الخطاب الديني المعاصر: آلياته ومنطلقاته الفكرية
تعتمد هذه الدراسة مجمل الخطاب الديني موضوعًا لها. وذلك دون الأخذ في الاعتبار تلك التفرقة — المستقرة إعلاميًّا — بين «المعتدل» و«المتطرف» في هذا الخطاب. والحقيقة أن الفارق بين هذين النمطين من الخطاب فارق في الدرجة لا في النوع. والدليل على ذلك أن الباحث لا يجد تغايرًا أو اختلافًا، من حيث المنطلقات الفكرية أو الآليات، بينهما. ويتجلى التطابق في اعتماد نمطَي الخطاب على عناصر أساسية ثابتة في بنية الخطاب الديني بشكل عام، عناصر أساسية غير قابلة للنقاش أو الحوار أو المساومة. في القلب من هذه العناصر عنصران جوهريان ستتعرض لهما هذه الدراسة بالمناقشة وهما: «النص» و«الحاكمية».
- (١)
التوحيد بين الفكر والدين وإلغاء المسافة بين الذات والموضوع.
- (٢)
تفسير الظواهر كلها بردها جميعًا إلى مبدأ أو علة أولى، تستوي في ذلك الظواهر الاجتماعية أو الطبيعية.
- (٣)
الاعتماد على سلطة «السلف» أو «التراث»، وذلك بعد تحويل النصوص التراثية — وهي نصوص ثانوية — إلى نصوص أولية تتمتع بقدر هائل من القداسة لا تقل — في كثير من الأحوال — عن النصوص الأصلية.
- (٤)
اليقين الذهني والحسم الفكري «القطعي»، ورفض أي خلاف فكري — من ثم — إلا إذا كان في الفروع والتفاصيل دون الأسس والأصول.
- (٥)
إهدار البعد التاريخي وتجاهله، ويتجلى هذا في البكاء على الماضي الجميل، يستوي في ذلك العصر الذهبي للخلافة الرشيدة، وعصر الخلافة التركية العثمانية.
ومن الضروري — قبل الدخول في صلب موضوعنا وجوهره — أن نكشف عن بعض مظاهر التطابق بين تياري الاعتدال والتطرف، على مستوى المنطلقات الفكرية، وذلك من خلال «الحوار» الإعلامي الذي بدأت تديره وتشرف عليه سلطات الأمن في مصر بعد اغتيال رئيس الجمهورية السابق. والمتابع لهذا الحوار أو لبعض حلقاته — سواء ما يذاع منها عبر الأثير أو ما ينشر في الصحف — يدرك على الفور أنه حوار مستحيل، حوار الصم، أو هو — في بعض الأحوال — حوار بين «الصوت» و«الصدى». في إحدى هذه الحلقات تورط أستاذ جامعي — وكان عميدًا لإحدى الكليات النظرية آنذاك — حين جابهه أحد أمراء الجماعات الإسلامية متسائلًا في خبث عن معنى آيات الحاكمية الثلاث التي وردت في سورة المائدة، فردَّ الأستاذ قائلًا في يقين وحسم قاطع: «نعم لا حاكمية إلا لله» رددها ثلاث مرات، ثم أردف بعد تردد: «ولكن» ثم أخذ يعدد مظاهر الإيمان في المجتمع المصري … وبلغ به الحماس في تأكيد تديُّن المصريين وحسن إسلامهم مبلغًا جعله يزعم أنه، في صلاة الجمعة، يؤم مئات الطلاب في مسجد الكلية ناسيًا — غفر الله له — أن يوم الجمعة إجازة، ولا يسمح جهاز الأمن فيها للطلاب بدخول الجامعة. هذا مع افتراض أن للكلية — أية كلية — مسجدًا يتسع لمئات الطلاب.
إن الخلاف بين «المعتدلين» و«المتطرفين» يكمن إذن في «تكفير» الحاكم والمجتمع، وإن كنا سنكتشف بعد قليل أن هذا الخلاف خلاف «هامشي» وليس خلافًا «جوهريًّا» كما يوهم البيان السابق. والخلاف حول مبدأ «تغيير المنكر باليد» إنما هو خلاف حول التوقيت — توقيت التطبيق — لا التطبيق ذاته. يقول الشيخ محمد الغزالي — أحد العلماء الذين صدر البيان باسمهم — في حديث لجريدة «الشعب»: «إن الوثنية كانت المنكر الأكبر، فماذا صنع النبي عليه الصلاة والسلام معها؟ إنه لم يهدم صنمًا حول الكعبة التي نصلي إليها حتى بلغ الحادية والستين من عمره. أي قبل وفاته بعامين، كان يغيِّر المنكر بلسانه، ويُعِد الأمة لتغييره باليد في أول فرصة سانحة، وقد سنحت هذه الفرصة عند فتح مكة.» وإذا كان هذا الرأي يؤمن بالتروي والتريث و«التدرج» في انتظار الفرصة السانحة، فإن كاتبًا آخر — من ممثلي تيار الاعتدال — كتب مقالة في الجريدة نفسها عنوانها «لا بد من تغيير المنكر باليد»، وذهب فيها إلى أن هناك اتفاقًا بين علماء السلف على أنه «لا يُشترط للقيام بمهمة الحِسبة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) موافقة ولي الأمر وإذنُه؛ إذ كيف يكون الإذن شرطًا ضروريًّا إذا كان الأمر والنهي موجهَين في بعض الأحيان إلى الحاكم نفسه أو إلى بعض من يُولِيهم ثقته.»
إن التكفير — في الحقيقة — يمثل أيضًا إلى جانب «الحاكمية» و«النص» عنصرًا أساسيًّا في بنية الخطاب الديني بشقيه المعتدل والمتطرف على السواء، وغاية الأمر أنه واضح معلن في خطاب المتطرفين، كامن خفي في خطاب المعتدلين.
أن التكفير ظل مبدأ محايثًا للخطاب الديني المعاصر، يكمن حينًا ويظهر حينًا آخر، اعتمادًا على قرب المتحدثين به — أو بُعدهم — من جهاز السلطة.
ليس غريبًا إذن هذا الموقف وإن كان — كما قلنا — مفاجئًا في المكان والزمان، فالمكان هو الجهاز الإعلامي الجماهيري الخطير التأثير، الذي تسيطر عليه الدولة التي تعتبر نفسها امتدادًا للنظام الذي يلصق الشيخ به تهمة الكفر. وإذا كان معروفًا أن كل ما يصدر عن هذا الجهاز يخضع لرقابة دقيقة فليس من الصعب أن يستنتج الإنسان «موافقة» المسئولين على كل ما قيل. أما المفاجأة من حيث الزمان فهي أن «التكفير» الذي تُعلنه الدولة على لسان أحد علمائها «المعتدلين» يصدر في الوقت نفسه الذي يبدو فيه أن الدولة تجند علماءها وإعلامها للقضاء على هذا «المرض الذي يكاد يفتك بجسم الأمة» كما جاء في بيان شيخ الأزهر. وإذا كان «التكفير» — كما هو واضح — جزءًا من بنية الفكر الديني جملة فهو كذلك جزء من أيديولوجية الدولة سواء في تبرير توجهاتها الاقتصادية والاجتماعية، أو في مواجهة خصومها من المعارضين. وليس بعيدًا عن أذهاننا استخدام رئيس الجمهورية السابق هذا السلاح الأيديولوجي بشكل واسع — في خُطَبه وأحاديثه — ضد كل خصومه السياسيين، بصرف النظر عن اتجاهاتهم وانتماءاتهم.
وكما يتفق المعتدلون والمتطرفون في هاتين الركيزتين الأساسيتين، «التكفير» و«تغيير المنكر باليد»، يتفقان كذلك — رغم الخلاف الظاهري والجدل المتبادل — في كثير من القضايا الثانوية، أو التي يزعم بعض المعتدلين أنها كذلك. ويكفينا هنا الاستشهاد بموقف الجميع من «الآداب والفنون»، فيذهب كثير من شباب «الجماعات» إلى تحريم فنون الغناء والموسيقى والتشكيل بشكل خاص، ويعتبرون العروض المسرحية نوعًا من اللهو المكروه. أما الشيوخ المعتدلون فيرون أن الإسلام ليس ضد الفنون والآداب الراقية، وأن التحريم ينصب على تلك الفنون والآداب التي تثير الغرائز، وتخاطب في الإنسان جانبه الحسي المادي. وقد يتفق نقاد الأدب والفن مع جانب من هذه الصياغة، وهو الخاص بإثارة الغرائز، ويستبعدون كل ما كان هذا شأنه من مجال الأدب والفن. أما مخاطبة الحواس فلا يمكن أن تكون معيارًا تُحاكَم على أساسه الفنون، فهو معيار يؤدي في الواقع إلى نفي كل الفنون التشكيلية واستبعادها، أي يؤدي إلى «التحريم» من باب خلفي، ذلك أن هذه الفنون جميعًا تعتمد على التأثير الحسي في أداء وظائفها الجمالية.
