسلام في الماضي والحاضر والمستقبل على السواء.»٤٦ وهذا التعريف، فيما يزعم الخطاب الديني، هو التعريف الموضوعي، وفي إطاره تدخل «جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلًا.»٤٧ ولا يُستثنى من ذلك المجتمعات الإسلامية، أو التي تُسمى كذلك «فهي — وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله — تعطي أخص خصائص الألوهية لغير الله، فتَدين بحاكمية غير الله.»٤٨
الجاهلية إذن نقيض الحاكمية، وهي الخضوع لحكم البشر في مقابل الخضوع لحكم الله. ورغم أن الحاكمية تعني في التحليل النهائي الاحتكام إلى النصوص الدينية، فإن هذه النصوص لا تستغني عن البشر في فهمها وتأويلها، أي إنها لا تفصح بذاتها عن معناها ودلالتها، إنما ينطق بها الرجال كما قال الإمام علي بن أبي طالب، وطبقًا للخطاب الديني — كما سبقت الإشارة — فالسلطة الوحيدة القادرة على القيام بهذه المهمة بموضوعية مطلقة — بعيدًا عن الأهواء والتحيزات الأيديولوجية — هي السلطة التي يمثلها رجال الدين، وهم ليسوا في النهاية سوى بشر لهم تحيزاتهم وأهواؤهم الأيديولوجية. لكن الخطاب الديني يجفُل من هذه النتيجة المنطقية، ولا نقول الاستنتاج، ويلجأ إلى التعمية الأيديولوجية التي تحل هذا التناقض، يقول: «ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم — هم رجال الدين — كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يعرف باسم الثيوقراطية أو الحكم الإلهي المقدس، ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبيِّنة.»٤٩
ولا يقف إهدار البعد التاريخي وتجاهله عند وهم التطابق بين الماضي والحاضر، بل يتجاوز ذلك إلى فهم حركة الإسلام في مرحلة النشأة في واقع المجتمع العربي. ولا نريد أن ندخل هنا في تحليل جدلية العَلاقة بين الإسلام والواقع منذ اللحظة الأولى لنزول الوحي، فالخطاب الديني يبدو مدركًا لبعض أبعاد هذه العَلاقة حين يريد إثبات واقعية الإسلام، أو مراعاته التدرج في الإصلاح والتغيير. ولكنه يتجاهل كل ذلك حين يتحدث عن عَلاقة المسلمين الأوائل بواقع مجتمعهم، فيتطابق تصوره للمسلمين في عصر الوحي مع تلك الصورة «الفانتازية» التي تعرضها المسلسلات الدينية التلفزيونية، حيث يتمايزون عن معاصريهم في كل شيء تقريبًا، في الأزياء والحركات والإيماءات وفي كثير من خصائص لغتهم وطريقة نطقهم لها. إن الإسلام فيما يتصور الخطاب الديني خلع عن المسلم كل ما يربطه بواقعه «لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية. كان يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى الإسلام أنه يبدأ عهدًا جديدًا، منفصلًا كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية … كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه، تنشأ عنها عزلة كاملة في صِلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية، فهو قد انفصل نهائيًّا عن بيئته الجاهلية، واتصل نهائيًّا ببيئته الإسلامية، حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي، فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر.»٥٠
ومن الطبيعي في مثل هذا التصور أن يرتبط بالدعوة إلى الانفصال عن الواقع واعتزاله والاستعلاء عليه، «ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع ولا أن نَدين له بالولاء، فهو بهذه الصفة — صفة الجاهلية — غير قابل لأن نتصالح معه. إن مهمتنا أن نغير من أنفسنا أولًا لنغير هذا المجتمع أخيرًا … إن أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته، وألا نعتزل نحن عن قيمنا وتصوراتنا قليلًا أو كثيرًا لنلتقي معه في منتصف الطريق. كلا إننا وإياه على مَفرِق الطريق، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق.»٥١ من هذا النبع يَمتَح خطاب الجماعات الإسلامية، ويتشكل سلوك أفرادها، وهكذا يعيش المسلم — بفعل هذا الخطاب — خارج التاريخ. وكما أن المسلم يستحيل أن يتصالح مع واقعه إلا بعد تغييره، كذلك الإسلام يستحيل أن يتصالح مع أي نمط من أنماط الفكر، أو أي تصور من التصورات الوضعية أيا كان، «فنظرة الإسلام واضحة في أن الحق لا يتعدد، وأن ما عدا هذا فهو الضلال، وهما غير قابلَين للتلبس والامتزاج، وأنه إما حكم الله وإما حكم الجاهلية … لم يجئ الإسلام إذن ليربت على شهوات الناس الممثلة في تصوراتهم وأنظمتهم وأوضاعهم وعاداتهم وتقاليدهم سواء منها ما عاصر الإسلام، أو ما تخوض البشرية فيه الآن، في الشرق أو الغرب سواء. إنما جاء ليُلغيَ هذا كلَّه، وينسخَه نسخًا، ويقيم الحياة البشرية على أسسه.»٥٢ وهكذا تتبدد واقعية الإسلام كما يطرحها الخطاب الديني ذاته، ناهيك بالعَلاقة الجدلية التي يكشف عنها التاريخ بين الإسلام والواقع منذ اللحظة الأولى لنزول الوحي. وينتهي الخطاب الديني بعزل الإسلام عن الواقع والتاريخ معًا، مع أن الوحي — ومن ثَم الإسلام — واقعة تاريخية.

ثانيًا: المنطلقات الفكرية

الحاكمية

كانت دعوة الإسلام في جوهرها دعوة لتأسيس العقل في مجال الفكر، والعدل في مجال السلوك الاجتماعي، وذلك بوصفهما نقيضين للجهل والظلم، وهما ركيزتا الواقع في المجتمع العربي الذي خاطبه الوحي أولًا، كما سبقت الإشارة. وقد ظل الخطاب الديني في تاريخ الثقافة الإسلامية — بتياراته واتجاهاته المختلفة — حريصًا على نفي أي تعارض يمكن أن ينشأ — بحكم حركة الواقع المستمر وثبات النصوص — بين الوحي والعقل. واتفق الجميع تقريبًا على أن النقل إنما يثبُت بالعقل، والعكس ليس صحيحًا، العقل هو الأساس في تقبل الوحي، ثم كان الخلاف فيما بعد ذلك: هل يستقيل العقل بعد أن قام بدوره في إثبات النقل، أم يظل يمارس فاعليته في فهم النصوص وتأويلها، لكن هذا الخلاف ظل خلافًا نظريًّا واستمر الخطاب الديني يحرص على إثبات «موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول» كما عنون ابن تيميَّة أحد كتبه الهامة، وهو الفقيه السني الأصولي المحافظ. وقد ساهم علماء أصول الدين والفقه في تأسيس مجموعة من المبادئ المهمة — كالقياس ومراعاة المقاصد والمصالح المرسلة — في مجال فعَّالية العقل الإنساني في فهم النصوص وتأويلها، وظلت الثقافة العربية الإسلامية حية نشطة إذا ما ظل تأسيس العقل شاغلها الأساسي، وما دامت قائمة على «التعددية» و«حرية الفكر»، وهو ما لم يستمر طويلًا بحكم عوامل اجتماعية سياسية سنشير إلى بعضها في سياق تحليلنا.

وتعود أولى محاولات إلغاء العقل لحساب النص إلى حادثة رفع المصاحف على أسنة السيوف، والدعاء إلى «تحكيم كتاب الله» من جانب الأُمويين في موقعة «صفين»، ولا خلاف على أنها «حيلة» أيديولوجية استطاعت أن تخترق باسم النص صفوف قوات الخصوم وأن توقع بينهم خلافًا أنهى الصراع لصالح الأُمويين. إن حيلة التحكيم تكشف عن محتواها الأيديولوجي حين ندرك أنها نقلت الصراع من مجاله الخاص السياسي الاجتماعي إلى مجال آخر هو مجال الدين والنصوص. وقد أدرك الإمام علي ذلك وكان قوله لرجاله: «عبادَ الله امضوا على حقكم وصدقكم قتالَ عدوكم، فإن معاوية وعمرو بن العاص (وذكر أسماءً أخرى)، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن. أنا أعرَف بهم منكم، قد صحبْتُهم أطفالًا، وصحبتهم رجالًا، فكانوا شرَّ أطفالٍ وشر الرجال، ويْحَكُم إنهم ما رفعوها لكم إلا خديعة ودَهْنًا ومكيدة.»٥٣ وحين يتحول الصراع الاجتماعي السياسي من مجال الواقع إلى مجال النصوص، يتحول العقل إلى تابع للنص، وتتحدد كل مهمته في استثمار النص لتبرير الواقع أيديولوجيًّا، وينتهي ذلك إلى تأبيد هذا الواقع من جانب مفكري السلطة والمعارضة على السواء، إذا ما تحول الصراع إلى جدل ديني حول تأويل النصوص. وبالإضافة إلى ذلك يؤدي تحكيم النصوص، في مجال الصراع الاجتماعي والسياسي إلى «الشمولية» في فعَّالية النصوص، حتى وصلت إلى حد الهيمنة في الخطاب الديني المتأخر، كما يبدو في مبدأ «الحاكمية» في الخطاب الديني المعاصر.
وإذا كان مبدأ تحكيم النصوص يؤدي إلى القضاء على استقلال العقل بتحويله إلى تابع يقتات بالنصوص ويلوذ بها ويحتمي، فإن هذا ما حدث في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، بشكل تدريجي حتى تم القضاء على الاعتزال بعد عصر المأمون، وتم بالمثل حصار العقل الفلسفي في دوائر ضيقة، ثم جاء أبو حامد الغزالي ووجه للعقل الضربة القاضية. وليس من الغريب أن يكون العصر الذي شهد خطاب الغزالي وأنصت إليه هو عصر الانهيار السياسي والتفكك الاجتماعي وسيطرة «العسكر» على شئون الدولة، وهو العصر الذي انتهى بسقوط بغداد والقضاء على الشكل الرمزي الأخير للدولة الإسلامية.
كانت ضربة الغزالي للعقل، كما سبقت الإشارة، من زاوية تفكيك العَلاقة بين الأسباب والنتائج، أو بين العلل ومعلولاتها، وانتهى الأمر إلى حد استعداء السلاطين من جانب الفقهاء — بعد حوالي قرن من وفاة الغزالي — على كل من يتعاطى الفلسفة تعلُّمًا أو تعليمًا، لأن الفلسفة «أُس السفَه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة. ومن تفلسف عميت عينه عن محاسن الشريعة المطهرة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعليمًا وتعلمًا قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان … فالواجب على السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم، ويخرجَهم عن المدارس ويبعدَهم، ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويَعرضَ مَن ظهر منه اعتقادُ عقائد الفلاسفة على السيف أو الإسلام، لتخمُد نارهم، وتُمحى آثاره وآثارهم.»٥٤

وهكذا ينتهي الخطاب السلفي إلى التعارض مع الإسلام حين يتعارض مع أهم أساسياته «العقل»، ويتصور أنه بذلك يؤسس «النقل»، والواقع أنه ينفيه بنفي أساسه المعرفي. إن العودة إلى الإسلام لا تتم إلا بإعادة تأسيس العقل في الفكر والثقافة، وذلك على خلاف ما يدعو إليه الخطاب الديني المعاصر من تحكيم النصوص، مرددًا أصداء نداء أسلافه الأُمويين الذي أدى إلى نتائجه المنطقية في الواقع الإسلامي.

وإذا كانت النهضة الأوروبية الحديثة قامت على أساس تحرير العقل من سلطة الاحتكام إلى النصوص التي تحتكر الكنيسة تأويلها وفهمها، فقد كان من الطبيعي أن تجد في عقلانية الثقافة الإسلامية — وهي العقلانية التي حوصرت حتى تم القضاء عليها — سندًا لتوجهاتها. ولعل هذا يفسر لنا أن مفهوم «الجاهلية» في الخطاب الديني المعاصر يمتد ليشمل كل اتجاهات التفكير العقلي في الثقافة العربية الإسلامية أو في ثقافة أوروبا على السواء. وقد مر بنا كثير من الاستشهادات التي تهاجم الشيطان الأوروبي، وترى في كل نتاج الفكر الإسلامي بعد عصر الوحي «النبع الصافي» انحرافًا عن الإسلام. وإذا كان أبو الأعلى المودودي — أحد مصادر قطب الهامة — يجمع «الجاهلية» في ثلاثة اتجاهات: هي الإلحاد، والشرك، أو الوثنية بكافة أشكالها القديمة والحديثة، والنزعة الصوفية العرفانية، فإنه يرى أن هذه الاتجاهات الثلاثة قد تسللت إلى الواقع الإسلامي — متسترة بعباءة الإسلام — بعد الخلفاء الراشدين مباشرة، وبدأت تبث سمومها في ثقافته. وانتهى الأمر — فيما يرى المودودي — «إلى تدفق خليط من الفلسفة والأدب والعلوم من اليونان والإيرانيين والهنود في التربة الإسلامية. وبذلك بدأ الخلاف النظري بين المسلمين، بدأت عقائد المعتزلة والنزعات الشكية والإلحادية، وقبل ذلك أو على رأسه بدأ الاتجاه إلى الفرقة والخلاف في مجال العقائد، وأدى إلى وجود فرق واتجاهات جديدة، وبالإضافة إلى ذلك وَجدت فنون الرقص والموسيقى والرسم — وهي فنون غير إسلامية — تشجيعًا من أولئك الذين كان محرمًا عليهم أن يقترفوا هذه الفنون (القبيحة).»٥٥
هذا الهجوم على التفكير العقلي ورفض الخلاف والتعددية، قديمًا وحديثًا، يمثل أساسًا من الأسس التي يقوم عليها مفهوم «الحاكمية»، والأساس الثاني، والأخطر، هو وضع «الإنساني» مقابل «الإلهي»، والمقارنة الدائمة بين المنهج الإلهي ومناهج البشر. ومن الطبيعي أن تؤدي المقارنة إلى عدمية الجهود الإنسانية: «إن تجارِب البشر كلَّها تدور في حلقة مفرغة وداخل هذه الحلقة لا تتعداها — حلقة التصور البشري والتجرِبة البشرية والخبرة البشرية المشوبة بالجهل والنقص والضعف والهوى — في حين يحتاج الخلاص إلى الخروج من هذه الحلقة المفرغة، وبدء تجرِبة أصيلة، تقوم على قاعدة مختلفة كل الاختلاف: قاعدة المنهج الرباني الصادر من علم (بدل الجهل)، وكمال (بدل النقص)، وقدرة (بدل الضعف)، وحكمة (بدل الهوى) … القائم على أساس: إخراج البشر من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده دون سواه.»٥٦ ومثل هذا الفصل الكامل بين الإلهي والإنساني يتجاهل حقيقة هامة ثابتة في طبيعة الوحي الإلهي ذاته بوصفه «تنزيلًا»، أي بوصفه حلقة وصل وخطابًا يتواصل به الإلهي والإنساني، وبعبارة أخرى: إذا كان الخطاب الإلهي — المتضمن لمنهجه — يتوسل بلغة الإنسان «تنزيلا» مع كل علمه وكماله وقدرته وحكمته، فإن العقل الإنساني يتواصل مع الخطاب الإلهي «تأويلًا» بكل جهله ونقصه وضعفه وأهوائه. لكن الخطاب الديني يتجاهل هذه الحقيقة الكبرى، ويمضي — مقتفيًا خطى سلفه الأشعري، ومكرسًا أيديولوجية مشابهة — في نفي الإنسان وتغريبه في الواقع، مفسحًا المجال لتحكم سلطوي من طراز خاص.
ولكي تتعمق الهوة بين الإلهي والإنساني تتم إعادة صياغة المفاهيم الدينية، بإعادة تأويلها، لتصب في أيديولوجية «الحاكمية»، خاصة مفاهيم «العبادة» و«الإله» و«الرب» و«الدين»، وهي المفاهيم التي أفرد لها المودودي رسالة مستقلة، طُبعت طبعات عديدة في عديد من البلاد الإسلامية، كما أنها تُعَد بمثابة «مانيفستو» بالنسبة لكثير من الجماعات الإسلامية.٥٧ ويكاد قطب أن يكون شارحًا لأفكار المودودي ومفسِّرًا لها، ويكفينا هنا الوقوف عند شرحه لمفهوم «الألوهية» بوصفه المفهوم المركزي الذي تتمحور عليه المفاهيم الثلاثة الأخرى. يعتبر قطب أن أهم خصائص الألوهية — بل أولى هذه الخصائص — «الحاكمية» أو «حق الحاكمية المطلقة، الذي ينشأ عنه حق التشريع للعباد، وحق وضع المناهج لحياتهم، وحق وضع القيم التي تقوم عليها هذه الحياة … وكل من ادعى لنفسه حق وضع منهج لحياة جماعة من الناس، فقد ادعى حق الألوهية عليهم، بادعائه أكبر خصائص الألوهية، وكل من أقره منهم على هذا الادعاء فقد اتخذه إلهًا من دون الله، بالاعتراف له بأكبر خصائص الألوهية.»٥٨ والمنهج الإسلامي على ذلك هو المنهج الذي «يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية — متمثلة في الحاكمية — وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية.»٥٩ وعدم الخضوع للحاكمية بوصفها أكبر خصائص الألوهية يعني التمرد على عبودية الإنسان لله، ولكنه تمرد يفضي به إلى الوقوع في عبودية البشر، وهي العبودية الكبرى في نظر الإسلام فيما يرى قطب، موحدًا بذلك بين تأويله — وتأويل المودودي — وبين الإسلام.٦٠ إن الإسلام جاء في نظر الخطاب الديني ليحرر الإنسان، لكن فهم هذا الخطاب للتحرر الذي جاء به الإسلام يتم اختزاله في نقل مجال الحاكمية من العقل البشري إلى الوحي الإلهي: «إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض، الحكم فيه للبشر بصورة من الصور، أو بتعبير مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور، ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر ومصدر السلطات فيه هم البشر هو تأليه للبشر يجعل بعضهم لبعض أربابًا من دون الله.»٦١

