التراث في التأويل والتلوين: قراءة في مشروع اليسار الإسلامي
من الضروري قبل الدخول في موضوع القراءة — نص مشروع اليسار الإسلامي — طرح تعريف، ولو كان إجرائيًّا، لكل مفهوم من المفهومين المستخدمَين في هذه القراءة. أما أولهما وهو مفهوم «التأويل» فيحتاج إلى تحديد دلالته تحديدًا دقيقًا، خاصة بعد أن اتسعت دلالته وتعددت مجالات استخدامه وتوظيفه، فانتقل من مجال قراءة النصوص الدينية وتفسيرها إلى مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، ومن هذه الأخيرة إلى مجال «نظرية المعرفة» في الفلسفة، ومنها إلى «النقد الأدبي» و«السميوطيقا». والتحديد الذي نود أن نطرحه هنا يتمثل في العودة إلى دلالة المصطلح في مجال تداوله الأصلي، أي في مجال قراءة النصوص الدينية وتفسيرها في تراثنا العربي خاصة، مع بعض الإضافات والتعديلات اللازمة والضرورية بحكم تطور المعرفة وتقدم آفاق الوعي. وليست هذه العودة إلى الأصول لتحديد الدلالة إلا محاولة — أظن أنها مشروعة — لتجاوز طبقات التراكم الدلالي الكثيفة التي أدت إلى غموض المصطلح. لقد اختلط «التأويل» و«التلوين» مع التركيز حديثًا على أهمية دور القارئ في مواجهة التصور السابق الذي كان يركز على أهمية «قصد» المؤلف. ولأننا سنناقش مفهوم «التلوين» بعد ذلك، فيكفي هنا القول إن التركيز على دور القارئ وعلى آليات القراءة قد أدى إلى نمو نزعة ذاتية تهدر — بدرجات متفاوتة — الملابسات والحقائق الموضوعية، سواء ما يرتبط بالنصوص الأدبية أو ما يرتبط بسواها من النصوص، وعلى رأسها نصوص التراث الإسلامي.
موضوع قراءة اليسار الإسلامي هو نصوص التراث الديني الإسلامي. ومن البديهي أن نصوص التراث الديني لا تثير إشكالية «القصد» كما تثيرها النصوص الأدبية، بمعنى أنها لا تثيرها من المستوى الإبستمولوجي نفسه، بل تثيرها من مستوًى آخر يشمل مجمل الظروف الموضوعية — الاجتماعية الاقتصادية السياسية — التي أحاطت بعملية إنتاج تلك النصوص، والتي تتحدد طبقًا لها — من ثم — الدلالات والمعاني الأساسية والأصلية للنصوص المعنية.
التأويل: الدلالة اللغوية والدلالة الاصطلاحية
لكن التأويل ليس مفهومًا قاصرًا على التعامل مع النصوص اللغوية وحدها، بل يتسع كما هو واضح من سياق استخدامه في القرآن وفي اللغة عامة ليشمل الأحداث والوقائع والظواهر كافة، بمعنى أنه مفهوم للتعامل مع النصوص بالمعنى السميوطيقي الشامل. ولا بد أن تتغير — بناء على ذلك — مجموعة علوم التفسير لتلائم طبيعة النص موضوع التأويل، أو بعبارة أخرى لا بد أن تتغير طبيعة «المفسِّرة» الملائمة لتأويل النص العلامة. إن لكل مجال معرفي أدواتِه ووسائلَه التفسيرية الخاصة التي لا ينهض التأويل إلا عليها، ولكن ليس معنى ذلك أن النشاط التأويلي مجرد نتيجة ميكانيكية للعلم بالمفسِّرة. إن التفسير — كما سبق القول — يرتبط بالرواية والنقل، ويظل مجال التأويل مرتبطًا بفاعلية العقل والاستنباط.
ومن الضروري التنبيه هنا إلى أن المجالات المعرفية تتبادل الأدوار بطريقة معقدة يستحيل معها تصنيفها وفقًا لجدلية التفسير/التأويل، وإلا وقعنا في ثنائية التقسيم الكلامي الديني للعلوم إلى علوم مخدومة غير خادمة، وعلوم خادمة غير مخدومة، وتقع بينهما علوم خادمة مخدومة. إن مجالًا معرفيًّا ما يمكن أن يكون تفسرة لمجال معرفي آخر، بالدرجة نفسها التي يمكن لهذا الآخر أن يكون بها تفسرة للمجال الأول في سياق مغاير.
التلوين: قراءة مغرضة
ما دام التأويل فعَّالية استنباطية فمن البديهي أن يكون للذات العارفة دور لا يصح إنكاره أو تجاهله، لكن بعض النظريات المعاصرة التي تميل إلى جانب النص تجعل منه عالمًا من العَلاقات الدلالية التي لا تفصح عن نفسها ولا تنكشف إلا من خلال أفق قارئ محدد، وهذا القارئ محكوم إبستمولوجيًّا بآفاق المكان والزمان، بل والمزاج اللحظي في بعض الأحيان. وهكذا تتعدد دلالات النصوص وتتسع مع تغير آفاق القراءة مكانيًّا أو زمانيًّا، وتصبح القراءة بمثابة إبداع نص على النص. ورغم ما يبدو على هذا التصور من جدة وحداثة فالواقع أنه يعود بنا من باب خلفي إلى ما يشبه الانطباعية، بل إن إلحاحه على انفصال النص عن مؤلفه وعن عصره والواقع الذي أنتجه، لدرجة أنه يبشرنا بعصر «موت المؤلف»، جعله يبني للنصوص عالمًا مستقلًّا له قوانينه الخاصة. إنها نظرية النقد الجديد، خلعت مُسوحها القديمة واستبدلت القارئ بالمبدع، وآليات القراءة والتأويل بآليات الإبداع والتشكيل. وإذا كنا نتفق مع من يذهبون إلى القول بأنه لا توجد قراءة بريئة، فإننا نجد من الضروري التفرقة بين القراءة «غير البريئة» والقراءة «المغرضة». إن انعدام البراءة في النشاط المعرفي عمومًا، وفي قراءة النصوص خصوصًا، أمر له تأويله الإبستمولوجي، ما دام فعل المعرفة لا يبدأ من فراغ مطلق شامل مطابق لحالة البراءة الأصلية الأولى على افتراض وجودها. أما القراءة المغرضة فهي على عكس ذلك، لا تأويل لها إلا في الأيديولوجيا. إن تفرقة القدماء بين نمطين من التأويل أحدهما مقبول والآخر مذموم يمكن أن تمثل — بعد نفي أساسها الأيديولوجي وتأصيل أساسها الإبستمولوجي — أساسًا طيبًا لتفرقتنا هنا بين التأويل والتلوين. إن التعامل مع النصوص، أو تأويلها، يجب أن ينطلق من زاويتين لا تغني إحداهما عن الأخرى، خاصة إذا كنا نتحدث عن نصوص تراثية؛ الزاوية الأولى: زاوية التاريخ بالمعنى السوسيولوجي لوضع النصوص في سياقها من أجل اكتشاف دلالتها الأصلية، ويدخل في ذلك السياق التاريخي، وبالطبع السياق اللغوي الخاص لتلك النصوص. والزاوية الثانية: زاوية السياق الاجتماعي والثقافي الراهن الذي يمثل دافع التوجه إلى تأويل — أو بالأحرى إعادة تأويل — تلك النصوص، وذلك من أجل التفرقة بين الدلالة الأصلية التاريخية وبين «المغزى» الذي يمكن استنباطه من تلك الدلالة. إن التفرقة في تأويل النصوص بين «الدلالة» و«المغزى» يجب أن تظل مطلبًا ملحًّا حتى لا تتميع الحدود بين الماضي والحاضر من جهة، وحتى لا تخضع منهجية التأويل لأيديولوجية الباحث خضوعًا تعسفيًّا مبتذلًا من جهة أخرى. وليس معنى ذلك أننا ننكر على الباحث حقه (الطبيعي والمعرفي) في أن يصوغ موقفه من الواقع والتراث من خلال منهجيته في التأويل، بصرف النظر عن تقدمية هذا الموقف أو رجعيته، ولكننا ننكر بل نستنكر، أن يتم ذلك على نحو مباشر مبتذل وتعسفي. إننا نستنكر التعامل مع النصوص وتأويلها من منطلق نفعي برَجماتي يهدر حركتها في سياقها التاريخي من جهة، ويتنكر للحقائق والمعطيات التي لا تنكشف دلالة النصوص إلا من خلالها من جهة أخرى. إنَّ التعسفية في التعامل مع النصوص وفي تأويلها تتم غالبًا في وعي الباحث — أو تجاهله — لأيديولوجيته، الأمر الذي يجعلها تمارس دورها في الخفاء دون رقابة أو ضابط أو كابح، وفي هذه الحالة يصبح الوثب من التأويل إلى التلوين سهلًا، وتتميع الحدود بين الدلالة والمغزى.
إن النشاط المعرفي عامة وفعل القراءة خاصة يهدفان إلى اكتشاف حقائق تتمتع بمستوًى ما من مستويات الوجود خارج آفاق الذات العارفة أو القارئ، وإذا كانت آفاق القارئ تحدد له زاوية الرؤية، فإن معطيات النص لا تقف في هذه المواجهة موقف المتلقي السلبي لتوجيهات الذات العارفة، وهذا معنى أن القراءة الحقة، والنشاط المعرفي الحق عمومًا، تقوم على «جدلية» خصبة خلاقة بين الذات والموضوع. وهذه العلاقة تنتج التأويل على مستوى درس النصوص والظواهر على السواء، وعلى العكس من ذلك لا تنتج القراءة المغرضة سوى التلوين. ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن التلوين لا ينتج فقط عن تلك النزعة تنتج الذاتية النفعية في التعامل مع النصوص أو الظواهر، بل ينتج بالقدر والدرجة نفسيهما عن نزعة وضعية شكلية تخفي توجهاتها الأيديولوجية تحت شعار «الموضوعية العلمية» والحياد المعرفي. النزعة الذاتية النفعية تهدر الزاوية الأولى من الزاويتين اللتين أشرنا إليهما فيما سبق، زاوية السياق الموضوعي التاريخي للنصوص، وتخفق من ثَم في اكتشاف دلالتها. أما النزعة الوضعية الشكلية فتزعم قدرتها على الوصول إلى الدلالة واكتشاف الحقيقة في حين أن ما تصل إليه ليس في الواقع إلا ما كانت تريده منذ البداية. ولذلك أطلقنا على كلتا النزعتين اسم «القراءة المغرضة» فصلًا لهما عن «القراءة غير البريئة» التي تستند في عدم براءتها إلى جدلية العَلاقة بين الذات والموضوع.
القراءة المنتجة
إن الزاويتين اللتين حددناهما للتعامل مع النصوص، ولتأويلها، ليستا زاويتين منفصلتين، وإن كان الفصل بينهما ضروريًّا من زاوية المنهج. وضرورات المنهج أيضًا هي التي تبرر الفصل بين «الدلالة» و«المغزى» في تأويل النصوص، والحقيقة أنهما وجهان لعملة واحدة. ذلك أن المغزى لا ينفك عن ملامسة الدلالة بالدرجة نفسها التي يوجه بها المغزى أبعاد الدلالة. وإذا كان من الممكن القول إن «المغزى» — أو بالأحرى محاولة الوصول إليه — يمثل «الغاية» والهدف من فعل القراءة فإن هذه الغاية لا يمكن الوصول إليها إلا عبر اكتشاف الدلالة، وإن كانت من جهة أخرى تساهم بدرجة ما في تشكيل بعض أبعادها. وإذا كان اكتشاف الدلالة لا يتم إلا من خلال «التفسرة» بالمعنى الذي شرحناه من قبل، فإن بُعدَي عملية التأويل، وهما الدلالة والمغزى، يتوازيان مع الدلالتين اللغويتين لمصطلح التأويل كما سلفت الإشارة. يمثل اكتشاف الدلالة العودة والرجوع إلى الأصل، فيحين يمثل الوصول إلى المغزى الهدف والغاية من فعل القراءة، وتلتقي الدلالتان على المستويين اللغوي والاصطلاحي من خلال دلالة الصيغة الصرفية — تفعيل — للمصطلح، والتي تشير إلى حدث متكرر، وهي دلالة مشتقة من التضعيف في «عين» الصيغة الثلاثية للفعل الأصلي. ومعنى ذلك أن التأويل حركة متكررة بين بُعدَي «الأصل» و«الغاية» أو بين «الدلالة» و«المغزى»، حركة بَندولية وليست حركة في اتجاه واحد. إنها حركة تبدأ من الواقع/المغزى لاكتشاف دلالة النص/الماضي، ثم تعود الدلالة لتأسيس المغزى وتعديل نقطة البداية، وبدون هذه الحركة البندولية بين المغزى والدلالة، يتبدد كلاهما وتتباعد القراءة عن أفق التأويل لتقع في وهدة التلوين. وبعبارة أخرى تتحول من قراءة مشروعة — وإن كانت غير بريئة — إلى قراءة مغرضة. ومن الضروري هنا التأكيد أن المغزى الذي يمثل نقطة البدء في القراءة مغزًى افتراضي جنيني قابل للتعديل أو النفي أو الإثبات طبقًا لما تنتجه القراءة من دلالة. أما المغزى الثابت المحدد سلفًا بطريقة قطعية جامدة، فليس إلا عقبة في طريق القراءة المنتجة، وهي القراءة التالية لعملية — بل عمليات — الاستكشاف الأولى التي يتولد عنها المغزى الافتراضي الجنيني المشار إليه.
إن النص بوصفه علامة كلية يتكون من سلسلة من العلامات التي تشير في مجملها إلى مدلولات زمانية/مكانية تقع خارج النص، ولكن بعض تلك العلامات قادر على النفاذ من هذا الأفق المحدود إلى آفاق مستقبلية قادرة على مخاطبة العصور التالية. وفي النصوص المتميزة تكون تلك العلامات قابلة لتجديد دلالتها مع كل قراءة جديدة، بالشروط المذكورة قبل ذلك، وإن كان هذا لا ينفي ضرورة القراءة المنتجة للعلامات ذات الطبيعة الزمانية/المكانية. إن فعل القراءة في الحقيقة لا يتناول العلامات المكونة للنص منفصلة عن بعضها البعض إلا على سبيل التحليل السابق على التركيب، وفي هذه المرحلة يمكن الفصل بين نمطين من العلامات تؤسس إحداهما الدلالة وتؤسس الأخرى المغزى، بالإضافة إلى مساهمتها مع الأولى في تأسيس الدلالة. ويأتي بعد ذلك دور القراءة التركيبية التأويلية التي ترى الدلالة مستوًى من مستويات النص هو المستوى الظاهر، وهو مستوًى يدل من داخله لا من خارجه على مستوًى آخر أعمق هو مستوى الباطن أو المغزى.
إن جدلية الدلالة/المغزى، أو الظاهر/الباطن على مستوى النصوص، خاصةً المتميزةَ، حقيقةٌ لا سبيل إلى تجاهلها، والقراءة المنتجة التأويلية هي القادرة بحقٍّ على اكتشافها والتمييز بين طرفيها. ولا نريد الخروج عن سياق هذه الدراسة بتقديم نموذج للقراءة المنتجة لبعض النصوص، ولذلك نكتفي بما قدمناه من قراءة لمفهوم التأويل عند علماء القرآن، ولمفهوم الظاهر والباطن في التراث الصوفي. لقد سعت تلك القراءة السريعة إلى اكتشاف مغزى تلك المفاهيم، المغزى الملائم لآفاق وَعْينا، والمبني في الوقت نفسه على دلالتها التاريخية بالتركيز على المعرفي ونفي الأيديولوجي. لقد قلنا إن علماء القرآن تقبلوا بعض القراءات الصوفية للقرآن، وأدخلوها دائرة «المباح» في حين أنهم نفَوا القراءة الشيعية ووضعوها في إطار «المذموم»، ولاحظنا أن هذه التفرقة تفرقة مشروعة من حيث المغزى المعرفي، وإن اعتمدت في سياقها التاريخي على موقف أيديولوجي. ويمكننا الآن أن نضع في إطار المعرفي كثيرًا من النصوص التي تؤكد تعدد مستويات المعنى في النصوص الدينية بشكل خاص، بشرط أن نعمم المفهوم ليشمل النصوص غير الدينية من جهة، وأن يتأسس هذا التعدد على عَلاقة جدلية بين مستوياته من جهة أخرى.