لذلك كله ترى هذه الدراسة أنه من قبيل الظلم الفادح، عن عدم الدقة العلمية، التعامل مع ما يُطلَق عليه «الصحوة الإسلامية» من خلال خطاب «الجماعات» وحده، أي بمعزل عن السياق العام للخطاب الديني بشقيه «الرسمي» و«المعارض» على السواء. قد يوهم الفصل بين خطاب «الجماعات» والخطاب الديني العام أن هذه الظاهرة نبتٌ دخيل على تربة الفكر الديني، وهذا بالضبط ما تروج له أجهزة الأمن، وما يوحي به الخطاب الديني الرسمي. ومعنى أنها نبت دخيل أن الحل الوحيد هو استئصالها من التربة، ولا مجال لذلك إلا بالفأس. هذا هو الظلم الفادح الذي يجب على الباحث لا ألا يساهم فيه فحسب، بل أن يقف بكل وسائله وأدواته ضده. إن هؤلاء الشباب ضحايا بكل معنى الكلمة، وإذا كان يبدو أحيانًا في سياق بعض الأحداث والمواقف أنهم جلادون فإن الجلادين الحقيقيين هم الذين مَلَئُوا عقولهم — عبر أدوات البث والإعلام الجديدة والمختلفة — بكل ما تمتلئ به من أفكار، وضعوا بها في أيديهم السياط والجنازير، بل والقنابل.
ويتجلى عدم الدقة العلمية واضحًا في النظر إلى فكر الجماعات بوصفه امتدادًا طبيعيًّا ناتجًا عن تأثر مباشر ببعض اتجاهات الفكر التراثي، وبخاصة تراث المدرسة الحنبلية كما تعرضها كتابات «ابن تيميَّة» و«ابن القَيِّم» بشكل خاص، والحقيقة أن مثل هذا التصور يُعَد إهدارًا للعلل المباشرة القريبة، وثبًا نحو العلل البعيدة غير المباشرة. إن أي تشابه بين فكر الجماعات وفكر تلك المدرسة لا بد أن يكون قد مرَّ عبر «وسيط» الخطاب الديني المعاصر، وهذا الوسيط ليس بالتأكيد وسيطًا محايدًا. إنه يعيد إنتاج الفكر التراثي من خلال موقفه الأيديولوجي الخاص، وهذا المنتج هو مصدر التأثير المباشر في خطاب الجماعات.
إن أطروحات هؤلاء الشباب في حقيقتها أطروحات «غير نضيجة» على حد تعبير الشَّهْرَسْتاني في وصفه لأفكار المعتزلة الأوائل. ويتبدى عدم النضج في أنها أفكار متناثرة لا يجمعها نسق في ذاتها، وإنما تستمد تناسقها وانتظامها حين توضع في نسيج الخطاب الديني العام. وبعبارة أخرى: إن هؤلاء الشباب لا يقدمون للدين مفهومًا أو رؤية تختلف — أو تتعارض — مع الرؤى والمفاهيم في الخطاب الديني العام، لكنهم يتحولون بهذه الأطروحات من مجال الخطاب إلى مجال الفعَّالية والحركة، وذلك بحكم اكتوائهم بكل آلام الواقع ونفورهم من كل مفاسده وتشوهاته.
أولا: آليات الخطاب
وإذا كنا في هذا التحليل سنتوقف عند خمس آليات، هي التي استطعنا رصدها حتى الآن، فمن الواجب ألا نزعم أنها تستوعب كل آليات الخطاب الديني، فلا شك أن مجال الرصد والإضافة — بمزيد من العمق والدقة في التحليل — سيظل مفتوحًا، سواء بالنسبة للآليات أو بالنسبة للمنطلقات. إن هذه الآليات الخمس تمثل — في تقديرنا — الآليات الأساسية والجوهرية التي تحكم مجمل الخطاب الديني وتسيطر عليه. والحكم نفسه ينسحب على المنطلَقَين الفكريين اللذين سنتناولهما بالتحليل بعد ذلك.
التوحيد بين الفكر والدين
منذ اللحظات الأولى في التاريخ الإسلامي — وخلال فترة نزول الوحي وتشكل النصوص — كان ثمة إدراك مستقر أن للنصوص الدينية مجالاتِ فعَّاليتها الخاصة، وأن ثمة مجالاتٍ أخرى تخضع لفاعلية العقل البشري والخبرة الإنسانية، ولا تتعلق بها فعَّالية النصوص. وكان المسلمون الأوائل كثيرًا ما يسألون إزاء موقف بعينه ما إذا كان تصرف النبي محكومًا بالوحي أم محكومًا بالخبرة والعقل. وكثيرًا ما كانوا يختلفون معه، ويقترحون تصرفًا آخر إذا كان المجال من مجالات العقل والخبرة. الأمثلة على ذلك كثيرة، وتمتلئ بها كل وسائل الخطاب الديني وأدواته: من كتب ومقالات وخطب ومواعظ وبرامج وأحاديث. ورغم ذلك يمضي الخطاب الديني في مد فعَّالية النصوص الدينية إلى كل المجالات، متجاهلًا تلك الفروق التي صيغت في مبدأ «أنتم أعلم بشئون دنياكم».
ولا يكتفي الخطاب الديني بذلك، بل يوحد بطريقة آلية بين هذه النصوص وبين قراءته وفهمه لها. وبهذا التوحيد لا يقوم الخطاب الديني بإلغاء المسافة المعرفية بين «الذات» و«الموضوع» فقط، بل يتجاوز ذلك إلى ادعاء — ضمني — بقدرته على تجاوز كل الشروط والعوائق الوجودية والمعرفية والوصول إلى القصد الإلهي الكامن في هذه النصوص. وفي هذا الادعاء الخطير لا يدرك الخطاب الديني المعاصر أنه يدخل منطقة شائكة هي منطقة «الحديث باسم الله» وهي المنطقة التي تحاشى الخطاب الإسلامي — على طول تاريخه عدا استثناءات قليلة لا يُعتد بها — مقاربة تخومها. ومن العجيب أن الخطاب المعاصر يعيب هذا المسلك ويندد به في حديثه عن موقف الكنيسة من العلم والعلماء في القرون الوسطى.
ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن هذه الآلية تتداخل مع آليات أخرى وتشتبك بها، فآلية «اليقين الذهني والحسم الفكري» — مثلًا — يمكن أن تُعَد إحدى نتائجها، وإن كان هذا لا ينفي استقلالها بوصفها إحدى آليات الخطاب. أما آلية «إهدار البعد التاريخي» فهي تُعَد — في جانب منها — جزءًا من بنية آلية «التوحيد بين الفكر والدين»، وذلك أن التوحيد بين «الفهم» و«النص» — حيث يقع الفهم في الحاضر، وينتمي النص إلى الماضي (لغة على الأقل) — لا بد أن يعتمد على «إهدار البعد التاريخي». والخطاب الديني المعاصر يبدو في هذا كله وكأنه يصدر عن مسلَّمات لا تقبل النقاش أو الجدل. وقد مرَّ بنا في الفقرة السابقة بعض الاستشهادات التي تمثل هذا التوحيد بين الفكر البشري والدين، فالجميع يتحدثون عن «الإسلام» — بألف ولام العهد — دون أن يخامر أحدهم أدنى تردد ويدرك أنه يطرح في الحقيقة فهمه للإسلام أو لنصوصه. وحتى الاستناد إلى آراء القدماء وإلى اجتهاداتهم أصبح هو الآخر استنادًا إلى «الإسلام» الذي كثيرًا ما تضاف إليه صفة «الصحيح» فصلًا له عن «الزائف» الذي يمثل اجتهادًا آخر. وإذا كنا لسنا هنا بصدد الحكم على هذا الاجتهاد أو ذاك، فإن الذي يشغلنا هنا ليس قيمة الاجتهاد في ذاته، بل شاغلنا الأساسي الكشف عن ذلك الاقتناع بامتلاك «الحقيقة» في الخطاب الديني. وهو الاقتناع الذي جعله يتخلى عن كثير من فضائل الخطاب السلفي.
وهكذا ينتهي الخطاب الديني إلى إيجاد «كهنوت» يمثل سلطة ومرجعًا أخيرًا في شئون الدين والعقيدة، بل يصل إلى حد الإصرار على ضرورة التلقي الشِّفاهي المباشر في هذا المجال عن العلماء.
إن هذا التناقض في الخطاب الديني بين إنكار وجود «كهنوت» أو «سلطة مقدسة» في الإسلام — على المستوى النظري والإجرائي — وبين الإصرار على ضرورة الاحتكام إلى هذه السلطة وأخذ معنى الدين والعقيدة عنها وحدها — على المستوى التطبيقي والفعلي — إنما يمثل تناقضًا خطيرًا ينسف من الأساس المنطلقات الجوهرية لهذا الخطاب، كما يكشف في الوقت نفسه عن الطبيعة الأيديولوجية التي لا يكف الخطاب عن إنكارها والتنصل منها، زاعمًا «موضوعية» مطلقة وتجردًا تامًّا عن «التحيزات» والأهواء الطبيعية في البشر.