وإذا كان المنهج يرتد في النهاية إلى فهم البشر للوحي وتأويلهم له — كما سبقت الإشارة مرارًا — فإن مفهوم الخطاب الديني للتحرر الذي جاء به الإسلام للإنسان يتبدد كاشفًا الغطاء الأيديولوجي لمفهوم الحاكمية، بكل ما يحايثه من إلغاء لفاعلية العقل وتسليم الإنسان — مقيَّدًا — إلى تحكم سلطوي من نمط خاص. لقد جاء الإسلام بعقيدة التوحيد تحريرًا للعقل البشري من سلطة الأوهام والأساطير، وتأسيسًا لحريته في ممارسة فعَّاليته في الفكر والواقع الطبيعي والاجتماعي على السواء، هذا بالإضافة إلى مخاطبة هذه العقيدة — التوحيد — للواقع الاجتماعي ومساهمتها في إعادة صياغة العَلاقات بين قبائله المتصارعة، وتأسيس عَلاقات جديدة جوهرها العدل والمساواة. لكن الخطاب الديني يختزل هذه الحقيقة، ويؤول منطوقها.

ويُسنِد هذا التأويل المختزل إلى العربي المعاصر للوحي: «لا إله إلا الله كما يدركها العربي العارف بمدلول لغته: لا حاكمية إلا لله، ولا شريعة إلا من الله، لا سلطان لأحد على أحد، لأن السلطان كله لله.»٦٢ إن هذا التوحيد بين الألوهية والحاكمية الشاملة المطلقة في كل شئون الواقع والحياة ينتهي إلى اختزال الإنسان في بُعد «العبودية». ويعتقد الخطاب الديني أن التأكيد على هذا البُعد وحده في مسألة عَلاقة الإنسان بالله هو قمة التحرر التي يمنحها الإسلام للإنسان. والحقيقة أن التركيز على هذا البُعد له مردوده الخطير على مستوى عَلاقات الأفراد في المؤسسات الاجتماعية المختلفة من جهة، وفي عَلاقتهم بممثلي السلطة — أية سلطة على أي مستوًى — من جهة أخرى. ويعتمد الخطاب الديني في تكريسه لعبودية الإنسان على سلطة النصوص الدينية الكثيرة بالطبع دون إدراك أن للنصوص جميعًا — ومنها الدينية — تاريخيَّتَها التي لا تتناقض مع الإيمان بمصدرها الإلهي، فالوحي — كما سبقت الإشارة — واقعة تاريخية، لا مجال لانتزاع لغته من سياق بعدها الاجتماعي، ولأننا سنناقش في الفقرة التالية — بتفصيلٍ كافٍ — معضلة النص في الخطاب الديني، فعلينا أن نمضي في هذه الفقرة في تحليل ما يرتبط بمفهوم الحاكمية، ولم يبق أمامنا إلا البحث عن الأسباب الحقيقية لسيطرته على الخطاب الديني بدءًا من فترة الستينيات من جهة، والكشف عن مردوده في الواقع الاجتماعي السياسي والثقافي الفكري من جهة أخرى.
بدأ الخطاب الديني التركيز على مفهوم الحاكمية من خلال كتابات سيد قطب مفكر جماعة الإخوان المسلمين، خاصة في فترة الستينيات، وبعد الصدام الكبير الذي وقع بينها وبين السلطة السياسية، ومحاكمة أعضائها، حيث تم إعدام عدد من القيادات، وحُكِم على الأعضاء بالسجن لمدد متفاوتة حسب موقعهم التنظيمي. وإذا كان الإخوان قد أنكروا — ولا يزالون ينكرون — عَلاقة التنظيم بحادث المنشية، بل يذهب كثير منهم إلى أن الحادث كان «تمثيلية» مدبرة من جانب السلطة السياسية لإيجاد مبرر للقضاء على نشاط الجماعة ومصادرة فكرها، فإن نشاط أعضاء الجماعة في الحقيقة لم يتوقف، بل تحول إلى «السرية». وكان سيد قطب من أعضاء الجماعة الذين خاضوا تجرِبة السجن، لكنه لم يتوقف عن الكتابة، ولعل هذه الفترة هي التي جعلت منه مفكر الجماعة والمعبر عن أيديولوجيتها. لذلك يميل الكثير من الدارسين إلى القول بأن التركيز على مفهوم الحاكمية في كتابات قطب بكل ما ترتب عليه من تكفير للمجتمع، ومحاكمة كل الأنظمة والأنساق الاجتماعية والسياسية والفكرية في تاريخ البشرية، يمكن تفسيره بالاضطهاد والتعذيب الذي عاني منه الإخوان، ومعهم سيد قطب، في السجون والمعتقلات. إنها إذن عقدة «الاضطهاد» هي التي جمعت بين قطب والمودودي، وجعلت الأول ينقل عن الثاني.٦٣ لكن هذا الرأي في الحقيقة يقدم تبريرًا أكثر مما يقدم تفسيرًا، خاصة بعد أن كشفنا في كثير مما سبق أن مفهوم الحاكمية محايث للخطاب الديني الذي ساد تاريخ الإسلام الثقافي، وأنه من ثَم كامن في بنية هذا الخطاب، يتجلى حينًا ويتخفى حينًا آخر. إن عقدة الاضطهاد قد تصلح لتفسير الظواهر السلوكية عند بعض الشباب الذي حمل أفكار قطب، وتشرَّبها داخل السجون، وخرج بعد ذلك يحولها إلى واقع ولو بالاستشهاد. وإذا جاز لعقدة الاضطهاد أن تفسر تجلِّيَ المفهوم في خطاب قطب، فإنها لا تفسره في المصدر الذي اعتمد عليه قطب: خطاب المودودي، ويظل السؤال معلقًا ينتظر الإجابة.

•••

ولعله من المفيد في محاولة الإجابة عن السؤال أن نرصد بعض ملامح التغير في خطاب قطب قبل انضمامه لجماعة الإخوان وبعد انضمامه لها. والقارئ لكتابَي «معركة الإسلام والرأسمالية» (١٩٥٠م)، و«العدالة الاجتماعية في الإسلام» (١٩٥١م) يدرك مدى انشغال الكاتب بقضايا الواقع الملحة، ومحاولته البحث عن حلول لها في الإسلام. لكنه أيضًا — القارئ — يستطيع بسهولة أن يجد في الكتابين نفسيهما الأصول العامة التي سيطرت على خطاب قطب بعد ذلك: مثل وضع النظام الإسلامي في عَلاقة تعارض تام مع الثقافة الغربية، ومثل نعي الانفصام الذي وقع في الغرب بين الكنيسة والعلم، والهجوم على ممثلي الدعوة إلى التحرير الفكري والعقلي، خاصة سلامة موسى وطه حسين. لكن الأهم من ذلك أنه يرفض التراث الفلسفي العقلي في الثقافة الإسلامية، على أساس أن للإسلام فلسفته الأصلية الكامنة في أصوله النظرية والقرآن والحديث، وفي سيرة رسوله وسنَّته العملية. أما فلسفة ابن سينا وابن رشد وأمثالهما ممن يُطلَق عليهم فلاسفة الإسلام فليست سوى ظلال للفلسفة الإغريقية لا عَلاقة لها حقيقة بفلسفة الإسلام. وحينما يقارن بين علماء الأصول والمذاهب الفقهية من حيث موقف كل منها من إشكالية النص وعَلاقته بالمصالح المرسلة نجده يقف مع المالكية لأنهم يجمعون بين المصلحة والنص، ويرفض اجتهاد الطوفي لتقديمه المصالح المرسلة على النص، كما يرفض موقف الشافعية الذين لا يعتدُّونها، لكن هذا الموقف «المعتدل» من عَلاقة النص والواقع سيتراجع عنه قطب بعد ذلك لحساب مبدأ أثير — سنناقشه فيما بعد — لدى الخطاب الديني المعاصر بشكل عام هو مبدأ «لا اجتهاد مع النص».٦٤
إذا كانت تلك هي الثوابت في خطاب قطب، فإن متغيراته تتحدد في الإلحاح على القضايا الساخنة في الواقع والتي كانت شاغل كثير من القوى السياسية والاجتماعية، بل كانت شاغل الخطاب المصري والعربي على مستوى الفكر والأدب، ناهيك بالخطاب السياسي. كانت هي قضايا: الاستعمار والإقطاع والظلم الاجتماعي والسياسي، وكان ثَمة وعي بالترابط بين هذه القضايا. يقول قطب: «يدرك الاستعمار أن قيام حكم إسلامي سيرد الدولة إلى العدالة في الحكم وعدالة في المال، فيقلم أظافر ديكتاتورية الحكم واستبداد المال. والاستعمار يهمه دائمًا أن لا تَحكم الشعوب نفسها، لأنه يَعز عليه حينئذٍ إخضاعها، فلا بد من طبقة ديكتاتورية حاكمة تملك سلطات استبدادية، وتملك ثروة قومية، هذه الطبقة هي التي يستطيع الاستعمار أن يتعامل معها.»٦٥ وتتحقق عدالة توزيع الثروة في الإسلام — فيما يرى قطب — في مجموعة من الإجراءات التي لا تتعارض مع الحكم الشيوعي أو الاشتراكي، بل إن هذه الإجراءات كفيلة أن تقدم للبشرية مجتمعًا من طراز آخر، هو المجتمع الإسلامي، الذي «قد تجد فيه الإنسانية حلمها الذي تحاوله الشيوعية، ولكنها تطمسه بوقوفها عند حدود الطعام والشراب، وتحاول الاشتراكية، ولكن طبيعتها المادية تحرمه الروح والطلاقة.»٦٦ وبصرف النظر عن ذلك الفهم السطحي القاصر لكل من الاشتراكية والشيوعية، فإن قطب لا يرى تعارضًا بينهما وبين الإسلام إلا فيما يتصل بالحقيقة في جانبها الروحي. وهذا قريب إلى حد كبير من طرح الميثاق الوطني لثورة يوليو الاشتراكية العربية، بل إن الإجراءات التي يطرحها قطب لتحقيق عدالة الثروة في الإسلام لا تختلف كثيرًا عن تلك التي تحققت في مرحلة الستينيات. إن الإسلام — فيما يرى قطب — يضع في يد الدولة سلطات واسعة «لتحددَ الملكيات والثروات، ولتأخذَ منها ما يلزم لإصلاح المجتمع وتدَعَ ما يضر، ولِتتحكمَ في إيجار العقارات، وفي نسب الأجور، ولِتؤممَ المرافق العامة، وتمنعَ الاحتكار، ولِتحرمَ الربا والربح الفاحش والاستغلال. هذا الإسلام لا يوافق الطبقات المستغلة ولا يضمن معه المستغلون البقاء.»٦٧ ويتجاوز قطب أحيانًا هذا الطرح العام ويقدم حلولًا تفصيلية، فحل مشكلة الغلاء مثلًا ميسور: «أن تتحكم الدولة في التصدير والاستيراد، وأن تشتري لحسابها كل المحصولات التي تُصدَّر إلى الخارج وفي أوائلها القطن بسعر يُجزي الزراع، ثم تبيعها هي لحسابها بالأسعار العالمية، فأما الحصيلة الناشئة عن الفرق، فتساهم بها في تخفيض سعر الواردات حين تباع للمستهلك، وتسد بها الفرق بين ثمن شرائها المرتفع وثمن بيعها المناسب للجماهير.»٦٨
هذا هو الشق الأول الخاص بعدالة المال في الإسلام. أما الشق الثاني الخاص بعدالة الحكم فهو يتحقق بتطبيق مبدأ الشوري بطريقة عصرية، أي بالديمقراطية حيث الشعب هو مصدر السلطات، «فالحاكم في الإسلام يتلقى الحكم من مصدر واحد هو إرادة المحكومين، والبيعة الاختيارية هي الطريق الوحيد لتلقي الحكم، والواقع التاريخي قام على هذا المبدأ.» وتتحقق البيعة بالانتخاب الحر، ولا تتحقق الحرية الحقيقية إلا بنفي الاستغلال الاقتصادي، وما يترتب عليه من قهر اجتماعي أولًا؛ «كل ما يحتمه الإسلام هو إزالة القيود التي تجعل الانتخاب غير ممثل لحقيقة الرأي في الأمة، فلا يكون الناخب تحت رحمة صاحب الأرض أو صاحب العمل أو صاحب السلطان كما هو واقع الآن.»٦٩ كيف حدث التحول في «أولويات» الخطاب الديني عند قطب، وكيف عبَّر هذا التحول عن عداء واضح لكل إنجازات يوليو — وصل إلى التجهيل والتكفير — وهي الإنجازات التي كانت مطلب ذلك الخطاب؟ ولكن علينا أن نكون على بصيرة من أن التحول كان تحولًا في «الأولويات» لا في المنطلقات، أصبحت الأولوية لقضية العقيدة — ولم تكن بالقطع غائبة — على قضية العدل،٧٠ وأصبح الخطاب يتضمن رفضًا قاطعًا لطرح أية اجتهادات تُقدَّم على أساس أنها من قبيل التضليل عن الهدف الأسمى وهو إقرار المجتمعات البشرية بالعقيدة، وأصبح من واجب أصحاب الدعوة الإسلامية أن يرفضوا السخرية الهازلة في ما يسمَّى الفقه الإسلامي في مجتمع لا يعلن خضوعه لشريعة الله ورفضه لكل شريعة سواها. من واجبهم أن يرفضوا هذه التلهية عن العمل الجاد، التلهية باستنبات البذور في الهواء.٧١ وهذه الدعوة في حقيقتها موجهة ضد فريق من علماء الدين — بعضهم كان من الإخوان — تعاونوا مع رجال يوليو، لكن الأهم من ذلك أنها تعتمد على مبدأ «الحاكمية» فلا اجتهاد ولا تشريع إلا بعد الإقرار به وسيادته بوصفه لب العقيدة وجوهرها. وكما اختفت قضية العدل الاجتماعي، أو تأجل الفصل فيها إلى ما بعد الإقرار بالحاكمية، كان من الطبيعي أن يختفي العدل السياسي نهائيًّا، فمفهوم الحاكمية ذاته — كما سبق أن شرحنا — ينفي التعددية الفكرية والسياسية، ويعادي الديمقراطية: «إن هناك حزبًا واحدًا لله لا يتعدد وأحزاب أخرى كلها للشيطان وللطاغوت.»٧٢
إن طرح مفهوم الحاكمية بهذه الصورة يعكس ظروفًا شبيهة بتلك التي طُرح فيها المفهوم أول مرة مع الفارق طبعًا بين الظرفين في الزمان والمكان وتعقُّد الواقع، ولكنه الصراع على سلطة الحكم، ولجوء أحد طرفي الصراع إلى نقله من إطار الصراع الأرضي إلى صراع ديني، يسمح له بتزييف وعي الناس وتخديرها للوصول إلى السلطة. ومن الخطأ البين تصور أن الصراع الذي وقع بين الإخوان والثورة كان صراعًا حول الدين أو العقيدة، بل كان صراعًا حول السلطة السياسية، أو حول الحاكمية بمعنى حكم المجتمع والتحكم في إدارة شئونه. ولم يكن موقف نظام يوليو من الإخوان موقفًا شاذًّا يختلف عن موقفه من القوى الوطنية الأخرى التي اختلف معها وقهرها بعنف. إن تحول أولويات الخطاب عند قطب ناتج عن تحقيق نظام يوليو لكل مطالب الخطاب في مرحلة التقائه بالخطاب العام المسيطر لمجمل فصائل الحركة الوطنية، فكان من الطبيعي أن تفسح المجال لأسس هذا الخطاب ومنطلقاته الأساسية — والتي كانت في العمق — لتظهر على السطح. ومن اللافت للنظر أن البعد الأيديولوجي لخطاب قطب يكشف عن نفسه في جلاء لا يحتمل اللبس لدى القراءة التي تتجاوز القشرة السطحية دون أن تتعمق في الأغوار البعيدة. وقد مرَّ بنا أن رفضه لتطوير الفقه الإسلامي — وهو ما اعتبره بمثابة استنبات للبذور في الهواء — كان رفضًا لتعاون فريق من العلماء مع نظام يوليو. وبالإضافة إلى ذلك فإنه يتوجه بخطابه بشكل مباشر إلى الشعارات التي صاغها النظام في مرحلة الستينيات وهي شعارات: الحرية والاشتراكية والوحدة. وباستثناء شعار الحرية يتوجه خطاب قطب لتحطيم هذه الشعارات، نافيًا عنها كل مشروعية، ما دامت لا تتأسس — في رأيه — على العقيدة/الحاكمية. إن الاشتراكية — أو العدالة الاجتماعية — والوحدة — التي تقوم على أساس القومية العربية — إن هي إلا طواغيت أرضية وأصنام جاء الإسلام ليحطمها. إن محمدًا «كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع القبائل العربية التي أكلتها الثارات ومزقتها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة، الرومان في الشمال والفرس في الجنوب.»٧٣ «وربما قيل إنه كان في استطاعته — محمد — أن يرفعها راية اجتماعية، وأن يثيرها حربًا على طبقة الأشراف، وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع، ورد أموال الأغنياء على الفقراء.»٧٤ ولأنه لم يفعل ذلك، بل أطلقها دعوة للعقيدة، فليس من حق أحد أن يفعل غير ذلك، لأن العالم يعيش في جاهلية كتلك التي جاء الإسلام ليواجهها، بل أسوأ. هذا خطاب موجه لنظام يوليو في الستينيات ولعبد الناصر تحديدًا، وهو النظام الذي استُدعِيَت مقولة «الحاكمية» لمحاربته.

