الرسالة الأولى
أراك غريبًا يا صاحبي، وما عليك إلَّا أن تقول لي حتى أقوم بخدمةٍ لك ما استطعتُ.
وأحنِي جسمي، وأُقدِّم قدمًا نحوه وَفْق عادتنا، وأقول له: «تُحَدِّثُني نفسي، يا سيدي، بأنك لا تضيق ذرعًا بفضولي الصادق، فلا تضن عليَّ بمنحي شرف الاطلاع على دينك.»
ويجيب عن ذلك بقوله: «أجل، إن أبناء بلدك يُبدون كثيرًا من المجاملة والإكرام، ولكني لم أرَ بعد مَن أظهر منهم مثل فُضولك، فادخل، ولنتغدَّ معًا قبل كل شيء.»
وآتى بمجاملة سيئة أيضًا، فالإنسان لا يترك عاداته دفعةً واحدة، وذلك أنني، بعد أن تناولنا طعامًا بسيطًا طيبًا بُدئ بالصلاة لله وخُتم بالدعاء له، أخذت في سؤال صاحبي، سائرًا على غرار الكاثوليك الصالحين في طرحهم السؤال الآتي على الهُوغْنُو غيرَ مرة، فقلت له: «هل عُمِّدْت يا سيدي العزيز؟»
الكويكريُّ مجيبًا: «كلا، وكذلك زملائي لم يُعمَّدوا قط.»
وأعود فأسأل: «خيرًا، أنتم لستم نصارى إذن؟»
ويجيب الكويكريُّ بصوتٍ لين: «أي بُنيَّ، لا تقل هذا مطلقًا، فنحن نصارى، ولْنَسْعَ أن نكون نصارى صالحين، ولكننا لا نرى أن النصرانية تقوم على إلقاء ماءٍ باردٍ مع قليل ملحٍ على الرأس.»
وأرد مغاضبًا من هذا الإلحاد: «إذن، أنتم نسيتم أن يوحنَّا عَمَّدَ يسوع؟» ويقول الكويكري الحليم: «أجل، تلقَّى يسوع العماد من يوحنا، ولكنه لم يُعمِّد أحدًا قط، ولسنا تلاميذ يوحنا، بل تلاميذ يسوع.»
وأقول: «واهًا! كنت تُحرَّق في بلد محاكم التفتيش يا مسكين! … ويْ! دعني أُعمِّدُك لوجه الله وأجعل منك نصرانيًّا.»
ويجيب باتزانٍ: «لو لم يجب غير هذا لإرضاء ضعفك لصنعناه طوعًا، فنحن لا نُدين إنسانًا لقيامه بشعَار العماد، وإنما نعتقد أن من الواجب على من يجهرون بدين روحي مُقدَّس أن يَمْتنعوا، ما استطاعوا، عن القيام بشعائر يهودية!»
وأقول صارخًا: «هذا أمرٌ سيئ، شعائر يهودية؟!»
ويقول مواصلًا: «أجلْ يا بني، وهذه الشعائر هي من اليهودية، فلا يزال يوجد من اليهود من يَتعاطون معه مِثْل عماد يوحنا أحيانًا، وارجع البصر إلى الأزمنة القديمة تُخبرك بأن يوحنا لم يفعل غير تجديد هذا الشعار الذي كان العبريون يَعْملون به قبل ظهور يوحنَّا بزمنٍ طويل، كما كان أمر الحج إلى مكة بين الإسماعيليين، وقد تفضَّل يسوع فقَبِل عماد يوحنَّا كما خضع للختان، ولكن وجب إبطال الختان والغُسْل بالماء بعماد يسوع، بعماد الروح هذا، بغُسل النفس الذي يُنجِي الناس؛ ولذا كان يوحنا المعمدان يقول: «أنا أُعَمدكم بالماء للتوبة، وأما الذي يأتي بعدي فهو أقوى مني، وأنا لا أستحق أن أحمل حذاءه، وهو يعمِّدكم بالروح القدس والنار.» وكذلك كتب رسول الوثنيين الكبير بولس إلى أهل كُورِنْتُس يقول لهم: «لم يرسلني المسيح لأعمِّد، بل لأبشِّر.» وكذلك لم يعمِّد بولس بالماء غير شخصين، وكان هذا على الرغم منه، وقد خَتَن تلميذه تِيموتاوُس، وكان الرسل الآخرون يَختِنُون، كذلك جميع من يريدون، فهل أنت مختون؟»
وأجيبه بأنني لم أنَل هذا الشرف، ويقول: «حسنًا يا صاحبي، أنت نصرانيٌ من غير أن تكون مختونًا وأنا نصراني من غير أن أكون معمَّدًا؟»
وذاك هو الوجه الذي كان صاحبي العزيز يُفرط به، مع التمويه، في أمر ثلاثة نصوص أو أربعة نصوص من الكتاب المقدس تؤيد سره كما هو ظاهر، ولكن مع نسيانه وجود مائة نصٍّ دامغ له في خير دينٍ، وقد احترزت من مجادلته في شيءٍ لعدم وجود مطمعٍ في متعصبٍ، فليس من الرأي تحديث رجلٍ عن عيوب خليلته، وتحديث مدَّعٍ عن ضعف قضيته ومخاطبة مجذوبٍ بالبراهين، وهكذا قد انتقلت إلى أسئلةٍ أخرى، وقلت له: وأما تناول سرِّ القربان فكيف تقومون به؟
– لا نقوم بذلك مطلقًا.