رد الظواهر إلى مبدأ واحد
إن الحديث عن إسلام واحد ثابت المعنى، لا يبلغه إلا العلماء، يمثل جزءًا من بنية آلية أوسع في الخطاب الديني. وليست هذه الآلية من البساطة والبداهة التي تبدو بها في الوجدان والشعور الديني العادي والطبيعي، بل نجدها في الخطاب الديني ذات أبعاد خطيرة تهدد المجتمع، وتكاد تشل فاعلية «العقل» في شئون الحياة والواقع. ويعتمد الخطاب الديني في توظيفه لهذه الآلية على ذلك الشعور الديني العادي، فيوظفها على أساس أنها إحدى مسلَّمات العقيدة التي لا تُناقَش. وإذا كانت كل العقائد تؤمن بأن العالم مدين في وجوده إلى علة أولى أو مبدأ أول — هو الله في الإسلام — فإن الخطاب الديني — لا العقيدة — هو الذي يقوم بتفسير كل الظواهر، الطبيعية والاجتماعية، بردها جميعًا إلى ذلك المبدأ الأول. إنه يقوم بإحلال «الله» في الواقع العيني المباشر، ويرد إليه كل ما يقع فيه. وفي هذا الإحلال يتم — تلقائيًّا — نفي الإنسان، كما يتم إلغاء «القوانين» الطبيعية والاجتماعية، ومصادرة أية معرفة لا سند لها من الخطاب الديني، أو من سلطة العلماء.
في هذا الخطاب، وبفضل هذه الآلية، تبدو أجزاء العالم مشتتة، وتبدو الطبيعة مبعثرة، إلا من الخيط الذي يشد كل جزء من العالم أو من الطبيعة إلى الخالق والمبدع الأول. ولا يمكن لمثل هذا التصور أن ينتج أية معرفة «علمية» بالعالم أو بالطبيعة، ناهيك بالمجتمع أو بالإنسان. هذا التصور امتداد للموقف «الأشعري» القديم، الذي ينكر قوانين السببية في الطبيعة والعالم لحساب «جبرية» شاملة، تمثل غطاء أيديولوجيًّا للجبرية الاجتماعية والسياسية في الواقع.
وإذا كنا لا نريد استباق مناقشة آلية «الاستناد إلى التراث» الآن، فإننا نكتفي هنا برصد التشابه في توظيف الآلية. إن معاداة «العلمانية» والهجوم المستمر عليها في الخطاب الديني المعاصر يرتد — في أحد جوانبه — إلى أنها تسلبه إحدى آلياته الأساسية في التأثير، ويرتد — في جانب آخر — إلى أنها تجرده من «السلطة المقدسة» التي يدعيها لنفسه حين يزعم امتلاكه للحقيقة المطلقة الكاملة. ورغم استنكار الخطاب الديني لموقف رجال الكنيسة في بدايات عصر النهضة الأوروبي من العلم والعلماء، فإن موقفه في الحقيقة لا يختلف عن ذلك الموقف الذي يستنكره نظريًّا، وهذه نقطة سنعود لها في سياق هذه الفقرة بعد قليل.
ليس مهمًّا أيضًا في سياق الخطاب الديني إهدار مبدأ «الجدل» الذي يُعَد من أسس الفكر الماركسي ومن أولوياته، وليس مهمًّا دعواه أنه فكر يهدف إلى تغيير العالم — لا مجرد تفسيره — بتغيير وعي الإنسان بوصفه أداة التغيير و«الفاعل» في التاريخ والواقع، فالخطاب الديني لا يستهدف الوعي بقدر ما يهدف إلى التشويش الأيديولوجي. وقد حاول الخطاب الديني مؤخرًا أن ينفي عن هجومه على العلمانية معاداة العلم والمعرفة العقلية، فلجأ إلى حيلة «تَكتيكية» كشفت — عكس المراد منها — عن تهافت هذا الخطاب وتناقض مقولاته ومنطلقاته. لجأ بعضهم إلى إعادة اختزال الحركة عن طريق ترجمة المصطلح الدال عليها إلى «الدنيوية» بدلًا من «العلمانية» غافلًا عن أن مثل هذا التوجيه يضع الحركة الإسلامية المعاصرة في الجانب النقيض للمفهوم من الدنيوية وهو الأخروية، الأمر الذي يتناقض مع المنطلق الرئيسي لهذه الحركة، والذي يذهب إلى أن الإسلام «دين ودنيا». وهكذا نرى أن آلية «رد الظواهر إلى مبدأ واحد» تكاد تكون آلية فاعلة في معظم جوانب الخطاب الديني، وأنها آلية لا عَلاقة لها بالشعور الديني الطبيعي والعادي، وإن كانت تحاول الاستناد إليه لأهداف أيديولوجية.
الاعتماد على سلطة «التراث» و«السلف»
سبق أن أشرنا إلى أن المسلمين كانوا على وعي بوجود مجالات لفعَّالية النصوص، ومجالات أخرى لفعَّالية العقل والخبرة لا فعَّالية النصوص فيها. وقد ظل هذا الوعي حيًّا حاضرًا في ضمير الجماعات والأفراد. ولم ينل من وضوحه في العقل والضمير تلك الخلافات الدامية التي ظل المسلمون ينظرون إليها بوصفها خلافات «مصالح» دنيوية، لا خلافات عقائد دينية. وقد كان الأُمويون — لا الخوارج على عكس ما يروِّج الخطاب الديني المعاصر — هم الذين طرحوا مفهوم «الحاكمية» بكل ما يشتمل عليه من دعوى فعَّالية النصوص في مجال الخصومة السياسية وخلافات المصالح، وذلك حين استجاب معاوية لنصيحة ابن العاص وأمر رجاله برفع المصاحف على أسنة السيوف داعين إلى الاحتكام إلى كتاب الله. وهذه المسألة سنعود إليها تفصيلًا في مجال تحليل مفهوم الحاكمية، لكنها هنا تكشف عن بداية عملية تزييف الوعي، وهي عملية ظل النظام الأُموي يمارسها بحكم افتقاده للشرعية التي ينبغي أن يقوم عليها أي نظام سياسي. وقد ظل الالتجاء إلى الأسلوب الأُموي مسلكًا سائدًا في كل أنماط الخطاب الديني المساند لأنظمة الحكم غير الشرعية في تاريخ المجتمعات الإسلامية.
وليس من الضروري — فيما يرى الغزالي — إذا قلنا إن الله سبب وجود العالم، وإن المصباح سبب وجود الضوء، أن نستنتج من ذلك أن المصباح فاعل؛ ذلك أن الفاعل لا يكون «فاعلًا صانعًا» بمجرد أن يكون سببًا، ولكنه يكون فاعلًا لأنه سبب الفعل «على وجه مخصوص» أي «على وجه الإرادة والاختيار». ومن الواضح أن الغزالي أوقع نفسه في إشكالية لغوية، وفي شبكة من الألفاظ المترابطة كالفعل والخلق والخالق، وأنه — علاوة على ذلك — خلط بين مجالات الفكر الديني الكلامي — المستند إلى مفاهيم أشعرية — وبين مجالات البحث في الطبيعة. وانتهى به ذلك إلى إهدار قوانين السببية. من هنا جاء الاعتقاد الخطير الذي ساد الخطاب الديني في الثقافة العربية أن النار لا تحرق، وأن السكين لا تقطع، وأن الله هو الفاعل من وراء كل الأسباب.
اليقين الذهني والحسم الفكري
وهكذا، فالخطاب الديني حين يزعم امتلاكه وحده للحقيقة لا يقبل من الخلاف في الرأي إلا ما كان في الجزئيات والتفاصيل، وهنا يبدو تسامحه واتساع صدره واضحًا ومثيرًا للإعجاب، يتسع للتشدد والتنطع، بل وللتطرف. ولكن الخلاف إذا تجاوز السطح إلى الأعماق والجذور احتمى الخطاب الديني بدعوى الحقيقة المطلقة الشاملة التي يمثلها، ولجأ إلى لغة الحسم واليقين والقطع، وهنا يذوب الغشاء الوهمي الذي يتصور البعض أنه يفصل بين الاعتدال والتطرف.
إهدار البعد التاريخي
وبالدرجة نفسها من الوضوح يبدو إهدار البعد التاريخي في تصور التطابق بين مشكلات الحاضر وهمومه وبين مشكلات الماضي وهمومه، وافتراض إمكانية صلاحية حلول الماضي للتطبيق على الحاضر. ويكون الاستناد إلى سلطة السلف والتراث، واعتماد نصوصهم بوصفها نصوصًا أولية تتمتع بذات قداسة النصوص الأولية، تكثيفًا لآلية إهدار البعد التاريخي، وكلتا الآليتين تساهم في تعميق اغتراب الإنسان والتستر على مشكلات الواقع الفعلية في الخطاب الديني. ومن هذه الزاوية نلمح التفاعل بين هذه الآلية والآلية الثانية: «رد الظواهر إلى مبدأ واحد»، خاصة فيما يرتبط بتفسير الظواهر الاجتماعية. إن رد كل أزمة من أزمات الواقع في المجتمعات الإسلامية — بل وكل أزمات البشرية — إلى «البعد عن منهج الله» هو في الحقيقة عجز عن التعامل مع الحقائق التاريخية، وإلقاؤها في دائرة المطلق والغيبي. والنتيجة الحتمية لمثل هذا المنهج تأبيد الواقع وتعميق اغتراب الإنسان فيه. والوقوف جنبًا إلى جنب مع التخلف ضد كل قوى التقدم، تناقضًا مع ظاهر الخطاب الذي يبدو ساعيًا للإصلاح والتغيير، مناديًا بالتقدم والتطوير.