•••

ولا نحتاج في خطاب قطب إلى البحث عن مصدر مفهومه للحاكمية، فأبو الأعلى المودودي حاضر فيه بشكل لا يحتاج إلى إثبات. ومن المصدرين معًا يتلقى خطاب الجماعات الإسلامية، لا من الخوارج ولا من غيرهم، كما يوحي بذلك أحيانًا ممثلو الخطاب الرسمي «المعتدل».٧٥ ومن الطريف أن يسكت الأزهر ورجاله ويلزموا الصمت إزاء «معالم» قطب حين صدر، ثم تتوالى الردود — بعد سجن المؤلف ومصادرة الكتاب — وتجمعها الدولة في كتاب آخر بعنوان «إخوان الشياطين»، وتتركز الردود كلها في تحميل الخوارج فكر «المعالم». وقد سبق أن بينا أن الأُمويين هم الذين طرحوا مبدأ الاحتكام إلى القرآن حين رفعوا المصاحف على أسنة السيوف، وخدعوا جماهير المؤمنين الطيبين الذين أنهكهم القتال، ومن يجرؤ على رفض الاحتكام إلى كتاب الله إلا أن يكون مظنونًا في دينه وعقيدته. وأفاق الجميع، والخوارج خاصة، على حقيقة أن تحكيم القرآن يؤدي بالضرورة إلى تحكيم الرجال. فالقرآن كما شرح لهم الإمام علي «إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال.»٧٦ لذلك فإن مبدأ لا حكم إلا لله الذي أعلنه الخوارج وبسببه أُطلق عليهم اسم «المُحَكِّمة» كان ردًّا على حكم رجال بأعيانهم في قضية محددة، هي قضية الخلاف السياسي بين الطرفين المتصارعين. وذلك ينفي عن الخوارج التشويه المتعمد الذي يمارَس ضد فكرهم منذ أحقاب بعيدة في كتب الفرق والمقالات، وإن كان لا ينفي عنه مثاليته التي دفعت سلوكهم إلى التطرف في أحيان كثيرة. لقد كانوا على وعي بأن للنصوص مجالات فعَّاليتها الخاصة، وأن ثَمة مجالات أخرى لا تتعلق بها هذه الفعَّالية، فقد سألهم ابن عباس: «ما نَقمتم من الحَكَمين، وقد قال الله عز وجل: إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا فكيف بأمة محمد ، فقال الخوارج: قلنا: أما ما جَعَل حُكمَه إلى الناس، وأقرَّ بالنظر فيه، والإصلاح له، فهو إليهم كما أمَر به، وما حَكَم فأمضاه، فليس للعباد أن ينظروا فيه: حكم في الزاني مائة جلدة، وفي السارق بقطع يده، فليس للعباد أن ينظروا في هذا. قال ابن عباس: فالله يقول: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ فقالوا: أوَتجعل الحكم في الصيد، والحديثِ يكون بين المرأة وزوجها، كالحكم في دماء المسلمين؟! قالت الخوارج: قلنا له: فهذه الآية بيننا وبينك، أعَدْل عندك ابن العاص وهو بالأمس يقاتلنا ويسفك دماءنا؟! فإن كان عدلًا فلَسْنا بعُدول ونحن أهل حربِه. وقد حكَّمتم في أمر الله الرجال، وقد أمضى الله عز وجل حكمه في معاويةَ وحزبِه أن يُقتلوا أو يَرجعوا، وقبل ذلك ما دعوناهم إلى كتاب الله عز وجل فأبَوه، ثم كتبتم بينكم وبينه كتابًا، وجعلتم بينكم وبينه الموادعة والاستفاضة، وقد قطع الله عز وجل الاستفاضة والموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة إلا من أقر بالجزية.»٧٧ ولم يكن استدعاء مفهوم الحاكمية — بالمعنى الأُموي لا الخارجي — في خطاب المودودي إلا في سياق الصراع على السلطة بين المسلمين والهندوس في شبه القارة الهندية عشية الاستقلال. وقد أسهم المستعمر البريطاني دون شك في تعميق الصراع حتى أصبح «انفصال» المسلمين هو الحل الأمثل، وهو حل روَّجت له الدوائر الاستعمارية منذ منتصف القرن التاسع عشر.٧٨ وقد انقسم المسلمون فيما بينهم، فانحازت الأقلية إلى الحل الديمقراطي، بينما أصرت الأغلبية على «الانفصال». وكان من أهم مبررات الانفصال في الخطاب الديني الدعوة إلى اعتبار الدين — لا الأرض ولا القومية ولا التاريخ أو الثقافة — أساس أي تجمع بشري. وما دام الإسلام يمثل طريقة في الحياة تغطي جميع المجالات، فمن الضروري أن يكون لمسلمي شبه القارة الهندية وطنهم المستقل حيث يمكن أن ينظموا حياتهم وفقًا لتعاليم الإسلام. وإذا كان للمودودي بعض العذر في الحكم على مجتمعه بالجاهلية تأسيسًا على طبيعة العقائد الهندوسية، فإن متابعة قطب له في تجهيل مجتمعه لا تفسير لها إلا في مفهوم الحاكمية ذاته. وعلينا ألا ننسى أن المودودي — ويتابعه قطب — يحكم على كل المجتمعات والأنظمة التي لا تقر بالحاكمية بأنها مجتمعات وأنظمة جاهلية.

•••

بقي لنا في هذه الفقرة تحليل النتائج الخطيرة — الاجتماعية السياسية بشكل خاص — التي تترتب على طرح مفهوم الحاكمية، بالإضافة إلى ما يؤدي إليه من إهدار لدور العقل ومصادرة الفكر على المستوى العلمي والثقافي. إن هذا المفهوم ينتهي إلى تكريس أشد الأنظمة الاجتماعية والسياسية رجعيةً وتخلفًا، بل إنه ينقلب على دعاته أنفسهم إذا أتيح له أن يتبناه بعض الساسة الانتهازيين كما هو واقع الأمر في كثير من أنظمة الحكم في العالم العربي والإسلامي. وإذا كانت الديكتاتورية هي المظهر السياسي الكاشف عن مدى تدهور الأوضاع في هذا العالم، فإن الخطاب الديني يصب بمفهوم الحاكمية مباشرة في تأبيد هذا المظهر، وتأبيد كل ما يتستر وراءه من أوضاع، وذلك رغم التناقضات التي تطفو على السطح بين الحين والآخر، وهي تناقضات ترتد في تقديرنا إلى تجاوز في السلوك السياسي أكثر من ارتدادها إلى خلاف في المنظور الأيديولوجي. كان الخلاف بين الإخوان ونظام يوليو في الستينيات — كما رأينا — خلافًا حول الحكم، ولم يكن الإخوان — خلافًا لكثير من القوى السياسية التي اختلفت مع النظام — يقبلون بأقل من سيطرتهم الكاملة — باسم الإسلام وتحقيقًا لحاكمية الله على شئون المجتمع. كان الانفراد بالحكم إذن هو جوهر الخلاف، وهذا ما يفسر طبيعة الصدام ومداه. هذا بالإضافة إلى أن رجال الحكم في الستينيات كانوا يدركون خطورة السماح بإثارة الحساسيات الدينية في مجتمع يتضمن أقلية مسيحية لا يستهان بها.

ومع ما أحدثه انقلاب السبعينيات من تغييرات في توجهات النظام السياسي والاجتماعي، حاول أن يُضفي على هذه التوجهات طابعًا دينيًّا يوحي بإلحادية سلفه في الستينيات من جهة، ويستغل عواطف الجماهير لتبرير توجهاته المعارضة لمصالحها من جهة أخرى. لذلك لم يكن غريبًا أن ترفع شعارات مثل «دولة العلم والإيمان» و«الرئيس المؤمن» وأن يسيطر على الخطاب السياسي الاستشهاد بالنصوص الدينية، وأن يشار إلى السلطة باسم «الولاية» استدعاء لآليات اختيار الحاكم في العصور القديمة، عصور الخلافة حتى نهايتها على يد أتاتورك. وأصبح يشار إلى الجماهير باسم «شعبي» وإلى الجنود والطلاب ﺑ «أبنائي وبناتي». وحين تظهر بعض آبار البترول في قطعة من أرض الوطن تكون نعمة من الله على الحاكم شخصيًّا، وهكذا أصبح الوطن بأرضه وناسه وتراثه ملكًا للحاكم، وأصبح كل خلاف في الرأي معه خيانة للوطن، وكل نقاش لسياسته هجومًا على الوطن. ولم يقف الأمر عند هذا الحد من ابتلاع الوطن في شخص الحاكم، بل تخطى ذلك إلى مقاربة تخوم تأليه الحكم لذاته، فهو يعلن في سياق السجال السياسي: «ما يُبدَّل القول لديَّ». إن الحاكمية واضحة جلية لا لبس فيها ولا غموض، ولا غرابة بعد ذلك كله أن يكون كل خصوم النظام، بل خصوم الحاكم شخصيًّا فحسب، كفارًا ملاحدة، ولو كانوا من المشايخ وأصحاب اللحى.

لكن التعارض بين نظام السبعينيات وبين الخطاب الديني وممثليه لم يتكشف إلا في النهاية حين تبين لهم أن الدعم والتأييد الذي شملهم به النظام في بدايته كان دعمًا مشروطًا بتأييده ومحاربة خصومه السياسيين والقضاء عليهم إذا أمكن. وقد أصبح معروفًا أن السماح الحكومي للجماعات الإسلامية بممارسة نشاطها، بل وتمويلها ماديًّا وتدريبيًّا، في الجامعات وخارجها كان مقصودًا به تحجيم نشاط القوى السياسية الأخرى، الناصريين والشيوعيين تحديدًا، التي كانت تمثل خطرًا على توجهات النظام. وحين وصل الصدام إلى منطقة اللاعودة وقع الانفجار الكبير في السادس من أكتوبر، ولكنه صدام يظل — رغم دويِّه الهائل — صدامًا مع شخص الحاكم لا مع نظام الحكم.٧٩ لقد قدَّم الخطاب الديني — الذي تمت صياغته في الستينيات — غطاء أيديولوجيًّا جاهزًا لتحولات السبعينيات وما زال يفعل ذلك، رغم مظاهر التوتر والصدامات الأمنية. إن نظامنا السياسي الراهن يقوم على أساس احتكار سلطة الحكم، وهذا تأويله للحاكمية وفهمه لها، وهو تأويل يختلف عن تأويل الخطاب الديني، ومن هذا الخلاف يقع الصدام. إن الاتفاق بين الخطابين السياسي والديني اتفاق جوهري. وأما الخلاف فهو أمر ثانوي، فكلاهما يتأسس على مفهوم واحد.