– ماذا؟! لا تناول سرِّ قربانٍ مطلقًا؟!
– كلا، لا شيء آخر غير تناول سر قربان القلوب.
وهنالك استشهد الكويكري بالكتاب المقدس أيضًا، وهنالك بذل جهده لوَعْظي بنقضه تناول سر القربان، وقد خاطبني بلهجة مُلهمٍ ليثبت لي أن كلَّ تناول لسر القربان من اختراع الإنسان، وأن الإنجيل خالٍ من كلمة تناول سر القربان، وقد قال لي: «اغفر لي جهلي، فلم آتِك بجزء من مائةٍ من براهين ديني، ولكنك تستطيع أن تطَّلع عليها في بيانٍ عن إيماننا لرُوبِرت بارْكلي، فهذا من أروع الكتب التي دبَّجها يراع الإنسان، ويجمع أعداؤنا على أن هذا الكتاب بالغُ الخطر، وهذا يثبت مبلغ صوابه.» وأعد الكويكري بمطالعته، ويعتقد الكويكري أنني تحوَّلت إلى دينه!
ونلبس كذلك ثيابًا تختلف عما يلبس الآخرون بعض الاختلاف؛ وذلك لكي يكون لنا هذا تنبيهًا إلى عدم مشابهتهم، ويحمل الآخرون سمات دالة على مقامهم ونحن نحمل سمات التواضع النصراني، ونحن نتجنب مجالس اللهو والمشاهد واللعب؛ وذلك لأن مما يؤلمنا أن نملأ بالترهات قلوبًا يجب أن تكون عامرة بالله، ونحن لا نحلف مطلقًا، حتى أمام القضاء؛ وذلك لأننا نرى ألا يُخفض اسم الرب الأعلى في منازعات الناس الساقطة، وإذا ما وجب أن نمثل بين أيدي القضاة من أجل قضايا الآخرين (لأنه لا دعاوى لنا مطلقًا) وكَّدنا الحقيقة ﺑ «نعم» أو ﺑ «لا»، وصدَّق القضاة قولنا؛ وذلك على حين يحلف كثير من النصارى على الإنجيل زورًا، ونحن لا نذهب إلى الحرب أبدًا، وليس هذا عن خوفٍ من الرَّدى، فعلى العكس تُبْصرنا نبارك للساعة التي نلحق فيها بواجب الوجود، وإنما ينشأ ذلك عن كوننا لسنا ذئابًا ولا نمارًا ولا كلابًا، وإنما يأتينا ذلك عن كوننا بشرًا، عن كوننا نصارى، ولا يريد الرب الذي أمرنا بأن نحبَّ أعداءنا وبأن نصبر على الأذى من غير تذمر، أن نعبر البحر لذبح إخواننا لا ريب؛ وذلك عن جمع أناس من القتلة، لابسين ثيابًا حمرًا وقلانس طولها قدمان، مواطنين للجندية بصوتٍ يصدر عن ضرب عصوين صغيرتين على جلد حمار مشدودٍ جيدًا، فإذا ما تم النصر في المعارك أضاءت لندن بالأنوار، واشتعلت السماء بالأسهم النارية ودوَّى الهواء بصلوات الشكر وأصوات الأجراس والأراغِن والمدافع، وهنالك يعترينا حزنٌ عميقٌ على ما وقع من تقتيلٍ أوجب ابتهاج الجمهور.