ولعله يكفينا هنا الكشف عن توظيف هذه الآلية في استخدام الخطاب الديني لمصطلح «الجاهلية»، ما دمنا سنعاود الكشف عن توظيفها — وتوظيف غيرها من الآليات — في سياق تحليلنا للمنطلقات الفكرية. ومن البداية لا يجب الخلط بين الجهل، بمعنى انعدام العلم والمعرفة في لغتنا المعاصرة، وبين الجهل المناقض للحلم في اللغة العربية قبل الإسلام.
الجهل في لغة ما قبل الإسلام يعني الخضوع لسطوة الانفعال، والاستسلام لقوة العاطفة، دون الاحتكام إلى رزانة العقل وقوة المنطق، وهكذا نفهم افتخار بعض شعراء هذا العصر بالقدرة على مقابلة الجهل بهذا المعنى بمثله، وذلك كقول بعضهم:
وقول الآخر:
فالجهل هنا ينصبُّ على السلوك المنافي للعقل والمنطق، وهو — كما يُفهم من سياق الاستخدام في شعر ما قبل الإسلام — العدوان الذي لا سبب له ولا مبرر من جهة العقل والمنطق. إنه في التأويل الاجتماعي للغة الاستناد إلى مبدأ القوة والقهر في العَلاقات بين القبائل من جهة وبين الأفراد والجماعات (بطون القبيلة) داخل القبيلة من جهة أخرى. إنه المبدأ الذي صاغه زُهَير بن أبي سُلمى الشاعر في قوله:
ولا شك أن العَلاقات الاجتماعية القائمة على الظلم/الجهل كانت من أهم أسباب التخلف العام في ذلك الواقع، وكان من أخطر ما جاء به الإسلام لتطوير هذا الواقع مبدأ الاحتكام إلى «العقل» ونفي الظلم والجهل. ويمكن استنادًا إلى هذه الحقيقة فهم كل ما جاءت به النصوص الدينية الأولية من تنديد ﺑ «حكم الجاهلية» بوصفه دعوة لتحكيم العقل والمنطق، وهو فهم يتعارض تعارضًا جذريًّا مع فهم الخطاب الديني. إن النصوص تخاطب في الأصل والأساس واقعًا تاريخيًّا محددًا، تتحدد من خلاله — وعبر لغته بكل اجتماعيتها — دلالتها، لكن هذه الدلالة قابلة دائمًا للانفتاح والاتساع شريطة عدم الإخلال أو التناقض، مع الدلالة الأصلية. وهكذا نجد بين المعنى التاريخي لمصطلح «الجاهلية» وبين معنى «الجهل» في استخدامنا المعاصر وشائج، فعدم العلم وانتفاء المعرفة ركيزة أساسية للخضوع لسطوة الانفعال والاستسلام لقوة العاطفة، أو لنقُل ﻟ «التعصب».
ثانيًا: المنطلقات الفكرية
الحاكمية
كانت دعوة الإسلام في جوهرها دعوة لتأسيس العقل في مجال الفكر، والعدل في مجال السلوك الاجتماعي، وذلك بوصفهما نقيضين للجهل والظلم، وهما ركيزتا الواقع في المجتمع العربي الذي خاطبه الوحي أولًا، كما سبقت الإشارة. وقد ظل الخطاب الديني في تاريخ الثقافة الإسلامية — بتياراته واتجاهاته المختلفة — حريصًا على نفي أي تعارض يمكن أن ينشأ — بحكم حركة الواقع المستمر وثبات النصوص — بين الوحي والعقل. واتفق الجميع تقريبًا على أن النقل إنما يثبُت بالعقل، والعكس ليس صحيحًا، العقل هو الأساس في تقبل الوحي، ثم كان الخلاف فيما بعد ذلك: هل يستقيل العقل بعد أن قام بدوره في إثبات النقل، أم يظل يمارس فاعليته في فهم النصوص وتأويلها، لكن هذا الخلاف ظل خلافًا نظريًّا واستمر الخطاب الديني يحرص على إثبات «موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول» كما عنون ابن تيميَّة أحد كتبه الهامة، وهو الفقيه السني الأصولي المحافظ. وقد ساهم علماء أصول الدين والفقه في تأسيس مجموعة من المبادئ المهمة — كالقياس ومراعاة المقاصد والمصالح المرسلة — في مجال فعَّالية العقل الإنساني في فهم النصوص وتأويلها، وظلت الثقافة العربية الإسلامية حية نشطة إذا ما ظل تأسيس العقل شاغلها الأساسي، وما دامت قائمة على «التعددية» و«حرية الفكر»، وهو ما لم يستمر طويلًا بحكم عوامل اجتماعية سياسية سنشير إلى بعضها في سياق تحليلنا.
وهكذا ينتهي الخطاب السلفي إلى التعارض مع الإسلام حين يتعارض مع أهم أساسياته «العقل»، ويتصور أنه بذلك يؤسس «النقل»، والواقع أنه ينفيه بنفي أساسه المعرفي. إن العودة إلى الإسلام لا تتم إلا بإعادة تأسيس العقل في الفكر والثقافة، وذلك على خلاف ما يدعو إليه الخطاب الديني المعاصر من تحكيم النصوص، مرددًا أصداء نداء أسلافه الأُمويين الذي أدى إلى نتائجه المنطقية في الواقع الإسلامي.
وإذا كان المنهج يرتد في النهاية إلى فهم البشر للوحي وتأويلهم له — كما سبقت الإشارة مرارًا — فإن مفهوم الخطاب الديني للتحرر الذي جاء به الإسلام للإنسان يتبدد كاشفًا الغطاء الأيديولوجي لمفهوم الحاكمية، بكل ما يحايثه من إلغاء لفاعلية العقل وتسليم الإنسان — مقيَّدًا — إلى تحكم سلطوي من نمط خاص. لقد جاء الإسلام بعقيدة التوحيد تحريرًا للعقل البشري من سلطة الأوهام والأساطير، وتأسيسًا لحريته في ممارسة فعَّاليته في الفكر والواقع الطبيعي والاجتماعي على السواء، هذا بالإضافة إلى مخاطبة هذه العقيدة — التوحيد — للواقع الاجتماعي ومساهمتها في إعادة صياغة العَلاقات بين قبائله المتصارعة، وتأسيس عَلاقات جديدة جوهرها العدل والمساواة. لكن الخطاب الديني يختزل هذه الحقيقة، ويؤول منطوقها.
•••
•••
•••
بقي لنا في هذه الفقرة تحليل النتائج الخطيرة — الاجتماعية السياسية بشكل خاص — التي تترتب على طرح مفهوم الحاكمية، بالإضافة إلى ما يؤدي إليه من إهدار لدور العقل ومصادرة الفكر على المستوى العلمي والثقافي. إن هذا المفهوم ينتهي إلى تكريس أشد الأنظمة الاجتماعية والسياسية رجعيةً وتخلفًا، بل إنه ينقلب على دعاته أنفسهم إذا أتيح له أن يتبناه بعض الساسة الانتهازيين كما هو واقع الأمر في كثير من أنظمة الحكم في العالم العربي والإسلامي. وإذا كانت الديكتاتورية هي المظهر السياسي الكاشف عن مدى تدهور الأوضاع في هذا العالم، فإن الخطاب الديني يصب بمفهوم الحاكمية مباشرة في تأبيد هذا المظهر، وتأبيد كل ما يتستر وراءه من أوضاع، وذلك رغم التناقضات التي تطفو على السطح بين الحين والآخر، وهي تناقضات ترتد في تقديرنا إلى تجاوز في السلوك السياسي أكثر من ارتدادها إلى خلاف في المنظور الأيديولوجي. كان الخلاف بين الإخوان ونظام يوليو في الستينيات — كما رأينا — خلافًا حول الحكم، ولم يكن الإخوان — خلافًا لكثير من القوى السياسية التي اختلفت مع النظام — يقبلون بأقل من سيطرتهم الكاملة — باسم الإسلام وتحقيقًا لحاكمية الله على شئون المجتمع. كان الانفراد بالحكم إذن هو جوهر الخلاف، وهذا ما يفسر طبيعة الصدام ومداه. هذا بالإضافة إلى أن رجال الحكم في الستينيات كانوا يدركون خطورة السماح بإثارة الحساسيات الدينية في مجتمع يتضمن أقلية مسيحية لا يستهان بها.