وإذا كان الخطاب السياسي في مرحلة الثمانينيات قد تغيرت نبرته قليلًا، خاصة في السنوات الخمس الأولى، فإن مضمون الخطاب لم يتغير كثيرًا. كان تغير النبرة مرهونًا بحالة فقدان التوازن التي أحدثها الصدام السابق، وحين استعاد النظام توازنه، بدأ الخطاب السياسي يعاوده داؤه القديم، وانتهت الانفراجة الديمقراطية إلى حاكمية تمتلك وحدها الحقائق الخافية على القوى السياسية الأخرى كلها، بما فيها تلك التي تشارك في المؤسسات التشريعية. إن دعوى احتكار الحقائق، وما يترتب عليها من دعوى احتكار القرار، تمثل الأساس النظري لمفهوم الحاكمية الديني كما شرحتُ من قبل. ولا يكتفي الخطاب السياسي بهذه الدعوى الخطيرة، بل يقرنها بدعوى لا تقل عنها خطورة من حيث قيام مفهوم الحاكمية عليها، تلك دعوى الصواب الدائم وعدم اقتراف أي خطأ. وتتبدى هذه الدعوى واضحة في تحميل الخطاب السياسي كل أوجه القصور والعجز في سياساته، بل وكل أزمات الواقع ومشكلاته، على أكتاف المواطن العادي الذي يصفه بأنه قليل الإنتاج، كثير الاستهلاك، كثير التكاثر، عديم الانتماء، وإذ يجتمع للنظام السياسي العلم التام والقدرة الشاملة والكمال الذي لا يحتمل الخطأ، في حين تتسم الجماهير بالجهل بالحقائق، والعجز والنقص، فهل يصح له أن يشرك هذه الجماهير في إدارة شئون البلاد؟ وهل للحاكمية في الخطاب الديني معنًى غير هذا؟

وهذه الحاكمية المحايثة لكل من الخطابين الديني والسياسي على السواء تنتقل في الخطاب السياسي خاصةً لتكون أساسًا أيديولوجيًّا تصوغ عليه القوى الحاكمة والمسيطرة في الواقع عَلاقاتها بالقوى الدولية التي تساندها وتحمي ظهرها وتشاركها استغلال شعوبها. والدليل على ذلك ما دأب نظامنا السياسي على الترويج له من أن أمريكا — وحدها — تملك ٩٩٪ من أوراق اللَّعِب في الصراع العربي الإسرائيلي، ووصلت هذه النسبة في فترة الثمانينيات إلى الاحتكار الكامل، وفقدت القوى المحلية ذلك الواحد بالمائة الذي كانت تشارك به في إدارة الصراع. وليس هذا في النهاية إلا تعبيرًا عن العجز التام والتبعية المطلقة من جانب النظام في عَلاقته بقوى الاستغلال العالمي. وهكذا تكون الحاكمية مفهومًا ديكتاتوريًّا محايثًا للخطاب السياسي الرسمي في عَلاقته بالقوى السياسية المحلية، حيث تتحدد العَلاقة من خلاله بين النظام والمعارضة من منظور أعلى/أسفل، أو سيد/عبد، على حين تتغير هذه العَلاقة وتصبح أسفل/أعلى أو عبد/سيد في عَلاقته بالنظام العالمي. وفي كلا النمطين يقوم مفهوم الحاكمية على ثنائيات: العلم/الجهل، والقدرة/العجز. الصراع إذن — أو بالأحرى مظاهر التوتر التي نشهدها — بين النظام السياسي ومؤسساته وبين مجمل فصائل التيارات الدينية ليس صراعًا أيديولوجيًّا حول الأفكار والمفاهيم، بل هو صراع حول حق تمثيل الحاكمية في إدارة شئون المجتمع، حول من ينطق باسم هذه الحاكمية ويتدرع بسلاحها، إنه صراع بين قوى سياسية متقاربة فكريًّا حول السلطة والسيطرة والتحكم.

لكن طرح مفهوم الحاكمية من منظور ديني يتجاوز مجرد كونه يقدم غطاء أيديولوجيًّا لنظام سياسي يزعم الخطاب الديني أنه يسعى إلى تغييره بنظام إلهي يحقق للإنسان سعادة الدنيا والآخرة. إن التغطية الأيديولوجية تمثل وجهًا، ربما كان غير مقصود، من خطورة المفهوم، أما الوجه الأشد خطرًا فهو الوجه المعلن المقصود. يزعم الخطاب الديني أن النظام الذي يقوم على حاكمية البشر — وهي كل الأنظمة السياسية والاجتماعية القائمة — يؤدي إلى استعباد بعضهم للبعض الآخر باحتكار حق التشريع لهم وتنظيم حياتهم، وهو الحق الذي لا يصح أن يكون إلا لله بوصفه سبحانه الخالق والرازق والمهيمن والمسيطر والعالم القادر الحكيم. إن الإنسان يجب ألا يخضع بالعبودية والطاعة والامتثال إلا لله، وما سواه من البشر الذين ينازعونه السلطان والحاكمية طواغيت جاء الإسلام ليحرر البشرية من سطوتهم وسلطانهم.

ولا خلاف أن الإسلام بالفعل حرر الإنسان من سيطرة الأوهام والأساطير على عقله، وحرر وجدانه وعقائده من كل ما يعوق حريته، لكن الخطاب الديني يصر على اختصار عَلاقة الإنسان بالله في بُعد واحد فقط هو العبودية، التي تحصر فاعلية الإنسان في الطاعة والإذعان، وتحرم عليه السؤال أو النقاش. ولا شك أن الإيمان يقوم على التسليم بهذه العَلاقة على مستوى العقيدة، وهو المستوى القلبي الشعوري الذي لا مجال فيه للتأويل والاجتهاد، ولا مجال فيه كذلك لتدخل البشر، إنها العَلاقة الذاتية الشخصية بين الإنسان وربه.

وإذا كنا سنتعرض بمزيد من التفصيل في تحليل مسألة العبودية في الفقرة التالية، فإن الذي يعنينا في سياق «الحاكمية» أن الخطاب الديني يجعلها أساسًا ينسحب على مجالات التشريعات التي تحتاج في استنباطها إلى الاجتهاد والتأويل، وتحتمل الخلاف بحسب اختلاف المصالح، وبحسب اختلاف العوائد والعادات كما أدرك الفقهاء. وهذا من شأنه أن يؤدي — في أحسن الفروض مع افتراض كل النوايا الحسنة في الخطاب الديني — إلى العبودية لأحكام بعض البشر بالخضوع لاجتهاداتهم، إنه التقليد الذي نهى عنه الإسلام وحرَّمه بعض الفقهاء وقارنه بالشرك. وبعبارة أخرى: إذا كان الخطاب الديني يستهدف بمفهوم الحاكمية القضاء على تحكم البشر واستعبادهم لبعضهم البعض، فإن هذا المفهوم ينتهي على المستوى التطبيقي إلى تحكيم بشر من نوع خاص، يزعمون لأنفسهم احتكار حق الفهم والشرح والتفسير والتأويل، وأنهم هم وحدهم الناقلون عن الله.

وإذا كانت حاكمية البشر يمكن مقاومتها والنضال ضدها وتغييرها بأساليب النضال الإنسانية المختلفة، واستبدال أنظمة أكثر عدالة بها، فإن النضال ضد حاكمية الفقهاء يوصم بالكفر والإلحاد والزندقة بوصفه تجديفًا وهرطقة ضد حكم الله. ويصبح المفهوم بذلك سلاحًا خطيرًا يُفقد البشر أية قدرة على تغيير واقعهم أو تعديله، لأنه ينقل مجال الصراع من معركة بين البشر والبشر إلى معركة بين البشر والله.

إن كل الثنائيات التي يتأسس عليها مفهوم الحاكمية تتأسس بدورها على ثنائيات العلم/الجهل، والقدرة/العجز، والحكمة/الهوى، وكلها تضع الإنسان في عَلاقة مقارنة مع الله. ومن شأن هذه المقارنة أن تنتهي إلى نفي الإنسان، الذي لا يمكن أن يصمد أمام العلم الشامل والقدرة المطلقة والحكمة الكاملة. وبذلك يتعمق في شعور المؤمن إحساس يؤدي إلى ضياع ثقته في قدراته وإمكانياته، فيركن إلى التواكلية والسلبية. وهكذا يقدِّم الخطاب الديني تبريرًا للعجز والقهر والاستغلال بتجاهل الأبعاد الاجتماعية للوجود الإنساني والتركيز على البعد الميتافيزيقي. ويتم ذلك عبر سلسلة من الوثبات تتجاهل الشروط المعقدة والعَلاقات المركبة المتشابكة للواقع الاجتماعي والإنساني، تختزل الوجود الإنساني في عملية «الخلق» الأولى، الأمر الذي يؤدي إلى تأبيد الواقع الآني الزماني بإضفاء ذلك البعد الميتافيزيقي عليه. وهكذا يتم تمهيد الأرض بإفراغ وعي الإنسان من كل إيجابياته، حتى يصير ريشة في مهب الريح، لتحويل الأيديولوجيا إلى واقع، وتسكين الإنسان في «جب» السلطة، أية سلطة.٨٠

النص

لا يتوقف الخطاب الديني ليبذل أدنى جهد لتحديد أو توصيف المحور الأساسي لكل منطلقاته وآلياته، وقد تعمدنا حتى الآن أن نتحاشى الدخول مع الخطاب الديني في أي نقاش أو سجال حول آليات التأويل التي يصوغ من خلالها منطلقاته وآلياته بدءًا من هذا المحور. ولا حاجة بنا في هذه الفقرة أيضًا إلى مناقشة هذه الآليات ما دام النقاش هنا حول إشكالية النص لا تلك التي يطرحها الخطاب الديني أحيانًا، خاصة في مجال السجال مع الجماعات الإسلامية أو مع غيرهم، بل تلك الإشكالية التي يتعمد الخطاب تجاهلها. ومن أهم الجوانب التي يتم تجاهلها في إشكالية النص الديني — ولعلها من أخطرها على الإطلاق — البعد التاريخي لهذه النصوص، وليس المقصود بالبعد التاريخي هنا علم أسباب النزول — ارتباط النصوص بالواقع، والحاجات المثارة في المجتمع والواقع — أو علم الناسخ والمنسوخ — تغيير الأحكام لتغير الظروف والملابسات — أو غيرها من علوم القرآن التي لا يستطيع الخطاب الديني تجاهلها، وإن كان يتعرض لها على سبيل السجال لتأكيد واقعية الإسلام في اتجاهه إلى التدرج في الإصلاح والتغيير. ولأننا سبق أن ناقشنا تلك العلوم مناقشة مستفيضة في دراسة سابقة، فإن البعد التاريخي الذي نتعرض له هنا يتعلق بتاريخية المفاهيم التي تطرحها النصوص من خلال منطوقها، وذلك نتيجة طبيعية لتاريخية اللغة التي صيغت بها النصوص.٨١

ولا خلاف في أن تاريخية اللغة تتضمن اجتماعيتها، الأمر الذي يؤكد أن للمفاهيم بُعدَها الاجتماعي الذي يؤدي إهداره إلى إهدار دلالات النصوص ذاتها. ولا يعني الإلحاح على تاريخية النصوص أدنى إشارة إلى عدم قدرتها على إعادة إنتاج دلالتها، أو عجزها عن مخاطبة عصور تالية أو مجتمعات أخرى، فالقراءة التي تتم في زمن تالٍ في مجتمع آخر تقوم على آليتين متكاملتين: الإخفاء والكشف؛ تخفي ما ليس جوهريًّا بالنسبة لها — وهو ما يشير عادةً إلى الزمان والمكان إشارة لا تقبل التأويل — وتكشف عن ما هو جوهري بالتأويل. وليس ثمة عناصر جوهرية ثابتة في النصوص، بل لكل قراءة — بالمعنى التاريخي الاجتماعي — جوهرها الذي تكشفه في النص. يتفق الخطاب الديني مع بعض ما هو مطروح هنا، وإن كان يعبِّر عنه بلغته الخاصة التي هي في الحقيقة تَرداد وتَكرار للغة القدماء، ولهذا دلالته التي سنحللها بعد ذلك.

يتفق الخطاب الديني على أن النصوص الدينية قابلة لتجدد الفهم واختلاف الاجتهاد في الزمان والمكان، لكنه لا يتجاوز فهم الفقهاء لهذه الظاهرة، ولذلك يقصرها على النصوص التشريعية، دون نصوص العقائد، أو القصص. وعلى هذا التحديد لمجال الاجتهاد يؤسس الخطاب الديني لمقولة «صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان»، ويعارض إلى حد التكفير الاجتهاد في مجال العقائد أو القصص الديني.

إن النصوص، دينية كانت أم بشرية، محكومة بقوانين ثابتة، والمصدر الإلهي للنصوص الدينية لا يخرجها عن هذه القوانين؛ لأنها «تأنسنت» منذ تجسدت في التاريخ واللغة وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدد. إنها محكومة بجدلية الثبات والتغير؛ فالنصوص ثابتة في «المنطوق» متحركة متغيرة في «المفهوم»، وفي مقابل النصوص تقف القراءة محكومة أيضًا بجدلية الإخفاء والكشف.

هذا عن النصوص التي دُوِّنت وسُجِّلت منذ لحظة ميلادها، أما النصوص التي خضعت لآليات الانتقال الشِّفاهي — ولو لفترة محدودة كالأحاديث النبوية — فإنها تطرح إشكالية أكثر تعقيدًا من جانِبَي المنطوق والمفهوم معًا، إذ يفقد هذا النوع من النصوص صفة ثبات المنطوق، ويصبح تحديده أمرًا اجتهاديًّا خاضعًا بدوره لجدلية الكشف والإخفاء.

ومع هذا المستوى من التعقيد في إشكالية النص لا يكتفي الخطاب الديني بقصر الاجتهاد على شريحة رقيقة من النصوص، هي شريحة النصوص التشريعية، بل يعود فينفي الاجتهادات جملة حين يعلن «لا اجتهاد فيما فيه نص»، فيجمِّد دلالة النصوص حتى في النصوص التشريعية. وسنرى في سياق هذه الفقرة أن هذه مجرد دعوى، وأن استدعاء بعض الاجتهادات القديمة وتقديمها للإجابة عن بعض القضايا المثارة في الواقع يمثل في ذاته اجتهادًا يعتمد على «كشف» رأي و«إخفاء» آخر.

وقد مرت بعض الشواهد التي تؤكد ما نذهب إليه. والأهم من ذلك أن مبدأ «لا اجتهاد فيما فيه نص» يمثل في ذاته نَموذجًا لهذا النمط من الاجتهاد، وهو نمط يختلف في بعض آلياته عن نمط الاجتهاد بالترجيح بين آراء القدماء والاختيار منها. إن مناقشة هذا المبدأ تكشف لنا عن الفارق بين مفهوم النص عند القدماء — وهو المفهوم الذي يخفيه الخطاب الديني المعاصر — وبين المفهوم الذي يكشف عنه المعاصرون.