بهذه التفرقة التي نأمل أن تكون قد اتضحت بين التأويل والتلوين، أو بين القراءة المنتجة — غير البريئة — وبين القراءة المغرضة — غير المنتجة بالضرورة — نتوجه إلى قراءة مشروع اليسار الإسلامي. ونأمل أن تنتج هذه القراءة — بدورها — مزيدًا من الشرح لآليات القراءة وأبعاد التأويل.
اليسار الإسلامي وأولويات الخطاب الديني
مفهوم «اليسار» يفترض نقيضه وهو اليمين، ويطرح أفكاره ومفاهيمه في مواجهته بشكل أساسي، رغم أن كليهما ينطلق من الثوابت المعرفية نفسها التي تطرحها النصوص الدينية. من هذه الزاوية ينتمي اليسار إلى مجال الفكر الديني رغم سيطرة بعض آليات الخطاب الفلسفي على بعض أطروحاته. لقد طُرح مصطلح «اليسار الإسلامي» لأول مرة — فيما نعلم — في بداية الثمانينيات في مصر؛ طرحه حسن حنفي، أهم ممثليه لا في مصر وحدها بل في العالم الإسلامي عمومًا، وفي العالم العربي على وجه الخصوص، وذلك في العدد الأول — والوحيد — من المَجلة التي صدرت إحياءً لتقاليد «العروة الوثقى» التي كان يصدرها الأفغاني ومحمد عبده. وليس معنى ذلك أن «اليسار الإسلامي» لم يظهر بوصفه اتجاهًا فكريًّا متميزًا إلا في أوائل الثمانينيات، بل إن مغزى صدور هذا الإصدار الجديد لمَجلة العروة الوثقى حاملة شعار «اليسار الإسلامي» يتمثل في إحساس هذا التيار بالمخاطر التي تحدق به من ناحيتين متشابكتين، تتمثل الناحية الأولى في المخاطر التي كان يتعرض لها اليسار بصفة عامة بكل اتجاهاته وفصائله نتيجة الانقلاب السياسي (الاقتصادي والاجتماعي) والفكري الذي بدأت بوادره في انقلاب مايو ١٩٧١م، ولم يثمر ثماره المُرة السوداء إلا مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، حيث أسلم النظام قياده كاملًا لأعداء الأمة التاريخيين: الاستعمار العالمي والصهيونية الدولية. ولأن اليسار الإسلامي ابن شرعي لحركة المد القومي ذات الأفق التقدمي من الوجهة الاجتماعية، وهي الحركة التي وجدت تعبيرها السياسي في نظام يوليو، خاصة في مرحلة الستينيات، فقد كان من الطبيعي أن يصيبها كل ما يصيب اليسار من حصر وتضييق ومصادرة من نظام السبعينيات. ومن الجدير بالالتفات أن تلك الفترة التي شهدت عند بعض ممثلي اليسار الإسلامي انقلابًا حادًّا انضموا به إلى صفوف «اليمين الإسلامي» الذي تمتع في المقابل بحريات واسعة في ممارسة نشاطه السياسي، وفي طرح أطروحاته الفكرية. كان تنامي حركة اليمين الديني يمثل المخاطر الآتية من الوجهة الأخرى، وجهة التحدي الأيديولوجي، المقابلة للتحدي السياسي الذي واجهه اليسار بكل فصائله واتجاهاته.
كانت هذه الإطالة ضرورية لأن الارتحال من اليسار إلى اليمين داخل بنية الفكر الديني طال كثيرين غير سيد قطب، ويكفي أن نذكر هنا بعض الأسماء مثل خالد محمد خالد ومحمد عمارة، بل إن التحول إلى اليمين الديني من اليسار بشكل عام إحدى الظواهر اللافتة في مرحلة السبعينيات، ويكفي هنا أيضًا الاستشهاد باسم عادل حسين. ويبدو أن تلك المرحلة قد ساهمت إلى حد كبير في فرز المواقف، وتحديد الاتجاهات، وتمييز التيارات التي ساهمت بدرجات متفاوتة في مشروع نظام يوليو حتى نهاية الستينيات. وقد أدت عملية الفرز تلك في مجال اليسار الإسلامي إضافة إلى المخاطر التي حاقت به — والتي سبقت الإشارة إليها — إلى انسحاب كل فرسانه تقريبًا، وبقي حسن حنفي في الميدان المصري وحده، ومن هنا نشأت الحاجة إلى الإعلان عن الوجود، فأصدر العدد الأول والوحيد — والذي حرره وحده تقريبًا — من اليسار الإسلامي عام ١٩٨١م. وقبل ذلك بعام كان قد أصدر مخطط مشروع اليسار الإسلامي — والذي يحلو له أن يطلق عليه في حوارنا الشِّفاهي اسم «المانيفستو» — تحت عنوان «التراث والتجديد»، وهو المخطط الذي صدر جزؤه الأول عام ١٩٨٨م في خمسة مجلدات بعنوان «من العقيدة إلى الثورة» موضوع تحليلنا الأساسي في هذه الدراسة.
إذا كانت «التقية» مبدأ يفسر لنا التردد في نبرة الخطاب السياسي لليسار الإسلامي، من أجل مواجهة الخطر السياسي الذي حاق به — كما حاق بكل اتجاهات اليسار وفصائله — في بداية الثمانينيات، فإن المبدأ المفسر لطريقة مواجهته للخطر الأيديولوجي الناتج عن تنامي اتجاه اليمين الإسلامي هو «التوفيقية» على مستوى الخطاب الفلسفي/الديني. لقد وقع اليسار الإسلامي بين شقي الرحى فاتُّهم بالماركسية والعمالة من جانب النظام والمد الديني من جهة، واتُّهم بالتلفيقية والتبريرية من جانب قوى اليسار من جهة أخرى، وكانت «التوفيقية» المرتبطة بهاجس التوحيد بين الإخوة الفرقاء في جسد الأمة هي الاستجابة الأيديولوجية لذلك التحدي:
فعقائدنا هي حركة الوصل بين جناحَي الأمة، والتي من خلالها يستطيع التراث السلفي أن يواجه قضايا العصر الرئيسية، كما يستطيع العلماني التقدمي (الليبرالي أو الاشتراكي أو القومي) أن يحقق أهدافه ابتداءً من تراث الأمة وروحها، فيأمن الأول الخروج على المجتمع سرًّا أو علنًا ومعاداة الأهل والوطن، ويأمن الثاني الانتهاء إلى الردة والوقوع في الثورة المضادة. هذا ما يبرهن عليه واقعنا المعاصر، سواء في موقف الحركة الإسلامية منه، أو في انتكاسة الثورة العربية وردتها» (١: ٣٩).
ولكن ليس معنى ذلك أن «التوفيقية» المرتبطة بهاجس التوحيد بين الفرقاء مجرد استجابة لحالة — أو بالأحرى لخطر — التحدي الأيديولوجي المشار إليها.
فالواقع أن التوفيقية جزء أصيل في بنية «اليسار الإسلامي». وتلتقي «التوفيقية» بوصفها نهجًا فكريًّا مع «التقية» بوصفها نهجًا سياسيًّا، فيلجأ المفكر اليساري أحيانًا إلى التقية على مستوى الفكر، ويمارس التوفيقية على مستوى الخطاب السياسي.
يتساءل في سياق مناقشة إشكالية «التحسين والتقبيح» بين العقل والنقل:
«هل الله في خطر أم العقل في خطر؟ هل ندافع عن حاكمية الله أم حاكمية العقل؟ هل نحن المدافعين (كذا) عن الله أم نحن بشر ندافع عن حقوق البشر؟ قد لا يملك الإنسان أمام المزايدة إلا الصمت خوفًا من قهر العامة وثقل التاريخ وسطوة الحكام. ومع ذلك فالدفاع عن حكم العقل هي مهمة جيلنا، دفاعًا عن حقوق الناس وإعمالًا لعقولهم» (٣ : ٤٣٨).
وبالمثل تتبدى التوفيقية في تصوره لطبيعة الحزب السياسي، فهذا الحزب هو: «خليفة شعب الله المختار» (٥: ٣٨٧) وهو يمثل مصلحة الناس لا مصلحة طبقة أو فئة» (٥: ٣٨٨)، وهو أخيرًا الحزب الوحيد الحق: «المعبر عن الفكر، والمدافع عن مصلحة الجماهير والحريص عليها، في مقابل حزب مضاد لا يمثل مصلحة الجماهير ولا يعبر عنها» (٥: ٣٩٠). وإذا كانت التوفيقية ترتبط بهاجس التوحيد الفكري، فإن التقية لها مبرراتها في واقع حالة «التزمُّت» التي تحايث الفكر الديني بصفة عامة، والتي تصاعدت حدتها في مرحلة السبعينيات.
إذا كانت «التوفيقية» تمثل البنية الفكرية العميقة في خطاب اليسار الإسلامي، فمن الطبيعي أن تخضع البنية السطحية لهذا الخطاب لمثيرات الواقع، فتميل في الستينيات إلى جانب العلمانية التقدمية، وتميل في أواخر السبعينيات وحتى الآن إلى جانب السلفية. ونقول إن هذا أمر طبيعي، استنادًا إلى إصرار اليسار الإسلامي على «المزج» في خطابه بين السياسي والفكري والأيديولوجي والإبستمولوجي، دون تأسيس للفرع على الأصل. وإذا كنا نرفض تأويل ذلك «المزج» وما يترتب عليه من نتائج بالأسباب الذاتية الشخصية، فإن حسن القصد البادي في الحيرة الدائمة بين دور «العالِم» ودور «المواطن» لا يكفي تبريرًا لهذا المزج ولا نقول الخلط، بل إن تلك الحيرة مظهر آخر من مظاهر «التوفيقية» العميقة في بنية خطاب اليسار.
«أرادت تحويل النظر إلى عملٍ دون تأسيسٍ للنظر، لذلك ظل الإصلاح مجرد وعظ وإرشاد، حاثًّا الناس على العمل. والناس لا تعمل بالمواعظ بل بتغيير تصوراتها للعالم ونظرتها للكون. ومن ثم فالعودة إلى تأسيس العلم، وتحويل التوحيد إلى نظرية، هو السبيل إلى إصلاح جذري، والانتقال من الإصلاح إلى ثورة تتأصل أولًا في شعور الجماهير، وتُمدهم بتصور ثوري للعالم قبل أن تتحقق الثورة بالفعل» (١: ٢٤٣).
وإذا كانت حركة الإصلاح الديني قد عجزت عن تحقيق «التنوير» العقلي بسبب جمودها الفكري وعجز مفكريها عن إحداث تغيير جذري في رؤية العالم، فإنها بهذا العجز قد أدت إلى ترك المجال لنقيضها الفكري — العلمانية — لأخذ زمام المبادرة. لكن هذه الأخيرة فشلت بدورها في إحداث التغيير المطلوب، لأنها أهملت شأن العقائد وركزت على المصالح كرد فعل على حركة الإصلاح الديني، التي أهملت المصالح الدنيوية للجماهير وركزت على تثبيت العقائد؟ (انظر: ١: ٦٦). إن فشل المشروعات العلمانية يرتد في نظر اليسار الإسلامي إلى أنها اتجهت صوب التأثر بالمشروع الغربي، وأهدرت «التراث» الذي يمثل المخزون النفسي للجماهير، والأساس النظري لأبنية الواقع (انظر: ١: ٣٢٣). إننا طبقًا لليسار الإسلامي:
ومن الصعب التسليم بهذا الوضع «التناقضي» الذي يضعه اليسار الإسلامي لعَلاقة التيارين الرئيسيين في فكرنا الحديث، رغم الاتفاق معه في بعض الأطروحات السالفة بشرط تأسيسها على أساس علمي رصين. لا خلاف مثلًا على أن للتراث فعَّاليته الخاصة في صياغة وعينا الثقافي والفكري الراهن، ولكنه ليس «التراث» بألف ولام التعريف، أي إنه ليس التراث بمجمل اتجاهاته وتياراته التي يضعها اليسار — أحيانًا — على مستوى واحد. بل تتوقف فعَّالية التراث على عملية «اختيار» معقدة توجهها في الأساس مواقف مختلفة — ومتناقضة إلى حد الصراع — من الواقع العيني المباشر. وفي عملية «الاختيار» تلك، بكل ما تتضمنه من عناصر الإبراز والتعتيم أو الإظهار والإخفاء، يتم «تلوين» هذا التيار أو ذاك من التراث، وهو التلوين الذي يثِب فوق دلالة التراث إلى المغزى المحدد سلفًا. وهذا الاتفاق المشروط على فعَّالية التراث في تشكيل الوعي هو الذي يؤسس خلافنا الجذري مع اليسار الإسلامي في عَلاقة التناقض والتضاد التي يتصورها بين السلفية والعلمانية.
لم تكن التيارات العلمانية محجوبة عن «الاستناد» بدرجات متفاوتة إلى بعض اتجاهات التراث، ولم تكن السلفية الإصلاحية في عزلة عن «الاهتمام» بمصالح الجماهير، فقد كان التحدي المطروح اجتماعيًّا وحضاريًّا هو «التخلف» الذي تكشَّف من خلال الاحتكاك بالآخر الغربي، وهو تحدٍّ لكل فريق آليات الاستجابة الذهنية طبقًا لموقفه من الواقع. رأى السلفيون أن سبب التخلف راجع إلى التخلي عن القيم الحقيقية والأصيلة في الإسلام، وتم استيعاب الآخر من هذا المنظور بوصفه محققًا لتلك القيم في حياته الاجتماعية وفي سلوك أفراده، وشاعت من ثَم أقوال من نمط إننا مسلمون بلا إسلام وإن هناك يزدهر إسلام بلا مسلمين. من هنا تحددت آليات الإصلاح في ضرورة العودة إلى الإسلام الأصلي في ينابيعه الأولى ومصادره الأصلية، وتحدد الماضي الجميل المنتصر بوصفه إطارًا مرجعيًّا لحل إشكالات الحاضر.
وعلى ذلك فلم يكن الخلاف بين جناحي الأمة — كما يتصور اليسار الإسلامي — خلافًا جذريًّا فيما يرتبط بعَلاقة كل منهما بالتراث، بل تَركَّز الخلاف في الطريقة التي «استعمل» بها كل منهما التراث، حيث تحول لدى السلفيين إلى إطار مرجعي بينما تحول عند العلمانيين إلى غطاء و«سند». وفي كلتا الحالتين فقد التراث وجوده الموضوعي لحساب التلوين الأيديولوجي النفعي، وفشل كِلا الاتجاهين في تأسيس معرفة علمية بالواقع أو بالتراث، وفشِلَا من ثَم في إحداث أدنى تغييرٍ كيفي في الوعي المعاصر. والدليل على ذلك أننا لا نزال ندور في إطار تلك الثنائية التي تشكلت وبرزت في وعينا في بدايات القرن الماضي — التاسع عشر — وقد أوشك القرن الحالي على الانتهاء، وتلك الثنائية تزداد في وعينا حدة وفي حياتنا عمقًا. تُرى هل يستطيع اليسار الإسلامي أن يحقق ما لم يتحقق منذ بداية عصر النهضة حتى الآن؟
إن وضع السلفية والعلمانية في عَلاقة التضاد المشار إليها هو الذي يعطي لليسار الإسلامي — فيما يبدو — مبرر وجوده، ويحدد له من ثم أولوياته وآلياته أيضًا. وإذا كانت اللحظة الحضارية التي تمر بها الأمة ما تزال مرحلة «النهضة» بكل ما تشتمل عليه وتتطلبه من «تنوير»، فإن كلًّا من السلفية والعلمانية تطرح مشروعًا خارج اللحظة الحضارية: السلفية بتوجهها صوب الماضي، والعلمانية بتجاوزها الحاضر إلى المستقبل. وفي هذا الإطار تمثل السلفية «الاتباع» وتمثل العلمانية «الابتداع»، ويصبح «الإبداع هو الطريق الصحيح بين الاتباع والابتداع، ويصبح «تجديد التراث» هو المعبر عن اللحظة الحضارية الراهنة بوصفه طريقًا وسطًا بين السلفية بتوجهها الماضوي، وبين العلمانية بتوجهها المستقبلي» (انظر: ١: ٣٥، ٧٥، ٢١١). هكذا يصبح تجديد التراث هو قضية القضايا، وهو الأولوية الأولى في مشروع اليسار الإسلامي، بل هو إبداعه الأصيل وإسهامه الأكبر. ولأن المشروع كله يبدأ من منحًى توفيقي، ولأن كل منحًى توفيقي يجنح إلى هذا الجانب تارة وإلى الجانب الآخر تارة ثانية، فإن اليسار الإسلامي يميل إلى إعطاء التراث أولوية وجودية ومعرفية على التجديد المنطلق من آفاق احتياجات اللحظة الحضارية الراهنة:
لكن هذه الأولوية سرعان ما تتكشف عن أولوية «استثمارية» استغلالية لغايات نفعية عملية، ويصبح الوجود السابق للتراث في الزمان وجودًا مرهونًا بما يمكن أن يقدمه لنا من نفع، بصرف النظر عن دلالته الذاتية، أي في سياق وجوده التاريخي.
