قراءة النصوص الدينية: دراسة استكشافية لأنماط الدلالة
أصبح في حكم الحقائق المسلَّم بصحتها أن الفكر البشري، أي فكر بما في ذلك الفكر الديني، نتاج طبيعي لمجمل الظروف التاريخية والحقائق الاجتماعية لعصره. وليس معنى ذلك أنه نتاج سلبي، بل الأحرى القول إن الفكر الجدير حقًّا بهذا الاسم هو الفكر الإيجابي الذي يتصدى لحقائق العصر الذي ينتمي إليه بالتحليل والتفسير والتقويم، ويسعى إلى الكشف عن عناصر التقدم ومساندتها، وعزل عناصر التخلف ومحاربتها. والفكر الذي يكتفي بتبرير الواقع والدفاع عنه، إنما ينتمي إلى مجال الفكر على سبيل المجاز لا الحقيقة. ولا مجال هنا للحديث عن الفكر الذي يسعى إلى الارتداد بالواقع الاجتماعي التاريخي إلى عصور سابقة، فليس ذلك فكرًا على الإطلاق، إذ الفكر في جوهره وحقيقته حركة لاكتشاف المجهول انطلاقًا من آفاق المعلوم.
ولا بد هنا من التمييز والفصل بين «الدين» والفكر الديني، فالدين هو مجموعة النصوص المقدسة الثابتة تاريخيًّا، في حين أن الفكر الديني هو الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص وتأويلها واستخراج دلالتها. ومن الطبيعي أن تختلف الاجتهادات من عصر إلى عصر، بل ومن الطبيعي أيضًا أن تختلف من بيئة إلى بيئة — واقع اجتماعي تاريخي جغرافي عرقي محدد — إلى بيئة في إطار بعينه، وأن تتعدد الاجتهادات بالقدر نفسه من مفكر إلى مفكر داخل البيئة المعينة.
كل ذلك أصبح في حكم الحقائق المسلَّم بصحتها، والتي كافح رواد النهضة والتنوير طويلًا من أجل إقرارها وتثبيتها في تربة ثقافتنا. فعل ذلك — كلٌّ في مجال نشاطه المعرفي وتخصصه — الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده ولطفي السيد وطه حسين وعلي عبد الرازق وقاسم أمين وسلامة موسى والعقاد وأحمد أمين وأمين الخولي وغيرهم كثيرون.
لكن ثمة سؤالًا مؤلمًا جارحًا يفرض نفسه ونحن في زخم الاحتفال بأولئك الرواد أو ببعضهم: كيف استطاع الفكر الديني المعاصر أن يخفي تلك الحقائق ويحاول أن يهيل عليها تراب النسيان لحساب إطلاقية تقارب حدود القداسة ينسبها إلى نفسه بطريقة غير مباشرة؟ وقبل محاولة الإجابة عن السؤال، نشير إلى مظاهر الإطلاقية والقداسة في المحاولات التي تبذل في شكل مؤتمرات وندوات ولقاءات ومؤلفات موضوعها جميعًا ما يطلقون عليه اسم «الأسلمة» في جميع مجالات النشاط الإنساني. وإذا كانت الدعوة إلى أسلمة القوانين بالاحتكام إلى الشريعة الإسلامية أمرًا مفهومًا في سياق تاريخنا الثقافي — رغم الخلاف حول مجالات التطبيق وآلياته — فإن الدعوة إلى أسلمة العلوم والآداب والفنون دعوة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. إنها دعوة تؤدي إلى تحكيم الفكر الديني الخاضع لملابسات الزمان والمكان والموقف الاجتماعي في مجالات فكرية، عقلية وإبداعية، لم تتعرض لها النصوص الدينية، وإن حاول الفكر الديني دائمًا بطرق تأويلية ملتوية أن يستنطق النصوص الدينية بما يراه في المجالات المشار إليها.
ومن أهم ما ورد في تلك التوصيات الدعوة للعمل: «بكل الوسائل على أسلمة الأدب والابتعاد بالأجيال الجديدة عن خطورة الأفكار الشيوعية والماركسية والعلمانية، والتصدي لمبادئها الهدامة في مقابل إعلاء وتوضيح مكانة الأدب والفكر الإسلامي». وأسلمة الآداب والفنون والفكر والثقافة دعوة لا تقل خطورتها عن الدعوة لأسلمة العلوم، إذ تنتهي كلتاهما إلى مد سيطرة رجال الدين على كل مجالات الحياة. إنها تنتهي إلى «محاكم التفتيش» التي تُدين بل تجرم كل اجتهاد إنساني في كل المجالات المعرفية فتصمه بالانحراف والضلال والإلحاد، لا لشيء إلا لأنه لا يتوافق مع فهم رجال الدين للنصوص الدينية ومع تأويلهم لها. وهكذا تتبدى مغالطة الخطاب الديني، الذي ينكر النتائج المنطقية لكل دعاواه بإنكار أن «الحاكمية» تعني تحكيم رجال الدين في كل شئون الحياة.
ونعود إلى سؤالنا الأساسي: كيف أمكن لإنجازات النهضة والتنوير أن تنزوي في دائرة ضيقة مفسحة المجال لسيطرة خطاب ديني غاشم يسعى إلى إطفاء كل المصابيح الإنسانية التي جاءت الأديان السماوية لتُقوِّي وهَجها، وتمنحها زيتًا جديدًا؟ ولا شك أننا نتفق مع التحليلات التي تفسر هذا النكوص بردِّه إلى الطبيعة التلفيقية لمشروعات النهضة، تلك الطبيعة التي تفسر بدورها بهشاشة الطبقة الوسطى حاملة لواء النهضة وتهافت تكوينها وتبعيتها الاجتماعية والاقتصادية، الأمر الذي أدى بها إلى التبعية السياسية. لكن الذي نود التركيز عليه هنا أن خطاب التنوير ظل يدور مع نقيضه السلفي داخل دائرة السجال الأيديولوجي، ولم يتجاوز ذلك إلى تأسيس أفق جديد. لذلك لم يكن غريبًا أن تكثر حالات الارتداد فيتحول البعض إلى السلفية مع تقدم السن ومع ميلاد تيارات أكثر جذرية، فكرية ثقافية إبداعية.
وفي مجال تاريخية الظاهرة الثقافية الفكرية الإبداعية، وتاريخية الفكر الديني بصفة خاصة، استطاع خطاب التنوير كما سبقت الإشارة أن يرفع غطاء القداسة عن الخطاب الديني القديم والحديث على السواء. واستطاع بذلك أن يضع بذور التعامل مع التراث بكافة جوانبه بوصفه تاريخية متطورة، والأهم من ذلك بوصفه قائمًا على التعدد والصراع بين تياراته واتجاهاته، وكان هذا إنجازًا حقيقيًّا لا سبيل إلى التراجع عنه، لكنه لم يكن كافيًا. وبسبب الطبيعة السجالية الأيديولوجية للعَلاقة بين خطاب التنوير والخطاب السلفي لم يستطع التنويريون أن ينقطعوا عن السلفيين بإنتاج وعي تاريخي علمي بالنصوص الدينية ذاتها، وظلت الرؤية اللاتاريخية للنصوص الدينية هي الرؤية المسيطرة عند كلا الفريقين على السواء. ولا شك أن هذا القصور في الإنجاز التنويري ساهم — في إطار عوامل موضوعية اجتماعية اقتصادية — في تمكين الخطاب الديني من استعادة الأرض التي فقدها.
إن ما نعنيه بالوعي التاريخي العلمي بالنصوص الدينية يتجاوز أطروحات الفكر الديني قديمًا وحديثًا، ويعتمد على إنجازات العلوم اللغوية خاصة في مجال دراسة النصوص. وإذا كان الفكر الديني يجعل قائل النصوص — الله — محور اهتمامه ونقطة انطلاقه فإننا نجعل المتلقي — الإنسان — بكل ما يحيط به من واقع اجتماعي تاريخي — هو نقطة البدء والمعاد. إن معضلة الفكر الديني أنه يبدأ من تصورات عقائدية مذهبية عن الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية وعَلاقة كل منهما بالأخرى، ثم يتناول النصوص الدينية جاعلًا إياها تنطق بتلك التصورات والعقائد. وبعبارة أخرى نجد المعنى مفروضًا على النصوص من خارجها، وهو بالضرورة معنًى إنساني تاريخي يحاول الفكر الديني دائمًا أن يُلبسه لباسًا ميتافيزيقيًّا ليضفي عليه طابع الأبدية والسرمدية في آن واحد.