ومع ما أحدثه انقلاب السبعينيات من تغييرات في توجهات النظام السياسي والاجتماعي، حاول أن يُضفي على هذه التوجهات طابعًا دينيًّا يوحي بإلحادية سلفه في الستينيات من جهة، ويستغل عواطف الجماهير لتبرير توجهاته المعارضة لمصالحها من جهة أخرى. لذلك لم يكن غريبًا أن ترفع شعارات مثل «دولة العلم والإيمان» و«الرئيس المؤمن» وأن يسيطر على الخطاب السياسي الاستشهاد بالنصوص الدينية، وأن يشار إلى السلطة باسم «الولاية» استدعاء لآليات اختيار الحاكم في العصور القديمة، عصور الخلافة حتى نهايتها على يد أتاتورك. وأصبح يشار إلى الجماهير باسم «شعبي» وإلى الجنود والطلاب ﺑ «أبنائي وبناتي». وحين تظهر بعض آبار البترول في قطعة من أرض الوطن تكون نعمة من الله على الحاكم شخصيًّا، وهكذا أصبح الوطن بأرضه وناسه وتراثه ملكًا للحاكم، وأصبح كل خلاف في الرأي معه خيانة للوطن، وكل نقاش لسياسته هجومًا على الوطن. ولم يقف الأمر عند هذا الحد من ابتلاع الوطن في شخص الحاكم، بل تخطى ذلك إلى مقاربة تخوم تأليه الحكم لذاته، فهو يعلن في سياق السجال السياسي: «ما يُبدَّل القول لديَّ». إن الحاكمية واضحة جلية لا لبس فيها ولا غموض، ولا غرابة بعد ذلك كله أن يكون كل خصوم النظام، بل خصوم الحاكم شخصيًّا فحسب، كفارًا ملاحدة، ولو كانوا من المشايخ وأصحاب اللحى.
وإذا كان الخطاب السياسي في مرحلة الثمانينيات قد تغيرت نبرته قليلًا، خاصة في السنوات الخمس الأولى، فإن مضمون الخطاب لم يتغير كثيرًا. كان تغير النبرة مرهونًا بحالة فقدان التوازن التي أحدثها الصدام السابق، وحين استعاد النظام توازنه، بدأ الخطاب السياسي يعاوده داؤه القديم، وانتهت الانفراجة الديمقراطية إلى حاكمية تمتلك وحدها الحقائق الخافية على القوى السياسية الأخرى كلها، بما فيها تلك التي تشارك في المؤسسات التشريعية. إن دعوى احتكار الحقائق، وما يترتب عليها من دعوى احتكار القرار، تمثل الأساس النظري لمفهوم الحاكمية الديني كما شرحتُ من قبل. ولا يكتفي الخطاب السياسي بهذه الدعوى الخطيرة، بل يقرنها بدعوى لا تقل عنها خطورة من حيث قيام مفهوم الحاكمية عليها، تلك دعوى الصواب الدائم وعدم اقتراف أي خطأ. وتتبدى هذه الدعوى واضحة في تحميل الخطاب السياسي كل أوجه القصور والعجز في سياساته، بل وكل أزمات الواقع ومشكلاته، على أكتاف المواطن العادي الذي يصفه بأنه قليل الإنتاج، كثير الاستهلاك، كثير التكاثر، عديم الانتماء، وإذ يجتمع للنظام السياسي العلم التام والقدرة الشاملة والكمال الذي لا يحتمل الخطأ، في حين تتسم الجماهير بالجهل بالحقائق، والعجز والنقص، فهل يصح له أن يشرك هذه الجماهير في إدارة شئون البلاد؟ وهل للحاكمية في الخطاب الديني معنًى غير هذا؟
وهذه الحاكمية المحايثة لكل من الخطابين الديني والسياسي على السواء تنتقل في الخطاب السياسي خاصةً لتكون أساسًا أيديولوجيًّا تصوغ عليه القوى الحاكمة والمسيطرة في الواقع عَلاقاتها بالقوى الدولية التي تساندها وتحمي ظهرها وتشاركها استغلال شعوبها. والدليل على ذلك ما دأب نظامنا السياسي على الترويج له من أن أمريكا — وحدها — تملك ٩٩٪ من أوراق اللَّعِب في الصراع العربي الإسرائيلي، ووصلت هذه النسبة في فترة الثمانينيات إلى الاحتكار الكامل، وفقدت القوى المحلية ذلك الواحد بالمائة الذي كانت تشارك به في إدارة الصراع. وليس هذا في النهاية إلا تعبيرًا عن العجز التام والتبعية المطلقة من جانب النظام في عَلاقته بقوى الاستغلال العالمي. وهكذا تكون الحاكمية مفهومًا ديكتاتوريًّا محايثًا للخطاب السياسي الرسمي في عَلاقته بالقوى السياسية المحلية، حيث تتحدد العَلاقة من خلاله بين النظام والمعارضة من منظور أعلى/أسفل، أو سيد/عبد، على حين تتغير هذه العَلاقة وتصبح أسفل/أعلى أو عبد/سيد في عَلاقته بالنظام العالمي. وفي كلا النمطين يقوم مفهوم الحاكمية على ثنائيات: العلم/الجهل، والقدرة/العجز. الصراع إذن — أو بالأحرى مظاهر التوتر التي نشهدها — بين النظام السياسي ومؤسساته وبين مجمل فصائل التيارات الدينية ليس صراعًا أيديولوجيًّا حول الأفكار والمفاهيم، بل هو صراع حول حق تمثيل الحاكمية في إدارة شئون المجتمع، حول من ينطق باسم هذه الحاكمية ويتدرع بسلاحها، إنه صراع بين قوى سياسية متقاربة فكريًّا حول السلطة والسيطرة والتحكم.
ولا خلاف أن الإسلام بالفعل حرر الإنسان من سيطرة الأوهام والأساطير على عقله، وحرر وجدانه وعقائده من كل ما يعوق حريته، لكن الخطاب الديني يصر على اختصار عَلاقة الإنسان بالله في بُعد واحد فقط هو العبودية، التي تحصر فاعلية الإنسان في الطاعة والإذعان، وتحرم عليه السؤال أو النقاش. ولا شك أن الإيمان يقوم على التسليم بهذه العَلاقة على مستوى العقيدة، وهو المستوى القلبي الشعوري الذي لا مجال فيه للتأويل والاجتهاد، ولا مجال فيه كذلك لتدخل البشر، إنها العَلاقة الذاتية الشخصية بين الإنسان وربه.
وإذا كنا سنتعرض بمزيد من التفصيل في تحليل مسألة العبودية في الفقرة التالية، فإن الذي يعنينا في سياق «الحاكمية» أن الخطاب الديني يجعلها أساسًا ينسحب على مجالات التشريعات التي تحتاج في استنباطها إلى الاجتهاد والتأويل، وتحتمل الخلاف بحسب اختلاف المصالح، وبحسب اختلاف العوائد والعادات كما أدرك الفقهاء. وهذا من شأنه أن يؤدي — في أحسن الفروض مع افتراض كل النوايا الحسنة في الخطاب الديني — إلى العبودية لأحكام بعض البشر بالخضوع لاجتهاداتهم، إنه التقليد الذي نهى عنه الإسلام وحرَّمه بعض الفقهاء وقارنه بالشرك. وبعبارة أخرى: إذا كان الخطاب الديني يستهدف بمفهوم الحاكمية القضاء على تحكم البشر واستعبادهم لبعضهم البعض، فإن هذا المفهوم ينتهي على المستوى التطبيقي إلى تحكيم بشر من نوع خاص، يزعمون لأنفسهم احتكار حق الفهم والشرح والتفسير والتأويل، وأنهم هم وحدهم الناقلون عن الله.
وإذا كانت حاكمية البشر يمكن مقاومتها والنضال ضدها وتغييرها بأساليب النضال الإنسانية المختلفة، واستبدال أنظمة أكثر عدالة بها، فإن النضال ضد حاكمية الفقهاء يوصم بالكفر والإلحاد والزندقة بوصفه تجديفًا وهرطقة ضد حكم الله. ويصبح المفهوم بذلك سلاحًا خطيرًا يُفقد البشر أية قدرة على تغيير واقعهم أو تعديله، لأنه ينقل مجال الصراع من معركة بين البشر والبشر إلى معركة بين البشر والله.
النص
ولا خلاف في أن تاريخية اللغة تتضمن اجتماعيتها، الأمر الذي يؤكد أن للمفاهيم بُعدَها الاجتماعي الذي يؤدي إهداره إلى إهدار دلالات النصوص ذاتها. ولا يعني الإلحاح على تاريخية النصوص أدنى إشارة إلى عدم قدرتها على إعادة إنتاج دلالتها، أو عجزها عن مخاطبة عصور تالية أو مجتمعات أخرى، فالقراءة التي تتم في زمن تالٍ في مجتمع آخر تقوم على آليتين متكاملتين: الإخفاء والكشف؛ تخفي ما ليس جوهريًّا بالنسبة لها — وهو ما يشير عادةً إلى الزمان والمكان إشارة لا تقبل التأويل — وتكشف عن ما هو جوهري بالتأويل. وليس ثمة عناصر جوهرية ثابتة في النصوص، بل لكل قراءة — بالمعنى التاريخي الاجتماعي — جوهرها الذي تكشفه في النص. يتفق الخطاب الديني مع بعض ما هو مطروح هنا، وإن كان يعبِّر عنه بلغته الخاصة التي هي في الحقيقة تَرداد وتَكرار للغة القدماء، ولهذا دلالته التي سنحللها بعد ذلك.