ولكن علينا أن نلاحظ أن تعامل اليسار الإسلامي مع التراث يتردد بين اعتباره أساسًا فعالًا في بنية الوعي الراهن وحاضرًا حضورًا ملموسًا في ثقافة الحاضر، وبين اعتباره موضوعًا للتجديد. في الحالة الأولى يكون التراث فاعلًا والماضي أساس الحاضر، وفي الحالة الثانية يكون التراث مجالًا لفاعلية التجديد ويكون الحاضر أساسًا لفهم الماضي، وبعبارة أخرى تتبادل ثنائية الماضي/الحاضر، التراث/التجديد مواقعها طبقًا لزاوية التناول والتحليل، دون أن تتأسس العَلاقة بينهما كما ينبغي على أساس جدلي.
الماضي والحاضر: الأصل والفرع
من المفهوم أنه في كل عَلاقة جدلية ثَمةَ أوليةٌ نظرية وأسبقية ذهنية لأحد طرفي هذه العَلاقة، أولية هي التي تسمح بالتحليل والرصد والقياس، ذلك أن التحليل لا بد أن يعتمد على تسكين طرَف لقياس حركة الطرَف الآخر بالنسبة إليه، وبدون عملية التسكين هذه يصبح الفهم مطلبًا مستحيلًا. ومن السهل القول إن العَلاقة الجدلية تعني التفاعل الدائم والحركية المستمرة، التي تجعل الحديث عن طرَف ساكن أمرًا مستحيلًا إلا على سبيل الفرض والتصور. ومع ذلك فالفروض والتصورات هي أساس البحث والدرس، والشروط الأولية لعملية الفهم. من هنا لا بد من تحديد عنصر أو طرَف أولي في عملية الجدل بين الماضي والحاضر، طرف أولي على أساسه يتم للمفكر أو الباحث صياغة موقفه المبدئي التصوري، دون إهدار بالطبع لقانون الجدل. لكن الفكر الديني — اليميني بصفة خاصة — يهدر تلك العَلاقة الجدلية، ويجعل للماضي أولية وجودية ومعرفية بحيث يصبح هو الجوهر الثابت، وتتحول عَلاقة الحاضر به إلى عَلاقةِ تبعية وخضوع، أشبه بعَلاقة العرَض بالجوهر. وإذا كانت عَلاقة الأعراض بالجواهر تميل في بعض صياغاتها التراثية إلى أن تكون عَلاقة تفاعل من حيث حاجة كل منهما إلى الآخر للتعين والظهور، فإن تصور الفكر الديني للعَلاقة بين الماضي والحاضر لا تقارب هذه التخوم. إن الماضي هو الأساس والحاضر يجب أن يشاكله، وإذا ابتعد الحاضر عن صورة الماضي صار منحرفًا وضالًّا. من هنا يسعى الخطاب الديني السلفي إلى إعادة صياغة الحاضر وفقًا لصورة الماضي، ولأن هذا حُلم مستحيل تسيطر على هذا الخطاب الوعظيةُ الإنشائية، ويعتمد على آليات ذهنية ذات طبيعة ديماجوجية، ويتحول المفكر السلفي إلى ما يشبه بعض أنبياء «العهد القديم» يصب اللعنات على الناس والمجتمع، ويتوعدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور.
إن تحديد القيم التراثية التي تؤثر في حركة الواقع من خلال اختزانها في وعي الجماهير عملية أكثر تعقيدًا من مجرد التماس بعض أوجه الشبه، والوثب تلوينًا للحاضر بلون الماضي. إن سيادة قيم بذاتها مثل الاعتماد على النصوص وإهدار دور العقل، والتصور الهرمي للعالم والمجتمع، والخلط بين العقل والوجدان، وإعطاء الأولوية للنظر على العمل، وغياب البعد التاريخي من فكرنا، ليس نتيجة مباشرة ميكانيكية لوجود مثلها في بعض جوانب التراث. والأحرى القول إن تلك القيم السلبية تنتقل من التراث بطريقة معقدة، حيث تعاد صياغتها طبقًا لمتطلبات القوى المسيطرة على حركة الواقع، والموجِّهة لثقافته، وبثها إعلاميًّا بطرق متنوعة ومعقدة تحتاج إلى التحليل والدراسة.
إن العَلاقة بين الماضي/التراث، والحاضر/الأزمة في مشروع اليسار عَلاقة مركبة من حركة هابطة من الماضي إلى الحاضر يتمثل التراث فيها في شكل مخزون نفسي وتصوراتٍ تُشكل بنية الواقع. تقابل هذه الحركةَ الهابطة حركةٌ أخرى صاعدة من الحاضر إلى الماضي، حركة يتحول فيها التراث إلى موضوع للتجديد لحل أزمات الحاضر. هذه الحركة المركبة الهابطة الصاعدة، تمكن اليسار من «حل أزمات العصر وفك رموزه في التراث» كما تمكنه من «إعادة بناء التراث لإعطاء العصر دَفعة جديدة نحو التقدم، فالتراث كما بينَّا هو المخزون النفسي لدى الجماهير، وهو الأساس النظري لأبنية الواقع» (١: ٥). وبعبارة أخرى يمكن القول إن مشروع اليسار الإسلامي، يتمثل في قراءة التراث قراءة كاشفة، تكشف عن «الجذور التاريخية لأزمات العصر في التراث القديم، قراءة للماضي في الحاضر ورؤية للحاضر في الماضي» (١: ٢٢٣). والسؤال الذي نطرحه الآن: هل قراءة اليسار للتراث — علم الكلام بصفة خاصة — قراءة مشروعة، خاصة في شقها الأول، قراءة الماضي في الحاضر، وهو الشق الذي يعنينا في هذه الفقرة؟ وبعبارة أخرى: هل القراءة هنا مشروعة تأويلية، أم أنها قراءة مغرضة تلوينية؟
من اللافت للانتباه أن القراءة التأويلية الحقة لبعض معطيات التراث، تكشف للمشروع اليساري «أن قراءة الحاضر في الماضي» مع إهدار الدلالة التاريخية للنص المقروء، تمثل تعديًا على الحقيقة، تضحية بالإبستمولوجي لحساب الأيديولوجي. لكن هذا الكشف لا يضيء له جوانب الخلل المنهجي في قراءته التلوينية، أو يجعله يعدل من حركة «الوثب» المستمرة من الماضي إلى الحاضر. في الخلاف حول قضية الإمامة انفردت الشيعة — بفصائلها واتجاهاتها كافة — لأسباب وملابسات تاريخية معروفة بالقول إنها بالنص لا بالاختيار. وكان من الطبيعي أن تتلون النصوص الدينية لتكون في خدمة الأيديولوجية الشيعية، ويتنبه اليسار الإسلامي إلى ذلك قائلًا:
«والحقيقة أن التعيين بالنص رجوع إلى الوراء، وإعادة قراءة للماضي بناء على الوضع النفسي الحاضر. فالنص لا يتحول إلى معنًى بل يجعله المتأول يتحدث بما يريد. فالأصل هو الواقع الحالي وهو الذي يعطي للنص مضمونه ومحتواه. وبدلًا من تحليل الواقع ذاته ومكوناته يتم الاعتماد على حجة السلطة في مجتمع، النص فيه مصدر سلطة» (٥: ٢٢٨-٢٢٩). في هذا النقد الكاشف لهذا التلوين الشيعي، يقارب اليسار تخوم نقد نهجه هو في قراءة التراث، من حيث إنه يتماثل في آلياته مع النهج الشيعي بالرجوع إلى الوراء، وقراءة الحاضر في الماضي، وإهدار المعنى — الدلالة التاريخية — لحساب المغزى المحدد أيديولوجيًّا. ويتقدم هذا النقد للمسلك الشيعي خطوة أخرى، حتى يصل إلى نفي مبدأ «قراءة الحاضر في الماضي» نفيًا تامًّا.
«إن كل الحجج النقلية هي في الحقيقة تركيب للنصوص على فرد معين، واستعمال لنص الوحي كنبوءة أو توجيه ثم اختيار واقعة تاريخية معينة كتحقيق لهذه النبوءة، وتحقيق لهذا التوجيه. وذلك خطأ في التفسير إذ لا يجوز إسقاط الحاضر على الماضي وقراءته فيه» (٥: ٢٤٦).
وإذا كانت بعض الاتجاهات الشيعية تميل إلى تأليه الأئمة ترتيبًا على مفهوم «حلول» الإلهي في الإنسان، فإن حكامنا — فيما يرى اليسار الإسلامي — يستخدمون هذا «المخزون النفسي» حيث: «يدعي كل قائد اليوم أنه الإله الفرد، والحاكم الأوحد، والسلطان المطلق. وهنا يبدو أثر التراث كمخزون نفسي عند الجماهير. الجماهير ما زالت مطحونة، مضطهدة، يقوم شعورها على سيكولوجية الاضطهاد، وبالتالي فهي مستعدة بهذا التكوين لتأليه الحكام، فيدرك الحكام أن الدين أنجح وسيلة للسيطرة على الشعوب» (٢: ١٥٥-١٥٦).
لكن الواقع الإيراني — الوارث الفعلي للتراث الشيعي — يتحرك في اتجاه مضاد لتأليه الحاكم، بل ويرفض مبدأ الطاعة حرصًا على حقن الدماء ووحدة الأمة، فيدفع آلافَ الشهداء ثمنًا للثورة ضد الطغيان والفساد، وهذا هو الحدث الذي خلخل قناعات العديد من مفكري الشرق والغرب على السواء. وبدلًا من تحليل دلالة الحدث في سياق الظروف الموضوعية — المحلية والدولية — التي ساهمت في تحقيقه، يتم اختصار تلك الظروف المعقدة المتشابكة في «آليات الفكر الشيعي» الثوري بحكم الخبرة التاريخية، أو في قدرة «الإسلام» على تحقيق الثورة. ومن حسن الحظ أن اليسار الديني يبدو أكثر موضوعية حين يلمس هذا التعارض بين حركة الواقع وبين معطيات التراث، ويرد ذلك إلى الوعي المعاصر للجماهير بحقيقة مصالحها، الوعي الذي يستطيع أن يفك الأسر التاريخي فيقضي ثِقَل الحاضر على قيود الماضي» (٢: ١٥٦).
إن قراءة الحاضر في الماضي تأسيسًا على أن التراث «مخزون نفسي» تؤدي في التحليل الأخير إلى إهدار الحاضر بسجنه في أسر الماضي من ناحية، وبالتعامل معه بوصفه كتلة واحدة تتحدد بأنها واقع «الأمة الإسلامية» من ناحية أخرى. بل إن اليسار الإسلامي يتجاوز في سعيه للإصلاح والتنوير وتوحيد القوى حدود الواقع الإسلامي إلى آسيا وأفريقيا وكل دول العالم الثالث، أو دول عدم الانحياز، أو دول القارات الثلاث (انظر ١: ٧٩–٨٢). ومن المنطقي والحال كذلك أن يتحول التراث إلى كتلة واحدة متماسكة رغم الوعي النظري الذي لا يُنكَر وجوده في الخطاب اليساري بتعدد اتجاهات التراث وتنوعها، ولكنه يظل وعيًا نظريًّا غير موظف في سياق العرض والتحليل. والمثال البارز على ذلك في سياق هذه الفقرة ذلك «الوثب» بين الشيعي والسني على مستوى الحاضر والماضي في الوقت نفسه، رغم الاعتذار عن عدم العودة في سياق التحليل إلى المصادر الشيعية الأصلية استنادًا إلى أن عقائد الشيعة «لا توجد في وعينا القومي كجزء من التراث الحي» (٥: ٦٥٥). هذا الإهدار لموضوعية الحاضر ولموضوعية التراث في الوقت نفسه يكاد ينكشف في بعض تحليلات اليسار، ويؤدي من ثم إلى انهيار مقولة «المخزون النفسي» وسيطًا «توفيقيًّا» بين الحاضر والماضي:
وإذا كان «من العقيدة إلى الثورة» — وهو بمجلداته الخمسة يمثل الجزء الأول من مشروع اليسار الإسلامي «تجديد التراث» — يضاهي من حيث الحجم مؤلفات القاضي عبد الجبار الأسد آبادي (ت: ٤١٥ﻫ)، فإن دعوة مؤلفه لاختصاره وتركيزه، إنما تعني من منظورنا كشف المستتر في بنية هذا الخطاب سعيًا لتطويره وتجاوزه بشكل جدلي (انظر: ١: ٢٢٧). من هذه الزاوية نؤكد أن «قراءة الحاضر في الماضي» بالطريقة التي تحققت في الخطاب اليساري قراءة مغرضة، وأن مقولة «التراث مخزون نفسي» مقولة غامضة تحتاج إلى المراجعة وإعادة التأسيس.
التراث: بناء شعوري أم بناء تاريخي
إذا كنا في الفقرة السابقة قد ركزنا تحليلنا على الحركة الهابطة من الماضي إلى الحاضر، وهي الحركة التي جعلت تراث الماضي مؤسسًا لأزمات الحاضر من خلال تحوله إلى «مخزون نفسي» لدى الجماهير، فإننا في هذه الفقرة نركز تحليلنا على الحركة الصاعدة من الحاضر إلى الماضي من أجل «تجديد التراث»، تغييرًا لوعي الجماهير، وإصلاحًا من ثم للأوضاع المتردية في واقع الأمة «خاصة بعد فشل جميع الأيديولوجيات العلمانية للتحديث، فعقائد الإيمان هي التي حافظت على هوية الجماهير وعلى الشخصية الوطنية للبلاد» (١: ٣٦-٣٧) وهذه الحركة الصاعدة مثل مقابلتها الهابطة، ليست حركة مستقيمة مباشرة، بل هي حركة تمر عبر وسيط «الشعور» المقابل لوسيط «المخزون النفسي» في حركة الهبوط. وفي هذه الحركة الصاعدة ينكشف تصور اليسار الإسلامي للتراث بوصفه بناءً شعوريًّا. وهذا التصور يمثل الأساس النظري لآليات التجديد، كما يمثل أساس كل عمليات «الوثب» المشار إليها في الفقرة السابقة قراءة لأزمات الحاضر في تراث الماضي. والبناء الشعوري — على عكس البناء التاريخي — يتعامل مع الفكر عمومًا والتراث خصوصًا على أساس من استقلال الفكر عن الواقع رغم التسليم بنشأته منه. من هنا نفهم كثيرًا من جوانب تحليلات اليسار للفكر على أساس من مفهوم «الأنماط المثالية» المستقلة عن التاريخ والواقع، واعتبار المفكرين مجرد «حوامل» للفكر:
«والفكرة مستقلة عن مؤلفها بل ولا يهمنا من هو صاحبها أو أول القائلين بها، بقدر ما تهمنا الفكرة ذاتها. المهم هو القضاء على تشخيص الأفكار … فالأشخاص إن هي إلا حوامل للفكر وليست خالقة للفكر … فالفكر له بناؤه المستقل عن التاريخ، وإن كان يظهر في التاريخ كحركة ومسار وقانون» (١: ٢٠٩). هذا التصور لاستقلال الفكر عن التاريخ وعن حامليه يجعل الحركات والتيارات الفكرية التاريخية في التراث مجرد «ردود أفعال» واستجابات «فكرية» لأنماط من الفكر سابقة عليها. ومن البديهي أن يكون تاريخ نشأة الفِرق وتطور «علم الكلام» خاضعًا لقانون تطور الوعي عند هيجل، حركة من الفكرة إلى نقيضها ثم إلى المركَّب من كلتيهما. فقضية «خلق الأفعال» مثلًا بدأت بالجبر، ثم تطورت إلى نقيضها عند المعتزلة «خلق الإنسان لأفعاله» ثم الجمع والتركيب بينهما في «الاكتساب» عند الأشاعرة (انظر: ٣: ١٧، ١٩٩-٢٠٠؛ ٥: ٥٦٢-٥٦٣). وتكاد كل قضايا علم الكلام تكون خاضعة لهذا الترتيب «الجبري» في طابعه، والكوني في شموله: جبري من حيث إنه يفرض نسقًا جامدًا حادًّا لتطور الأفكار، وكوني من حيث إنه يجعل من تلك الأفكار والفِرق «أنماطًا مثالية» قابلة بذاتها للتَّكرار في الزمان والمكان (انظر: ١: ١٥٢، ١٥٤، ١٥٥؛ ٥: ٦١٤، ٦١٦). ومن الغريب اللافت أن تكون تلك الحركة التطورية المبنية على الفعل ورد الفعل — على المستوى الفكري — هي التي حفظت للأمة توازنها الفكري، وحققت وحدتها القائمة على التعدد (انظر: ٥: ٥٨٩).