وثمة واقعة شديدة الدلالة والطرافة في الوقت نفسه. ولعل طرافتها لا تطغى على دلالتها فيما نحن بصدده من كشف تناقضات الفكر الديني النابعة من لاتاريخيته، أو بالأحرى من نهجه اللاتاريخي. في أحد اللقاءات الدورية للجمعية الفلسفية المصرية كان الموضوع المطروح للنقاش ورقة مقدمة من حسن حنفي رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة بعنوان «الوحي والواقع». ورغم أن تحليل العَلاقة بين الوحي والواقع اعتمد في تلك الورقة على معطيات «أسباب النزول» في كتاب بالاسم نفسه من تأليف أحد علماء القرن الخامس الهجري (أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري) فإن الاستجابات والتعليقات اتسمت بطابع الحدة والعنف الفكري الذي وصل إلى إدانة المؤلف لأنه يعطي للواقع أولية على الوحي. ووصل الأمر إلى حد استتابة المؤلف عما يمكن أن يكون في بعض عباراته من إيهام ببشرية الوحي، الأمر الذي لا يُتخيل حدوثه في مَجمع كهنوتي ناهيك بجمعية الفلسفة.
وكانت المفاجأة الحقة — والطريفة في الوقت نفسه — التعليق الشامل الذي قدمه أستاذ جليل من أعلام رجال الدين سفَّه كل ما قيل عن عَلاقة بين الوحي والواقع. وتساءل في سخرية لا تخلو من دلالة: عن أي وحي وأي واقع نتحدث؟ والوحي في الإسلام هو القرآن والسنة، القرآن هو كلام الله القديم وصفة ذاته القديمة الأزلية، وهو مدون في اللوح المحفوظ باللغة العربية قبل خلق السموات والأرض، وقبل خلق البشر، وقبل أن يكون هناك أي واقع. وأما الحديث عن أسباب النزول أو النسخ فقد كان ذلك معلومًا لله منذ الأزل ثم تركب التنزيل على الوقائع في خطة إلهية محكمة معدَّة سلفًا. على ذلك فلا أولية للواقع على الوحي، ولا تأثير ولا عَلاقة ما دام علم الله شاملًا للحاضر والماضي والمستقبل، ومحيطًا بالجزئيات إحاطته بالكليات. بل إن كل ما نقوله من أقوال وما قيل قبل ذلك وما سيقال، معلوم لله مراد له، فكل ما في الكون من أشياء وأحداث ووقائع وأفكار وعبارات مراد له وجزء من كلماته التي لا تنفد كما ورد في القرآن.
ولم يكن ثمة رد على ذلك التعليق الشامل سوى القول بأن كل الأقوال لا بد أن تكون مشروعة، بل وتتمتع بدرجة واحدة من المشروعية والمصداقية، ما دامت جميعها معلومة لله ومرادة له، وليست في التحليل النهائي سوى جزء من كلمات الله. والأمر كذلك فلا بد من التسليم بمشروعية القول بوجود عَلاقة تفاعل وتأثير — ناهيك بعَلاقة جدلية ينفر الجميع من الإقرار بها — بين الوحي والواقع. لكن الأهم من الرد السجالي اكتشاف طبيعة المعنى الذي يُفرض على النصوص من خارجها ويتزيا بأزياء الأزلية والأبدية إخفاء لطبيعته التاريخية بل والأيديولوجية. والمعنى المطروح في ذلك التعليق — وهو معنًى شائع ومستقر في الفكر الديني عمومًا — يستحضر المعنى السلفي لقدم كلام الله (القرآن)، وهو المعنى الذي كانت تتبناه وتدافع عنه إحدى الفرق الكلامية الدينية. وهو جزء من بنية فكرية تطرح رؤية للعالم والطبيعة والإنسان تضعهم جميعًا في عَلاقة مقارنة مباشرة مع الله، ومن الطبيعي أن تؤدي المقارنة إلى تهميش النسبي والجزئي والحادث لحساب المطلق والكلي والقديم. ولم تكن تلك الرؤية في حقيقتها سوى تجذير — وتبرير ديني — لوضع اجتماعي يحتل فيه الحاكم والطبقة مكان المطلق والكلي والقديم، في حين يحتل المحكومون مكان النسبي والجزئي والحادث. وحين يتبنى الفكر الديني المعاصر تلك الرؤية، وما يرتبط بها من معنى القرآن وأزلية الوحي، فإنه إنما يحقق أهدافًا شبيهة أو قريبة. وهو علاوة على ذلك يضفي على رؤيته تلك قداسة يستمدها من امتدادها التراثي وعبق التاريخ مُوهمًا أنها الإسلام ذاته.
لكن ذلك المعنى لم يكن في تاريخنا الثقافي هو المعنى الوحيد، ولم تكن رؤية العالم التي تعتمد عليها هي الرؤية الوحيدة كذلك، على خلاف ما يحاول الفكر الديني أن يؤكد. كان المعنى النقيض الذي ساد بعض الوقت ثم تم تهميشه بعد ذلك هو أن القرآن حادث مخلوق ارتبط إيجاده وإنزاله بحاجة البشر وتحقيقًا لمصلحتهم. ومن السهل أن ندرك أن هذا المعنى النقيض كان جزءًا من بنية فكرية أخرى تطرح رؤية للعالم والطبيعة والإنسان تتسم بالحيوية والديناميكية، رؤية لا تلغي من أفقها المطلق والكامل والقديم، ولكنها في الوقت نفسه لا تتجاهل القوانين المستقلة لحركة النسبي والجزئي والحادث. وغني عن القول أن تلك الرؤية النقيضة هي التي أبدعت وأنجزت في مجال المعرفة العلمية تلك الإنجازات التي أفادت منها أوروبا، والتي يفخر بها الخطاب الديني ذاته رغم أنه يتنكر لأصولها الفكرية، ويعادي رؤية العالم التي حققتها.
وإذا كان معنى قدم القرآن وأزلية الوحي يجمد النصوص ويثبت المعنى الديني، فإن معنى حدوث القرآن وتاريخية الوحي هو الذي يعيد للنصوص حيويتها ويطلق المعنى الديني — بالفهم والتأويل — من سجن اللحظة التاريخية إلى آفاق الالتحام بهموم الجماعة البشرية في حركتها التاريخية. لكن ليس معنى ذلك أننا يجب أن نتبنى ذلك المعنى لنواجه المعنى النقيض التثبيتي الذي يتبناه الفكر الديني. إن القول بحدوث القرآن يظل ذا أهمية تاريخية من حيث المعنى والدلالة، وهو من هذه الزاوية ليس كافيًا لتأسيس الوعي العلمي التاريخي بالنصوص الدينية. وتبنِّي ذلك المعنى التاريخي وحده يضعنا في خندق واحد مع الفكر الديني، الخندق الذي نخوض منه معارك الحاضر استنادًا إلى خبرة التراث، دون إبداع وسائلنا الخاصة لكسبها.
إن الاستخدام النفعي الذرائعي للتراث كان نهج مفكري التنوير، وهو الذي عاقهم عن تحقيق انقطاع جذري عن النقيض السلفي، ومكن السلفية من الانقضاض على ما حققته التنويرية من إنجازات جزئية. وليس معنى ذلك أننا ندعو إلى الانقطاع الكامل عن منجزات التراث في اتجاهاته ذات الطابع التقدمي في سياقها التاريخي، وإنما الذي ندعو إليه هو عدم الوقوف عند المعنى في دلالته التاريخية الجزئية، وضرورة اكتشاف «المغزى» الذي يمكن لنا أن نؤسس عليه الوعي العلمي التاريخي.