يتفق الخطاب الديني على أن النصوص الدينية قابلة لتجدد الفهم واختلاف الاجتهاد في الزمان والمكان، لكنه لا يتجاوز فهم الفقهاء لهذه الظاهرة، ولذلك يقصرها على النصوص التشريعية، دون نصوص العقائد، أو القصص. وعلى هذا التحديد لمجال الاجتهاد يؤسس الخطاب الديني لمقولة «صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان»، ويعارض إلى حد التكفير الاجتهاد في مجال العقائد أو القصص الديني.
إن النصوص، دينية كانت أم بشرية، محكومة بقوانين ثابتة، والمصدر الإلهي للنصوص الدينية لا يخرجها عن هذه القوانين؛ لأنها «تأنسنت» منذ تجسدت في التاريخ واللغة وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدد. إنها محكومة بجدلية الثبات والتغير؛ فالنصوص ثابتة في «المنطوق» متحركة متغيرة في «المفهوم»، وفي مقابل النصوص تقف القراءة محكومة أيضًا بجدلية الإخفاء والكشف.
ومع هذا المستوى من التعقيد في إشكالية النص لا يكتفي الخطاب الديني بقصر الاجتهاد على شريحة رقيقة من النصوص، هي شريحة النصوص التشريعية، بل يعود فينفي الاجتهادات جملة حين يعلن «لا اجتهاد فيما فيه نص»، فيجمِّد دلالة النصوص حتى في النصوص التشريعية. وسنرى في سياق هذه الفقرة أن هذه مجرد دعوى، وأن استدعاء بعض الاجتهادات القديمة وتقديمها للإجابة عن بعض القضايا المثارة في الواقع يمثل في ذاته اجتهادًا يعتمد على «كشف» رأي و«إخفاء» آخر.
وقد مرت بعض الشواهد التي تؤكد ما نذهب إليه. والأهم من ذلك أن مبدأ «لا اجتهاد فيما فيه نص» يمثل في ذاته نَموذجًا لهذا النمط من الاجتهاد، وهو نمط يختلف في بعض آلياته عن نمط الاجتهاد بالترجيح بين آراء القدماء والاختيار منها. إن مناقشة هذا المبدأ تكشف لنا عن الفارق بين مفهوم النص عند القدماء — وهو المفهوم الذي يخفيه الخطاب الديني المعاصر — وبين المفهوم الذي يكشف عنه المعاصرون.
•••
والفاصل الزمني على أهميته وأهمية الإشكاليات التي يثيرها ليس هو المشكل الوحيد، فاللغة في النصوص — ولو كانت معاصرة للقارئ — ليست بينة بذاتها، إذ يتدخل أفق القارئ الفكري والثقافي في فهم لغة النص، ومن ثَم في إنتاج دلالته. ولعله من قبيل التَّكرار المهم أن نستدعي قول الإمام علي: «القرآن حمَّال أوجُه» أو نستدعي قوله الذي سبق الاستشهاد به: «القرآن خط مسطور بين دَفتين لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال.» ولكن الخطاب الديني «يخفي» من التراث هذا الجانب المهم والخطير في فهم طبيعة النص، وهو الفهم الذي سمح بالتعددية، ومنح الثقافة الإسلامية طابعها الحيوي الذي ظل مستمرًّا حتى توارى هذا الفهم مفسحًا المجال لفهم آخر يجمِّد دلالة النصوص في قوالب جامدة. هذا الفهم الأخير، أو بالأحرى تجميد الفهم، هو منطلق الخطاب الديني المعاصر، وهو الجانب الذي «يكشف» عنه من التراث، وهذا هو الموقف التأويلي الذي أشرنا إليه من قبل. إن مفهوم التراث للنص مخالف لمفهوم خطابنا الديني، وحين يقول العلماء: «لا اجتهاد فيما فيه نص» فإنهم يعنون شيئًا آخر غير ما يعنيه الخطاب الديني.
- (١)
نصَّت الظَّبية جِيدها = رفعته.
نصَّ الدابة = رفعها.
- (٢)
النص والتنصيص = السير الشديد.
نص الأمور = شديدها.
قال الشاعر:
ولا يستوي عند نصِّ الأُمُورِ باذلٌ معروفَه والبخيل - (٣)
نص الرجلَ = سأله عن شيء حتى يستقصي ما عنده.
بلغ النساءُ نص الحِقاق = سن البلوغ.
هذه الدلالات الثلاث، الرفع والشدة والبلوغ، متضمنة في دلالة «الإظهار»؛ لأن من ينص الناقة أو الدابة يرفع عنقها فيظهره، وكذلك استقصاء ما عند الإنسان بالسؤال إنما هو إظهار له من كمونه في نفس صاحبه، ولا بد أن يكون معنى الشدة — المعنى الثاني — نوعًا من التطور الدلالي عن المعنى الأول — الرفع — لأن الراكب إذ ينص دابته — يرفع عنقها — فإنما يفعل ذلك لكي يحثها على السير، فيستخرج منها أقصى سرعتها، فإذا ارتفع عنق الناقة سارت سيرًا شديدًا، كما يقول أبو عبيدة. وتحديدنا للدلالة المركزية بالإظهار يؤكده أنها الدلالة الحسية الباقية في لغتنا المعاصرة، كما في استخدامنا لكلمة «المِنصة» بمعنى المكان المرتفع الظاهر، وهو المعنى نفسه في الاستعمال القديم، فالمنصة «ما تُظهَر عليه العروس لتُرى». ولعله من هذه الدلالة المركزية الحسية حدث التطور الدلالي، فأصبح النص يعني الإسناد في علم الحديث: «قال عمرو بن دينار: ما رأيت رجلًا أنصَّ للحديث من الزُّهْري»، يقول ابن الأعرابي: «النص: الإسناد إلى الرئيس الأكبر، والنص: التوقيف، والتعيين على شيء ما.»
- (١) الواضح الذي لا يحتمل إلا معنًى واحدًا، وهو النص.
- (٢) الذي يحتمل معنيين لكن أحدهما هو المعنى الراجح (الأقوى) والآخر معنًى مرجوح (محتمل)، وهذا هو الظاهر.
- (٣) الذي يحتمل معنيين كلاهما يساوي الآخر في درجة الاحتمال، وهو المجمل.
- (٤) الذي يحتمل معنيين غير متساويين في درجة الاحتمال، ولكن المعنى الراجح (الأقوى) ليس هو بالمعنى القريب (الظاهر) كما في الثاني، بل الراجح هو المعنى البعيد، وهذا النوع هو المؤول.٩٧
•••
إن منظور القدماء كان أكثر اتساعًا من جهة أنهم لم يوقفوا عملية فرز جسد الحديث، بالحذف والإضافة، طبقًا لمعايير اجتهادية إنسانية/اجتماعية بالضرورة، إن وقف هذه العملية المهمة وتثبيت نص الحديث في الصحاح الخمسة — أو الستة — وعلى رأسها البخاري ومسلم، هو في حقيقته تثبيت للواقع عند رؤى واجتهادات عصور بعينها، وهو يصب في نفس أيديولوجية وقف الاجتهاد في النص القرآني. إن معايير السلف في نقد الأحاديث وفي التمييز بين الصحيح والضعيف والمنحول كانت محكومة دون شك بأطر معرفية زمانية نسبية محدودة، لا ترقى إلى مستوى المعايير الموضوعية النهائية، كما يتوهم البعض. الحديث نص متحرك قابل للتجدد عن طريق استمرار عملية الفرز قبولًا ورفضًا بناء على معايير اجتهادية وإنسانية، أي طبقًا لفكر إنساني متطور بطبيعته، ومرتبط بظروف الزمان والمكان والواقع الذي ينشئه، هذا من حيث هو نص خام قبل أن يواجهه العقل بالفهم والتفسير والتأويل، فهو نص تكوَّن وما زال يتكون من خلال آليات العقل الإنساني منذ اللحظات الأولى للنطق به، والمسافة التي تفصله عن المقدس مسافة شاسعة يكاد معها يكون نصًّا إنسانيًّا.