هذا الفصل بين الفكر والتاريخ، والنظر إليه بوصفه أنماطًا مثالية قابلة للتكرار في كل زمان ومكان، يحوِّل علم الكلام الإسلامي إلى علم كوني ويفقده «دلالته» الأساسية النابعة من سياقه التاريخي/الاجتماعي، الأمر الذي يؤدي إلى وقوع التجديد — اكتشاف المغزى — في هوة الذاتية التلوينية المتمثلة في المنهج «الشعوري». وقبل مناقشة أبعاد المنهج الشعوري كما يطرحه اليسار الإسلامي، فإن ثمة أسئلة ثلاثًا كاشفة يطرحها «التجديد» تبرز التصور العام الذي نحن بصدده: «إذا كانت الفرق الكلامية اتجاهات فكرية، وكانت الاتجاهات الفكرية أنماطًا مثالية للفكر البشري، وكانت هذه الأنماط تكون جوانب مختلفة للموضوع فالسؤال الأول هو: هل أعطى التاريخ كل هذه الأنماط؟ هل كشفت الحضارة جوانب الموضوع؟ هل باستطاعة الباحث اكتشاف أنماط جديدة وكشف جوانب أخرى للموضوع؟ … والسؤال الثاني: إذا كانت الاتجاهات الفكرية أنماطًا مثالية للفكر البشري فهل هذه الأنماط حلول متزامنة أم متتالية في الزمان؟ أم أنها جوانب مختلفة لموضوع واحد؟ … مهمة الباحث الآن عرض الاتجاهات الفكرية التي تمثلها الفِرق كجوانب مختلفة لموضوع واحد، وكأن الباحث ينظر إلى الموضوع من علٍ كمُشاهد محايد. والسؤال الثالث: إذا كانت الفرق الكلامية تمثل اتجاهات فكرية، فالسؤال هو: هل هذه الاتجاهات الفكرية أنماط دائمة للفكر الديني تتكرر في كل زمان ومكان؟ ففي التوحيد مثلًا لا تمثل الشيعة التأليه والتجسيم فقط، ولا تمثل السنة التشبيه فقط ولا تمثل المعتزلة التنزيه فقط، بل إن التأليه والتجسيم والتشبيه والتنزيه أنماط مثالية للفكر الديني، أو للفكر البشري العام فيما يتعلق بالألوهية … فيصبح علم أصول الدين بنيويًّا لكل حضارة وللفكر البشري العام» (٥: ٦٢٨-٦٢٩).
إن الموضوع/التراث في مثل هذا التصور يتحول إلى «مطلق» تتكشف جوانبه المختلفة آنا بعد آن، ويُعَد ظهور الفرق وتطور الأفكار — طبقًا لقانون الفعل ورد الفعل — بمثابة تجليات ومظاهر مختلفة لذلك «الجوهر» المطلق. ويمكن للباحث والحال كذلك أن يساعد في الكشف عن بعض مجالي ذلك الجوهر التي لم يظهرها التاريخ بعد. والحقيقة أن بعض تحليلات اليسار الإسلامي تكشف أن هذا التصور ليس مجرد تصور نظري، أو فرضية قابلة للإثبات والنفي أو التعديل، بل هو تصور موظف في بنية الخطاب كإحدى ركائزه.
ولأننا سنعود لمناقشة تجليات هذا التصور بشكل تفصيلي بعد ذلك، فيكفي في هذا السياق أن نعطي نموذجًا واحدًا لتداخل المنهج الشعوري بالتصور السابق للفكر/الموضوع بوصفه معطًى صوريًّا. الخلاف بين الفرق الكلامية في التراث الديني حول تعريف «الإيمان» يتحول في تحليل اليسار إلى تحليل «أبعاد الشعور»، وذلك تأسيسًا على أن الإيمان يتحقق بصورته المثلى في الجمع بين «المعرفة» و«التصديق» و«الإقرار» من جانب، وبين «العمل» من جانب آخر، وهي الجوانب التي اختلفت حول أهميتها وترتيب أولوياتها الفِرق، والتي يصر اليسار على أنها جوانب مختلفة لموضوع واحد هو «الشعور». ومن البديهي لكي يتم له هذا التوحيد أن يقوم بعملية «تحويل دلالي» — سنناقشها تفصيلًا بعد ذلك — لهذه المفاهيم التراثية، فيستبدل بالمعرفة «الفكر» وبالتصديق «الوجدان» وبالإقرار «القول»، ويُبقي على العمل دون تحويل: «يتحقق الإيمان في صورته المثلى في أبعاده الأربعة: الفكر والقول والوجدان والعمل. فالفكر هو الذي يعطي الأساس النظري، والوجدان هو الذي يحول الفكر إلى وعي نظري وتجرِبة معاشة، والقول هو الذي يعلن عن هذا الموقف الفكري الشعوري ويدعو الآخرين إليه. والعمل أخيرًا هو الذي يحقق ذلك كله ويحوله إلى واقع مغيرًا العالم ومحولًا إياه إلى نظام مثالي يكتمل العالم فيه» (٥: ٤٢). ولأن الفرق الكلامية لم تنبنِ اختياراتها في تعريف الإيمان على ذلك التصور النظري — كون المعرفة والتصديق والإقرار والعمل جوانب لموضوع واحد، هو الشعور — فإن تحليل المشكل على أساس هذا التصور أدى إلى إهدار دلالة اختيار كل فرقة في سياق منظومتها الفكرية من جهة، كما أدى إلى مناقشة اختيارات «صورية» لا وجود لها في تاريخ الفكر الديني الإسلامي من جهة أخرى. هذا فضلًا عن التكرار الذي أدى إليه الإصرار على تقسيم الاختيارات طبقًا للعَلاقات المنطقية الصورية بين جوانب الموضوع (انظر: ٥: ٣١-٣٢، حاشية رقم ٤٨). ومن الطبيعي أن ينتهي الأمر في تبرير بعض الاختيارات التي أنتجها التحليل الصوري، والتي ليس لها وجود في تاريخ الفكر إلى القول: «أحيانًا يكون الاختيار نظريًّا صرفًا ولا توجد فِرقة تمثله. ولكن حتمًا هناك قول لفِرقة ضاع أثرها تمثل هذا الاختيار في الماضي أو هي فِرقة آتية في المستقبل» (٥: ٣٧، حاشية رقم ٥٢).
- (١)
تحليل الموروث القديم وظروف نشأته، ومعرفة مساره في الشعور الحضاري.
- (٢)
تحليل الأبنية النفسية للجماهير، وإلى أي حد هي ناتجة عن الموروث القديم أو من الأوضاع الاجتماعية الحالية.
- (٣) تحليل أبنية الواقع وإلى أي حد هي ناشئة من الواقع ذاته ودرجة تطوره، أم أنها ناشئة عن الأبنية النفسية للجماهير، الناشئة بدورها عن الموروث القديم.١٨
ولكن علينا أن نلاحظ أن هذه الخطوات الثلاث يمكن للمنهج الشعوري أن يستوعبها جميعًا، فالموروث القديم ليس إلا بناء شعوريًّا معبرًا عن أنماط مثالية، وليست ظروف النشأة إلا خلفية تمثل المستوى السطحي في دلالة ذلك الموروث. من هنا يستوعب مفهوم «الموروث القديم» كل التفصيلات، مهما بدت تافهة أو سطحية، أو غير ذات مغزًى بالنسبة لعصرنا، ذلك أنها تكشف عن البنية الشعورية العميقة التي تتخفى تحت سطح الدلالة التاريخية: «كل عبارة فيها دلالة حتى العنوان والمقدمات والتسليمات والصلوات والتحميدات والبسملات والنهايات والدعوات والإشارات إلى مصر المحروسة وإلى مصر المحمية، فهي تعبر عن عقلية القدماء ومستواهم الثقافي. المؤلفات الكلامية ما هي إلا مادة تكشف عن البناء الشعوري الذي خرجت هذه المادة منه. ويحتاج إدراكه إلى الذَّهاب لما وراء الألفاظ، والإحساس بالمضمون الحق وراء الفصول والأبواب، وذلك باشتراك الباحث في التجارِب نفسها، ولو أنها من نوع مخالف، تعبر عن موقف حضاري متقدم» (١: ٢٠٨).
ولا مجال هنا للاعتراض على منهج الشعور الذي يوحد توحيدًا ميكانيكيًّا تعسفيًّا إلى حد كبير بين مستويات إبستمولوجية يستحيل التوحيد بينها. وفي حالة الاعتراض فلدى اليسار دفاعه — أو بالأحرى تبريره — لهذا التوحيد، وهو تبرير يردنا إلى الطبيعة التوفيقية — التي تصل هنا إلى حد التلفيقية — للمشروع كله، حيث يتم إعلاء «منهج الشعور» ليكون منهجًا لتحليل «الوعي الاجتماعي»: «ولما كان الشعور في حقيقته وعيًا، وكان الوعي في واقع الأمر وعيًا اجتماعيًّا، فإن منهج الشعور هو منهج لتحليل الواقع الاجتماعي. فالشعور ليس وعيًا خالصًا منعزلًا عن محيطه ودوائره، عالم الأشياء، وعالم الآخرين، بل وعي اجتماعي يكشف عن بناء الواقع ومكوناته. ولما كان الواقع هو في نهاية الأمر تراكمًا للماضي وإحدى مراحل التاريخ، فإن الوعي الاجتماعي هو أيضًا وعي تاريخي» (١: ٦٣٦).
إذا كان تحليل الشعور — شعور الباحث المجدد للتراث — يؤدي إلى التحليل الاجتماعي الذي يكشف عن بناء الواقع — والتراث أحد مكوناته الأساسية — فإن السؤال عما ينتمي إلى الماضي وما ينتمي إلى بنية الواقع الحاضر، في المخزون النفسي للجماهير، سؤال لا معنى له. ومن الضروري أن ننبه هنا إلى أن المنهج الشعوري يتجاوز ما تطرحه الظاهراتية الأوروبية، التي يحذرنا المؤلف بإصرار عجيب على عدم الربط بين منهجه الشعوري وبينها (انظر: ١: ٢٤٤). والفارق بين المنهج الشعوري والظاهراتية أن الأخيرة تكتفي بالقول إن الوقائع — سواء في ذلك الأشياء أو الأحداث — لا تنكشف — أو بالأحرى لا تفصح عن نفسها — إلا من خلال الشعور الحي للذات العارفة، وهذا الشعور ليس شعورًا فارغًا محايدًا، ولكنه شعور ممتلئ بخبرات سابقة. وإذا كانت الظاهراتية قد أسهمت بذلك في وضع أساس الاعتداد بالذات العارفة، وبدور الخبرة السابقة في تكييف النشاط المعرفي، فإن منهج الشعور في الخطاب اليساري قام بمد ذلك التصور في اتجاه الذاتية المثالية، فجعل مجال «الشعور» يتجاوز دوره في الكشف عن الوقائع إلى أن يكون كاشفًا عن الواقع الكلي بمستوياته العديدة والمتشابكة. وهي دعوة مغرقة في المثالية التي لا يخفف من سطوتها استخدام بعض مصطلحات التحليل الاجتماعي أيضًا. هذا المنهج الشعوري الكاشف لكل مستويات الواقع المعقدة والمتشابكة هو ذاته القادر على تجديد التراث: «فإذا استطاع باحث أو جماعة من الباحثين الوعي بروح العصر وباحتياجاته ومتطلباته، فإنه يمكنه ويمكنهم تطوير العلم (علم الكلام) به، وأن يؤرخ لعلم الكلام بهذا التصور الجديد» (١: ٦٣٥)، وهكذا يصبح المنهج الشعوري الواعي بروح العصر هو أساس التجديد. إن روح العصر كما تحددت في خطاب اليسار الإسلامي — في الفقرة الأولى من دراستنا هذه — هي روح «التنوير» والإصلاح، وعلى هديها يتم تجديد التراث كأولوية أولى للجمع والتوفيق بين جناحي الأمة: السلفية والعلمانية. فما هي صورة التراث كما يكشف عنها المنهج الشعوري التوفيقي؟
التراث: إعادة بناء أم إعادة طلاء
إن إعادة البناء تستلزم تفكيك البناء القديم أولًا، واختبار مكوناته لنفي واستبعاد العناصر اللصيقة الصلة بسياقها التاريخي الماضي، والتي تخلو من المغزى اللازم للبناء النفسي المعاصر. ومن الضروري لتمام تحقيق ذلك، التعرف أولًا على طبيعة البناء القديم وعلى عناصره المكونة له، وهو أمر يستلزم معرفة الكيفية التي تنتظم بها العناصر وتتراكب بها الأجزاء. إن الصورة النهائية التي انتهى إليها بناء علم الكلام — كما وصلتنا في المدونات المطولة والتلخيصات والشروح — تتماثل إلى حد كبير مع صورة بناء علوم الحكمة — الفلسفة — من حيث البدء بالطبيعيات فالإلهيات ثم السمعيات. لكن هذا التماثل مجرد تماثل في الهيكل الخارجي، لا يسمح لنا بالمقارنة بينهما على أساس أنهما نظامان معرفيان متماثلان. وإذا كنا لا نستطيع أن نوحد في مجال بناء علوم الحكمة بين المنظومة الفكرية للكندي ومنظومة ابن رشد، رغم انتمائها لمجال معرفي واحد، فإن التوحيد بين المنظومات الفكرية المختلفة إلى درجة التعارض أحيانًا في بنية الكلام يؤدي بمحاولة إعادة بنائه إلى العكوف على الصورة الخارجية للبناء طلاءً وتجديدًا فقط.
إن مصطلح «التجديد» هنا شديد الدلالة في إحالته إلى مفهوم «إعادة البناء»، خاصة وأن المصطلح هو عنوان المشروع، الأمر الذي يجعل إعادة البناء مجرد طلاء للبناء القديم. إن هذا البناء في حقيقته تفكيك للمنظومات الفكرية للفِرق والاتجاهات وإعادة ترتيب لجزئياتها لا يخلو — في ذاته — من دلالة أيديولوجية تعطي الصدارة لبنية المنظومة الأشعرية، إخفاء للبنية المعتزلية. إن تحويل بنية علم الكلام المتعددة المنظومات إلى بنية فكرية ذات ترتيب منطقي صوري، يعطي للإلهيات أسبقية وجودية ومعرفية على الإنسانيات ويمثل مساندة للمنظومة الأشعرية التي تقوم في أساسها على هذا النسق. وقد تم تثبيت بنية العلم على هذه الصورة في سياق تاريخي/اجتماعي يناهض المنظومة المعتزلية، ويعادي توجهاتها المناهضة للاستبداد والداعية للعدل. والأكثر من ذلك أن تلك الصورة الأخيرة لبناء العلم تناقض طبيعته كمجال معرفي — وهي الطبيعة التي اكتسبها من تأسيس المعتزلة — يقوم على مبدأ «قياس الغائب على الشاهد»، الأمر الذي يعني أن الإلهيات تتأسس معرفيًّا على الإنسانيات. إن تأسيس المعتزلة لعلم الكلام يعني أن بناءه قد لحقه تغير ضد طبيعته (انظر: ٥: ٥٨٧-٥٨٨، ٦٤٣)، ورغم أن اليسار الإسلامي يَعِد دائمًا بالعودة إلى «بناء العلم الاعتزالي» لاكتشاف العدل في الإلهيات والسمعيات معًا (انظر: ١: ١٧٧)، ورغم أنه يَعِد — علاوة على ذلك — بتطوير الاتجاه الاعتزالي نحو «عقل الثورة من أجل لاهوت شامل للثورة» (١: ٢١٢)، فإن الإبقاء على بنية العلم كما صاغتها العصور المتأخرة على غرار البنية الأشعرية قد أصاب المشروع كله في مقتل، وسجن التجديد في إطار إعادة الطلاء لا إعادة البناء.