•••

أُثيرَ المبدأ حديثًا على صفحات الصحف بمناسبة الاقتراح الذي اقترحه الكاتب أحمد بهاء الدين بالأخذ بالاجتهاد الفقهي الشيعي الذي تَحْجُب فيه البنت عن الميراث كما يَحْجُب الذكر في الفقه السني سواء بسواء.٨٢ وتوالت الردود تُبين كلها مخالفة الفقه الشيعي لصحيح النصوص، والقاعدة التي استند إليها الجميع «لا اجتهاد فيما فيه نص»، وقد يضيف البعض وصفًا للنصوص المحظور فيها الاجتهاد بأنها النصوص القطعية في ثبوتها وفي دلالتها، ويرى بناءً على ذلك أن: «رأي أهل السنَّة لم يبنوه على اجتهاد يمكن أن يتغير، إنما بنَوه على نصوص قرآنية مقطوع بدلالتها.»٨٣ وإذا كان بعض الفقهاء قد ذهب إلى تقديم المصلحة على النص إذا تعارضا، وذلك تأسيسًا على مفهوم «المقاصد الشرعية»، فإن شيخ الأزهر يرى الأولوية للنصوص على المصالح، فلا ينبغي في رأيه «إطلاق القول بأن الاختيار للمجتمع يكون في هذا العصر للمصلحة؛ إذ النظر في المصلحة لا يكون مع وجود النصوص. والمصلحة التي تغياها شرع الله هي التي لا تتنافى مع مقاصد الإسلام، والمستقر من أحكامه. والقرآن قد قطع في أمر الاجتهاد بالدعوة إلى الاتباع في أمر التشريع والطاعة للنصوص.»٨٤ ويبدو سيد قطب في خطابه أحيانًا مدركًا لجانب من تاريخية النصوص الدينية. ويبني على ذلك أمرين؛ الأول: أن منهج الإسلام منهج حركي يستجيب للمتغيرات، ويتحرك معها، والأمر الثاني — وهو يترتب على الأول: أن الاجتهاد النظري في مجتمع لا يقر بالحاكمية ولا ينفذ أحكام الشريعة بمثابة استنبات للبذور في الهواء. يقول وهو بصدد تفنيد آراء من يذهبون إلى أن مبدأ الجهاد في الإسلام مبدأ دفاعي عدواني: «والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد ولا يراعون هذه السمة (الواقعية الحركية) فيه لا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج، وعَلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها، الذين يصنعون هذا يخلطون خلطًا شديدًا، ويلبسون هذا المنهج لبسًا مضللًا، ويحمِّلون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية. ذلك أنهم يعتبرون كل نص كما لو كان نصًّا نهائيًّا، ويمثل القواعد النهائية لهذا الدين.»٨٥ لكن هذا الإدراك لتاريخية النصوص، ومن ثم لانتفاء صفة «النهائية» عن القواعد التي تقررها، لا يتجاوز إطار «مناسبات النزول» و«النسخ» وإن كان يعبِّر عن نفسه بلغة مغايرة للغة علماء الدين. لغة توهم بطرح الجديد، ولا جديد في الحقيقة. إن الاجتهاد عند قطب لا يلتزم بالمجالات التي سكتت عنها النصوص فقط، بل يجب أن يتبع آليات الاجتهاد التقليدية لا يخرج عنها: «فإن كان هناك نص فالنص هو الحكم، ولا اجتهاد مع النص. إن لم يكن هناك نص فهنا يجيء دور الاجتهاد، وفق أصوله المقررة في المنهج ذاته، لا وفق الأهواء والرغبات … والأصول المقررة للاجتهاد والاستنباط مقررة كذلك ومعروفة وليست غامضة ولا مائعة.»٨٦ وحين يثير الكاتب سؤال: «أليست مصلحة البشر هي التي تصوغ واقعهم؟» لا يتردد في الإجابة مستشهدًا بالنصوص على علم الله وجهل البشرية: «إن مصلحة البشر متضمنة في شرع الله، كما أنزله الله، وكما بلغه رسول الله.»٨٧
وهكذا يرى الخطاب الديني أن النصوص الدينية بينة بذاتها، ناطقة عن نفسها، هذا رغم أنه على المستوى النظري — خاصة حين يحاور الشباب — يبدو مدركًا للفاصل الزمني واللغوي بين عصر النص وبين العصور التالية، وما يثيره ذلك وحده من إشكاليات في الفهم والتأويل تؤدي إلى خلافات لا مجال لتجنبها.٨٨

والفاصل الزمني على أهميته وأهمية الإشكاليات التي يثيرها ليس هو المشكل الوحيد، فاللغة في النصوص — ولو كانت معاصرة للقارئ — ليست بينة بذاتها، إذ يتدخل أفق القارئ الفكري والثقافي في فهم لغة النص، ومن ثَم في إنتاج دلالته. ولعله من قبيل التَّكرار المهم أن نستدعي قول الإمام علي: «القرآن حمَّال أوجُه» أو نستدعي قوله الذي سبق الاستشهاد به: «القرآن خط مسطور بين دَفتين لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال.» ولكن الخطاب الديني «يخفي» من التراث هذا الجانب المهم والخطير في فهم طبيعة النص، وهو الفهم الذي سمح بالتعددية، ومنح الثقافة الإسلامية طابعها الحيوي الذي ظل مستمرًّا حتى توارى هذا الفهم مفسحًا المجال لفهم آخر يجمِّد دلالة النصوص في قوالب جامدة. هذا الفهم الأخير، أو بالأحرى تجميد الفهم، هو منطلق الخطاب الديني المعاصر، وهو الجانب الذي «يكشف» عنه من التراث، وهذا هو الموقف التأويلي الذي أشرنا إليه من قبل. إن مفهوم التراث للنص مخالف لمفهوم خطابنا الديني، وحين يقول العلماء: «لا اجتهاد فيما فيه نص» فإنهم يعنون شيئًا آخر غير ما يعنيه الخطاب الديني.

لم يكن القدماء يشيرون إلى القرآن والحديث باسم النصوص، كما نفعل في اللغة المعاصرة، بل كانوا في العادة يستخدمون دوالَّ أخرى كالكتاب والتنزيل والقرآن للدلالة على النص القرآني، وكانوا يستخدمون دوالَّ مثل الحديث أو الآثار أو السنة للإشارة إلى نصوص الحديث، وكانوا يشيرون إليهما معًا باسم الوحي أو النقل. وكانوا حين يشيرون إلى «النص» فإنما كانوا يعنون به جزءًا ضئيلًا من الوحي، أو بعبارة أخرى ما لا يحتمل أدنى قدر من تعدد المعنى والدلالة بحكم بنائه اللغوي. إنه — بلغة الإمام الشافعي — ما يكون «مستغنًى فيه بالتنزيل عن التفسير»، وما لا ينطبق عليه وصف الوضوح الدلالي الذي لا يحتاج معه إلى تفسير فليس نصًّا، ولذلك لا بد من الاستنباط والاستدلال في فهم ما ليس بنص في كتاب الله، وهكذا يحدد الإمام الشافعي الفرق بين النص والمحكم في القرآن.٨٩ والعودة إلى معاجم اللغة تفيد في التعرف على الدلالة المركزية للَّفظ وإن كانت لا تفيد كثيرًا في إبراز الكيفية التي تطورت بها تلك الدلالة، ويبدو من أمثلة الاستخدام الواردة في «اللسان» أن الدلالة المركزية هي الإظهار كما يتبين من النماذج التالية:
  • (١)

    نصَّت الظَّبية جِيدها = رفعته.

    نصَّ الدابة = رفعها.

  • (٢)

    النص والتنصيص = السير الشديد.

    نص الأمور = شديدها.

    قال الشاعر:

    ولا يستوي عند نصِّ الأُمُو
    رِ باذلٌ معروفَه والبخيل
  • (٣)

    نص الرجلَ = سأله عن شيء حتى يستقصي ما عنده.

    بلغ النساءُ نص الحِقاق = سن البلوغ.

هذه الدلالات الثلاث، الرفع والشدة والبلوغ، متضمنة في دلالة «الإظهار»؛ لأن من ينص الناقة أو الدابة يرفع عنقها فيظهره، وكذلك استقصاء ما عند الإنسان بالسؤال إنما هو إظهار له من كمونه في نفس صاحبه، ولا بد أن يكون معنى الشدة — المعنى الثاني — نوعًا من التطور الدلالي عن المعنى الأول — الرفع — لأن الراكب إذ ينص دابته — يرفع عنقها — فإنما يفعل ذلك لكي يحثها على السير، فيستخرج منها أقصى سرعتها، فإذا ارتفع عنق الناقة سارت سيرًا شديدًا، كما يقول أبو عبيدة. وتحديدنا للدلالة المركزية بالإظهار يؤكده أنها الدلالة الحسية الباقية في لغتنا المعاصرة، كما في استخدامنا لكلمة «المِنصة» بمعنى المكان المرتفع الظاهر، وهو المعنى نفسه في الاستعمال القديم، فالمنصة «ما تُظهَر عليه العروس لتُرى». ولعله من هذه الدلالة المركزية الحسية حدث التطور الدلالي، فأصبح النص يعني الإسناد في علم الحديث: «قال عمرو بن دينار: ما رأيت رجلًا أنصَّ للحديث من الزُّهْري»، يقول ابن الأعرابي: «النص: الإسناد إلى الرئيس الأكبر، والنص: التوقيف، والتعيين على شيء ما.»

الإسناد والتوقيف والتعيين دلالات يجمعها ويضمها «التحديد» على مستوى الدلالة المعنوية كما أن «الإظهار» هو مركز المعنى على مستوى الدلالة الحسية، وتداخلت الدلالتان، أو بالأحرى تداخل المستويان، في صياغة مفهوم للنص في التراث، ولكن التعدد الذي شهدته الثقافة الإسلامية كان له تأثيره في تحديد ما هو نص لا يقبل التأويل، وما ليس بنص يتحتم تأويله، وقد دار الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة بشكل خاص حول «المحكم والمتشابه»، حيث اعتبر كل فريق أن ما يُسند موقفه الفكري محكمًا (نصًّا) وما يُسند موقف الخَصم متشابهًا (ليس بنص)، وقد سبق أن ناقشنا هذا الخلاف في دراسة سابقة،٩٠ لذلك يكفي هنا الاستشهاد بمثال واحد من تفسير الزمخشري وتعليق ابن المنير السُّنِّي عليه، لاستخدامهما معًا لمفهوم «النص» لا «المحكم والمتشابه» في خلافهما. يقول الزمخشري: «وقد نص (الله) على تنزيه ذاته بقوله: وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، ونظائر ذلك مما نطق به التنزيل.»٩١ وهذه الآيات مما يعتبره المعتزلة من المحكم (النص) الدال على العدل الإلهي، ويوردها الزمخشري وهو بصدد تأويل الآية السابعة من سورة البقرة خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وهي من الآيات المتشابهات عند المعتزلة، بسبب ما يوهمه ظاهرها من أن الله هو الذي يسبب الكفر ثم يعاقب عليه. ويعترض ابن المنير على تأويل الآية، لأنها من منظور أهل السنة نص لا يحتمل التأويل، ويتهم الزمخشري بأنه «نزل من منصة النص إلى حضيض تأويله ابتغاء الفتنة … فإن الختم فيها (الآية) مسند إلى الله تعالى نصًّا.»٩٢
ولا يقتصر استخدام النص بهذا المعنى على فِرق المتكلمين والفقهاء، بل يكاد يكون سائدًا في دوائر الخطاب الديني في التراث، فهذا ابن عربي يفرق في استخدام الفعل «كان» بين دلالته على الزمن الماضي وبين دلالته على مجرد الوجود، ويقارن بينه وبين كلمة «الآن» التي تدل في كل سياق ترد فيه على الزمن، ويقرر بناء على ذلك أن كلمة «الآن» نص في وجود الزمان، وليس الفعل «كان» كذلك بسبب احتماليته.٩٣ وإذا كان النص هو الدال دلالة قطعية لا مجال فيها لأية درجة من الاحتمالية، فإن النصوص عزيزة نادرة، خاصة في مجال الشريعة، «وما ثَم نص يُرجَع إليه لا يتطرق إليه الاحتمال».٩٤ وعلى أساس من الندرة الناتجة عن الطبيعة الاحتمالية للغة فإن الحل الصوفي للتغلب على هذه الإشكالية يكمن في التجرِبة الصوفية ذاتها، تجرِبة الاتصال بمصدر التشريع والأخذ عنه مباشرة، فأهل الله هم فقط هم القادرون على الاطلاع على الشريعة المحمدية من حيث «لا تعلم العلماء بها، فإن الفقهاء والمحدثين الذين أخذوا علمهم ميتًا عن ميت إنما المتأخر منهم على غلبة الظن؛ إذ كان النقل شهادةً والتواتر عزيزًا. ثم إنهم إذا عثروا على أمور تفيد العلم بطريق التواتر لم يكن ذلك اللفظ المنقول بالتواتر نصًّا فيما حكموا فيه فإن النصوص عزيزة، فيأخذون من ذلك اللفظ بقدر قوة فهمهم فيه، ولهذا اختلفوا. وقد يمكن أن يكون لذلك اللفظ في ذلك الأمر نص آخر يعارضه ولم يصل إليهم. وما لم يصل إليهم ما تعبدوا به، ولا يعرفون بأي وجه من وجوه الاحتمالات التي في قوة هذا اللفظ كان يحكم رسول الله المشرع، فأخذه أهل الله عن رسول الله في الكشف على الأمر الجلي والنص الصريح في الحكم، أو عن الله بالبينة التي هم عليها من ربهم، والبصيرة التي بها دعَوا الخلق إلى الله.»٩٥
وليس الحل الصوفي لإشكالية النصوص وندرتها هو الهام هنا، إنما الأساسي والجوهري من منظور هذه الدراسة هو مفهوم النص الذي يتفق عليه الصوفية — وابن عربي بصفة خاصة — مع غيرهم من اتجاهات التراث. ولا يختلف علماء القرآن المتأخرون عن أقرانهم المتقدمين، وإن كانوا يناقشون الإشكالية من منظور «العام والخاص» في دلالة النصوص. وقد يكون تخصيص الدلالة من داخل البنية اللغوية للنص، ولا ينكشف إلا بالتحليل (الاجتهاد)، وقد يكون تخصيص دلالة النص من نص آخر (نستعمل النص هنا بالمعنى المعاصر) فالاجتهاد في الجمع بينهما ضروري. وهكذا تكون النصوص (بالمعنى التراثي) عزيزة ونادرة: «ما من عام إلا ويُتخيل فيه التخصيص، فقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ، قد يخص منه غير المكلف، وحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ خص منها حالة الاضطرار، ومنه السمك». يختلف العلماء في تحديد العام والخاص. كما اختلف المتكلمون في تحديد المحكم والمتشابه، وما يورده الزركشي على أنه من العام، يرى السيوطي أنها نماذج في غير الأحكام الفرعية التي يندر فيها العموم، ولا يجد السيوطي آية من هذا النوع على عمومها — أي دون تخصيص في دلالتها — إلا قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ.٩٦ وينتهي علماء القرآن إلى أن ما تضمنه القرآن ينقسم — طبقًا لدرجات الوضوح الدلالي — إلى أربع درجات، هي بالترتيب التالي:
  • (١)
    الواضح الذي لا يحتمل إلا معنًى واحدًا، وهو النص.
  • (٢)
    الذي يحتمل معنيين لكن أحدهما هو المعنى الراجح (الأقوى) والآخر معنًى مرجوح (محتمل)، وهذا هو الظاهر.
  • (٣)
    الذي يحتمل معنيين كلاهما يساوي الآخر في درجة الاحتمال، وهو المجمل.
  • (٤)
    الذي يحتمل معنيين غير متساويين في درجة الاحتمال، ولكن المعنى الراجح (الأقوى) ليس هو بالمعنى القريب (الظاهر) كما في الثاني، بل الراجح هو المعنى البعيد، وهذا النوع هو المؤول.٩٧
إذا كان هذا هو مفهوم النص في التراث، وهو مفهوم مغاير لمفهومنا، فإن الخطاب الديني حين يرفع في وجه العقل والاجتهاد مبدأ: «لا اجتهاد فيما فيه نص» يقوم في الحقيقة بعملية خداع أيديولوجي ماكرة؛ لأنه لا يعني بالنص ما يعنيه التراث، وهو الواضح الجلي النادر. فإذا أضفنا إلى ذلك أن تحديد ما هو نص والتفرقة بينه وبين ما ليس كذلك أمر خاضع للخلاف والاجتهاد في تاريخ الثقافة الإسلامية، أدركنا حجم الخدعة ومداها. إن الخطاب الديني المعاصر لا يكتفي بتثبيت النص وسلبه حركته بالخلط بين المفهوم الحديث والمعنى القديم لكلمة «النص»، بل يسعى لتثبيت دلالته بإعلان نفي الاجتهاد، مفسحًا المجال لنفي التعدد وتثبيت الواقع طبقًا لما يطرحه هو من آراء واجتهادات. إن القرآن — محور حديثنا حتى الآن — نص ديني ثابت من حيث منطوقه، لكنه من حيث يتعرض له العقل الإنساني يصبح «مفهومًا» يفقد صفة الثبات، إنه يتحرك وتتعدد دلالته. إن الثبات من صفات المطلق والمقدس، أما الإنساني فهو نسبي متغير، والقرآن نص مقدس من ناحية منطوقه، لكنه يصبح مفهومًا بالنسبي والمتغير، أي من جهة الإنسان، ويتحول إلى نص إنساني «يتأنسن». ومن الضروري هنا أن نؤكد أن حالة النص الخام المقدس حالة ميتافيزيقية لا ندري عنها شيئًا إلا ما ذكره النص عنها ونفهمه بالضرورة من زاوية الإنسان المتغير والنسبي.٩٨ النص منذ لحظة نزوله الأولى — أي مع قراءة النبي له لحظة الوحي — تحول من كونه (نصًّا إلهيًّا) وصار فهمًا (نصًّا إنسانيًّا)؛ لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل. إن فهم النبي للنص يمثل أولى مراحل حركة النص في تفاعله بالعقل البشري، ولا التفات لمزاعم الخطاب الديني بمطابقة فهم الرسول للدلالة الذاتية للنص، على فرض وجود مثل هذه الدلالة الذاتية. إن مثل هذا الزعم يؤدي إلى نوع من الشرك من حيث إنه يطابق بين المطلق والنسبي، وبين الثابت والمتغير، حين يطابق بين القصد الإلهي والفهم الإنساني لهذا القصد ولو كان فهم الرسول. إنه زعم يؤدي إلى تأليه النبي، أو إلى تقديسه بإخفاء حقيقة كونه بشرًا، والتركيز على حقيقة كونه نبيًّا.