١
إن النصوص لا تنفك عن النظام اللغوي العام للثقافة التي تنتمي إليها، لكنها من ناحية أخرى تبدع شَفرتها الخاصة التي تعيد بناء عناصر النظام الدلالي الأصلي من جديد. وتقاس أصالة النصوص وتتحدد درجة إبداعيتها بما تحدثه من تطور في النظام اللغوي وما تحققه نتيجة لذلك من تطور في الثقافة والواقع معًا. وعلى ذلك يمكن القول إن النصوص ترتبط بواقعها اللغوي الثقافي، فتتشكل به من جهة، وتبدع شَفرتها الخاصة التي تعيد بها تشكيل اللغة والثقافة من جهة أخرى. وهناك منطقة تماسٍّ بين الجهتين هي التي تمكن النصوص من أداء وظيفتها داخل البنية الثقافية في مرحلة إنتاج النصوص، أي تجعل النصوص دالة ومفهومة للمعاصرين لإنتاجها، وهي المنطقة المترعة بالدلالات المشيرة إلى الواقع والتاريخ. وخارج منطقة التماس تلك تكون الدلالات مفتوحة وقابلة للتجدد مع تغيير آفاق القراءة المرتهن بتطور الواقع اللغوي والثقافي.
وهنا يطرأ سؤال لا بد من التعرض له إذا كان الحديث عن النصوص الدينية بصفة خاصة، وهو سؤال يطرح إشكالية الفارق بين النصوص الدينية وغيرها من النصوص اللغوية التي تخضع بسهولة لمنهج التحليل طبقًا لنموذج تفرقة «دي سوسير» بين اللغة والكلام. والعائق أمام إخضاع النصوص الدينية للمنهج المشار إليه هو توهم إخضاع الكلام الإلهي — الذي لا بد أن يكون مخالفًا للكلام الإنساني — لمناهج التحليل العقلية الإنسانية. و«التوهم» هنا مبني على افتراض أن العَلاقة بين الإلهي والإنساني تقوم على الانفصال، بل على التعارض والتضاد، وهو توهم أسسه التصور الأشعري للعالم والذي ناقشنا امتداده في حياتنا المعاصرة قبل ذلك. ولعل إشكالية العَلاقة بين الإلهي والإنساني يمكن أن تنجلي ويتبدد عنها التوهم المشار إليه إذا ناقشناها في مجال آخر غير مجال النصوص الدينية، والمجال الذي نختاره للكشف عن التوهم وبيان أسبابه ونتائجه هو مجال «العقائد المسيحية» المرتبطة بحقيقة السيد المسيح عليه السلام. وغني عن القول أننا هنا لا نناقش المسألة من منظور لاهوتي يدخلنا طرفًا في قضية عقيدية خلافية بقدر ما نتعامل معها بوصفها نموذجًا كاشفًا لتناقض الفكر الديني الإسلامي، وذلك حين يتبنى المنظور المسيحي العام لطبيعة السيد المسيح في فهمه لطبيعة القرآن رغم أنه يرفضه في مجاله الأصلي.
يقف الفكر الديني الإسلامي من مسألة طبيعة السيد المسيح موقفًا نافيًا لأي طبيعة أخرى سوى الطبيعة الإنسانية النقية الخالصة. وليس هذا موقفًا خارجيًّا مفروضًا على النصوص الدينية الإسلامية، بل هو موقف يستند إلى الدلالات المباشرة للنصوص، الدلالات التي تؤكد عبودية المسيح لله، وتؤكد أن الطبيعة الخاصة لمولده من أم دون أب لا تعني شيئًا يغير من طبيعته البشرية، فشأن عيسى في ذلك كشأن آدم: خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ (سورة آل عمران: آية ٥٩). والمقارنة بين القرآن والسيد المسيح من حيث طبيعة «نزول» الأول وطبيعة «ميلاد» الثاني تكشف عن أوجه التشابه بين البنية الدينية لكل منهما داخل البناء العقائدي للإسلام نفسه.
ولعلنا لا نكون مغالين إذا قلنا إنهما ليستا بنيتين، بل بنية واحدة رغم اختلاف العناصر المكونة لكل منهما، فالقرآن كلام الله وكذلك عيسى عليه السلام: رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ (النساء: ١٧١). وقد كانت البشارة لمريم: إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (آل عمران: ٤٥). وإذا كان القرآن قولًا أُلقيَ إلى محمد عليه السلام، فإن عيسى بالمثل كلمة الله أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ (النساء: ١٧١)، أي إن محمدًا = مريم. والوسيط في الحالتين هو الملاك جبريل الذي تمثل لمريم بَشَرًا سَوِيًّا (مريم: ١٧) وكان يتمثل لمحمد في صورة أعرابي. وفي الحالتين يمكن أن يقال إن كلام الله قد تجسد في شكل ملموس في كلتا الديانتين: تجسد في المسيحية في مخلوق بشري هو المسيح، وتجسد في الإسلام نصًّا لغويًّا في لغة بشرية هي اللغة العربية. وفي كلتا الحالتين صار الإلهي بشريًّا، أو تأنسن الإلهي. واللغة العربية في الوحي الإسلامي تمثل الوسيط الذي تحقق فيه وبه التحول، ويمثل اللحم والدم — مريم — الوسيط الذي تحقق فيه وبه في المسيحية.
وإذا كان الفكر الديني الإسلامي ينكر على الفكر الديني المسيحي «توهم» طبيعة مزدوجة للسيد المسيح، ويصر على طبيعته البشرية، فإن الإصرار على الطبيعة المزدوجة للنص القرآني وللنصوص الدينية بشكل عام يعد وقوعًا في «التوهم» نفسه. وينتج التوهم في الحالتين عن إهدار الحقائق التاريخية الموضوعية الملابسة للظاهرة، والتمسك بأصلها الميتافيزيقي والإصرار على أنه وحده المفسر لها والمحدد لطبيعتها. ويُعَد «التوهم» من ثَم حالةً فكرية ثقافية تعكس موقفًا أيديولوجيًّا في واقع تاريخي محدد. وإذا كان هذا التوهم قد أدى إلى عبادة ابن الإنسان في العقائد المسيحية، فإنه قد أدى في العقائد الإسلامية إلى القول بقدم القرآن وأزليته بوصفه صفة قديمة من صفات الذات الإلهية كما سبقت الإشارة. وفي الحالتين يتم نفي الإنسان وتغريبه عن واقعه لا لحساب الإلهي والمطلق كما يبدو على السطح، بل لحساب الطبقة التي يتم إحلالها محل المطلق والإلهي.
ولعلنا الآن أصبحنا في موقف يسمح لنا بالقول بأن النصوص الدينية نصوص لغوية شأنها شأن أية نصوص أخرى في الثقافة، وأن أصلها الإلهي لا يعني أنها في درسها وتحليلها تحتاج إلى منهجيات ذات طبيعة خاصة تتناسب مع طبيعتها الإلهية الخاصة.
إن القول بإلهية النصوص والإصرار على طبيعتها الإلهية تلك يستلزم أن البشر عاجزون بمناهجهم عن فهمها ما لم تتدخل العناية الإلهية بوهب بعض البشر طاقات خاصة تمكنهم من الفهم، وهذا بالضبط ما يقوله المتصوفة. وهكذا تتحول النصوص الدينية إلى نصوص مستغلِقة على فهم الإنسان العادي — مقصد الوحي وغايته — وتصبح شَفرةً إلهية لا تحلها إلا قوة إلهية خاصة. وهكذا يبدو وكأن الله يكلم نفسه ويناجي ذاته، وتنتفي عن النصوص الدينية صفات «الرسالة» و«البلاغ» و«الهداية» و«النور» … إلخ. وإذا كنا هنا نتبنى القول ببشرية النصوص الدينية، فإن هذا التبني لا يقوم على أساس نفعي أيديولوجي يواجه الفكر الديني السائد والمسيطر، بل يقوم على أساس موضوعي يستند إلى حقائق التاريخ وإلى حقائق النصوص ذاتها. وفي مثل هذا الطرح يكون الاستناد إلى الموقف الاعتزالي التراثي وما يطرحه من حدوث النص وخلقه ليس استنادًا تأسيسيًّا، بمعنى أن الموقف الاعتزالي رغم أهميته التاريخية يظل موقفًا تراثيًّا لا يؤسس — وحده — وعينا العلمي بطبيعة النصوص الدينية. الموقف الاعتزالي شاهد تاريخي دال على بواكير وإرهاصات ذات مغزى تقدمي علمي، والمغزى لا الشاهد التاريخي هو الذي يهمنا لتأسيس الوعي بطبيعة النصوص الدينية.