والواقع أن الخطاب اليساري يبدو في هذه النقطة في حالة تردد على المستوى النظري، تردد بين البنيوية والتاريخية على تناقضهما من جهة، وبين منهج التحليل السوسيولوجي من جهة أخرى. ففي مقارنته بين ما يطلق عليه اسم «الشعور التطوري» وما يطلق عليه اسم «الشعور البنائي»، يميل إلى جانب الأخير وإن لم يرفض الأول رفضًا حاسمًا: «الشعور إما تطوري أو بنائي: الشعور التطوري هو الشعور التاريخي، حيث يظهر فيه العلم مرحلة مرحلة، إما كموضوع أو كجانب موضوع أو كأصل أو مجموعة أصول، وهو ما سماه القدماء تاريخ الفِرق، وهو الشعور الذي يسقطه المنهج التاريخي من حسابه عندما يصف المادة الكلامية على أنها تاريخ فرق محصنة لا دخل للشعور فيها في حين أن توالد الفرق بعضها من بعض يوحي أن هناك جامعًا بينها، هو الشعور التاريخي. أما الشعور البنائي فهو الشعور الذي يظهر فيه العلم كبناء متكامل، بصرف النظر عن توالي العصور والأزمنة وأسماء الفرق وتوالدها وتتابعها. ويكون الشعور في هذه الحالة حاملًا لأنماط مثالية توجد في كل حضارة، ويعود ظهورها في كل زمان ومكان» (١: ١٤١-١٤٢).
ولقد كانت الغلبة بالفعل للشعور البنائي في التعامل مع بنية علم الكلام ككل، وانحصر الشعور التطوري في التعامل مع الأفكار الجزئية بعد أن عُزلت عن سياق منظوماتها الفكرية في التحليل التفصيلي. ويظل منهج التحليل السوسيولوجي مطروحًا على المستوى النظري، بوصفه إمكانية لا تتحقق أبدًا في التحليل التفصيلي. والغريب أن الخطاب اليساري الذي يصف علم الكلام دائمًا بأنه علم مقلوب؛ رأسه — الإنسانيات والطبيعيات — إلى أسفل وقدماه — الإلهيات والسمعيات — إلى أعلى، يكتفي بمحاولة إعادته إلى وضعه الطبيعي في الأفكار ويُبقي على وضعه المقلوب في بنائه الكلي.
لكن مفهوم «الصراع الاجتماعي، الذي يراد الكشف عنه في بنية علم الكلام، لا يتجاوز حدود التفسير السياسي لنشأة الأفكار والفرق بالكيفية المشار إليها في «الشعور التطوري». من هنا نفهم الإشارات الكثيرة لتاريخية علم الكلام، ولتأثير السياسة في نشأته وتطوره (انظر: ١: ٦٣٥؛ ٥: ١٤٤، ٣٨٣-٣٨٤، ٦٣٣). وهكذا ينتهي الأمر بجعل السياسة بالمعنى الأيديولوجي، لا بمعنى تعبيرها عن مستويات أعمق للصراع الاجتماعي، هي «المفسرة» لنشأة الأفكار والفرق، بل ويتم تصنيف الفرق تصنيفًا سياسيًّا مباشرًا إلى «فرقة السلطة» وفرق المعارضة، وتنقسم الأخيرة إلى سرية وعلنية: بعضها من الداخل وبعضها من الخارج (انظر: ٢: ٦١٢؛ ٣: ٢٠٢، حاشية رقم ٣٥٦).
مع تحول المنهج التاريخي إلى «الشعور التطوري» وإهمال منهج التحليل السوسيولوجي رغم الإشادة به والتنويه بأهميته وجدواه نظريًّا (انظر: ٥: ٦٢٣) لم يبق أمام الخطاب اليساري إلا منهج «الشعور البنائي». ويكاد التبرير المقدم لتعليل إهمال منهج التحليل السوسيولوجي لنشأة الأفكار والفرق أن يكون تبريرًا كاشفًا عن الطبيعة التوفيقية لمشروع اليسار من جهة، وعن حقيقة أنها توفيقية تنحو نحو المثالية من جهة أخرى: «وإذا كنا نفصل أحيانًا بين الفكر والتاريخ، فإننا نفعل ذلك لسببين؛ الأول: تعارض المنهجين في البيئات الثقافية المحيطة بنا، ووصول هذا التعارض إلى ثقافتنا وأثره علينا. فعلم اجتماع المعرفة يعارض النظرية المثالية في المعرفة، ولا سبيل إلى الجمع بينهما. والثاني: نقص في وعينا الاجتماعي وفي علمنا بتاريخ نشأة الأفكار لانشغال طبقتنا المتوسطة بالأفكار مستنكفة من الوقائع الاجتماعية ذاتها، وكيف تنشأ ميزتنا، وهي الثقافة، من قاع الدست» (٥: ٦٣٣-٦٣٤). وعلى ذلك كان من الطبيعي لمنهج الشعور البنائي أن يتعامل مع بنية علم الكلام كما وصلتنا في المصنفات المتأخرة، وهي مصنفات تعرضه وفقًا لبنائه الأشعري.
والتسليم بالسلامة النظرية لهذه البنية يعني التسليم ضمنًا بمحتواها الأيديولوجي. وهذا من شأنه أن يوقع الخطاب اليساري في تناقضات وإشكالات لا يجد سبيلًا إلى حلها، وهي تناقضات وإشكالات لا حل لها إلا بالتحليل التاريخي/الاجتماعي لنشأة الأفكار، التحليل الكاشف عن دلالتها في سياق المنظومة التي تنتمي إليها. إن البناء الأشعري للعلم — على عكس البناء المعتزلي — يقدم «التوحيد» على «العدل»، ويجعل من الطبيعيات توطئة للإلهيات. وقد قام اليسار الإسلامي بوضع «يافطات» جديدة ذات دلالة عصرية إلى جانب اليافطات القديمة، وذلك حرصًا منه على مجاورة الجديد للقديم.
والحقيقة أننا أردنا الدراسة شاهدًا على التراث والتجديد معًا، وصورة للماضي والحاضر في آن واحد، وذلك حتى يرى القراء كيف يخرج القديم من الجديد وكيف يخرج الجديد من القديم، وحتى يكون عونًا لكل طالب علم أو قائد أمة. من أراد القديم وجده ومن أراد الجديد وجده، ومن أراد الاثنين وجدهما معًا» (١: ١٢٦-١٢٧).
بناءً على تجديد البناء القديم بإعادة طلائه، يتم وضع يافطات جديدة لموضوعاته الخمسة على النحو التالي: الموضوعات الطبيعية = المقدمات النظرية، الإلهيات = الإنسان الكامل، السمعيات = التاريخ. تنقسم الإلهيات (= الإنسان الكامل) إلى مبحثي: الذات = الوعي الخالص، والصفات = الوعي المتعين. وتنقسم السمعيات أيضًا (= التاريخ) إلى مبحثي: النبوة = التاريخ العام، والمعاد = المستقبل. وتنقسم الإلهيات من زاوية أخرى إلى مبحثي: التوحيد (= الإنسان الكامل)، والعدل = الإنسان المتعين. وكما انقسم مبحث الإنسان الكامل (= الإلهيات = التوحيد) إلى الوعي الخالص (= الذات) والوعي المتعين (= الصفات) ينقسم مبحث الإنسان المتعين (= العدل) إلى مبحثي: الحرية (= خلق الأفعال)، والعقل (= التحسين والتقبيح). وبالمثل تنقسم السمعيات (= التاريخ) إلى التاريخ العام (= النبوة والمعاد)، والتاريخ المتعين (= الأسماء والأحكام وقضية الإمامة).
والشكل التالي يوضح بناء العلم من منظور الخطاب اليساري مع وضع المصطلحات القديمة بين قوسين:
وواضح أن الهاجس المسيطر على هذا الطلاء الجديد لعلم الكلام هاجس البحث عن البعدين المفقودين في واقعنا: الإنسان والتاريخ. ولأن هذين البعدين مطموران في علم الكلام القديم بسبب اغتراب الإنسان في الإلهيات، واغتراب التاريخ في السمعيات، فإن الكشف عنهما وإزاحة ما يُخفي وجودَهما لا يتحقق بمجرد عملية «التحويل الدلالي» المعتمدة على عَلاقة التجاور و«المشابهة». إن الإلهيات لا تصبح إنسانيات، ولا النبوات تتحول إلى تاريخ لمجرد الرغبة في ذلك بالتماس أوجهٍ سطحية صورية للمشابهة. إن الكشف عن الخفي المطمور لا يتحقق إلا بالقراءة التأويلية التي تصل إلى المغزى عبر الدلالة لا وثبًا عليها، وبعبارة أخرى لا يمكن لليسار الإسلامي — أو لغيره — أن يعيد بناء علم الكلام — أو بالأحرى أن يعيده إلى وضعه الطبيعي بعد أن «قلبته» الأشعرية وأوقفته على رأسه — إلا من خلال «المفسرة» الاجتماعية التي جعلت ذلك الانقلاب ممكنًا.
إن الخلاف الشائع المعروف بين المعتزلة والأشاعرة حول الصفات الإلهية — هل هي زائدة على الذات الإلهية؟ (قول الأشاعرة) أم أنها عين الذات؟ (قول المعتزلة) — وإن كان خلافًا حول قضية «التوحيد» لا يجد تفسيره إلا بالعودة إلى مبدأ «العدل». إن إثبات الفعل الإنساني مقدورًا للإنسان وحده، ونفي مسئولية الله عنه استنادًا إلى عدله وإثباتًا له، استدعى صياغة نظرية في التوحيد تثبت إلهًا مغايرًا للإنسان الذي يفعل القبائح ويقع منه الظلم، فكان لا بد من نفي الصفات الزائدة على الذات، والتوجه من ثم إلى تأويل الصفات التي توهم مشابهة الله للإنسان — والتي وردت في النصوص الدينية — باستخدام سلاح «المجاز». وعلى خلاف ذلك كان موقف الأشاعرة الذين جعلوا الأفعال المؤثرة في العالم كلها من فعَّالية الصفات الإلهية، من قدرة وإرادة وعلم ومشيئة، وجعلوا بين الفعل الإنساني وفاعله عَلاقة واهية هي «الاكتساب»، وكان من المنطقي أن يمتد هذا التصور النافي لفاعلية الإنسان ولفاعلية قانون السببية في الطبيعة إلى تصور ملَكي استبدادي في مجال التوحيد. ولأن مثل هذا التصور ينتهي في التحليل الأخير إلى تثبيت المشابهة بين الله والبشر، فقد طُرحت التفرقة بين الصفات والذات حلًّا لهذه الإشكالية، فصلًا للذات الإلهية عن الانغماس في شئون العالم وممارسة الظلم والقهر والاستبداد، وترك ذلك للصفات، وهو التصور الذي صاغه ابن عربي في صورته النهائية في الثقافة العربية. من هنا نقول إن خلافات التوحيد تجد تفسيرها في أصل العدل، وكلاهما يجد تأويله في صراعات القوى الفكرية الدينية لصياغة مواقفها من الواقع الاجتماعي.
إن التعارض الذي يبدو على السطح أحيانًا بين «التوحيد» و«العدل» تعارض لا وجود له في البنية المعتزلية، لأن أولهما يتأسس على الثاني، ويقوم التعارض على العكس من ذلك في البنية الأشعرية، لأنها تؤسس «العدل» — أو بالأحرى تنفيه — على التوحيد، متجاهلة «أن إثبات فاعل خارجي يبطل إثبات الصانع القائم على الشاهد وهو أن لكل فعل فاعلًا، فكيف لا يكون الإنسان فاعلًا لفعله وهو الشاهد، وكيف يمكن إثبات الغائب على «شاهد غير حاصل»» (٣: ١٤٤-١٤٥). ورغم ذلك كله نجد في الخطاب اليساري إصرارًا على أن العدل يتأسس على التوحيد، وأنه على حد تعبيره المتكرر: «ظهر من بطنه» (انظر على سبيل المثال: ٣: ٦)، بل إنه يربط ربطًا تعسفيًّا بين «إثبات الصفات» زائدة على الذات، وبين إهدار قانون السببية في الطبيعة، محولًا العلة إلى معلول والمعلول إلى علة: «يبدو أن موضوع العدل إنما يجد حله في أصل التوحيد فقد أدى إثبات أن الصفات زائدة على الذات إلى القضاء على استقلال الطبيعة وإثبات خضوعها لإرادةٍ وقدرة خارجية عنها. فالذات فعَّالة في العالم من خلال الصفات والأفعال، وهي علة الكون وسيد الطبيعة. في حين انتهى إنكار كون الصفات زائدة على الذات إلى استقلال الطبيعة وحتمية قوانينها وارتباط العلة بالمعلول ارتباطًا ضروريًّا لأنه لا توجد صفات مطلقة، إرادة أو علم، تتدخل في مسارها، فالمؤله ذات خالصة لا يتدخل في قوانين الطبيعة لأنه لا صفات له. وهو التصور العلمي للطبيعة» (٣: ٣٧١).
لقد كان من شأن التحليل التاريخي/الاجتماعي لنشأة الأفكار وتولدها أن يحقق لمشروع التجديد ما يسعى إليه من «إعادة بناء العلم» لاكتشاف بُعدَي الإنسان والتاريخ، وأن يحقق له أيضًا بشكل تأويلي منتِج ما وعد به من الانتقال «من بناء العلم الأشعري إلى بناء العلم الاعتزالي» (١: ١٧٧). إن الخطاب اليساري التجديدي — على عكس نقيضه اليميني — واعٍ بخطورة النسق الأشعري في بناء علم الكلام، وواعٍ كذلك بدوره التاريخي — المتواصل في بنية الفكر الديني المعاصر — في إحداث تعارض بين حق الله وحق الإنسان: «فإذا كان التوحيد يشير إلى حق الله، والعدل يشير إلى حق الإنسان، فإن علم أصول الدين الاعتزالي قد أعطى الصدارة لحق الإنسان، وهو ما لم يحافظ عليه علم الكلام على الطريقة الأشعرية عندما ابتلع التوحيد العدل حتى اختفى العدل كلية من وجداننا المعاصر. ويكون علم الكلام الأشعري هو المسئول عن تخلفنا الحالي» (١: ١٧٣). لكنه رغم ذلك تبنى النسق الأشعري كما هو، مكتفيًا بتحقيق عملية «الانتقال» المشار إليها على مستوى الأفكار الجزئية معزولة عن سياق المنظومات الفكرية الذي تكتسب من خلاله دلالتها. وفي إهدار منهج التحليل التاريخي لنشأة الأفكار وتكون المنظومات تكمن كثير من تناقضات أحكام اليسار، ناهيك عن الوثب في قراءة الحاضر في الماضي والتلوين في تجديد التراث لحل أزمات الحاضر.