ولكي تتضح هذه القضية بشكل أعمق يتعين علينا أن نتعرض بشكل عام للآليات العامة للفرز والتصحيح التي طُبقت على جسد الحديث، وهو ما يُطلَق عليه مصطلح «الرواية» تمييزًا له عن مصطلح «الدراية» الذي يركز على الأحكام والتعريفات. وجدير بالذكر أن الأحكام والتعريفات فرع على شروط الرواية ومعرفة أحوال الرواة، أي إن الرواية بالمعنى الاصطلاحي — لا بمعنى عملية النقل ذاتها — هي أساس الدراية التي تتعلق بالحكم على المتن، وتهتم الرواية بدراسة جانب السند من زاويتين: الزاوية الأولى الاتصال والانقطاع بين الرواة الذين نقلوا متن الحديث من عصر النبوة إلى آخر الرواة في سلسلة الإسناد، وهذا عمل توثيقي في المقام الأول لأنه يهتم بالتأكد مما إذا كان كل راو من الرواة قد عاصر الراوي الذي ينقل عنه الحديث، والأهم من ذلك أن يكون قد لقيه لقاء مباشرًا وفي سن النضوج التي تسمح له بالأخذ والرواية، وأن يكون الأخذ مشافهةً لا نقلًا عن صحيفة أو ما شابهها، إلى آخر تلك الشروط التوثيقية. والشروط نفسها لا بد من توافرها في الراوي التالي، وعدم توافرها في أحد الرواة يعني ضعفًا في سلسلة الإسناد يؤدي إلى تضعيف الحديث، فإذا كان ثمة فاصل زمني طويل بين راويين كان معنى ذلك أن راويًا قد سقط من الإسناد ويكون إسنادًا منقطعًا يترتب عليه أحيانًا رفض الحديث ما لم يوثَّق برواية أخرى متصلة.
أما الزاوية الثانية من دراسة السند فتهتم بالتحقق من المؤهلات العلمية والأخلاقية لكل راوٍ على حدة. وهو ما يُعرف بالجَرح والتعديل، وهي مؤهلات كثيرة أهمها أن يكون الراوي حافظًا — أي لا ينسى — أمينًا لا يكذب ولا يدلس، ثقةً في دينه وخلقه.
ثم استأثرت إحدى الفرق باسم «أهل السنة والجماعة» واحتكرته لنفسها بتأييد من سلطة الدولة بعد القضاء على الاعتزال، وأصبحت هي الحَكَم والفيصل في قبول المرويات أو رفضها، بل واكتسبت بحكم تأييدها للسلطة السياسية والتمتع بحمايتها سلطة مرجعية في كل ما يتعلق بشئون الدين والعقيدة.
إذا انتقلنا من فحص السند إلى فحص المتن — علم الدراية — دخلنا دخولًا مباشرًا في قلب آليات الاجتهاد، فالمتن إنما يكون صحيحًا إذا لم يتضمن في دلالته أدنى تعارض مع المبادئ العامة للشريعة ومقاصدها الكلية كما تُستخرج من القرآن. هنا يعتمد الاجتهاد على المقارنة بين نص في حالة فحص وفرز وبين نص آخر موثوقٍ في صحة منطوقه ثقةً مطلقة، ولكن هذه المقارنة لا تتم بالطبع على مستوى المنطوق، بل على مستوى الدلالات والمعاني. وهكذا تتداخل إشكاليات نصوص الحديث بالإشكاليات التي حللناها عن النص القرآني، وترتد الفعَّالية كلها للعقل الإنساني المرهون بآفاق الزمان والمكان، إنها عملية معقدة تكشف زيف مبدأ «لا اجتهاد فيما فيه نص»، فالاجتهاد — كما رأينا — هو الوجه الآخر للنص، الوجه الذي بدونه يتوقف عن أن يكون نصًّا لغويًّا دالًّا ويتحول إلى أيقونة للزينة والتبرك، وهو أمر وقع بالفعل في ثقافتنا. الاجتهاد — على عكس ما يعلن الخطاب الديني — هو الطريق الوحيد للإفصاح عن دلالة النص الأولي الرئيسي — القرآن — وهو الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى إكساب النصوص الفرعية — الأحاديث — مشروعيةَ الوجود ذاتَها. الاجتهاد إذن لا يكون إلا في النصوص، وما سوى النصوص من مجالات يحتاج إلى الإبداع لا مجرد الاجتهاد، وإلى الاكتشاف لا مجرد ترديد أقوال القدماء.
•••
وإهدار الواقع لحساب نص جامد ثابت المعنى والدلالة يحول كليهما إلى أسطورة؛ يتحول النص إلى أسطورة عن طريق إهدار بعده الإنساني والتركيز على بعده الغيبي، الأمر الذي يُفسح المجال لتساؤلات عقيمة عن طبيعة النص هناك، وعن شكله ونمط الخط المكتوب به، وهل تنطقه الملائكة بالعربية أو بغيرها، إلى آخر ذلك من أسئلة عقيمة يمتلئ بها الخطاب الديني الإعلامي بشكل خاص، ويتحول الواقع إلى أسطورة نتيجة لتثبيت المعاني والدلالات وإضفاء طابع نهائي عليها تأسيسًا على مصدرها الغيبي، ثم محاولة فرض المعنى الثابت الأزلي المفترض على الواقع الاجتماعي الإنساني، والنتيجة الحتمية لذلك إهدار النص والواقع معًا واستبدال الأسطورة بهما، وهكذا يحكم علينا الخطاب الديني أن ندور حول أنفسنا في دائرة مفرغة، ويقضي من ثَم بكيفية حادة على إمكانات استقطار الدلالات الممكنة والملائمة لوضعنا التاريخي والاجتماعي.
وبعبارة أخرى يتم تأسيس الحاكمية على النص لإثبات سلطته، ويمكن عكس الصياغة وتظل القضية صادقة من منظور الخطاب الديني فيقال إن الحاكمية معناها تأسيس سلطة النص اعتمادًا على سلطة النص، وهذا هو الدوران في الدائرة المغلقة.
ولمناقشة هذا المفهوم، أو غيره من المفاهيم التي يطرحها علينا الخطاب الديني، خروجًا من تلك الدائرة المغلقة لا بد من العودة إلى الأصول والاحتكام لها.
والأصل والبدء هو سلطة العقل، السلطة التي يتأسس عليها الوحي ذاته، العقل لا بما هو آلية ذهنية صورية جدلية، بل بما هو فعَّالية اجتماعية تاريخية متحركة. هذه السلطة قابلة للخطأ، لكنها بالدرجة نفسها قادرة على تصويب أخطائها، والأهم من ذلك أنها وسيلتنا الوحيدة للفهم. فهم العالم والواقع وأنفسنا والنصوص، ولأنها سلطة اجتماعية تاريخية فإنها ضد الأحكام النهائية والقطعية اليقينية الحاسمة، إنها تتعامل مع العالم والواقع (الاجتماعي والطبيعي) والنصوص بوصفها مشروعات مفتوحة متجددة قابلة دائمًا للاكتشاف والفحص والتأويل، ومن خلال هذا التجدد والحركة يتجدد العقل ذاته وتتطور آلياته وتَنضَج في جدل لانهائي مثمر خلاق. ولأن الخطاب الديني يدرك أن الاحتكام إلى هذه السلطة يفقده كل أسلحته، ويكشف قناعه الأيديولوجي فإنه يعجز عن الحوار على أرض العقل، ويلجأ في وجه محاولات تأسيسه في ثقافتنا — وهي محاولات تتعثر بحكم عوامل كثيرة — إلى التكفير، وهو سلاح فعال في واقع متخلف يعاني أغلبية أفراده من الأمية التعليمية ويعاني أغلبية متعلميه من الأمية الثقافية، وكثيرًا ما يستسلم بعض العقلانيين لابتزاز هذا السلاح، فيلجَئون إلى التقية والمصالحة مع الخطاب الديني، وهو موقف خطير في مغزاه وفي النتائج التي يؤدي إليها.
ولا سبيل أمامنا إلا أن نسعى في تأسيس العقل، لا بالخطاب وحده على أهميته، بل بكل وسائل الكفاح والنضال الممكنة الأخرى. وقد سبق في تحليلنا أن كشفنا اعتماد مفهوم الحاكمية في تأويله للنصوص على المقارنة بين الله والإنسان من خلال ثنائيات: العلم/الجهل، والقدرة/العجز، والحكمة/الهوى. وكشفنا كيف أن هذه الثنائيات تستند في الخطاب الديني — اعتمادًا على النصوص أيضًا — إلى ثنائية الألوهية/العبودية، وهي ثنائية تختزل عَلاقة الإنسان بربه في هذا البعد وحده. ولسنا نريد هنا الالتقاء مع الخطاب الديني في آلياته أو منطلقاته، فنستشهد بنصوص أخرى تؤسس العَلاقة على الحب، أو نستند إلى رأي واجتهاد آخر في التراث يؤسسها على الحب كذلك، بل نريد الاحتكام إلى العقل الذي يردنا إلى البعد التاريخي للنصوص. وهو البعد الذي يهدره الخطاب الديني في أحكامه كلها لا في تأويله للنصوص فحسب. لقد كان المجتمع الذي جاء الوحي يخاطبه مجتمعًا قبليًّا عبوديًّا، تعتمد العَلاقات فيه على هذين البعدين اللذين يمكن اعتبار أولهما بعدًا أفقيًّا، واعتبار ثانيهما بعدًا رأسيًّا، ولا حاجة للإطالة في بيان البعد الرأسي الذي جسد عَلاقة أعلى/أدنى داخل القبيلة الواحدة، ويستوي في ذلك أن يكون العبد عبدًا بالشراء أو بالأسر والاسترقاق، فلم يكن ثمة فارق في مكانة العبد إذا كان عربيًّا. ويجسد البعد الأفقي عَلاقات القبائل، وهي عَلاقات قامت على الصراع على موارد الثروة — أدوات الإنتاج — وهي الماء والكلأ. ومن الطبيعي في ظل عَلاقات الصراع أن تلجأ القبائل الضعيفة لالتماس الحماية من القبائل القوية التي تستأثر بالموارد المتاحة في منطقة تسمى «حمى القبيلة»، ومن هنا نشأت عَلاقات الولاء بين القبائل، وهي عَلاقات تبدو على السطح أفقية، لكن لأنها عَلاقة أقوى/أضعف فهي في منطقة وسطى بين البعدين الأفقي والرأسي، وقد صاغت اللغة هذه العَلاقات، ولذلك نجد الكلمة المعبرة عن عَلاقة الولاء ومشتقاتها ذات دلالة ملتبسة، فهي من الأضداد اللغوية التي تدل على المعنى ونقيضه، فألفاظ «مولى» تدل على العبد والعبيد كما تدل على السيد والسادة.