وليس معنى القول بتاريخية الدلالة تثبيت المعنى الديني عند مرحلة تشكل النصوص، ذلك أن اللغة — الإطار المرجعي للتفسير والتأويل — ليست ساكنة ثابتة، بل تتحرك وتتطور مع الثقافة والواقع. وإذا كانت النصوص — كما سبقت الإشارة — تساهم في تطوير اللغة والثقافة، من جانب أنها تمثل «الكلام» في النموذج السوسيري، فإن تطور اللغة يعود ليحرك دلالة النصوص وينقلها في الغالب من الحقيقة إلى المجاز. وتتضح هذه الحقيقة بشكل أعمق بتحليل بعض أمثلة من النص الديني الأساسي وهو القرآن.
تتحدث كثير من آيات القرآن عن الله بوصفه ملِكًا (بكسر اللام) له عرش وكرسي وجنود، وتتحدث عن القلم واللوح. وفي كثير من المَرْويَّات التي تُنسب إلى النص الديني الثاني — الحديث النبوي — تفاصيل دقيقة عن القلم واللوح والكرسي والعرش، وكلها تساهم — إذا فُهمت فهمًا حرفيًّا — في تشكيل صورة أسطورية عن عالم ما وراء عالمنا المادي المشاهد المحسوس، وهو ما يطلق عليه في الخطاب الديني اسم «عالم الملكوت والجبروت». ولعل المعاصرين لمرحلة تكوُّن النصوص — تنزيلها — كانوا يفهمون هذه النصوص فهمًا حرفيًّا، ولعل الصور التي تطرحها النصوص كانت تنطلق من التصورات الثقافية للجماعة في تلك المرحلة. ومن الطبيعي أن يكون الأمر كذلك، لكن من غير الطبيعي أن يصر الخطاب الديني في بعض اتجاهاته على تثبيت المعنى الديني عند العصر الأول، رغم تجاوز الواقع والثقافة في حركتها لتلك التصورات ذات الطابع الأسطوري.
إن صورة الملِك والمملكة بكل ما يساندها من صور جزئية تعكس دلاليًّا واقعًا مثاليًّا تاريخيًّا محددًا، كما تعكس تصورات ثقافية تاريخية، والتمسك بالدلالة الحرفية للصورة — التي تجاوزتها الثقافة وانتفت من الواقع — يُعَد بمثابة نفي للتطور وتثبيت صورة الواقع الذي تجاوزه التاريخ. وعلى النقيض من الموقف التثبيتي يكون التأويل المجازي نفيًا للصورة الأسطورية، وتأسيسًا لمفاهيم عقلية تحقيقًا لواقع إنساني أفضل. من هنا نفهم أن المعارك التي خاضها المعتزلة في مجال تأويل النصوص الدينية ضد الحَرْفيين لم تكن مجرد معارك فكرية ذات طابع نخبوي، بل كانت معارك حول صورة الواقع الاجتماعي وما يرتبط به من مفاهيم ثقافية. وليس غريبًا والحال كذلك أن يتمسك الأشاعرة بصورة الملِك المتسلط الذي يعذب ولا يبالي، والذي: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (الأنبياء: ٢٣)، في حين يتمسك المعتزلة بنفي الظلم عن الأفعال الإلهية تثبيتًا لمبدأ «العدل» في الواقع والمجتمع.
وهكذا قرأ المسلمون كل ما ورد في القرآن عن بيع المؤمنين أنفسهم وأموالهم لله في مقابل الجنة، وكذلك فهموا كل ما ورد من وصف للعَلاقة بين الله والمؤمنين بأنها عَلاقة «تجارة». إن مفردات «التجارة» و«القرض» و«البيع والشراء» ومثيلاتها مفردات لغوية تنتمي إلى مجال دلالي محدد. وكثرة ورودها في النص القرآني تكشف عن انعكاس الواقع الثقافي دلاليًّا في النص، ولكن ورودها المجازي لا الحقيقي كاشف عن أن الانعكاس ليس آليًّا مرآويًّا، إذ للنص آلياته اللغوية الخاصة التي يُعَد المجاز من أهمها.
والخطاب الديني المعاصر لا يعارض التأويل المجازي للنماذج السالفة من النص القرآني، بل يؤكد هذا التأويل ملحًّا على طابعه البلاغي. ولأنه خطاب لا ينطلق من فهم علمي للنصوص يناقض نفسه حين يرفض تأويل صورة الملك والمملكة وكل ما يساندها من صور جزئية — كالعرش والكرسي — تأويلًا مجازيًّا، يتمسك بدلالاتها الحرفية تمسكًا يكشف عن الطابع الأيديولوجي له. ويتكشف الطابع الأيديولوجي للخطاب الديني في تعامله مع النصوص الدينية، حين يلجأ في بعض الأحوال للوثب على المعنى الحرفي التاريخي ملبسًا إياه معنى جديدًا يخدم أهدافه وتوجهاته.
والذي نعنيه بالخصوص والعموم هنا هما جانبا الدلالة في النصوص، فالخاص هو ذلك الجانب الدلالي المشير إشارة مباشرة إلى الواقع الثقافي التاريخي لإنتاج النص، والعام هو الجانب الحي المستمر القابل للتجدد مع كل قراءة. إنه بعبارة أخرى الفارق بين الدلالة الجزئية الوقتية والدلالة العامة الكلية. والحديث عن جانبين هو من قبيل التبسيط والفصل المنهجي لأغراض الدرس والتحليل، وقد سبق لنا بيان أن الجزئي والخاص يمكن أن يتحول بالتأويل المجازي إلى الكلي والعام.
لكن بعض الدلالات الجزئية — خاصة في مجال الأحكام والتشريع — يسقطها تطور الواقع الاجتماعي التاريخي، وتتحول من ثَم إلى شواهد دلالية تاريخية. ومعنى ذلك أننا بإزاء ثلاثة مستويات للدلالة في النصوص الدينية: المستوى الأول مستوى الدلالات التي ليست إلا شواهد تاريخية لا تقبل التأويل المجازي أو غيره، والمستوى الثاني مستوى الدلالات القابلة للتأويل المجازي، والمستوى الثالث مستوى الدلالات القابلة للاتساع على أساس «المغزى» الذي يمكن اكتشافه من السياق الثقافي/الاجتماعي الذي تتحرك فيه النصوص، ومن خلاله تعيد إنتاج دلالتها. وكل مستوى من هذه المستويات الثلاثة يحتاج إلى دراسة خاصة لا بد لها من الاشتباك مع أطروحات الخطاب الديني القديم والحديث على السواء.
٢
ومن الدلالات التي أسقطها التطور التاريخي ويجب على الفكر الديني مناقشتها بوصفها شواهد تاريخية، مسألة العَلاقة بين المسلمين وغير المسلمين. وفي الخطاب الديني المعاصر نجد المتشددين يتمسكون بحرفية «أخذ الجزية» و«الخضوع» بينما يحاول المعتدلون تأكيد مبدأ «المساواة» والإلحاح على المشاركة في الوطن أو التساوي من حيث «المواطنة». ومن المؤكد أن الاستناد إلى دلالة النص الحرفية يقوي موقف المتشددين في مواجهة المعتدلين الذين لا يقدمون حلًّا أو تأويلًا لتلك النصوص. لقد أدرك المسلمون أن ما ورد في النصوص عن ضرورة قتل المشركين الذين لا ينطبق عليهم مصطلح «أهل الكتاب» ورد على سبيل التهديد والوعيد، لذلك لم تحدث عمليات قتل جماعية لأولئك الذين لم يدخلوا الإسلام ولم يكونوا من أهل الكتاب. ولقد اجتهد فقهاء المسلمين واعتبروا أهل فارس من المجوس عبدة النار، وكذلك المانوية والزرادشتية، بل والهندوس، مثل أهل الكتاب على سبيل القياس، وقبلوا منهم الجزية. وكان الدافع وراء الاجتهاد مصلحة الأمة التي كانت ستصاب بالضرر دون شك لو تم ارتكاب مذابح جماعية للقوى المنتجة في المجتمعات المفتوحة. كانت المصلحة بحسب واقعهم الاجتماعي/التاريخي وبحسب رؤية الفقيه لهذا الواقع هي أخذ الجزية. والآن وقد استقر مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن الدين واللون والجنس لا يصح التمسك بالدلالات التاريخية لمسألة الجزية.