إن التحليل التاريخي لنشأة الأفكار والفِرق من شأنه الكشف عن اختلاف البِنى وتعددها في التراث، كشفًا يتجاوز مجرد التسليم النظري واستمرار التعامل معه على المستوى التطبيقي من منظور شمولي. ومن شأن هذا المنهج أن يكشف على وجه الخصوص علة بعض مظاهر التعارض السطحي بين التوحيد والعدل في بناء علم الكلام عند بعض الاتجاهات خصوصًا تلك التي جمعت بين القول بالجبر الصريح وبين القول بنفي الصفات الزائدة. إن منهج التحليل التاريخي يكشف أن «التلازم» بين التوحيد والعدل لم يتحقق دائمًا في الحركات الفكرية المبكرة، والتي كانت أطروحاتها بمثابة رد فعل مباشر لصراعات، بحيث لم يُتَح لمفكري تلك الفرق تأسيس أطروحاتهم تأسيسًا معرفيًّا. وهذا أمر لم يتنبه له المشروع التجديدي، بحكم تعامله مع بناء العلم من منظور شمولي، لهذا نلمِس لديه ترددًا في تحديد العَلاقة البنيوية بين التوحيد والعدل: «فالإيغال في التوحيد بصرف النظر عن كيفيته، يبعد عن العدل، وكأن الإيغال في التفكير في الله يبعد التفكير في الإنسان. وكلما زاد الإنسان اغترابًا في التوحيد وابتعادًا عن العالم، فإنه يزداد ابتعادًا عن العدل وخروجًا عن العالم … وقد ظهر من قبلُ أن إثبات الصفات يؤدي إلى إلغاء الحرية الإنسانية، وأن إنكار الصفات يؤدي إلى إثبات الحرية الإنسانية. وكان غريبًا أن يُخرَق هذا النسق بأن أول من قال بالجبر هو من قال في الوقت نفسه بنفي الصفات وبنفي الحرية في آن واحد، ومن ثَم ينكسر القانون الأول» (٣: ٧٧).
ومن الصعب التسليم بمفهوم التوحيد المطروح هنا، والذي يوحد بينه وبين إثبات الصفات، وكأن نفي الصفات الزائدة حفاظًا على وحدة الذات والصفات ونفيًا للتعدد ليس هو «التوحيد» الحقيقي من المنظور التراثي ذاته. إن التردد في الخطاب اليساري صفة نابعة من نهجه التوفيقي في الأساس الأول، وهو التردد الذي يظهر هنا في الإبقاء على التعارض الشكلي بين التوحيد والعدل، وصياغته في شكل عَلاقة ثنائية تحتاج للتوفيق بين طرفيها. وإذا كان هذا النهج قد أدى كما رأينا إلى مجرد إعادة طلاء لبنية علم الكلام القديمة (انظر: ١: ٦٣٤؛ ٢: ٩٦؛ ٣: ٤٥٧؛ ٤: ٥٥، ٣٢١؛ ٥: ٥، ٣٨١–٣٨٤). فإنه يؤدي أحيانًا إلى التراجع عن اليافطة الطلائية الجديدة والإصرار على اليافطة القديمة.
النصوص: تأويل أم تلوين
النتيجة الأولى للتسليم بمشروعية البنية المنطقية الصورية الأشعرية لعلم الكلام كما سبقت الإشارة كانت التعامل مع الأفكار والنصوص معزولة عن سياق منظوماتها الفكرية. وقد أدت هذه النتيجة بدورها إلى نتائج سلبية كثيرة، أولها المسارعة إلى إصدار أحكام ذات طابع تلويني واضح على بعض النصوص والأفكار. من أهم النماذج وأبرزها ما ترويه بعض المصادر عن «الكرَّامية» من القول بأن ذات الله يمكن أن تكون محلًّا للحوادث، وهي مقولة — إن صحت — تستلزم من الباحث تحليلها في سياق منظومتها الفكرية للكشف عن دلالتها في السياق. لكن الخطاب اليساري، مشغولًا بهاجس اكتشاف البعد التاريخي في التراث، يجد في هذه المقولة تُكَأةً للقول بأن الكرَّامية أبرزت مفهوم فاعلية الله في التاريخ: «وتمثل الكرَّامية أكبر رد فعل على وصف الذات بالقدم، فالله لديهم ليس قديمًا بل محلًّا (كذا) للحوادث، تقوم الحوادث به، والحوادث تحتاج إليه في الإيجاد إما بالإرادة أو بأمر «كن»، وهو ما يعطي الفاعلية لله فيجعل الله هو التاريخ، والتاريخ هو الله … وهنا تبرز فاعلية الله ونشاطه في العالم، وتصبح حركة العالم جزءًا من ألوهيته، وقوانين التاريخ صفاته، «الله» هنا بمثابة الوعي التاريخي. ولما ضاعت الكرَّامية كفرقة ضاع الوعي التاريخي من وجداننا القومي» (٢: ١٢٥-١٢٦، وانظر أيضًا: ٣: ١١٤-١١٥).
ورغم أن قول الكرَّامية بتعلق الإرادة الإلهية بالحوادث لا يختلف كثيرًا عن موقف الأشاعرة الذين جعلوا الله هو الفاعل الحقيقي لكل ما يحدث في العالم، فإن موقف اليسار من الأشاعرة هو الهجوم المستمر. ولا تعليل لهذا التناقض في الحكم على الأفكار وتلوينها إلا بموقف «الانحياز الأيديولوجي» بناء على تقسيم الفرق، المشار إليه آنفًا، إلى فرقة السلطة وفِرَق المعارضة، وكأن اليسار الإسلامي يريد أن يخوض معارك الحاضر في الماضي، فيلوِّن الماضي — بالتحويل الدلالي للمفاهيم والأفكار — بلون موقفه من الحاضر، الموقفِ الذي يتعاطف مع كل فرق المعارضة — يمينيِّها ويساريِّها — ضد حزب السلطة.
وإذا كان التجديد على مستوى البنية الكلية للعلم قد انتهى إلى ما أطلقنا عليه «إعادة طلاء» تتجاور فيه المصطلحات القديمة والمفاهيم العصرية في عَلاقة أشبه بعَلاقة المشابهة التي يتواجد طرفا التشبيه فيها، فإن «التلوين» على مستوى النصوص والأفكار الجزئية يعتمد على آلية أكثر فاعلية في تحقيق الأهداف الأيديولوجية للمشروع اليساري، هي آلية «التحويل الدلالي». إنها آلية أشبه بآلية الاستعارة في النص الأدبي، حيث يتم نقل دلالة النصوص والأفكار من مجالاتها الأصلية إلى مجالات أخرى عصرية، لا عن طريق استثمار إمكانات الدلالة الأصلية، بل عن طريق توسط «الشعور» — أو التجرِبة الشعورية للباحث — كما يحدث في الاستعارة الشعرية.
إن المثال «التلويني» الذي ناقشناه — مثال تعلق الإرادة الإلهية بالحوادث — يؤكد ما نذهب إليه؛ فالسياق الكلامي — حتى بصرف النظر عن سياق المنظومة الخاصة للفرقة — هو سياق مناقشة الصفات الإلهية، خاصة صفة «القدم». لكن الفكرة يتم انتزاعها من سياقها المحدد لدلالتها، ونقلها إلى مجال دلالي عصري: «وفي النهاية لا يتعلق الأمر بحجج عقلية وبراهين منطقية، وإيقاع الخصم في التناقض، بل يتعلق الأمر بتجرِبة بشرية هي الوعي الكلي بالتاريخ الشامل، الله باعتباره تاريخًا للعالم، والوحي باعتباره تجسيدًا للبشرية. الوحي قول الله، وأفعال الأفراد والجماعات، الأنبياء والشعوب، إرادته، وحركة الجماهير فعله ونشاطه، وهو ما يتفق مع كل فلسفات التاريخ التي ربطت بين «الله» والتقدم، وبين صفات الله وحركة التاريخ وقوانين مساره» (٢: ١٢٧-١٢٨). «الشعور» إذن هو الوسيط الذهني الذي يمارِس التجديدُ من خلاله آلية «التحويل الدلالي» ذات الطابع الاستعاري، وهو وسيط لا يمكن توظيفه على مستوى البنية الكلية للعلم التي تمثل — فيما يبدو — البنية الاتفاقية التي يحرص اليسار على الإبقاء عليها كما هي للتواصل مع الخطاب الديني في شقه اليميني.
- (١)
يقرأ النص القديم، وغالبًا ما يكون نصًّا صوريًّا عقليًّا مجردًا، فيشعر القارئ بشيء ويكون هذا الشيء هو المادة الناقصة فيكمل تحليل النص به. ولما كان الباحث هو الباحث المعاصر، فإن مادة الشعور تعبر عن البناء النفسي المعاصر. وكثيرًا ما يكون النص مادة صرفة مثل التحليل الفسيولوجي للحس، وهنا يبدو الشعور وكأنه يرفع هذه المادة ويضعها على المستوى العقلي الشعوري وإعطاء نظرية في الإدراك شعورية بقدر ما هي فسيولوجية. وإذا وجد الشعور نفسه أمام نص كوني يقوم على تشخيص الطبيعة من تصور للأفلاك على أنها نفوس حية عاقلة، وتصور للفيض وللعقول العشرة وكل ما يقال عن المفارقات، فإن الشعور يبدأ تحليله العقلي ويعيد بناء الموضوع على أساس عقلي حتى يتلاشى التشخيص والخيال والإشراقيات.
- (٢)
نظرًا لأن تحليلات القدماء لا تكفي؛ إذ يغلب عليها التحليل العقلي للوجود الصوري، فإننا نضيف عليها مادة جديدة مستقاة من الوجود الإنساني أو من روح العصر. وكما استعمل القدماء الشعر الجاهلي وشعر الفِرق، فإنه يمكن استعمال الشعر الحديث باعتباره معبرًا عن احتياجات العصر. ولما كان الشعر هو الفن الغالب على تراثنا القديم، فإنه يمكن استعمال كل ضروب الفن السائدة في عصرنا من شعر ورواية وقصة ومسرحية. وإذا كان القدماء قد استعملوا أيضًا أمثال العرب فإننا نعتمد أيضًا على الأمثال العامية، بل وعلى الأزجال التي تعبر عن روح الشعب على نحو قد يكون أصدق من الأدب المدون» (١: ٦٣٥-٦٣٦).
ولن نتوقف هنا بالتعليق على الخطوة الثانية في منهج الشعور اكتفاء بالإشارة إلى افتقاد دلالة استعانة القدماء بالشعر والأمثال في تحليلاتهم اللغوية للمفاهيم والأفكار. إن تعبير الفنون كلها عن احتياجات العصر، وعن «روح الشعب» أمر لم يخطر على بال القدماء في تحليلاتهم، وإنما الخطاب اليساري يمارس هنا «تحويلًا دلاليًّا» ذاتيًّا شعوريًّا. وتكشف الخطوة الأولى في منهج الشعور عن البعد الذاتي الشخصي لعملية «التلوين» السابق الإشارة إليها. لكنها بالإضافة إلى ذلك تكشف عن نتيجة أخرى من نتائج «إعادة الطلاء» على مستوى بنية علم الكلام.
«النص (القرآن) في بدايته واقعة معروفة في أسباب النزول. يُغفل الدليل النقلي ليس فقط الواقعة الجديدة المشابهة، بل أيضًا الواقعة الأولى، وبالتالي يستخدم النص طائرًا في الهواء، بلا محل، يخلق واقعه من نفسه فيظل فارغًا بلا مضمون. وينغلق النص على ذاته أو يُستعمل في غير موضوعه طبقًا للهوى والمصلحة كواقع بديل. إن النص بطبيعته مجرد صورة عامة تحتاج إلى مضمون يملؤها. وهذا المضمون بطبيعته قالب فارغ يمكن مَلؤه من حاجات العصر ومقتضياته التي هي بناء الحياة الإنسانية التي عبَّر فيها الوحي عن المقاصد العامة. ومن ثَم فالتأويل ضرورة للنص، ولا يوجد نص إلا ويمكن تأويله من أجل إيجاد الواقع الخاص به. لا يعني التأويل هنا بالضرورة إخراج النص من معنًى حقيقي إلى معنًى مجازي لقرينة، بل هو وضع مضمون معاصر للنص، لأن النص قالب دون مضمون. التأويل هنا ضرورة اجتماعية من أجل تحويل الوحي إلى نظام بتغيير الواقع إلى واقع مثالي» (١: ٣٩٧-٣٩٨).
ولأن التلوين من خلال المنهج الشعوري يهدر الدلالة الأصلية للنصوص فإن هذه الأخيرة يمكن أن تفصح عن دلالات متناقضة، فيكون لدليل «حدوث العالم» مثلًا مزاياه وله عيوبه أيضًا. لكن الغريب أن يتأسس كلاهما — الميزة والعيب — على المبدأ نفسه بعد أن يتم تلوينه بلونين متعارضين. والمبدأ المطروح هنا هو تأثير الفكرة في الوعي المعاصر، وعلى ذلك تكون الميزة في دليل الحدوث أنه يؤدي إلى: «الإحساس بإمكانية تغيير هذا العالم، وبأن كل شيء فيه يخضع لإرادة الإنسان وطوع حريته، وبالتالي يكون حدوث العالم دعوة إلى التغيير ولممارسة الإرادة الحرة حتى يتم تشكيل الواقع من جديد طبقًا لمُثل الإنسان ولمشروعه الجماعي القومي، وهو النظام المثالي للعالم الذي يستنبطه من الوحي.»
أما عيب الدليل فهو نقيض المعنى السابق تمامًا، لأنه يؤدي، بسبب استناد الحدوث — حدوث العالم — إلى علة ميتافيزيقية خارجية، إلى: «تدمير العالم وإثبات عجز الإنسان، مما يسمح لكل نظم القهر والتسلط بأن تقوم بدور الله الماسك للعالم والحافظ له» (٢: ١٧–٢٨ بتصرف، وأيضًا ص٣١).
في النصوص السابقة تم الانتقال — بالتحويل الدلالي — من «دليل الحدوث» بالمعنى الميتافيزيقي، أي خلق العالم من عدم، إلى مفهوم «تغيير العالم». وبناء على هذا التلوين بالانتقال من مجال دلالي إلى آخر، يمكن للنصوص أن تتحمل المعاني والدلالات المتناقضة، أليست النصوص كما سبق الاستشهاد قوالب فارغة يمكن مَلؤها بمضامين مختلفة طبقًا لمطالب العصر التي يحددها المنهج الشعوري. ما ورد هنا عن حدوث العالم يرد مثله في نصوص قضية «التشبيه والتنزيه» حيث يجد الخطاب اليساري لكل منهما مزايا وعيوبًا. (انظر: ٢: ٢٢٠-٢٢١، ٢٣١–٢٣٨) وليس الأمر هنا مجرد نهج سجالي يعرض الشيء ونقيضه كما تفعل الكتب التعليمية إثارة لعقل القارئ وتحريكًا لفكره، وإن كان ذلك يتحقق أحيانًا بشكل غير مباشر. الأمر هنا أمر تردد بين طرفين لا تتحقق استراتيجية التوفيق بينهما، وهو التردد الذي لمسنا تجليه البارز في الإبقاء على البنية الأشعرية لبناء العلم، مع الطموح إلى نقله للبنية المعتزلية.
والحقيقة أن المنهج الشعوري التلويني يخفق في بعض الأحيان في اكتشاف دلالة بعض الأفكار الاعتزالية، بحكم العزل المشار إليه للفكرة عن سياق المنظومة التي تنتمي إليها. إن الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة حول مسألة «شيئية المعدوم» تتعلق بالخلاف حول قدم العالم وحدوثه. وإذا كان المعتزلة لم يصرحوا أبدًا بمبدأ «قدم العالم» فإن دفاعهم عن «الشيئية» التي تتمتع بها المعدومات — أو الموجودات قبل وجودها — يعني إصرارهم على تمتعها بدرجة، أو بالأحرى مرتبة من مراتب الوجود قبل وجودها العيني في العالم. ومن المعروف أن هذا التصور هو التصور الذي أفاد منه ابن عربي (ت: ٦٣٨ﻫ) في منظومته الفكرية التي جمعت بين «القدم» من زاوية مرتبة الشيئية في العدم، وبين «الحدوث» من زاوية الظهور في مرتبة الوجود العيني. وعلى نقيض المعتزلة ذهب الأشاعرة إلى إنكار «شيئية المعدوم» إنكارًا تامًّا.
من اللافت للانتباه أن هذه القضية من القضايا القليلة التي اعتصم فيها المعتزلة بظاهر النصوص الدينية والقرآنية خاصة، في حين اضطر الأشاعرة إلى الاعتماد على التأويل، الأمر الذي يؤكد محوريتها في كل من المنظومتين. لكن الخطاب اليساري عازلًا الأفكار عن سياقها، ومشغولًا بهاجس «التلوين» العصري طبقًا لمنهج الشعور، يقلب الدلالة الأصلية للفكرة رأسًا على عقب، فيصبح الجنوح المادي عند المعتزلة صورية، ويصبح الاتجاه الصوري العدمي عند الأشاعرة مادية (انظر: ١: ٤٣٨). وعلى ذلك يقع اختيار اليسار على التصور الأشعري لأنه يحقق له ما يتصوره الموقف التجديدي المناسب لمتطلبات الواقع والملائم لروح العصر.