•••

وإذا كان النص القرآني يثير الإشكاليات السابقة كلها رغم ثبات منطوقه، فإن نصوص الأحاديث النبوية تثير إلى جانب الإشكاليات السابقة إشكالياتها الخاصة؛ وذلك لأنها لم تدوَّن إلا متأخرة، وخضعت من ثَم لآليات التناقل الشِّفاهي، الأمر الذي يقربها إلى مجال النصوص التفسيرية من حيث إنها رُويت بالمعنى لا بلفظ النبي، وإذا كانت الأحاديث ذاتها، أي كما نطق بها النبي بلغته وألفاظه، نصوصًا تفسيرية لنوع من الوحي مغاير في طبيعته لوحي السنَّة، فإن الأحاديث التي بين أيدينا تكون في حقيقتها تفسيرًا للتفسير.٩٩ فإذا أضفنا إلى ذلك ما هو معروف من أسباب وملابسات كثيرة أدت إلى الزيادة في جسد الحديث بالوضع والانتحال، واختلاف علماء الحديث بينهم في المعايير التي يصححون الأحاديث على أساسها، أدركنا تعقد حركة هذه النصوص في الواقع الإنساني الاجتماعي. والخطاب الديني المعاصر يبدو من أجل ذلك أقل تشددًا ويسمح ببعض الاجتهاد والخلاف حول دلالة هذا النوع من النصوص، خاصة إذا كان خلافًا في الفروع: «ذلك أن أسباب الخلاف قائمة في طبيعة البشر وطبيعة الحياة، وطبيعة التكليف، فمن أراد أن يزيل الخلاف بالكلية، فإنما يكلف الناس والحياة واللغة والشرائع ضد طبائعها.»١٠٠ وفي مجال النقاش والسجال مع الشباب تُثار بعض إشكاليات النص الذي يُفهم على ظاهره دون اجتهاد أو تأويل، إذ يُشترط في مثل ذلك النص: «أن يكون صحيحًا مسلَّمًا به عند الجميع، ولا بد من أن يكون صريح الدلالة على المعنى المراد، ولا بد من أن يَسلَم من مُعارضٍ مثله أو أقوى منه من نصوص الشريعة الجزئية أو قواعدها الكلية. قد يكون النص صحيحًا عند إمام، ضعيفًا عند غيره، وقد يصح عنده ولكن لا يُسلِّم بدلالته على المراد، فقد يكون عند هذا عامًّا وعند غيره خاصًّا، وقد يكون عند إمام مطلقًا، وعند آخر مقيدًا، وقد يراه هذا دليلًا على الوجوب أو الحرمة، ويراه ذلك دليلًا على الاستحباب أو الكراهية. وقد يعتبره بعضهم محكمًا ويراه غيره منسوخًا، إلى غير ذلك من الاعتبارات.»١٠١
ولكن هذه الرؤية لمعضلة النص في الأحاديث تظل تُطل من منظور القدماء وتثير نفس أو بعض إشكالياتهم، دون أن تتجاوز إطار هذه الرؤية، ولعلنا لا نكون مغالين إذا قلنا:

إن منظور القدماء كان أكثر اتساعًا من جهة أنهم لم يوقفوا عملية فرز جسد الحديث، بالحذف والإضافة، طبقًا لمعايير اجتهادية إنسانية/اجتماعية بالضرورة، إن وقف هذه العملية المهمة وتثبيت نص الحديث في الصحاح الخمسة — أو الستة — وعلى رأسها البخاري ومسلم، هو في حقيقته تثبيت للواقع عند رؤى واجتهادات عصور بعينها، وهو يصب في نفس أيديولوجية وقف الاجتهاد في النص القرآني. إن معايير السلف في نقد الأحاديث وفي التمييز بين الصحيح والضعيف والمنحول كانت محكومة دون شك بأطر معرفية زمانية نسبية محدودة، لا ترقى إلى مستوى المعايير الموضوعية النهائية، كما يتوهم البعض. الحديث نص متحرك قابل للتجدد عن طريق استمرار عملية الفرز قبولًا ورفضًا بناء على معايير اجتهادية وإنسانية، أي طبقًا لفكر إنساني متطور بطبيعته، ومرتبط بظروف الزمان والمكان والواقع الذي ينشئه، هذا من حيث هو نص خام قبل أن يواجهه العقل بالفهم والتفسير والتأويل، فهو نص تكوَّن وما زال يتكون من خلال آليات العقل الإنساني منذ اللحظات الأولى للنطق به، والمسافة التي تفصله عن المقدس مسافة شاسعة يكاد معها يكون نصًّا إنسانيًّا.

ولكي تتضح هذه القضية بشكل أعمق يتعين علينا أن نتعرض بشكل عام للآليات العامة للفرز والتصحيح التي طُبقت على جسد الحديث، وهو ما يُطلَق عليه مصطلح «الرواية» تمييزًا له عن مصطلح «الدراية» الذي يركز على الأحكام والتعريفات. وجدير بالذكر أن الأحكام والتعريفات فرع على شروط الرواية ومعرفة أحوال الرواة، أي إن الرواية بالمعنى الاصطلاحي — لا بمعنى عملية النقل ذاتها — هي أساس الدراية التي تتعلق بالحكم على المتن، وتهتم الرواية بدراسة جانب السند من زاويتين: الزاوية الأولى الاتصال والانقطاع بين الرواة الذين نقلوا متن الحديث من عصر النبوة إلى آخر الرواة في سلسلة الإسناد، وهذا عمل توثيقي في المقام الأول لأنه يهتم بالتأكد مما إذا كان كل راو من الرواة قد عاصر الراوي الذي ينقل عنه الحديث، والأهم من ذلك أن يكون قد لقيه لقاء مباشرًا وفي سن النضوج التي تسمح له بالأخذ والرواية، وأن يكون الأخذ مشافهةً لا نقلًا عن صحيفة أو ما شابهها، إلى آخر تلك الشروط التوثيقية. والشروط نفسها لا بد من توافرها في الراوي التالي، وعدم توافرها في أحد الرواة يعني ضعفًا في سلسلة الإسناد يؤدي إلى تضعيف الحديث، فإذا كان ثمة فاصل زمني طويل بين راويين كان معنى ذلك أن راويًا قد سقط من الإسناد ويكون إسنادًا منقطعًا يترتب عليه أحيانًا رفض الحديث ما لم يوثَّق برواية أخرى متصلة.

أما الزاوية الثانية من دراسة السند فتهتم بالتحقق من المؤهلات العلمية والأخلاقية لكل راوٍ على حدة. وهو ما يُعرف بالجَرح والتعديل، وهي مؤهلات كثيرة أهمها أن يكون الراوي حافظًا — أي لا ينسى — أمينًا لا يكذب ولا يدلس، ثقةً في دينه وخلقه.

ولم يكن علماء الحديث، بحكم غلبة الطابع النقلي التوثيقي على عملهم، وبحكم الارتباط بين أغلبهم وبين جهاز السلطة في أكثر العصور، يتمتعون باتساع الأفق العقلي القابل للخلاف والنقاش مثل المتكلمين أو الفقهاء أو علماء القرآن، بل كانوا أقرب إلى الوعاظ في تصور الحقيقة، وفي التعصب ضد أي اجتهاد ليس له سند مباشر من النقل، لذلك ليس غريبًا في كتب علم الرجال أن يُستبعد من مجال الرواة العدول كل من كان من أصحاب المقالات، وهو توصيف لكل الفِرق، عدا تلك التي تعاطف معها المحدِّث، ومن السهل على من يقرأ هذه الكتب أن يلاحظ تناقض الأحكام على الراوي الواحد، فبينما يوثقه البعض يرى آخرون أنه مدلس كذاب، وإذا وصفه البعض بالحفظ والاستيعاب نجد البعض الآخر يضعه في دائرة المغفلين الذين يغلب عليهم النسيان، وليست تلك الأحكام المتناقضة ناشئة عن الحب والكراهية، أو الإعجاب والاحتقار، بل ناشئة عن اختلاف المعايير نتيجة لاختلاف المواقف الأيديولوجية. لن نشير هنا لرفض علماء السنة لروايات الشيعة، ولا لرفض علماء الشيعة روايات أهل السنة، وهو شديد الدلالة في ذاته، إنما تشير إلى رفض كل فرقة من فرق السنة روايات أتباع الفرق الأخرى.

ثم استأثرت إحدى الفرق باسم «أهل السنة والجماعة» واحتكرته لنفسها بتأييد من سلطة الدولة بعد القضاء على الاعتزال، وأصبحت هي الحَكَم والفيصل في قبول المرويات أو رفضها، بل واكتسبت بحكم تأييدها للسلطة السياسية والتمتع بحمايتها سلطة مرجعية في كل ما يتعلق بشئون الدين والعقيدة.

إذا انتقلنا من فحص السند إلى فحص المتن — علم الدراية — دخلنا دخولًا مباشرًا في قلب آليات الاجتهاد، فالمتن إنما يكون صحيحًا إذا لم يتضمن في دلالته أدنى تعارض مع المبادئ العامة للشريعة ومقاصدها الكلية كما تُستخرج من القرآن. هنا يعتمد الاجتهاد على المقارنة بين نص في حالة فحص وفرز وبين نص آخر موثوقٍ في صحة منطوقه ثقةً مطلقة، ولكن هذه المقارنة لا تتم بالطبع على مستوى المنطوق، بل على مستوى الدلالات والمعاني. وهكذا تتداخل إشكاليات نصوص الحديث بالإشكاليات التي حللناها عن النص القرآني، وترتد الفعَّالية كلها للعقل الإنساني المرهون بآفاق الزمان والمكان، إنها عملية معقدة تكشف زيف مبدأ «لا اجتهاد فيما فيه نص»، فالاجتهاد — كما رأينا — هو الوجه الآخر للنص، الوجه الذي بدونه يتوقف عن أن يكون نصًّا لغويًّا دالًّا ويتحول إلى أيقونة للزينة والتبرك، وهو أمر وقع بالفعل في ثقافتنا. الاجتهاد — على عكس ما يعلن الخطاب الديني — هو الطريق الوحيد للإفصاح عن دلالة النص الأولي الرئيسي — القرآن — وهو الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى إكساب النصوص الفرعية — الأحاديث — مشروعيةَ الوجود ذاتَها. الاجتهاد إذن لا يكون إلا في النصوص، وما سوى النصوص من مجالات يحتاج إلى الإبداع لا مجرد الاجتهاد، وإلى الاكتشاف لا مجرد ترديد أقوال القدماء.

•••

إن تركيز الخطاب الديني على حاكمية النصوص في مجالات الواقع والفكر كافة، مع ما يعلنه من قَصْر الاجتهاد على الفروع دون الأصول، ومع تحديد مجال الاجتهاد في النصوص الفرعية — الأحاديث — دون النص الأساسي — القرآن — يؤدي إلى تحديد كلٍّ من النص والواقع معًا، فإذا أضفنا إلى ذلك أن ما يطرحه الخطاب الديني أحيانًا من اجتهادات لا يخرج عن مجال الترجيح بين آراء الفقهاء واجتهاداتهم واختيار بعضها، أدركنا أن هذا الخطاب في الواقع يريد أن يرتد بالمجتمع إلى الخلف لا أن يحقق تقدمه كما يزعم. والماضي الذي يريدنا أن نرتد إليه ليس الماضي الذي كان مزدهرًا بالحيوية الفكرية والعقلية، التي تؤمن بالتعدد وتحتمل الخلاف، بل الماضي الذي ارتضى التقليد بديلًا عن الاجتهاد، واكتفى بالتَّكرار بديلًا عن الإبداع. ولا يظهر الماضي الجميل حين يظهر في هذا الخطاب إلا في معرِض التفاخر والزهو على العقل الأوروبي وحضارته المادية التي أقامها على ما استفاده من العقل الإسلامي، كما مر بنا في سياق تحليلاتنا. وأخيرًا ينتهي الخطاب الديني إلى الانغلاق في دائرة النصوص بعد أن جمَّدها وقضى على حيويتها، ويصدُق قول القائل: «احتمينا بالنصوص فدخل اللصوص»،١٠٢ وذلك حين يَقضي على أهم وأخطر ما أقره الفقهاء من مبادئ عقلية: المصالح المرسلة والمقاصد الكلية، فيعيدها إلى النصوص مرة أخرى، وبالمفهوم الذي يطرحه لها، مع أنها مبادئ لتأويل النصوص.
الواقع إذن هو الأصل ولا سبيل لإهداره، من الواقع تكَوَّن النص، ومن لغته وثقافته صيغت مفاهيمه، ومن خلال حركته بفعَّالية البشر تتجدد دلالته، فالواقع أولًا والواقع ثانيًا، والواقع أخيرًا.

وإهدار الواقع لحساب نص جامد ثابت المعنى والدلالة يحول كليهما إلى أسطورة؛ يتحول النص إلى أسطورة عن طريق إهدار بعده الإنساني والتركيز على بعده الغيبي، الأمر الذي يُفسح المجال لتساؤلات عقيمة عن طبيعة النص هناك، وعن شكله ونمط الخط المكتوب به، وهل تنطقه الملائكة بالعربية أو بغيرها، إلى آخر ذلك من أسئلة عقيمة يمتلئ بها الخطاب الديني الإعلامي بشكل خاص، ويتحول الواقع إلى أسطورة نتيجة لتثبيت المعاني والدلالات وإضفاء طابع نهائي عليها تأسيسًا على مصدرها الغيبي، ثم محاولة فرض المعنى الثابت الأزلي المفترض على الواقع الاجتماعي الإنساني، والنتيجة الحتمية لذلك إهدار النص والواقع معًا واستبدال الأسطورة بهما، وهكذا يحكم علينا الخطاب الديني أن ندور حول أنفسنا في دائرة مفرغة، ويقضي من ثَم بكيفية حادة على إمكانات استقطار الدلالات الممكنة والملائمة لوضعنا التاريخي والاجتماعي.