وإذا كنا على المستوى الوطني والقومي نحارب العنصرية الصهيونية التي تصنف الناس حسب عقائدهم، ونرفض قيام الكِيان الصهيوني على أساس العقيدة، ونطالب بدولة واحدة لكل الأديان، فما بالنا على مستوى الخطاب الديني نكرس ما نرفضه في الخطاب السياسي. إن التمسك بالدلالات الحرفية للنصوص في هذا المجال لا يتعارض مع مصلحة الجماعة فحسب، ولكنه يضر الكِيان الوطني والقومي ضررًا بالغًا، وأي ضرر أشد من جذب المجتمع إلى الوراء، إلى مرحلة تجاوزتها البشرية في نضالها الطويل من أجل عالم أفضل مبني على المساواة والعدل والحرية.
السحر والحسد والجن والشياطين مفردات في بنية ذهنية ترتبط بمرحلة محددة من تطور الوعي الإنساني، وقد حوَّل النص الشياطين إلى قوًى معوِّقة، وجعل السحر إحدى أدواتها لاستلاب الإنسان: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (البقرة: ١٠٢).
ومما له دلالة أن كل الإشارات القرآنية إلى السحر إنما وردت في سياق القص التاريخي، بمعنى أن النص يتحدث عنه بوصفه شاهدًا تاريخيًّا. وموقف النص منه هو موقف التجريم كما هو واضح من سياق النص السابق. ولا يصح الاستشهاد بما يُروى من السحر الذي حدث للنبي على يد أحد اليهود، فقد كان الواقع الثقافي يؤمن بالسحر ويعتقد به. وإذا كنا ننطلق هنا من حقيقة أن النصوص الدينية نصوص إنسانية بشرية لغة وثقافة، فإن إنسانية النبي بكل نتائجها من الانتماء إلى عصر وإلى ثقافة وإلى واقع لا تحتاج إلى إثبات.
ومما له دلالته أن السورة التي تتحدث عن السحر والحسد حديثًا تفصيليًّا سورة مكية هي سورة الفلق، حيث تتضمن إشارة إلى «النفاثات في العقد» وإلى شر الحسد والحاسد. فيما عدا هذه السورة نجد أن كلمة الحسد استُخدمت في القرآن استخدامًا مجازيًّا، فقد وردت في (سورة البقرة: ١٠٩): وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وترد في سياق مشابه والدلالة المجازية نفسها في (سورة النساء: ٥٤)، وكذلك في (سورة الفتح: ١٥). تلك كل المواضع التي وردت فيها الكلمة في القرآن، ثلاثة منها بالمعنى المجازي المستخدم اليوم في لغتنا الحية، وموضع واحد بالدلالة الحرفية المرتبطة بنسق من العقائد والتصورات شبه الأسطورية القديمة.
إن التحويل الدلالي الذي أحدثه النص في استخدام كلمة «حسد» له مغزاه دون شك في الكشف عن اتجاه النص لتغيير بنية الثقافة السائدة، ونقلها من مرحلة «الأسطورة» إلى بوابات «العقل». وكل تأويل للنصوص الدينية في اتجاه عملية الانتقال هذه يكون تأويلًا من داخل النص لا مفروضًا عليه من خارج. أما تثبيت المعنى الديني عند مرحلة أراد النص أن يتجاوزها بآلياته اللغوية الخاصة، فهو التأويل المفروض من خارج، بل في الحقيقة «التلوين» الأيديولوجي النفعي البرَجماتي، وهو في رأينا التأويل المستكره.
ومن مظاهر تثبيت المعنى الديني الخطرة في الخطاب الديني المعاصر استدعاء كلمة «الربا» — وهي كلمة تجاوزتها اللغة في الاستعمال لاختفاء الظاهرة التي تدل عليها من المعاملات الاقتصادية — للدلالة على نمط من التعامل الاقتصادي يختلف في بنيته وفي مستوى تعقيده عن النمط الذي يدخل الربا في تركيبه. ودون الدخول في محاورات فقهية عن علة التحريم ومناطه نقول: إن استدعاء كلمة «الربا» للدلالة على ما يسمَّى في النظام الاقتصادي الحديث والمعقد باسم «الأرباح» أو «الفوائد» إنما هو بمثابة الإصرار على ارتداء الجلباب في وسائل المواصلات المزدحمة ذات الإيقاع السريع، والتعرض من ثَم لخطر الوقوع تحت عجلات السيارات في الطريق العام.
وعلينا أن نلاحظ أن الأمرين — ارتداء الجلباب واستدعاء كلمة الربا — يَتمَّان باسم الصحوة الإسلامية. إنه محاولة لإلباس الجديد والعصري ثياب القديم، فتستدعى «الشورى» — مثلًا آخر — بديلًا للديمقراطية، رغم اختلاف بنية الواقع وتطور آليات الفعل السياسي. والأمثلة كثيرة على إصرار الخطاب الديني على استخدام اللغة القديمة وإحيائها طردًا للغة الحية المعبرة عن الواقع، وذلك لتغييب الواقع لحساب الحياة في الماضي. لقد شاع استخدام عبارات مثل «الاستكبار العالمي»، و«المستضعفون في الأرض» للدلالة على عَلاقة الدول الكبرى بالدول الصغرى، وهي عبارات تردُّ العَلاقة المعقدة الى تصنيفات أخلاقية، فتغيب حقيقة الصراع وتتميع حدوده.
استخدام كلمة «الربا» للدلالة على أرباح النظم الاقتصادية الحديثة وفوائدها ليس مجرد حكم فقهي موضوعي مجرد، فلا وجود لأحكام فقهية من هذا النوع، بل هو جزء من آلية الخطاب الديني لإعادة صياغة الحاضر في قوالب الماضي. وإذا كان النص الديني كما لاحظنا في مناقشة السحر والحسد يسعى لنقل الواقع التاريخي الذي أنتجه إلى مرحلة أكثر تطورًا من خلال آلياته اللغوية الخاصة، فإن الخطاب الديني في سعيه لإحياء اللغة القديمة — لغة النص — التي تجاوزها تطور الواقع يتناقض مع النص ذاته، وإن بدا على السطح أنه يحاول التوافق معه.
إن الخطاب الديني في مناقشته للنظم البنكية الحديثة يلجأ دائمًا لآلية القياس الفقهي، الذي يؤدي في الواقع إلى كلٍّ من «التحريم» أو «التحليل». ويتوقف الحكم على طبيعة «العلة» التي يكشف عنها الاجتهاد لتحريم الربا. لذلك لم يكن غريبًا — والاجتهاد ليس إلا صياغة لموقف الفقيه من الواقع ومشكلاته — أن يقف أنصار شركات توظيف الأموال المعادون لتدخل الحكومة في شئونها إلى جانب «التحريم»، وأن يقف المفتي ومعه قليلون إلى جانب «التحليل». والحقيقة أن النظم البنكية لا تتعامل بالربا، بل تمنح أرباحًا للمُودِعين وتجني فوائد من المقترضين، ولا عَلاقة بين النظم البنكية الحديثة وبين الربا الذي حرمه القرآن وشدد في النكير على آخذيه. وعلينا أن نلاحظ أن القرآن لم يتعرض بالنكير — أو حتى باللوم — للمحتاجين المضطرين.
لكن السؤال الجوهري في قضية النظام الاقتصادي الرأسمالي وما يرتبط به من نظم بنكية تقوم على الأرباح والفوائد لم يُطرح من جانب الخطاب الديني. وتفسير غياب السؤال — أو بالأحرى تغييبه — ليس عسيرًا، ما دام الخطاب الديني يتبنى باسم الإسلام مفاهيم الاقتصاد الرأسمالي بكل آلياته من حرية الملكية وإطلاق المجال لآليات السوق في العرض والطلب، ولكنها مفاهيم لم يعد لها مثل هذا الحضور الحاد الغليظ في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة. مرة أخرى، إنه تناقض الخطاب مع ذاته نتيجة لتناقضه مع النص الذي يوهمنا أنه ينطلق من معطياته.