«المعدوم ليس شيئًا وإلا خشي الناس منه وأثبتوه عجزًا عن مقاومته وسلموا به ضعفًا وخورًا، يأسًا واشمئزازًا، كرهًا للنفس وللآخرين، وبصاقًا على العالم. لا يمكن أن تكون للمعدومات الممكنة قبل وجودها ذوات وأعيان وحقائق، فهذا إيهام للناس بوجود المعدومات كحقائق، بل هو غياب الوجود ونقص الهمة وتخاذل الناس عن تحقيق الوجود» (١: ٤٤١).
لو كان إثبات شيئية المعدوم يؤدي إلى كل ما سبق من نتائج، فإن الموقف الاعتزالي كله كان يستحق إعادة تقييم من أجل تصحيح ما يقوله اليسار نفسه عن تقدميته واستنارته الفكرية. وبالمثل لو كان الموقف الأشعري على هذه الدرجة من المادية لتوجب على اليسار الذي ينحو منحًى ماديًّا في تأكيده على أهمية العلم في مرحلة «التنوير» أن يغير أحكامه التي تملأ صفحات خطابه عن رجعيته وانتمائه للسلطة، وانحيازه لمصالحها ضد مصالح الجماهير.
لكن التبرير الذي يقدَّم للقارئ عن اختلاف الدافع التجديدي لاختيار موقف الأشاعرة عن دافع الأشاعرة أنفسهم يكشف عن أمرين؛ الأول: أن الدافع الذي يطرحه اليسار لموقف الأشاعرة دافع لا يربط الفكرة بمنظومة الأشاعرة، بل هو أقرب إلى أن يكون دافعًا استنتاجيًّا تأمليًّا. الأمر الثاني: أن الدافع التجديدي دافع تلويني شعوري. «وإذا كان الدافع عند قدماء الأشاعرة لنفي كون العدم شيئًا هو وجود الله القادر على كل شيء، على نفي الوجود والعدم على السواء، فلا الوجود ولا العدم ثابتان، فإن الدافع لدينا هو القدرة المتولدة عن نفي كون المعدوم شيئًا على تحريك الشعوب والثقة بالنفس وتغيير الواقع ورفض الاستسلام وما يبعثه في الروح من تفاؤل وأمل، وما يثيره في النفس من خيال على الإتيان بالمستحيلات. إن إثبات كون العدم شيئًا يحوِّل الغياب إلى حضور، والعدم إلى وجود، والاستثناء إلى قانون. المعدوم ما لا تَحقُّق له في نفسه وهو المنفي، أو له تحقُّق يكون عدمًا ثابتًا. الاحتلال غياب للاستقلال، الطغيان غياب للحرية، والرأسمالية غياب للاشتراكية، وسلبية الجماهير غياب لنشاطها، والتخلف غياب للتقدم، والتجزئة غياب للوحدة، والتغريب غياب للهوية، فالوجود استقلال وحرية واشتراكية وتقدم ووحدة وهوية وتجنيد للجماهير» (١: ٤٤٣).
إن التلوين بناء على منهج الشعور لن يؤدي فقط إلى ما سبقت الإشارة إليه من قلب للدلالات الأصلية للأفكار رأسًا على عقب، بل أدى أيضًا — كما هو بيِّن من النص السابق — إلى التناقض مع توجهات التجديد ذاتها. إن إثبات شيئية المعدوم — رأي المعتزلة — هو الكفيل بتحقيق التوجهات المطروحة أعلاه لأن قيم الوجود الحق قيم غائية في الواقع العيني لمجتمعاتنا، بمعنى أنها معدومة، لكنها تتمتع بنوع من الوجود بوصفها طموحاتٍ أو أحلامًا أو برامجَ قابلة للتحقق. والاختيار الأشعري المؤدي إلى نفي المعدوم نفيًا تامًّا قطعيًّا شاملًا هو الاختيار الذي يمكن أن يؤدي إلى ما سبق إيراده في نص سابق من تخاذل ويأس واستسلام وضعف … إلخ.
إن الأفكار الجزئية إذا فُصلت عن سياق منظوماتها الفكرية فقدت دلالتها الجزئية، وبالمثل فإن فصل المنظومة عن سياقها التاريخي/الاجتماعي يفقدها دلالتها الكلية. وفي كلتا الحالتين لا بد أن يقع التأويل في وهدة التلوين. وفي نموذج التلوين السابق لا يكون الانحياز للموقف الأشعري تعبيرًا عن حياد موضوعي كما يحاول الخطاب اليساري أن يقنعنا: «ولا يعني إحياؤنا للاعتزال أننا نقبل مواقف المعتزلة كلها عن عمًى وتعصب، فمذهب الأشاعرة هنا في نفي المعدوم أكثر قدرة على تحريك الشعوب من إثبات المعدوم، وأكثر تفاؤلًا وأملًا بصرف النظر عن دافع الأشاعرة. تأييدنا للمعتزلة للتيار العام وللحركة التاريخية. وليس للتفصيلات الجزئية في هذه النظرية أو تلك» (١: ٤٤٣ حاشية رقم ٨٥).
وإذا كان المجال لا يسمح هنا بتتبع نماذج أخرى لآلية التلوين المعتمدة على «التحويل الدلالي»، فإنه من الضروري الإشارة إلى أن بعض تلك النماذج تقارب آفاق التأويل وتخومه بقدرتها على اكتشاف المغزى النابع من الدلالة. إن التركيز الأشعري على ربط كل ما يحدث في الواقع والطبيعة بالقدرة والإرادة الإلهيتين يؤدي في التحليل الأخير إلى إهدار الأسباب المباشرة المؤثرة. وهذا يؤدي بدوره إلى التسليم بعجز الإنسان عن «تغيير» الواقع، لأن هذا الواقع لا يتحرك وفقًا لقوانين موضوعية يمكن للعقل البشري معرفتها، لكنه يتحرك وفقًا لإرادة شاملة لا يستطيع العقل إدراكها أو معرفة أهدافها وأغراضها. إن ظاهرة «الموت» مثلًا ترتبط بنسق من العقائد عن «الآجال» المحددة سلفًا في كتاب الغيب، والتي لا مجال لتغييرها. لكن هذا النسق من العقائد حين يوضع في سياق المنظومة الأشعرية الكلامية يتحول إلى إدانة لكل محاولات الإنسان لقهر الأسباب التي تفضي إلى الموت، بوصفها محاولات اعتراضية على الإرادة الإلهية. وليس ببعيد على أية حال ما صرح به بعض رجال الدين من إدانة لعمليات «غسيل الكلي» ونقل الأعضاء على أساس أنها عمليات تؤخر لقاء الإنسان بربه، وتمثل من ثَم اعتراضًا على المشيئة الإلهية. لكن الأخطر من ذلك ما تؤدي إليه تلك المفاهيم والتصورات من استهانة بالحياة الإنسانية وبقيمتها في المجتمعات الإسلامية بشكل خاص.
«إن عدم الالتفات إلى الأسباب المباشرة للموت جهل بالأوضاع الاجتماعية، وعدم حرمة لحياة الناس وتعمية وتغطية على حوادث الطرقات وأسلاك الكهرباء العارية والبالوعات المفتوحة والمنازل الآيلة للسقوط والبنايات الهشة، رغبة في الربح وسرقةً للأموال، والأغذية الفاسدة والأمراض … ويُستعمل «لكل أجل كتاب» في الدين الشعبي لتبرير كل شيء، للسلوى ولدفع الأحزان» (٣: ٣٤٥). وما يقال عن الآجال والعقائد المتصلة بها يقال كذلك عن «الأرزاق» و«العقائد» المتصلة بها كما صاغها علم الكلام الأشعري (انظر: ٣: ٣٥١ وما بعدها). إن القدرة على كشف الصياغات الأيديولوجية الأشعرية لهذه العقائد الجزئية، هي التي كشفت امتدادها في بنية العقائد المعاصرة من ناحية، وأدت إلى «تأويلها» تأويلًا كاشفًا عن الدلالة والمغزى من جهة أخرى.
التوفيقية: النجاح والإخفاق
في الإطار الذي ناقشناه في الفقرة السابقة يبدو لنا مشروع اليسار الإسلامي أقرب إلى الإخفاق منه إلى النجاح. فهو — أولًا — يسعى إلى التوفيق بين أطراف لم تُرصَد جوانب الخلاف أو الاتفاق بينها بدقة. وهو — ثانيًا — يجمد الحاضر في إسار الماضي، ويجعله خاضعًا له ولمعطياته خضوعًا شبه تام، وقد أدى هذا إلى خوض معارك الحاضر في الماضي، وإلى إخضاع الفكر للسياسة، وتغلب الأيديولوجي على الإبستمولوجي. وهو — ثالثًا — يتجاهل السياق التاريخي/الاجتماعي للتراث (علم الكلام)، ويتعامل معه بوصفه بناء شعوريًّا مثاليًّا مفارقًا لزمانه ومكانه رغم نشأته منهما. كان من شأن النتائج التي ناقشناها أن تحوِّل هدف «إعادة البناء» إلى إعادة طلاء، وتحول التجديد إلى تجاور بين القديم والجديد. ووقع المشروع كله في التلوين بقدر ما تباعد عن التأويل. لكن هذا الإخفاق الواضح على جميع المستويات لا يمثل الحقيقة كلها، فقد حقق المشروع إنجازات في دراسة التراث لا سبيل إلى تجاهلها.
هناك جهد واضح لمحاولة تأويل العقائد، وعقيدة الألوهية خاصة على أساس أنها محاولات من الإنسان لتجاوز اغترابه في العالم، فيخلق في الشعور كائنًا من ذاته — على غرارها — بعد أن يضفي عليه كل صفات الكمال والقوة في صورتها المثالية، وبعد أن ينفي عنه كذلك كل صفات الضعف التي يأنف منها (انظر: ١: ٤٥٨، ٤٧٥-٤٧٦؛ ٢: ٦٢، ١١٣، ١٤٨، ٢٤٢–٢٤٤، ٣٧٢-٣٧٣، ٣٨١-٣٨٢، ٤٠٩ ٤٣٢، ٤٣٤، ٥٣٦، ٥٤٨-٥٤٩، ٥٦٧ وما بعدها، ٦١٠ وما بعدها، ٦٣٩، ٦٥٢؛ ٣: ٦). إنها محاولة مشروعة لتحويل اللاهوت إلى أنثروبولوجيا، والإلهيات إلى إنسانيات. نقول هي محاولة مشروعة بشرط أن تحل إشكالية صنَعَتْها هي ذاتها في الحديث عن الماضي — منتج التراث — من زاويتين متعارضتين: في الزاوية الأولى يكون الماضي هو الماضي المنتصر الجميل الذي حقق الانتصار، والوحدة العملية، ولم يكن يعاني من الهزائم والانتكاسات التي يعاني منها الواقع الراهن. ولأن مصدر الخطر الوحيد الذي كان يعانيه الواقع الإسلامي كان الهجوم على العقيدة فقد كان من الطبيعي أن ينهض مفكرونا القدماء بعبء الدفاع عن العقيدة. أما الزاوية الثانية التي تصادم الأولى فهي تفسير نشأة العقائد تأسيسًا على مفهوم «الاغتراب» الذي يعني أن الواقع الذي أنشأها ليس ذلك الواقع الجميل المنتصر. لذلك يبدو تأويل نشأة العقائد طبقًا لمفهوم الاغتراب تأويلًا أقرب لتأويل «الموقف الإنساني» بصرف النظر عن ملابسات الزمان والمكان (انظر: ١: ٧٠، ٧٥–٧٧، ١٧٨؛ ٢: ١١٣، ٣٣٢، ٣٣٥).
لكن الأهم في تأويل اليسار الإسلامي للعقائد الإسلامية الإصرار على التعامل معها بوصفها تصورات ذهنية تمثل موجهات للسلوك، أكثر من كونها عقائد دالة على وجود مُفارِق. إن «الله» في مثل هذا التأويل ليس ذاتًا مشخَّصة لها وجود مفارق للوعي الإنساني، بل هو «مبدأ معرفي» خالص، فكرة محددة كما هو معروف في المنطق. إنه «نموذج» أو «مثال» يمثل سعي الإنسان للوصول إلى المجرد والخالص (انظر: ١: ٣٦٢-٣٦٣). وهذا فارق بين الإسلام والمسيحية يلح عليه اليسار الإسلامي كثيرًا. إن الإسلام يمثل في تطور الوحي الحلقة الأخيرة التي خلصت الإنسان — أو بالأحرى تخلص فيها الإنسان — من غلظة التصورات الحسية للمطلق، وتحرر فيها عقله من «التجسيد» وفارقه إلى «التجريد». وهكذا أصبح الوحي شرعًا ولم يعد غيبًا، صار وضوحًا لا كهنوتًا، أمرًا ونهيًا لا عقيدة (٣: ٥٢). أصبح الوحي نظامًا واقعيًّا أساسه في الواقع، وهدفه إقامة مصالح الناس بصرف النظر عن مصدره ودلالته على وجود ذات مشخَّصة أو على إثبات صفاتها (٢: ٦٤٣). إن الوجود الإنساني هو الأساس والأصل فيما يرى الخطاب اليساري، والله لا يتحدث عن نفسه إلا من خلال الوحي، أي اللغة، وبالتالي يلزم فهمه وتفسيره ابتداء من الوعي الإنساني. وإذا كان الوجود الإنساني هو الوجود الحقيقي فإن كل وجود في الوعي هو وجود بالمجاز لأن الإنسان هو مبدع اللغة التي تجلى من خلال مواضعاتها الوحي. ومعنى ذلك أن كل المفاهيم اللغوية مفاهيم تنطبق بالحقيقة على الإنسان، فهو المعنى الأَولى بالألفاظ التي تطلَق على أي وجود آخر — سواء الله أو العالم — بالمجاز، قياسًا على إطلاقها على الوجود الإنساني (١: ٤٥٠-٤٥١).
في إطار هذا التأويل الإنساني للعقائد يجب علينا ألا ننسى أن ثمة انحيازًا واضحًا لجانب «الشريعة» على حساب جانب «العقيدة» في نصوص الوحي، مع أنهما جانبان جوهريان في بنيته الأصلية، ولأن هذا الانحياز ليس مؤسسًا تأسيسًا تامًّا على تأويل العَلاقة بينهما في سياق الملابسات الموضوعية التاريخية لنشأة الوحي الإسلامي وتطوره، فإنه يجذب الخطاب اليساري — كما سنرى — ليحطِب في حبل اليمين حين يصر على صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان (١: ١١٣) أو حين يصر على أن الغاية من الوجود البشري تحويل العالم إلى نظام مثالي متفق مع معطيات الوحي ومتطلباته (٣: ٥٢٥). ومع ذلك فالتأويل الإنساني للعقائد يظل مشروعًا ومنتجًا خاصة في مجال الربط بين العلم الإلهي والعلم الإنساني، وتحويل الأول إلى الثاني من خلال صياغة مفهوم إنساني للوحي، مفهوم يستبعد الميتافيزيقي وينحاز للتاريخي.
«إن تعريف العلم لا يكون إلا للعلم الإنساني، فالعلم الإلهي ليس صفة مشخِّصة للذات، بل هو الوحي المنزل الذي أصبح علمًا إنسانيًّا بمجرد قراءته وفهمه وتفسيره … ولا نعلم عن علم الله إلا ما هو موجود في كتاب مدون بلغة معروفة، وبعقل يفسر ويفهم ويعقل ويتمثل ويحقق وهو الإنسان المكلف» (١: ٢٧٧). «العلم الإلهي في حقيقته علم إنساني، بمعنى أنه يتحول إلى علم إنساني بالفهم والتأويل. إذا كان القرآن — الوحي — هو التعبير عن العلم الإلهي، فإن الفهم الإنساني المرتبط بآفاق الزمان والمكان هو الذي يحوِّل هذا الوحي إلى معنى ودلالة، وهكذا يتحول الإلهي إلى الإنساني» (١: ٤٣٧). «إن الوحي ذاته بعد نزوله وفهمه يصبح علمًا إنسانيًّا سواء كان أصول دين، أو أصول فقه، علوم حكمة، أو علوم تصوف» (١: ٢٤٨ وانظر أيضًا: ١: ٢٣٣). «إن الوحي علم مستقل بذاته يستنبطه الإنسان ويضع قواعده وأصوله … وإن كل ما يمكن التوجه به ضد العقل الإنساني والقدرة البشرية يمكن التوجه به أيضًا إلى تفسير النبوة وتأويل الوحي الذي يقوم به عقل الإنسان، وتظهر فيه مصالحه، ويفرض فيها إرادته» (٤: ٣٦).