يتجلى هذا الدوران في الدائرة المغلقة في طبيعة مفهوم الحاكمية ذاته، فهو مفهوم يعتمد الخطاب الديني في طرحه على سلطة النص، حيث يتم الاستشهاد من آيات القرآن والأحاديث النبوية، خاصة ما أصبح يُعرف بآيات الحاكمية الثلاث في سورة المائدة، للتدليل على أن الاحتكام للنصوص هو جوهر الإسلام، وأن التساهل في ذلك أو إنكاره يتضمن تهديدًا خطيرًا لا للعقيدة فحسب بل للحياة الإنسانية بمخالفة النظام الذي وضعه الله لها بعلمه وقدرته وحكمته.١٠٣

وبعبارة أخرى يتم تأسيس الحاكمية على النص لإثبات سلطته، ويمكن عكس الصياغة وتظل القضية صادقة من منظور الخطاب الديني فيقال إن الحاكمية معناها تأسيس سلطة النص اعتمادًا على سلطة النص، وهذا هو الدوران في الدائرة المغلقة.

ولمناقشة هذا المفهوم، أو غيره من المفاهيم التي يطرحها علينا الخطاب الديني، خروجًا من تلك الدائرة المغلقة لا بد من العودة إلى الأصول والاحتكام لها.

والأصل والبدء هو سلطة العقل، السلطة التي يتأسس عليها الوحي ذاته، العقل لا بما هو آلية ذهنية صورية جدلية، بل بما هو فعَّالية اجتماعية تاريخية متحركة. هذه السلطة قابلة للخطأ، لكنها بالدرجة نفسها قادرة على تصويب أخطائها، والأهم من ذلك أنها وسيلتنا الوحيدة للفهم. فهم العالم والواقع وأنفسنا والنصوص، ولأنها سلطة اجتماعية تاريخية فإنها ضد الأحكام النهائية والقطعية اليقينية الحاسمة، إنها تتعامل مع العالم والواقع (الاجتماعي والطبيعي) والنصوص بوصفها مشروعات مفتوحة متجددة قابلة دائمًا للاكتشاف والفحص والتأويل، ومن خلال هذا التجدد والحركة يتجدد العقل ذاته وتتطور آلياته وتَنضَج في جدل لانهائي مثمر خلاق. ولأن الخطاب الديني يدرك أن الاحتكام إلى هذه السلطة يفقده كل أسلحته، ويكشف قناعه الأيديولوجي فإنه يعجز عن الحوار على أرض العقل، ويلجأ في وجه محاولات تأسيسه في ثقافتنا — وهي محاولات تتعثر بحكم عوامل كثيرة — إلى التكفير، وهو سلاح فعال في واقع متخلف يعاني أغلبية أفراده من الأمية التعليمية ويعاني أغلبية متعلميه من الأمية الثقافية، وكثيرًا ما يستسلم بعض العقلانيين لابتزاز هذا السلاح، فيلجَئون إلى التقية والمصالحة مع الخطاب الديني، وهو موقف خطير في مغزاه وفي النتائج التي يؤدي إليها.

ولا سبيل أمامنا إلا أن نسعى في تأسيس العقل، لا بالخطاب وحده على أهميته، بل بكل وسائل الكفاح والنضال الممكنة الأخرى. وقد سبق في تحليلنا أن كشفنا اعتماد مفهوم الحاكمية في تأويله للنصوص على المقارنة بين الله والإنسان من خلال ثنائيات: العلم/الجهل، والقدرة/العجز، والحكمة/الهوى. وكشفنا كيف أن هذه الثنائيات تستند في الخطاب الديني — اعتمادًا على النصوص أيضًا — إلى ثنائية الألوهية/العبودية، وهي ثنائية تختزل عَلاقة الإنسان بربه في هذا البعد وحده. ولسنا نريد هنا الالتقاء مع الخطاب الديني في آلياته أو منطلقاته، فنستشهد بنصوص أخرى تؤسس العَلاقة على الحب، أو نستند إلى رأي واجتهاد آخر في التراث يؤسسها على الحب كذلك، بل نريد الاحتكام إلى العقل الذي يردنا إلى البعد التاريخي للنصوص. وهو البعد الذي يهدره الخطاب الديني في أحكامه كلها لا في تأويله للنصوص فحسب. لقد كان المجتمع الذي جاء الوحي يخاطبه مجتمعًا قبليًّا عبوديًّا، تعتمد العَلاقات فيه على هذين البعدين اللذين يمكن اعتبار أولهما بعدًا أفقيًّا، واعتبار ثانيهما بعدًا رأسيًّا، ولا حاجة للإطالة في بيان البعد الرأسي الذي جسد عَلاقة أعلى/أدنى داخل القبيلة الواحدة، ويستوي في ذلك أن يكون العبد عبدًا بالشراء أو بالأسر والاسترقاق، فلم يكن ثمة فارق في مكانة العبد إذا كان عربيًّا. ويجسد البعد الأفقي عَلاقات القبائل، وهي عَلاقات قامت على الصراع على موارد الثروة — أدوات الإنتاج — وهي الماء والكلأ. ومن الطبيعي في ظل عَلاقات الصراع أن تلجأ القبائل الضعيفة لالتماس الحماية من القبائل القوية التي تستأثر بالموارد المتاحة في منطقة تسمى «حمى القبيلة»، ومن هنا نشأت عَلاقات الولاء بين القبائل، وهي عَلاقات تبدو على السطح أفقية، لكن لأنها عَلاقة أقوى/أضعف فهي في منطقة وسطى بين البعدين الأفقي والرأسي، وقد صاغت اللغة هذه العَلاقات، ولذلك نجد الكلمة المعبرة عن عَلاقة الولاء ومشتقاتها ذات دلالة ملتبسة، فهي من الأضداد اللغوية التي تدل على المعنى ونقيضه، فألفاظ «مولى» تدل على العبد والعبيد كما تدل على السيد والسادة.

والنصوص أبنية لغوية لا تفارق النظام الدلالي للغتها إلا في حدود خاصة مشروطة بطبيعة وظيفتها المقصودة في الثقافة، لذلك من الطبيعي أن تصوغ النصوص عَلاقة الله والإنسان من خلال الثنائيات اللغوية/الاجتماعية، لكن إذا كانت اللغة تتطور بتطور حركة المجتمع والثقافة فتصوغ مفاهيم جديدة، أو تطور دلالات ألفاظها، للتعبير عن عَلاقات أكثر تطورًا، فمن الطبيعي، بل والضروري، أن يعاد فهم النصوص وتأويلها بنفي المفاهيم التاريخية والاجتماعية الأصلية وإحلال المفاهيم المعاصرة، والأكثر إنسانية وتقدمًا، مع ثبات مضمون النص. إن الألفاظ القديمة لا تزال حية مستعملة لكنها اكتسبت دلالات مجازية، والإصرار على ردها إلى دلالاتها الحرفية القديمة وإحياء المفاهيم التي تصوغها إهدار للنص والواقع معًا، وتزييف لمقاصد الوحي الكلية، ومن الجدير بالملاحظة أن الخطاب الديني يلجأ إلى التأويل المجازي للنصوص لنفي عَلاقات الحب والولاية والقرب بين الله والإنسان، في الوقت الذي يصر فيه على التمسك بحرفية عَلاقة العبودية التي يؤسس عليها مفهومه للحاكمية. إن تأويل ما هو اجتماعي/تاريخي في النصوص شرط لتجدد النصوص ذاتها بتجدد ما هو جوهري أساسي وإسقاط ما هو عرَضي مؤقت بالنسبة لشروط اجتماعية/تاريخية مغايرة. لقد كان المجتمع الذي خاطبه الوحي مجتمعًا تجاريًّا خاصة في مراكز التأثير والسيطرة الدينية، ولذلك تعكس لغته إطار المفاهيم التجارية كالبيع والشراء، والربح والخسران، والميزان، … إلخ، ولم يتمسك أحد من القدماء، بل من المعاصرين للوحي، بالدلالات الحرفية لهذه المفاهيم، وتم تأويلها كما تم تأويل نصوص الصفات سواء بسواء.

قلنا إن التمسك بالدلالات الحرفية لمفاهيم اجتماعية/تاريخية في لغة النصوص يؤدي لا إلى إهدار الواقع والنص فقط، إنما يؤدي إلى تزييف مقاصد الوحي الكلية، تناقضًا مع ظاهر ما يعلنه الخطاب الديني، وربما مع ما يقصده كذلك، ويتم هذا التزييف على خطوتين؛ أولاهما: الزعم أن الإسلام جاء ليحرر البشر من العبودية (بالمعنى القديم) لبعضهم البعض ويردهم جميعًا إلى العبودية لله وحده، وهذا هو المعنى الذي أدركه العرب الذين خاطبهم الوحي. الخطوة الثانية: أن العبودية الحقة معناها — كما فهم العرب أيضًا — رفض حاكمية البشر والاحتكام إلى الله وحده بالاحتكام إلى النصوص، وعلى هذا الأساس يفسِّر الخطاب الديني المعارضة القوية التي وصلت إلى حد الصراع العسكري بين الإسلام وخصومه. وتستقيم الخطوة الأولى مع الخطوة الثانية لو أن الإسلام كان مجرد حركة تحريرية لإلغاء الرق والعبودية وتحرير العبيد. ومن ثم كان عداء سادة قريش له عداء لنظام يؤلب العبيد ضدهم ويقضي على مصدر تجاري هام من مصادر ثروتهم. ولا شك أن الإسلام ساهم في مرحلته المكية في تحرير العبيد نفسيًّا سلطة السادة على أرواحهم وممتلكاتهم، وهذا معنى «التأليب» الذي كان يشكو منه سادة قريش، وساهم الإسلام كذلك بتشريعاته في المرحلة المدنية بإفساح مجال لتحرير العبيد بجعل العتق كفارة لبعض الذنوب، وكان الأهم من ذلك كله مبدأ المساواة الذي ألح عليه الوحي بين الناس جميعًا بصرف النظر عن الجنس أو اللون. لم يكن الإسلام دعوة لإلغاء العبودية، لا يعيبه ذلك ولا يشينه، فالنظام الذي حرَّم الخمر على ثلاث مراحل لم يكن ليهدم ركنًا اقتصاديًّا هامًّا في الواقع، بل جاء في جوهره ليهدم أسس الجاهلية — كما شرحناها من قبل — ويقيم الحياة على أساس المساواة والعدل، وليحرر الإنسان من أوهام الأسطورة والخرافة.

إن اختزال دور الإسلام ومقصده الكلي في تحرير الإنسان من العبودية لغيره من البشر لكي يرده إلى عبودية من نمط آخر هو التزييف بعينه؛ لأنه مقصد شكلي ما دام يسلمه إلى عبودية كهنة النصوص، هذا فضلًا عن أنه تزييف يجمد النصوص كما يجمد الواقع، بإلغاء حقائق التاريخ واللغة، ومحاربة العقل الذي حرره الوحي. وليس غريبًا بعد ذلك كله أن يتعلم أبناؤنا في المدارس أن الإسلام يبيح امتلاك الجواري ومعاشرتهن معاشرة جنسية، وأن هذه إحدى الطرائق في العَلاقة بالنساء إلى جانب طريقة الزواج الشرعي، ما دام ذلك قد وردت به النصوص، وليس غريبًا أيضًا في ظل عبودية النصوص أن يتعلموا أن المواطن المسيحي مواطن من الدرجة الثانية يجب أن يحسن المسلم معاملته، وهكذا يتوجه الخطاب الديني التعليمي التربوي إلى أبنائنا منبهًا أن عليهم في معاملة زملائهم وأساتذتهم من الأقباط «الرفق بهم وعدم تكليفهم فوق ما يطيقون.»١٠٤ وليس بعيدًا في ظل سيطرة آفة التعصب التي يفرزها الخطاب الديني — قصد أم لم يقصد فلا عبرة بالنوايا هنا — أن يطلُع علينا مجتهد من مجتهدي هذا الزمان ومجدديه بفتوى تحرِّم ما أحلته النصوص من طعام أهل الكتاب استنادًا إلى اجتهادات بعض القدماء الذين ذهبوا إلى أن المقصود بأهل الكتاب في الآية الخامسة من سورة المائدة: «الذين أُنزل عليهم التوراة والإنجيل من بني إسرائيل وأبنائهم، فأما من كان دخيلًا فيهم من سائر الأمم، ممن دان بدينهم، وهم من غير بني إسرائيل، فلم يُعنَ بهذه الآية، وليس هو ممن يحل أكل ذبائحه؛ لأنه ليس ممن أُوتي الكتاب من قَبل المسلمين، وهذا قول كان محمد بن إدريس الشافعي يقوله.»١٠٥

إذا كانت حاكمية النصوص لا تسمح بالخلاف إلا في الفروع وفي حدود الترجيح بين آراء القدماء للاختيار منها، فمن الطبيعي أن يكون الاجتهاد محكومًا بأطر لا تمتُّ إلى الحياة والواقع بصلة، وهكذا لا يجد الخطاب الديني أمام أي اجتهاد حقيقي من سبيل إلا أن يحتمي بمبدأ «لا اجتهاد فيما فيه نص»، وفي قضية أن تحجب البنت سائر الورثة شأنها شأن الذكر، كان يكفي أن يكون المعيار هو المقاصد الكلية للوحي، بدلًا من الاستناد إلى اجتهاد الفقه الشيعي أو التمسك بحرفية النصوص. وهذا المعيار يمكن تلمُّسه من خلال ربط النصوص بواقعها الاجتماعي/التاريخي، وقياس مدى تطوير النص للواقع، ورصد اتجاه هذا التطوير، وهو معيار هام للاجتهاد في مجال الأحكام التفصيلية لأنه يكشف عن طبيعة المصالح التي يجب مراعاتها بعيدًا الأهواء الأيديولوجية. وفي قضية ميراث البنات، بل في قضية المرأة بصفة عامة، نجد الإسلام أعطاها نصف نصيب الذكر بعد أن كانت مستبعدة استبعادًا تامًّا، وفي واقع اجتماعي/اقتصادي تكاد تكون المرأة فيه كائنًا لا أهلية له وراء التبعية الكاملة بل الملكية التامة للرجل، أبًا ثم زوجًا. اتجاه الوحي واضح تمامًا وليس من المقبول أن يقف الاجتهاد عند حدود المدى الذي وقف عنده الوحي، وإلا انهارت دعوى الصلاحية لكل زمان ومكان من أساسها، واتسعت الفجوة بين الواقع المتحرك المتطور والنصوص التي يتمسك الخطاب الديني المعاصر بحرفيتها.

إن الخطاب الديني بكل مستوياته التي ناقشناها هنا مِن معتدلٍ (حكومي ومعارض)، ومتطرفٍ وتعليمي وتربوي وإعلامي، يشترك في آلياته وفي منطلقاته الفكرية على السواء.

وإذا كان خطاب الجماعات يبدو هو الأعلى صوتًا، فإنه في الحقيقة مجرد صدًى لمعطيات سابقة من الأسرة والمدرسة وأجهزة الإعلام، صدًى كان يتردد خافتًا طول الوقت، ثم ساعد على تجسيمه واقع متردٍّ يعجز أهل الحكمة فيه عن تحقيق أبسط المطالب الإنسانية للمواطن العادي، بينما يرتع أثرياء الانفتاح ورموز الحكم والسلطة في كثير من مظاهر الفساد والخطيئة بكل معانيها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. وإذا كان ثمة شبه بين شباب الجماعات والخوارج، فإنه ينحصر في تلك المثالية التطهيرية المفارقة للواقع، والتي تدفعهم للدفاع عن التصور والدعوة إليه حتى الموت/الاستشهاد.