٣
وسنلاحظ هنا أن الخطاب الديني في تأسيسه للحاكمية على «العبودية» يلجأ لآليتين متناقضتين، إذ يلجأ إلى آلية الاحتماء بالمعنى الحرفي التاريخي عن عبودية الإنسان لله، ويلجأ في تأسيس مفهوم «الحاكمية» إلى آلية التوسيع الدلالي لكل ما ورد في القرآن من حديث عن «الحكم» أو «التحكيم». وفي كلتا الآليتين يتم تغييب دلالات النصوص بالوثب على بُعدها التاريخي، والوثب على الثقافة والواقع المعاصرَين للارتداد بهما إلى عصر إنتاج النصوص الدينية.
والعبودية على خلاف المفاهيم والمفردات اللغوية التي ناقشناها من قبل، مفهوم لا يزال له وجود في الثقافة، ولا يزال الدال اللغوي الذي يشير إليه مستعملًا في اللغة رغم أن النظام الاجتماعي/الاقتصادي الدال عليه في أصل الاستخدام اللغوي وحقيقته لم يعد له وجود. وإذا كانت مفردات السحر والحسد والربا أصبحت مجرد دوالَّ تاريخية من حيث دلالتها على الأنساق التي كانت تشير إليها في الماضي، فإن استخدامها المعاصر — خاصة السحر والحسد — لا يكاد يستدعي دلالتها التاريخية.
وليست لفظة «العبودية» في الاستخدام المعاصر من قبيل المجازات الميتة، فأشكال امتلاك الإنسان للإنسان وسيطرته عليه واستغلاله له لا تزال قائمة بأشكال متعددة في المجتمعات المعاصرة. ولعله ليس من قبيل المبالغة أن نعتبر «التفرقة العنصرية» بكل ألوانها وأشكالها، سواء مارسها البيض ضد السود في أفريقيا وأمريكا، أو مارسها الصهاينة المحتلون ضد العرب من أبناء الأرض، شكلًا حديثًا من أشكال الاستعباد. وتتعدد العبودية وتختلف مستوياتها، لكنها لا تعني الامتلاك الكامل للروح والجسد كما كان الحال في النظام الاجتماعي/الاقتصادي المسمى «العبودية».
ويغفل الخطاب الديني بعدًا آخر في النص الديني لعَلاقة الله بالإنسان — خاصة الإنسان المؤمن — هي عَلاقة «الحب» التي تنبه لها الخطاب الصوفي وألح عليها. ولسنا نريد هنا أن نساجل الخطاب الديني بقدر ما نسعى إلى بلورة وعي بأنماط الدلالة في النصوص الدينية. وإذا كنا قد ناقشنا فيما سبق مغزى الموقف الإسلامي من قضية العبودية رغم أنها كانت نظامًا اجتماعيًّا/اقتصاديًّا مستقرًا، فإن النتائج التي استلهمناها هناك يمكن أن تتأصل من واقع التحليل الدلالي للنصوص التي يستند إليها الخطاب الديني لترسيخ مفهوم العبودية وتأكيده.
وهناك مجموعة من الملاحظات دالة في طبيعة الاستخدام القرآني لكلمة «عبد»: الملاحظة الأولى أن الكلمة لم تُستخدم بمعنى العبد المملوك غير الحر بالمعنى التاريخي إلا ثلاث مرات فقط، مرة بطريقة مباشرة: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى (البقرة: ١٧٨)، ومرة بطريقة ضمنية: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ (البقرة: ٢٢١)، والمرة الثالثة وردت الكلمة محددةً دلاليًّا بالوصف: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ (النحل: ٧٥). الملاحظة الثانية أن صيغة الجمع «عبيد»، وهي الصيغة التي تُستخدم عادة في الدلالة الحرفية، استُخدمت في القرآن خمس مرات فقط، كلها في سياق نفي الظلم — ظلم العبيد — عن الله تعالى (انظر: آل عمران: ١٨٢، الأنفال: ٥١، الحج: ١٠، فصلت: ٤٦، ق: ٢٩). الملاحظة الثالثة أن صيغة الجمع «عباد» هي الصيغة الأكثر دورانًا في النص القرآني وهي لا تشير إلى العبودية بالمعنى الحرفي إلا في آية واحدة هي: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ (النور: ٣٢). الملاحظة الرابعة أن الدلالة الأكثر دورانًا في القرآن لكلمة عبد هي الإنسان: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (سبأ: ٩) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (ق: ٨). وإضافة الكلمة لضمير اسم الله، سواء في صيغة المفرد أو في صيغة الجمع — عباد — تكون دائمًا بمعنى الإنسان أو البشر، أحيانًا تأتي في سياق الحديث عن الأنبياء «عبده» «عبدنا» عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا … إلخ.
والدلالة التي يمكن الخروج بها من الملاحظات الأربع السابقة أن النص القرآني لا يصوغ العَلاقة بين الله والإنسان على أساس «العبودية» بل يصوغها على أساس «العبادية»، والفارق بينهما ليس فارقًا هينًا، لذلك احتاج للمقابلة بين الحر والعبد أو للوصف بالمملوكية عندما كان السياق سياق حديث عن العبودية (الملاحظة الأولى). ولعل النص في صياغته للواقع لجأ إلى التفرقة الدلالية بين العبيد والعباد، تاركًا الصيغة الأولى الأكثر تداولًا في الثقافة لتدل على غير المؤمنين، في حين خصص الصيغة الثانية للدلالة على المؤمنين. ومعنى هذه التفرقة في دلالة استخدام الصيغتين أن القرآن أحدث تحويلًا في دلالة العبودية بحيث صارت تعني عدم الخلاص بالإيمان بالعقيدة الجديدة. لذلك أصبحت صيغة المفرد «عبد» دالةً على الإنسان حرًّا كان أم مملوكًا.
وليس ثمة مجال للقول بأن التفرقة بين صيغتي الجمع — عبيد وعباد — كانت معروفة قبل الاستخدام القرآني، كذلك ليس ثمة مجال للقول إن اشتقاق كلمة عبد — التي جمعها عباد — من «العبادية» مسألة كانت مطروحة قبل النص. وما ورد في اللسان من تفرقة بين الدلالتين يستند كله إلى الشواهد القرآنية والأحاديث. بل إن اللسان يجعل كلمة العبد معناها «الإنسان حرًّا أو رقيقًا، يذهب إلى أنه مربوب لباريه، جل وعز … والعبد المملوك خلاف الحر، قال سيبويه: هو في الأصل صفة». ولكي يؤكد صاحب اللسان أن معنى العبد الذي هو الإنسان معنًى مرتبط بالإسلام، يورد حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ: «لا يقُلْ أحدكم لمملوكه: عبدي وأَمَتي، ليقُلْ: فتاي وفتاتي» ويعلق عليه قائلًا: «هذا على نفي الاستكبار عليهم وأن ينسب عبوديتهم إليه، فإن المستحق لذلك الله تعالى هو رب العباد كلهم والعبيد.»
لا شك أن التحويل الدلالي الذي أحدثه القرآن، بالإضافة إلى إلحاح النصوص على المساواة بين البشر وجعل أساس التفرقة الإيمان والعمل الصالح، يجعلنا نؤكد أن الإسلام في اتجاه مناقض لاتجاه تثبيت أركان النظام العبودي. ولعلنا لا نكون مغالين حين نقول إننا إذا وضعنا في الحسبان طبيعة الظرف التاريخي، الاجتماعي/الاقتصادي، الذي تكونت فيه النصوص لاكتشفنا أن الموقف الإسلامي موقف متقدم جدًّا.