والنصوص أبنية لغوية لا تفارق النظام الدلالي للغتها إلا في حدود خاصة مشروطة بطبيعة وظيفتها المقصودة في الثقافة، لذلك من الطبيعي أن تصوغ النصوص عَلاقة الله والإنسان من خلال الثنائيات اللغوية/الاجتماعية، لكن إذا كانت اللغة تتطور بتطور حركة المجتمع والثقافة فتصوغ مفاهيم جديدة، أو تطور دلالات ألفاظها، للتعبير عن عَلاقات أكثر تطورًا، فمن الطبيعي، بل والضروري، أن يعاد فهم النصوص وتأويلها بنفي المفاهيم التاريخية والاجتماعية الأصلية وإحلال المفاهيم المعاصرة، والأكثر إنسانية وتقدمًا، مع ثبات مضمون النص. إن الألفاظ القديمة لا تزال حية مستعملة لكنها اكتسبت دلالات مجازية، والإصرار على ردها إلى دلالاتها الحرفية القديمة وإحياء المفاهيم التي تصوغها إهدار للنص والواقع معًا، وتزييف لمقاصد الوحي الكلية، ومن الجدير بالملاحظة أن الخطاب الديني يلجأ إلى التأويل المجازي للنصوص لنفي عَلاقات الحب والولاية والقرب بين الله والإنسان، في الوقت الذي يصر فيه على التمسك بحرفية عَلاقة العبودية التي يؤسس عليها مفهومه للحاكمية. إن تأويل ما هو اجتماعي/تاريخي في النصوص شرط لتجدد النصوص ذاتها بتجدد ما هو جوهري أساسي وإسقاط ما هو عرَضي مؤقت بالنسبة لشروط اجتماعية/تاريخية مغايرة. لقد كان المجتمع الذي خاطبه الوحي مجتمعًا تجاريًّا خاصة في مراكز التأثير والسيطرة الدينية، ولذلك تعكس لغته إطار المفاهيم التجارية كالبيع والشراء، والربح والخسران، والميزان، … إلخ، ولم يتمسك أحد من القدماء، بل من المعاصرين للوحي، بالدلالات الحرفية لهذه المفاهيم، وتم تأويلها كما تم تأويل نصوص الصفات سواء بسواء.
قلنا إن التمسك بالدلالات الحرفية لمفاهيم اجتماعية/تاريخية في لغة النصوص يؤدي لا إلى إهدار الواقع والنص فقط، إنما يؤدي إلى تزييف مقاصد الوحي الكلية، تناقضًا مع ظاهر ما يعلنه الخطاب الديني، وربما مع ما يقصده كذلك، ويتم هذا التزييف على خطوتين؛ أولاهما: الزعم أن الإسلام جاء ليحرر البشر من العبودية (بالمعنى القديم) لبعضهم البعض ويردهم جميعًا إلى العبودية لله وحده، وهذا هو المعنى الذي أدركه العرب الذين خاطبهم الوحي. الخطوة الثانية: أن العبودية الحقة معناها — كما فهم العرب أيضًا — رفض حاكمية البشر والاحتكام إلى الله وحده بالاحتكام إلى النصوص، وعلى هذا الأساس يفسِّر الخطاب الديني المعارضة القوية التي وصلت إلى حد الصراع العسكري بين الإسلام وخصومه. وتستقيم الخطوة الأولى مع الخطوة الثانية لو أن الإسلام كان مجرد حركة تحريرية لإلغاء الرق والعبودية وتحرير العبيد. ومن ثم كان عداء سادة قريش له عداء لنظام يؤلب العبيد ضدهم ويقضي على مصدر تجاري هام من مصادر ثروتهم. ولا شك أن الإسلام ساهم في مرحلته المكية في تحرير العبيد نفسيًّا سلطة السادة على أرواحهم وممتلكاتهم، وهذا معنى «التأليب» الذي كان يشكو منه سادة قريش، وساهم الإسلام كذلك بتشريعاته في المرحلة المدنية بإفساح مجال لتحرير العبيد بجعل العتق كفارة لبعض الذنوب، وكان الأهم من ذلك كله مبدأ المساواة الذي ألح عليه الوحي بين الناس جميعًا بصرف النظر عن الجنس أو اللون. لم يكن الإسلام دعوة لإلغاء العبودية، لا يعيبه ذلك ولا يشينه، فالنظام الذي حرَّم الخمر على ثلاث مراحل لم يكن ليهدم ركنًا اقتصاديًّا هامًّا في الواقع، بل جاء في جوهره ليهدم أسس الجاهلية — كما شرحناها من قبل — ويقيم الحياة على أساس المساواة والعدل، وليحرر الإنسان من أوهام الأسطورة والخرافة.
إذا كانت حاكمية النصوص لا تسمح بالخلاف إلا في الفروع وفي حدود الترجيح بين آراء القدماء للاختيار منها، فمن الطبيعي أن يكون الاجتهاد محكومًا بأطر لا تمتُّ إلى الحياة والواقع بصلة، وهكذا لا يجد الخطاب الديني أمام أي اجتهاد حقيقي من سبيل إلا أن يحتمي بمبدأ «لا اجتهاد فيما فيه نص»، وفي قضية أن تحجب البنت سائر الورثة شأنها شأن الذكر، كان يكفي أن يكون المعيار هو المقاصد الكلية للوحي، بدلًا من الاستناد إلى اجتهاد الفقه الشيعي أو التمسك بحرفية النصوص. وهذا المعيار يمكن تلمُّسه من خلال ربط النصوص بواقعها الاجتماعي/التاريخي، وقياس مدى تطوير النص للواقع، ورصد اتجاه هذا التطوير، وهو معيار هام للاجتهاد في مجال الأحكام التفصيلية لأنه يكشف عن طبيعة المصالح التي يجب مراعاتها بعيدًا الأهواء الأيديولوجية. وفي قضية ميراث البنات، بل في قضية المرأة بصفة عامة، نجد الإسلام أعطاها نصف نصيب الذكر بعد أن كانت مستبعدة استبعادًا تامًّا، وفي واقع اجتماعي/اقتصادي تكاد تكون المرأة فيه كائنًا لا أهلية له وراء التبعية الكاملة بل الملكية التامة للرجل، أبًا ثم زوجًا. اتجاه الوحي واضح تمامًا وليس من المقبول أن يقف الاجتهاد عند حدود المدى الذي وقف عنده الوحي، وإلا انهارت دعوى الصلاحية لكل زمان ومكان من أساسها، واتسعت الفجوة بين الواقع المتحرك المتطور والنصوص التي يتمسك الخطاب الديني المعاصر بحرفيتها.
وإذا كان خطاب الجماعات يبدو هو الأعلى صوتًا، فإنه في الحقيقة مجرد صدًى لمعطيات سابقة من الأسرة والمدرسة وأجهزة الإعلام، صدًى كان يتردد خافتًا طول الوقت، ثم ساعد على تجسيمه واقع متردٍّ يعجز أهل الحكمة فيه عن تحقيق أبسط المطالب الإنسانية للمواطن العادي، بينما يرتع أثرياء الانفتاح ورموز الحكم والسلطة في كثير من مظاهر الفساد والخطيئة بكل معانيها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. وإذا كان ثمة شبه بين شباب الجماعات والخوارج، فإنه ينحصر في تلك المثالية التطهيرية المفارقة للواقع، والتي تدفعهم للدفاع عن التصور والدعوة إليه حتى الموت/الاستشهاد.
لقد كانوا فيما يرويه المؤرخون يتهالكون على الموت تهالك الفراش على النار، ولهم في استعذاب الموت وتفضيله على الحياة قصائد كثيرة مشهورة. إن الواقع من منظور شباب الجماعات عصيٌّ على الإصلاح، والعقل الإنساني عاجز عن إبداع واقع طيب مؤنس، ولا حل مِن ثَم إلا إحياء المثال الجاهز القديم، المجتمع الإسلامي كما عاشه الصحابة تحت قيادة النبي، إنه الاحتكام إلى كتاب الله وحده السبيل إلى تحقيق هذا الحلم وهلم جرًّا …