وقد كان من الضروري لتأكيد مفهوم «إنسانية» الوحي والعلم الإلهي التركيز على بعد «الرسالة» دون بعد «النبوة»، أو بعبارة أخرى التركيز على البعد الأفقي — عَلاقة الوحي بالواقع — دون البعد الرأسي المتمثل في أصل الوحي ومصدر الرسالة. «لا يهمنا طريقة الاتصال؛ الوحي أو من وراء حجاب أو بالرسول أو بالخيال، في النوم أو في اليقظة. المهم الرسالة ذاتها التي بها صلاح العباد» (٤: ٢٣-٢٤). «ليس مهمًّا في النبوة، مصدرها أو أداتها أو المعجزة، لأنها واقعة تاريخية، والبعد الأفقي هو الأهم. النبوة الرأسية ليست جزءًا من النبوة، أي من السمعيات بل هي جزء من الإلهيات أي العقليات في صفتي الكلام والإرادة» (٤: ٣٩).
ولقد كان من شأن التركيز على البعد الأفقي في النبوة — الرسالة — الوصول إلى صياغة علمية إلى حد كبير لجدلية الوحي/الواقع، وهي الجدلية التي يغفلها الخطاب اليميني بالتركيز على البعد الرأسي. ورغم أن الخطاب اليميني لا ينكر الحقائق التي تطرحها علوم القرآن، والتي تؤكد عدم مفارقة حركة الوحي وتطوره لحركة الواقع وتطوره تنزيلًا وتأويلًا، فإن هذا التسليم لا يكاد يعدِّل من المنظور الميتافيزيقي الذي ينطلق منه هذا الخطاب. الوحي في منظور اليسار على النقيض من ذلك يرتبط بالواقع ارتباطًا حميمًا، فهو على مستوى التنزيل نزل: «بناء على نداء الواقع واكتمل بناء على تطوره، وأعيدت صياغته طبقًا لقدراته وأهليته على ما هو معروف في الناسخ والمنسوخ. وهي عملية جدلية بين الفكر والواقع … الواقع الذي ينادي على الفكر ويطلبه، والفكر يأتي مطورًا للواقع ويوجهه نحو كماله الطبيعي، ثم يعود الواقع فينادي فكرًا أدق وأحكم حتى يتحقق الفكر ذاته، ويصبح واقعًا مثاليًّا يجد فيه الواقع الطبيعي كماله» (٢: ٥٠٤-٥٠٥).
وعلى مستوى التأويل يدخل الواقع كذلك طرفًا ثالثًا فاعلًا بوصفه الجامع بين العقل والنقل، فليست العَلاقة بينهما تلك العَلاقة الثنائية التي تحتاج إلى التوفيق الشكلي الخالص: «ولكنها عَلاقة ثلاثية طرفها الثالث هو الواقع، يكون بمثابة مرجع صدق وتحقيق لو حدث تعارض بين العقل والنقل. اللغة وحدها ليست مقياسًا لفهم النصوص والتوفيق بين المعاني، تحتاج إلى حدس، وهو عمل العقل وتجرِبته، وهو دور الواقع» (١: ٣٩٧-٣٩٨).
وهكذا يكاد الخطاب اليساري أن يحوِّل الوحي إلى الطبيعة، ويرد الميتافيزيقي إلى الفيزيقي، ويبلور فهما تنويريًّا للعقيدة والوحي، فهمًا يجعل من كل إنجاز بشري عقلاني في مجال معرفة الطبيعة والواقع إضافة للوحي واستمرارًا له. وفي هذا الفهم لا يكون الوحي مجرد واقعة حدثت في الماضي عدة مرات ثم توقفت، تاركًا شأن البشرية سدًى، بل الوحي اسم يطلَق على النشاط الذهني للإنسان في كل زمان ومكان:
«الوحي تعبير عن الطبيعة الإنسانية، مفهوم لا ينكر النبوة بل يعني استمرارها ودوامها عن طريق نزوع الطبيعة، فالطبيعة هي الوحي والوحي هو الطبيعة. وكل ما يميل إليه الإنسان بطبعه هو الوحي، وكل ما يتوجه به الوحي هو اتجاه في الطبيعة. الوحي والطبيعة شيء واحد. ولما كانت الطبيعة مستمرة فالوحي بهذا المعنى مستمر، والنبوة دائمة ولكنَّا أنبياءُ يوحَى إلينا من الطبيعة، وصوت الطبيعة هو صوت الله. والوحي الطبيعي هو أكبر رد فعل على الوحي الرأسي، فهو وحي بلا معجزات ولا ملائكة ولا أنبياء، ومع ذلك يقر بالتوحيد والبعث وبالجزاء، مما يجعل استعمال لفظ الوحي هنا استعمالًا مجازيًّا خالصًا، أي إدراك العقل القائم على الطبيعة. وبطبيعة الحال يستمر الوحي بهذا المعنى، ما دام هناك عقل وهناك طبيعة» (٤: ١٥٢-١٥٣).
والآن ثمة سؤال جوهري يطرح نفسه: ألا تتعارض مسألة استمرارية الوحي — ولو بالمعنى المجازي المطروح في النص السابق — مع تاريخيته المطروحة قبل ذلك؟ وبعبارة أخرى: ما الهدف والغاية من استمرار الوحي بكل ما يرتبط به من عقائد التوحيد والبعث والجزاء؟ ولقد احترزنا فيما سبق بالقول بأن اليسار الإسلامي قارب تخوم حل ثنائية النقل/العقل حلًّا جدليًّا، دون أن نقرر أنه حلها فعلًا.
وإذا كان الخطاب اليساري في تأويلاته للعقائد، وفي المفهوم التاريخي الذي يطرحه للوحي تنزيلًا وتأويلًا يتصادم بشكل جذري مع الخطاب السلفي، فإن هاجس «التوفيق» و«التوحيد» يعود ليفرض نفسه على الخطاب اليساري فيأخذ باليمين ما أعطاه بالشمال. إن النقد الذي يوجَّه كثيرًا في ثنايا هذا الخطاب إلى بعض الظواهر الفكرية التراثية: «خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف» يتوجه إلى هذا الخطاب ذاته. إن ذلك الهاجس التوفيقي التوحيدي قد تجاوز «الفرقاء» في واقع الأمة الراهن إلى توحيد اتجاهات التراث والانتقال من «الفَرق بين الفِرق» إلى «وَحدة الفِرق». ولم تسلم ثنائية النقل/العقل من التأثير الضار لهذا الهاجس فشوش الإمكانيات الخِصبة التي كانت كفيلة بتحقيق طرح جدلي لها. إن الإصرار على استمرارية الوحي بالمعنى المجازي — الوحي الطبيعي — إصرار يكشف عن الطابع المتردد الذي يحاول أن يلوذ بالتأويل عن طريق التحويل الدلالي، فيقع في التلوين. وفي هذا التلوين يفقد مفهوم الوحي بعده التاريخي، ويتحول إلى مبادئ ونظريات عامة ذات طابع يقيني مطلق خارج الزمان والمكان، أي خارج التاريخ.
«يعطي الوحي بداية يقينية مطلقة حتى يتجنب الإنسان محاولات الخطأ والصواب إلى ما لا نهاية، ويبقى احتمال الخطأ في الفهم والتطبيق أقل. صحيح أن العقل قادر على الوصول إلى هذه البدايات اليقينية ولكن الوحي يقصِّر الوقت ويقلل الجهد، ويعطي دفعة للعقل بالأوَّليات الأولى … وعندما يقوم ذهن واحد بوضع النظريات والتشريعات المستنبطة منها، يكون ذلك أقل احتمالًا للخطأ من وضع النظريات وحدها وترك التشريعات لاستنباط ذهن آخر … يعطي الوحي نظرة كلية شاملة للحياة تقابل النظرة الإنسانية المتجزئة … فالوحي باعتباره تعبيرًا عن الوعي الخالص يعطي تصورًا محايدًا لا يقوم على هوًى أو مصلحة أو انفعال … حقائق الوحي منصفة غير متحيزة، لا تأخذ نظر فرد دون فرد، أو مصلحة جماعة دون جماعة، وكأن التاريخ قد اكتمل والحقائق البشرية قد عُرفت» (٤: ٦٢-٦٣).
إن العقل الإنساني الذي يمثل أساس النقل ومعيار صحته وصدقه يتحول في النصوص السابقة إلى تابع للوحي، لا يستطيع الاعتماد على نفسه، لأنه عرضة للخطأ والتحيز والقصور عن التأمل الشامل ووضع الكليات. وحتى لو سلمنا بإمكانية قدرته على الصواب والحياد ووضع الكليات فإن ذلك يستغرق منه وقتًا طويلًا، ولذلك فمن الأوفق والأهدى له أن يترك ذلك للوحي والنقل. وأن يبذل قصارى جهده في الفهم والتطبيق. وهنا بالضبط يحطِب اليسار في حبل اليمين، ويتَّحد بنقيضه السلفي اتحادًا مذهلًا. إن الدعوي السلفية — في أشد تياراتها تطرفًا — لا تكاد تتجاوز هذا الطرح لدور كل من العقل والنقل، الدور الذي يتحول فيه العقل إلى تابع ذليل يتشكك في قدراته الذاتية، ويحتمي دائمًا بالنصوص.
إن صفة «التردد» بين الموقف ونقيضه في مشروع الخطاب اليساري، وهي صفة طبيعية في مشروع توفيقي في جوهره، هي التي تميز هذا الخطاب عن نقيضه السلفي، الذي يعتمد في طرح أطروحاته على اليقين والقطع والحسم مُوهمًا أن ما يقوله هو الحقيقة المطلقة. وهذا التردد على ما يؤدي إليه من نتائج ضارة على المستوى المعرفي الخالص لا يخلو من فائدة، تتمثل فيما يحدثه من خلخلة في بنية الفكر الديني المسيطر والمستقر. في سياق هذا التردد يكون العقل سابقًا على النقل (٣: ٤٥٩). وأحيانًا يكونان متزامنين تسليمًا بمعطيات الوحي (٣: ٤٣٩) هذا من الناحية الأنطولوجية. وأما من ناحية الأسبقية المعرفية فهما إما متحدان من حيث فعَّاليتهما، أي لكل منهما من المشروعية المعرفية مثل ما لصاحبه (٣: ٤٧٣-٤٧٤) أو يتبادل كل منهما الأسبقية مع الآخر. ومن مهمة قراءتنا الحاليَّة نفي هذا التردد بالكشف عن أسبابه وعواقبه في بنية الخطاب اليساري، حتى ننتقل به من مجرد إحداث خلخلة في بنية الخطاب الديني، إلى تحقيق طموح الانتقال «من العقيدة إلى الثورة».
(انظر بالإضافة إلى ما سبق: ١: ١٦، ٣٤٥، ٤٠١-٤٠٢، ٤٠٤-٤٠٥؛ ٢: ١٠٦، ٢١٨؛ ٣: ٣٩٢، ٤٤٦، ٤٤٧؛ ٤: ٥١، ٤٨١؛ ٥: ١٩٥).
إن المشروع اليساري الذي يستشهد في كتاباته دائمًا بالقول: «احتمينا بالنصوص فدخل اللصوص» والذي يدافع بحرارة عن منهج العقل، ويهاجم بضراوة «عبدة النصوص»، يقوده تردده إلى نقد منهجه العقلي والدفاع عن منهج النص. ومن الواضح أن الدفاع عن منهج النص يعتمد على فرضيات ذهنية لم يتأت فحصها بشكل تأويلي، فكتاب «الفريضة الغائبة» لمحمد عبد السلام مثلًا — أحد قيادات تنظيم الجهاد في اغتيال الرئيس السابق — لم يعتمد على «النصوص الخام» إن صح وجود مثل تلك النصوص. ونقد ابن تيميَّة لمنطق أرسطو لم يعتمد على تلك النصوص الخام. والحقيقة أن مفهوم «النصوص الخام» هو في ذاته مفهوم تلفيقي، فالتراث التفسيري يلامس النصوص دائمًا في كل عصر، وعقل القارئ وثقافته يستحيل أن ينعزلا عن تراكم التراث التفسيري حول النصوص. وما يقال عن اختلاف مناهج الفقهاء بين الرأي والنقل ليس إلا توصيفًا للميل الغالب عند هذا الفقيه أو ذاك. وإذا كان التراث كله «نظرية في التأويل، وهي صلة العقل والنقل» (٣: ٩٢-٩٣) فمن أين يتأتى لنا الحديث عن النصوص الخام. لذلك نضع الدفاع عن منهج النص في سياق التردد النابع من الطبيعة التوفيقية للمشروع كله، وهي الطبيعة التي لا تنفصل عن موقف اليسار الإسلامي من الواقع العيني الذي تم تشخيصه كما سبقت الإشارة من خلال ثنائيات: السلفية/العلمانية، والماضي/الحاضر، والنقل/العقل.
«ربما يؤدي فهم النص وتحليل معناه إلى عثور على منطق داخلي للنص يكون منطقًا للوحي، ثم استعماله لنقد كل أنواع المنطق الأخرى صورية أو مادية أو كشفية. وهذا حدث في القديم عند الفقهاء، خاصةً ابنَ تيميَّة في نقده لمنطق أرسطو الصوري. وهي قضية فيما يبدو ملحة هذه الأيام، حيث استأنفت السلفية المعاصرة منهج النص كما هو واضح في الفريضة الغائبة لمحمد عبد السلام، فالعودة إلى النص تعطي قوة على الرفض الحضاري حيث يقوم النص هنا بعملية تطهير، فترجع الحضارة إلى الأنا في مواجهة الآخر» (١: ٤٠١-٤٠٢).
ولا نريد هنا أن نخوض في شأن ما حدث لكثير من مفكرينا من توبة و«تطهر» من دنس الغرب والفكر الغربي الوافد — دون تفرقة بين زائف وأصيل ودون تمييز بين المعرفة والأيديولوجيا — وإن كانت كثير من المؤشرات في بنية الخطاب اليساري تسمح بوضعه في ذلك السياق. لا نريد الخوض في هذا انتظارًا للجزء الثاني من مشروع «التراث والتجديد» عن الموقف من الفكر الغربي. والذي يهمنا هنا أن الدفاع عن منهج النص جنبًا إلى جنب الدفاع عن منهج العقل يؤكد أن التوفيق بين العقل والنقل — الثنائية الكبرى في تاريخ فكرنا الديني، وفي بنية ثقافتنا المعاصرة أيضًا — لم يتحقق بشكل جدلي تام، وإن لامس الخطاب اليساري حدود تحقيقه.
والثنائيات التي لم يحلها النهج التوفيقي للخطاب اليساري كثيرة، وتظل مؤشرات النجاح في هذا النهج مؤشرات جزئية متناثرة داخل هذا الخطاب. وقراءتنا هذه بمحاولتها الكشف عن الأسباب والنتائج في بنية الخطاب اليساري، تأمل أن تكون قد حققت تأويلًا لهذا الخطاب، تأويلًا يتجاوز آفاق وحدود إنجازه. وكما سبق أن أشرنا فإن مما أنجزه «التراث والتجديد» خلخلة كثير من الثوابت والمسلَّمات المستقرة في وعينا الديني، وقد ساهم بهذه الخلخلة ذاتها في جعل الكشف عن الخلل في بنيته هو ممكنًا. بهذا يمكن القول إن ما تحقق على جزئيته هام جدًّا، إنه خطوة لا سبيل إلى إنكار أنها تقودنا في اتجاه التنوير، الذي يتحتم أن يتطور إلى «التثوير». وإذا كان في بنية الخطاب ما يميل به إلى السلفية اليمينية المتزمتة، فإن مهمة القراءة التأويلية المنتجة أن تجذبه إلى آفاق إنتاج وعي علمي بالواقع وبالتراث في الوقت نفسه. وبعبارة أخرى على القراءة التأويلية المنتجة أن تنقل الخطاب اليساري من وهدة «التلوين» إلى أفق «التأويل» في إدراك الواقع والتراث معًا.