ولا بد والحال كذلك أن يكون تعميق الاتجاه الأصلي للموقف الإسلامي هو الغاية والهدف، بل لا بد أن يكون السير في الاتجاه نفسه هو معيار مشروعية الاجتهاد وضمان صحته وسلامته. وإذا كان الموقف الإسلامي من العبودية هو كما رأينا السير في اتجاه إلغائها فإن إصرار الخطاب الديني على اختصار عَلاقة الإنسان بالله في بعد «العبودية» بالمعنى الحرفي التاريخي، إصرار يصادم الموقف الإسلامي ذاته، بالإضافة إلى أنه يصادم النصوص بإلغاء البعد الآخر المتمثل في عَلاقة «الحب». إن الخطاب الديني لا يكتفي فقط بتحويل المجاز إلى حقيقة في حركة ارتدادية بدلالة النصوص وبالموقف الذي تصوغه، بل يقوم بعملية إخفاء متعمَّدة لجانب من دلالة النصوص التي تحدد العَلاقة بين الله والإنسان. وإذا كانت العَلاقة بين الله والإنسان عَلاقة «عبادية» لا عبودية، عبادية مشربة بالحب والرحمة — كما يطرح التحليل الدلالي للنصوص — فلا تفسير لأطروحات الخطاب الديني وتأويلاته إلا الأيديولوجيا، أو الوعي الزائف التبريري، سواء كان الخطاب قديمًا أم حديثًا أم معاصرًا.
«الحاكمية» مفهوم يتأسس في أطروحات الخطاب الديني على مقولة «العبودية»، لكن البناء لا ينهار هنا بمجرد هدم الأساس، إذ لكلٍّ من المفهومين جذر مستقل في تأويل الخطاب الديني للنصوص الدينية. وإذا كانت آلية التأويل التي تؤسس العبودية — كما أسلفنا — الارتداد بالمجاز إلى الحقيقة، وهو نوع من «التضييق» الدلالي، إذ المجاز اتساع في الدلالة، فإن آليته — آلية الخطاب الديني في تأويل النصوص — في تأسيس الحاكمية هي على العكس من ذلك: التوسيع الدلالي. لكن هذا التوسيع — أو الاتساع — الدلالي لا ينهض على أساس أي نمط من أنماط الاتساع المجازي، وإنما ينهض على أساس من التماثل الصوتي بين دلالتين مختلفتين.
والآيات الأربع من سورة المائدة (٤٤–٤٧) تُنتزع منها ثلاث عبارات خارج السياق، وتُنتزع الآيات كلها من سياق الاستخدام القرآني للدال اللغوي ومشتقاته، ويتم الوثب الدلالي من الحكم بمعنى الفصل في الوقائع الجزئية بين المتخاصمين للدلالة على الحكم بالمعنى السياسي والاجتماعي.
وفي كلتا الحالتين لا يعتمد التأويل على بنية النص اللغوية الدلالية، ولا على السياق الخارجي المحدد لدلالته، وإنما يعتمد على «التلوين» من الخارج. وبصرف النظر عن حسن النوايا أو سوئها فالمحصلة واحدة: إهدار الدلالة لحساب الأيديولوجيا. وسواء كان الإهدار بتوسيع الدلالة أو بتضييقها فالنتيجة هي التصادم مع النص وإفقاد الموقف الإسلامي مغزاه التقدمي الإنساني.
٤
إن المعنى يمثل الدلالة التاريخية للنصوص في سياق تكونها وتشكلها، وهي الدلالة التي لا تثير كثير خلاف بين متلقي النص الأوائل وقرائه. لكن الوقوف عند دلالة المعنى وحدها يعني تجميد النص في مرحلة محددة وتحويله إلى أثر أو شاهد تاريخي. ولأن للنصوص الدينية في الثقافة المعنية مكانةً معرفية متميزة، فإن دلالتها لا تتوقف عن الحركة، وكثيرًا ما يقع الصراع بين القوى الاجتماعية المختلفة بين أبناء الدين الواحد، ويكون الخلاف حول دلالة النصوص وجهًا من أوجه ذلك الصراع، بل أبرز أوجهه وتجلياته.
ولأن الخلاف عادة ما يكون ملتبسًا ومعقدًا ومتعدد الجوانب والأطراف تختلط فيه المعرفة بالأيديولوجيا، ويظل الجميع يديرون خلافهم على أرض الدلالة والمعنى، زاعمين — بدرجات متفاوتة من الحذر — أن فهمهم وتأويلهم هو «المعنى» المقصود تحديدًا. وحين يختلط المعنى بالقصد — في النصوص الدينية أو غيرها — يصبح التأويل ضربًا من «التنجيم»، ويتحول في مجال النصوص الدينية بشكل خاص إلى فرض المفاهيم الخارجية الميتافيزيقية عن الله — قائل النص — على دلالة النصوص، وتصبح الدلالة من قبيل تقرير ما سبق تقريره باستنطاق النصوص لا بتحليلها.
والفرق بين المعنى والمغزى من منظور دراستنا هذه يتركز في بعدين غير منفصلين: البعد الأول أن المعنى — كما أسلفنا في الفصل الثاني — ذو طابع تاريخي، أي أنه لا يمكن الوصول إليه إلا بالمعرفة الدقيقة لكل من السياق اللغوي الداخلي والسياق الثقافي الاجتماعي الخارجي. والمغزى — وإن كان لا ينفك عن المعنى بل يلامسه وينطلق منه — ذو طابع معاصر، بمعنى أنه محصلة لقراءة عصر غير عصر النص. وإذا لم يكن المغزى ملامسًا للمعنى ومنطلقًا من آفاقه تدخل القراءة داخل دائرة «التلوين» بقدر ما تتباعد عن دائرة «التأويل». البعد الثاني للفرق بين المعنى والمغزى — وهو بُعد يُعَد بمثابة نتيجة للبعد الأول — أن المعنى يتمتع بقدر ملحوظ من الثبات النسبي، والمغزى ذو طابع متحرك مع تغير آفاق القراءة وإن كانت عَلاقته بالمعنى تضبط حركته وترشدها، أو هكذا يجب أن تفعل.
وقد يبدو أن القول بضرورة ملابسة المغزى للمعنى والانطلاق من آفاقه لا يختلف اختلافًا عن اعتماد القياس الفقهي على اكتشاف «العلة»، وجعل هذا الاكتشاف رابطةً لمدِّ دلالة النصوص إلى وقائع شبيهة لم تنطق بها النصوص. والحقيقة أن التشابه سطحي ظاهري والخلاف جذري عميق. العلة التي هي مناط الحكم عند الفقهاء قد تكون جزءًا من الدلالة والمعنى — أي منصوصًا عليها بالمنطوق أو الفحوى — وقد يكون الوصول إليه محض اجتهاد من الفقيه. وفي الحالتين يكون القياس جزئيًّا، أي مرتبطًا بحكم جزئي من الأحكام الشرعية، ولا يتجاوزها إلى غيرها من الأحكام، فضلًا عن أن تمتد آلية القياس — مع جزئيتها هذه — إلى نصوص غير نصوص الأحكام. إن الفقيه القديم لم يكن يكشف عن المغزى، وغاية ما وصل إليه الحديث عن المقاصد الكلية التي تم حصرها في الحفاظ على الدين والنفس والعقل والعِرض والمال، وكلمة «الحفاظ» هنا ليست خالية من الدلالة الكاشفة عن طبيعة الموقف الفقهي القديم.
ليس «المغزى» إذن هو المقاصد الكلية كما حددها الفقهاء، بل هو ناتج قياس الحركة التي أحدثها النص في بنية اللغة ومن ثَم في الثقافة والواقع. ولا بد مع قياس الحركة من تحديد اتجاهها، فبعض النصوص لا تكتفي بتَكرار اللغة الشائعة وتقوم من ثَم بتثبيت حركة الواقع والثقافة فقط، بل ترتد في بنيتها اللغوية إلى الماضي مكررة إياه ومرتدة بالثقافة والواقع إلى الوراء. وغني عن البيان أن «المقياس» المحدد لحركة النص ولاتجاهها مقياس معاصر، ومعنى ذلك أن «المغزى» ليس محكومًا فقط بضرورة ملابسته للمعنى، بل توجه حركته آفاق الواقع الراهن والعصر. لذلك قلنا إن «المغزى» متحرك — بحكم ملابسته لآفاق الحاضر والواقع — وإن كانت حركته لا بد أن تكون محكومة بملامسة «المعنى» ولذلك قلنا إن «المعنى» ثابت ثباتًا نسبيًّا، فاكتشاف المعنى التاريخي — الذي فهمه المعاصرون للنص — عملية لا تتحقق مرة واحدة وتتوقف. إنها مثل دراسة التاريخ عملية مستمرة من إعادة الاكتشاف. وإذا كان «المغزى» كما حددناه يختلف جذريًّا عن القياس الفقهي، فهو علاوة على ذلك يمكن أن يكون محددًا أكثر انضباطًا لمقاصد الوحي الفعلية. وربما تتضح الفروق بمثال تطبيقي.