لقد كانوا فيما يرويه المؤرخون يتهالكون على الموت تهالك الفراش على النار، ولهم في استعذاب الموت وتفضيله على الحياة قصائد كثيرة مشهورة. إن الواقع من منظور شباب الجماعات عصيٌّ على الإصلاح، والعقل الإنساني عاجز عن إبداع واقع طيب مؤنس، ولا حل مِن ثَم إلا إحياء المثال الجاهز القديم، المجتمع الإسلامي كما عاشه الصحابة تحت قيادة النبي، إنه الاحتكام إلى كتاب الله وحده السبيل إلى تحقيق هذا الحلم وهلم جرًّا …

١  انظر البيان في جريدة «الأهرام» القاهرية بتاريخ ٢ / ١ / ١٩٨٥م. وانظر أيضًا: تعليق يوسف إدريس في الجريدة نفسها بتاريخ ٩ / ١ / ١٩٨٩م، وكذلك تعليق حلمي مراد في جريدة «الشعب» بتاريخ ١٠ / ١ / ١٩٨٩م.
٢  عادل حسين: العدد السابق من جريدة «الشعب»؛ وانظر أيضًا: علاء محيي الدين (أمير إحدى الجماعات): الجماعة الإسلامية بين العنف والحوار، جريدة الشعب بتاريخ ١٤ / ١ / ١٩٨٩م، وتعليق عادل حسين عليه بالعدد نفسه من الجريدة.
٣  جريدة «الشعب» بتاريخ ١٧ / ١ / ١٩٨٩م.
٤  جريدة «الأهرام» بتاريخ ٢١ / ١٢ / ١٩٨٩م.
٥  انظر في تطور تفكير «قطب» من خلال تطور عَلاقة الإخوان المسلمين بثورة يوليو من جهة، وعَلاقة قطب بتنظيم الإخوان من جهة أخرى: حسن حنفي: أثر الإمام الشهيد سيد قطب على الحركات الدينية المعاصرة ضمن كتاب «الدين والثورة في مصر»، المجلد الخامس، «الحركات الدينية المعاصرة»، مكتبة مدبولي، القاهرة ١٩٨٨م، ص١٦٧–٢٠٠.
٦  انظر في بعض ردود الفعل التي أثارها الحديث: رفعت السعيد: لا يا شيخ شعراوي، جريدة «الأهالي» بتاريخ ٢٣ / ١ / ١٩٨٩م.
٧  فؤاد زكريا: الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة. دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، ط٢، ١٩٨٦م، ص٣٢.
٨  حاول الكاتب أحمد بهجت أن يدافع عن الرواية، لكن دفاعه انتهى إلى تأييد فكرة عدم نشرها في مصر، «إعادة نشرها» على حد تعبيره، انظر عموده اليومي بجريدة «الأهرام»: «صندوق الدنيا» بتاريخ ٧ و٨ / ٢ / ١٩٨٩م. ومما له دلالة في هذا الصدد أن رواية نجيب محفوظ «عبث الأقدار» قد طبعتها دار «الشروق» للنشر والتوزيع طبعة مبسطة للأطفال، بعد تغيير عنوانها إلى «عجائب الأقدار»؛ لأن الأقدار — بتعبير أحمد بهجت — لا تعبث.
٩  The Mainichi Daily News, Japan, No. 23705, February 16, 1989, p. 1.
١٠  في التفرقة بين الآليات والمنطلقات في الخطاب الديني بصفة خاصة نقدم اقتراحًا إجرائيًّا قابلًا للنقاش، هو: المنطلقات الفكرية تمثل في هذا الخطاب الأسس التي لا ينكرها في جدله مع الخصوم، ويُعَد النقاش فيها أو إنكارها خروجًا على الدين والعقيدة، ولا يتسم موقفه من الآليات بسمة التشدد تلك، بل قد ينكر أنه يلجأ إلى بعض هذه الآليات، خاصة ما يكون تناقضها مع الخطاب العلمي واضحًا.
١١  فهمي هويدي: القرآن والسلطان، دار الشروق، القاهرة، ط٢، ١٩٨٢م، ص٧.
١٢  المرجع السابق، ص٢٠.
١٣  يوسف القرضاوي: الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف، دار الشروق، ط٢، ١٩٨٤م، ص٢٢٤.
١٤  المرجع السابق، ص٢٠٧.
١٥  المرجع السابق، ص٩٢.
١٦  المرجع السابق، ص٢١٦.
١٧  انظر: سيد قطب: المستقبل لهذا الدين، طبعة خالية من أية بيانات، وعنها في الغالب صُورَت طبعة دار الشروق لتماثل أرقام الصفحات، فصل «الفِصام النَّكِد»، ص٢٧–٥٤.
١٨  يوسف القرضاوي: الصحوة الإسلامية، سبق ذكره، ص١١٠ وص٧٣.
١٩  أحمد عبد الرحمن: المستر توماس وحوار فوق السحاب، جريدة «الشعب» بتاريخ ٢٤ / ١ / ١٩٨٩م.
٢٠  سيد قطب: الإسلام ومشكلات الحضارة، مكتبة وهبة، القاهرة، ١٩٦٧م، ص٥٢. وأيضًا صفحات ٧٣، ٨٧، ٨٩. وعن فهم الخطاب الديني للماركسية انظر رد فؤاد زكريا على مصطفى محمود: الصحوة الإسلامية في ميزان العقل، دار الفكر، القاهرة ص٢٢، ١٩٨٧م، ص١٩٧–٢٢٢. وانظر كذلك رده على محمد عمارة في فهمه للداروينية: الإسلاميون المعاصرون وثقافة الغرب، مَجلة «العربي»، الكويت، العدد رقم ٣٦٢، يناير ١٩٨٩م.
٢١  تمثل كتابات حسن حنفي في جانب مهم منها هذا الاتجاه، وهو اتجاه يحتاج إلى نقاش موسع في دراسة أخرى. انظر الفصل التالي من هذا الكتاب.
٢٢  أبو حامد الغزالي: تهافت الفلاسفة، تحقيق: سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة، ط٤، ١٩٦٦م، ص١٣٩.
٢٣  المرجع السابق، ص١٣٥، وص١٣٩.
٢٤  معالم في الطريق، مكتبة وهبة، القاهرة، ١٩٦٨م، ص١٤.
٢٥  انظر: فهمي هويدي: القرآن والسلطان، سبق ذكره، ص١٦؛ وانظر أيضًا سيد قطب: هذا الدين، الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية، إنديانا، أمريكا ١٩٧٠م، ص٦٦–٨٧.
٢٦  سيد قطب: معالم في الطريق، سبق ذكره، ص١٣؛ وانظر أيضًا: الإسلام ومشكلات الحضارة، سبق ذكره، ص١٧٣-١٧٤، وص١٧٦.
٢٧  معالم في الطريق، ص٦٧.
٢٨  في ظلال القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط٣، د.ت، الجزء السادس، ص١٤٩.
٢٩  الصحوة الإسلامية، ص ٦٦.
٣٠  المرجع السابق، ص٣٠.
٣١  المرجع السابق، ص٣٧.
٣٢  السابق نفسه، ص٤٢.
٣٣  المرجع السابق نفسه، ص٤٠.
٣٤  فهمي هويدي: القرآن والسلطان، ص١٨-١٩.
٣٥  سيد قطب: معالم في الطريق، ص٤٠.
٣٦  انظر: سيد قطب: هذا الدين، سبق ذكره، ص٣٨؛ وانظر أيضًا: فهمي هويدي: القرآن والسلطان، ص٢٠-٢١.
٣٧  انظر: يوسف القرضاوي: الصحوة الإسلامية، ص٩٦.
٣٨  سيد قطب: معالم في الطريق، ص١٢٧–١٢٩.
٣٩  المرجع السابق، ص١٣٠-١٣١.
٤٠  المرجع السابق، ص١٤٤، وانظر أيضًا ص١٥٢.
٤١  نقلًا عن مَجلة «الوحدة الإسلامية»، إيران، العدد رقم ١٠٧، فبراير ١٩٨٩م.
٤٢  سيد قطب: معالم في الطريق، ص٥٢، ٥٣.
٤٣  المرجع السابق، ص١١٨–١٢٠، انظر أيضًا ص١٦٠.
٤٤  يبدو هذا واضحًا في التعليقات التي نُشرت في الصحف على أحاديث الشعراوي في التلفزيون، سواء في الحديث الذي سبقت الإشارة إليه عن موقفه من حرب عام ١٩٦٧م، أو في الفتاوى التي يتطوع بإذاعتها على الناس في شئون الطب والعلاج ونقل الأعضاء. انظر على سبيل المثال: صلاح منتصر في عموده اليومي بجريدة الأهرام «مجرد رأي» بتاريخ ١٣ و١٤ / ٢ / ١٩٨٩م.
٤٥  سيد قطب: معالم في الطريق، ص٨.
٤٦  المرجع السابق، ص١٦٧.
٤٧  المرجع السابق، ص٨٩.
٤٨  المرجع السابق، ص٩١.
٤٩  السابق نفسه، ص٦٠.
٥٠  السابق نفسه، ص١٦–٢٢.
٥١  السابق نفسه، ص١٩، وانظر أيضًا: ص١٦١–١٦٤.
٥٢  السابق نفسه، ص١٥٠-١٥١.
٥٣  محمد بن جرير الطبري: تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، ط٤، ١٩٧٩م، الجزء الخامس، ص٤٨-٤٩.
٥٤  فتاوى ابن الصلاح، ص٣٤-٣٥، نقلًا عن مصطفى عبد الرازق: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مكتبة النهضة المصرية، ط٣، ١٩٦٦م، ص٨٥-٨٦.
٥٥  A Short History of the Islamic Revivalist Movement in Islam, trans. By: P. Al-Ash’ari, Islamic Publication LTD. Lahore (Pakistan), 3 Rd Ed, 1979, p. 30.
٥٦  سيد قطب: المستقبل لهذا الدين، سبق ذكره، ص٨، وانظر أيضًا: هذا الدين، ص٢٠–٢٢.
٥٧  المصطلحات الأربعة في القرآن، دار التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط٢، ١٩٨٦م.
٥٨  هذا الدين، ص١٥-١٦.
٥٩  معالم في الطريق، ص٨١.
٦٠  المرجع السابق، ص٦٢.
٦١  السابق نفسه، ص٥٩.
٦٢  السابق نفسه، ص٢٤-٢٥.
٦٣  انظر: حسن حنفي: أثر الإمام الشهيد سيد قطب على الحركات الدينية المعاصرة، سبق ذكره، ص١٦٩-١٧٠.
٦٤  المرجع السابق، ص١٩١–١٩٧.
٦٥  معركة الإسلام والرأسمالية، الدار السعودية للنشر والتوزيع، ط٤، ١٩٦٩م، ص١٠١.
٦٦  المرجع السابق، ص٦١، وانظر أيضًا: ص١٠٩.
٦٧  السابق نفسه، ص١٠٤.
٦٨  السابق نفسه، ص١١٦.
٦٩  السابق نفسه، ص٧٣.
٧٠  انظر: معالم في الطريق، صفحات: ٢١، ٢٨-٢٩، ٣٣.
٧١  المرجع السابق، ص٤٥.
٧٢  المرجع السابق، ص١٣٦.
٧٣  السابق نفسه، ص٢٣.
٧٤  السابق نفسه، ص٢٥.
٧٥  انظر: يوسف القرضاوي: الصحوة الإسلامية، ص٥٨؛ وانظر أيضًا فهمي هويدي: التدين المنقوص، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، ط١، ١٩٨٧م، ص٢٤٧–٢٥٢.
٧٦  محمد بن جرير الطبري: تاريخ الرسل والملوك، سبق ذكره، الجزء الخامس، ص٦٦.
٧٧  المرجع السابق، الجزء نفسه، ص٦٥.
٧٨  Afzal. Rafique M. (ed), The case for Pakistan. National commission on historical and cultural Research, Islam Abad, Ripon Printing Press, Lahore, 1979, pp. xi-xii.
٧٩  انظر فؤاد زكريا: الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية، سبق ذكره، ص٧٤.
٨٠  يقول يوسف إدريس في «مفكرته» بجريدة «الأهرام» بتاريخ ١٦ / ١ / ١٩٨٩م: «إننا نريد من يحل لنا مشكلة مصر أو يجد الحل … أما أن نحل نحن مشكلتنا بأيدينا وبأنفسنا، بقدرتنا الذاتية، بالحق ننتزعه انتزاعًا، ولا ننتظر هبوط الوحي من السماء، فتلك قضية أخرى لا نحكم فيها أو نفكر فيها، أو بمعنًى آخر لا نقدر عليها.» ثم يتساءل: «كيف تَكوَّن لدينا ونما هذا الشعور، الشعور المؤكد أننا دائمًا أصغر وأضعف من أن نحل مشاكلنا؟» لعل في تحليلنا لمفهوم الحاكمية ما يجيب عن مثل هذه التساؤلات.
٨١  مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء.
٨٢  انظر عموده اليومي «يوميات» بجريدة «الأهرام»، ٢٨ / ١٢ / ١٩٨٨م.
٨٣  الصفحة الدينية بجريدة «الأهرام»، بتاريخ ٢٧ / ١ / ١٩٨٩م.
٨٤  المرجع السابق.
٨٥  معالم في الطريق، ص٥٧.
٨٦  المرجع السابق، ص٩٥.
٨٧  المرجع السابق، ص٩٦.
٨٨  يوسف القرضاوي: الصحوة الإسلامية، ص٨٩-٩٠.
٨٩  انظر: الرسالة، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر، المكتبة العلمية، بيروت، ص١٤ و١٩ و٢١ و٢٢.
٩٠  التفسير العقلي للقرآن: دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، دار التنوير، بيروت، ط٢، ١٩٨٣م، ص١٦٤ وما بعدها.
٩١  جار الله الزمخشري: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الكتاب العربي، بيروت، د.ت، الجزء الأول، ص٥٠.
٩٢  ابن المنير: الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال. على هامش الكشاف، ص٤٩.
٩٣  محيي الدين بن عربي: الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت، الجزء الثاني، ص٦٩٢. وعلى أساس هذه التفرقة ينفي ابن عربي الدلالة الزمانية لكل ما ورد في القرآن من آيات يقع فيها اسم الجلالة — نحويًّا — اسمًا ﻟ «كان».
٩٤  المرجع السابق، الجزء الأول، ص١٦٤.
٩٥  المرجع السابق نفسه، ص١٨٩.
٩٦  السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط٣، ١٩٥١م، الجزء الثاني، ص١٦؛ انظر أيضًا: الزركشي: البرهان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ط٢، د.ت، الجزء الثاني، ص٢١٧.
٩٧  السيوطي: المرجع السابق، الجزء نفسه، ص٤.
٩٨  «النص الخام» مفهوم يطرحه حسن حنفي كثيرًا في كتاباته، ويعني به: النص بمعزل عن أي تأويل أو تفسير، وهي حالة افتراضية محضة، لا تختلف كثيرًا عن حالة النص الميتافيزيقية.
٩٩  في التفرقة بين نمطي الوحي، وحي القرآن ووحي الحديث، انظر: ابن خلدون: المقدمة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د.ت، ص٩٨-٩٩.
١٠٠  يوسف القرضاوي: الصحوة الإسلامية، ص١٦٢.
١٠١  المرجع السابق، ص١٦٤.
١٠٢  قول يكرره حسن حنفي كثيرًا في كتاباته نقلًا عن سطر شعري.
١٠٣  انظر: سيد قطب: في ظلال القرآن، سبق ذكره، الجزء السادس، ص١٥٦ وما بعدها.
١٠٤  انظر على الترتيب: كتاب التربية الدينية للصف الثاني الثانوي ص١٠٠، وكتاب الصف الثالث الثانوي ص٣١، نقلًا عن: حامد عمار: حول الكتب المدرسية، جريدة «الأهالي» بتاريخ ١ / ٢ / ١٩٨٩م.
١٠٥  محمد بن جرير الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة ط٢، ١٩٤٥م، الجزء السادس، ص١٠١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