لكن المعاني التي تدل عليها النصوص بشكل مباشر ليست كل القضية، إذ من الطبيعي أن تكون حركة النص التشريعية غير مصادمة للأعراف والتقاليد والقيم التي تمثل محاور أساسية في النسق الثقافي والاجتماعي. وليس معنى عدم التصادم أن النصوص لا تحدث خلخلة في نسق تلك القيم، خلخلة عن المغزى المستكن خلف المعنى. لكنها خلخلة لا تحدث نتائجها إلا من خلال حركة الواقع بما ينتظم في هذه الحركة من صراع اجتماعي فكري. وقد مالت حركة المجتمع العربي الإسلامي في القرن الأول الهجري إلى تثبيت القيم والتقاليد والأعراف التي حاولت النصوص خلخلتها، لذلك مالت الكفة دائمًا في الثقافة العربية لتثبيت المعنى الديني، وغاب من أفقها اكتشاف المغزى باستثناء جماعات صغيرة ظل تأثيرها محدودًا.
ورغم أن الخطاب الديني يدرك الطبيعة التدريجية للخطاب القرآني وللنصوص عمومًا، فإنه يقصر هذه الطبيعة على ما هو مذكور في الخطاب (تحريم الخمر على ثلاث مراحل، حقيقة نسخ بعض الأحكام). لكن الدراسات الحديثة لا تتعامل مع النصوص من خلال المذكور فقط، بل تعطي اهتمامًا للمضمر والمسكوت عنه، والمدلول عليه بطريقةٍ ما في الخطاب ذاته. والتدرج في الخطاب الديني التشريعي وغير التشريعي يكشف عن طبيعة العَلاقة بين النص والثقافة المنتجة له من جانبين: الجانب الأول جانب التشكل حيث تكون الثقافة/اللغة فاعلًا والنص مفعولًا. والجانب الثاني جانب التشكيل — البنية اللغوية الخاصة للنص — حيث تنعكس العَلاقة فيصبح النص فاعلًا والثقافة/اللغة مفعولًا.
والمسكوت عنه في الخطاب يمثل إحدى آليات النص في التشكيل بما هو جزء من بنيته الدلالية. وقد يكون المسكوت عنه مدلولًا عليه في الخطاب بطريقة ضمنية، وقد يكون مدلولًا عليه بالسياق الخارجي. وكلتا الطريقتين في الدلالة على المسكوت عنه موجودة في القضايا التي نناقشها الآن، فالمسكوت عنه المدلول عليه في السياق الخارجي نجده في قضايا المرأة عمومًا وفي مسألة نصيبها في الميراث خصوصًا. أما المسكوت عنه المدلول عليه في الخطاب ضمنيًّا فنجده في قضية المواريث بشكل عام.
والحال كذلك ألا تكون المعاني الواردة في النصوص عن المرأة — بما في ذلك توريثها نصف نصيب الذكر — ذات مغزًى يتحدد بقياس طبيعة الحركة التي أحدثها النص وبتحديد اتجاهها؟ إنها حركة تتجاوز الوضع المتردي للمرأة وتسير في اتجاه المساواة المضمرة والمدلول عليها في الوقت نفسه. ولا يتم الكشف عن المضمر في قضية المرأة ومساواتها بالرجل خارج سياق الكشف عن حركة النص الكلية، وهنا تنكشف دلالة المضمر كاملة حين توضع في سياق حركة النص وموقفه من «العبودية» التي تعرضنا لها فيما سبق. المضمر الكلي تحرير الإنسان — الرجل والمرأة — من أسر الارتهان الاجتماعي والعقلي، لذلك طُرح «العقل» نقيضًا ﻟ «الجاهلية»، والعدل نقيضًا للظلم، والحرية نقيضًا للعبودية. ولم يكن يمكن لتلك القيم إلا أن تكون مضمرة مدلولًا عليها، فالنص لا يفرض على الواقع ما يتصادم معه كليًّا بقدر ما يحركه جزئيًّا. ولعل مسار الاجتهاد قد تحدد الآن في مسألة ميراث البنات، بل في كل قضايا المرأة المثارة في واقعنا، والتي يصر الخطاب الديني على التمسك بمناقشتها في حدود معاني النصوص مهدرًا المغزى، حاكمًا على التاريخ بالثبات وعلى دلالة النصوص بالجمود.
لكن مسألة ميراث البنات كما ناقشناها من زاوية وضع المرأة في مجتمع ما قبل الإسلام يجب أن تُناقَش من جانبها الآخر: قضية الميراث في الإسلام بشكل عام. والمعاني المدلول عليها في النصوص تقسِّم الأنصبة طبقًا لعَلاقات العصبية الأبوية، وهذا طبيعي في المجتمع القائم على تلك البنية العصبية. وفي سورة النساء في آية المواريث (رقم ١١) تُدرَج عبارة ذات دلالة على المسكوت عنه، تلك هي: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا، وهي عبارة يمكن أن تُفهَم على وجهين: الوجه الأول أنها تردُّ على المعترضين على توريث البنات بدعوى عدم النفع، وهذا هو الفهم المتفق مع سياق سبب النزول، أي السياق الخارجي، ولا يتعارض مع البنية اللغوية. والوجه الثاني يربطها بفاصلة الآية: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ليقصر المعنى على جهل الإنسان في مقابل علم الله، فاصلًا الآية عن السياق الخارجي. في هذا الوجه الثاني يتم التمسك بالمعنى المباشر وإهدار المغزى، وإذا كانت العبارة ترد على المعترضين — بحسب الوجه الأول — فإنها تنحِّي معيار «المنفعة» في أمر الميراث جانبًا.
والحقيقة أن المسكوت عنه المدلول عليه في مسألة المواريث يتجاوز ذلك إلى خلخلة معيار «العصبية» ذاته، فلا يجوز أن يرث غير المسلم المسلم مهما كانت درجة العصبية والقرابة. وهذا إخلال لا شك فيه بمسألة العصبية معيارًا للميراث. ولحرص الإسلام على عدم تركيز الثروة يمنع أن يجمع فرد واحد — أيًّا كانت درجة قرابته وعصبيته للمتوفَّى — بين الميراث والوصية. ولكن دلالة المسكوت عنه في مسألة الميراث لا تقف عند هذا الحد، بل تتحرك حركة غير مسبوقة في اتجاه العدل وتوزيع الثروة: «نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة.» صحيح أن النص هنا خاص لا عام، ولكن مغزاه واضح لمن أراد، غير أن الخطاب الديني الذي يدعو إلى الاقتداء بالنبي فيما هو أهون من ذلك كثيرًا وأشد خصوصية — كالثوب واللحية وطريقة الطعام — يصر هنا على الخصوصية. ولم يتساءل أحد عن الحكمة وراء المبدأ، ربما لأن التساؤل يفصح عن المسكوت عنه في شأن الميراث، وهو الإفصاح الذي يراد كتمه.
إن الخطاب الديني لا يعمِد إلى إخفاء الأسئلة لأنه يجهلها، بل لأن إثارتها تتناقض ومصالح القوى التي يعبر عنها ويساندها. وقد أثار منذ عدة شهور أمر «ضريبة التركات» و«رسم الأيلولة»، واكتشف فجأة أنهما حرام، وأن الدولة لا يصح أن تكون وريثًا — هكذا — مع الورثة الشرعيين. وما كان للخطاب الديني أن يصل إلى اكتشافه المذهل ذاك، لولا أن توجُّه الطبقة المسيطرة والموجِّهة هو توجُّه ضد العدل الاجتماعي الذي هو غاية التشريعات ومغزى دلالة النصوص. إن وقوف الخطاب الديني عند المعاني ينتهي، في التحليل الأخير، إلى الارتداد بالواقع وتجميد النصوص في الوقت نفسه، وهي نتيجة لا يمكن أن يقر بها، لأنها تفقده مبرر وجوده ذاته.
Hirsh, E.D Gr., Validity in Interpretation, Yale University Press, 1969, pp. 1-10.