الرسالة الحادية عشرة
إن من عادة نساء بلاد الشركس منذ زمنٍ قديم أن يلقحوا أولادهن بالجدري، حتى في الشهر السادس من عمرهم؛ وذلك ببضعهم في الذراع وإدخالهم إلى هذا الشق بَثرًا ينزعونه من جسم ولدٍ آخر بدقة، ويكون لهذا البثر في الذراع الذي أدخل إليه مثل عمل الخميرة في العجينة، ويَتُخُّ البثر في الذراع، وينشر في جميع الدم ما تم له من خصائص، وتصلح بثور الولد الذي لُقح بذلك البثر المصنوع لنقل المرض نفسه إلى أولادٍ آخرين، وهذه دورة تكاد تكون مستمرةً في بلاد الشركس، فإذا لم يوجد جدريٌّ في البلد لسوء الحظ فإنه يُبْحث عنه بجدٍّ في بلدٍ آخر يصاب بسنة سوء.
والذي أدخل إلى بلاد الشركس هذه العادة التي تلوح بالغة الغرابة لدى الأمم الأخرى هو سببٌ شائعٌ في جميع الأرض؛ أي حنان الأمهات والمصلحة.
والشراكسة فقراء، وبناتهم جميلاتٌ، وبناتهم أكثر ما يتاجرون به، وهم يزوِّدون بالحسان دوائر حريم شاهنشاه فارس: الصفويِّ، ودوائر حريم الأغنياء القادرين على الشراء وعلى إعالة هذه السلعة الثمينة، وهم ينشئون هؤلاء الفتيات على رقصاتٍ مملوءةٍ غلمةً وتخنثًا وعلى إيقادهن، بأدعى الأوضاع إلى الشهوة، شبق سادةٍ متكبرين أُعددن لهم، وتكرِّر هذه المخلوقات المسكينات دروسها كلَّ يوم مع أمهاتها كما يكرر بناتنا كتاب التعليم النصرانيِّ من غير أن يفقهن منه شيئًا.
والحق أن مما كان يقع غالبًا كون أمل الأب والأم يخيب بعد أن يلاقيا من المتاعب ما يلاقيان في سبيل منح أولادهما تربية صالحة، وذلك أن الجدري كان يحل بالأسرة فتموت به ابنة، وتفقد ابنةٌ أخرى عينها وتشفى ثالثةٌ متورمة الأنف، فيكون هؤلاء المسكينات قد قوِّضن بلا موارد، ومما كان يحدث أيضًا أن يتحول الجدريُّ إلى وباء فتقفُ التجارة لسنين كثيرةٍ، وهذا ما كان يؤدي إلى نُقصانٍ في سرايات فارس وتركية.
وتكون كل أمةٍ تاجرةٍ كثيرة السهر على مصالحها، وهي لا تهمل شيئًا من المعارف يمكن أن يكون نافعًا لتجارتها، وقد أبصر الشراكسة أنه لا يكاد يصاب بالجدريِّ التام واحدٌ من الألف مرتين، وأن من الواقع معاناة ثلاثةٍ أو أربعةٍ من الجدري الخفيف أحيانًا، ولكن من غير حدوث جدريَّين قاطعيْن خطرين مطلقًا؛ أي لم تحدث قط إصابة الواحد في حياته مرتين بهذا المرض، ومما لاحظه الشراكسة أيضًا أن الجدري عندما يكون خفيفًا، وأن فورانه لا يجد ما ينفذ غير جلدٍ ناعم دقيق، لا يترك أي أثرٍ في الوجه، فاستنبطوا من هذه الملاحظات الطبيعية أن الولد البالغ من العمر ستة أشهر أو سنةً إذا ما كان لديه جدريٌّ خفيف لم يمت منه ولم يبقَ أثره عليه، وعفي من هذا المرض في بقية أيامه.
ولذا صار لزامًا عليهم أن يحفظوا حياة أولادهم وجمال هؤلاء الأولاد وأن يلقحوهم بالجدري باكرًا، وهذا ما يصنعون بإدخالهم إلى جسم الولد بثرًا من أكمل جدري وأكثر ما يلائم منه، ولم يعوز التوفيق هذه التجربة، ولسرعان ما انتحل الترك، وهم أهل رصانة، هذه العادة، فلا تجد في الأستانة باشا لا يلقح ابنه وبنته بالجدري عند الفطام.
ووُجدَ من ادَّعوا أن الشراكسة اقتبسوا هذه العادة من العرب فيما مضى، ولكننا ندع تنوير هذا الأمر التاريخي لعالِم بِندِكتي لا يُعوِزه تأليف مجلداتٍ كثيرة من القطع الكبير عن ذلك مع البراهين، وكل ما أقول حول هذا الموضوع هو أن المرأة الإنكليزية السيدة ورتلي منتاغيو البالغة الذكاء والبالغة التأثير في النفس، كانت مع زوجها في سفارة الأستانة، وكان هذا في أوائل عهد جورج الأول، فعنَّ لها أن تلقح بالجدريِّ ولدًا وضعته في هذا البلد، ولم تتردَّد في ذلك، وقد بذل كاهنها جهده في تبليغها أن هذه العادة لم تكن نصرانية، وأنها لا يمكن أن تنجح لدى غير الكافرين. ويتعافى ابن السيدة ورتلي بما يثير العجب، وتعود هذه السيدة إلى لندن، وتُطلِع على تجربتها أميرة وِيلْس التي هي ملكة في الوقت الحاضر، ويجب أن يسلَّم بأن هذه الأميرة، مع قطع النظر عن الألقاب والتيجان قد وُلدت لتشجيع جميع الفنون ولتصنع الخير للناس، فهي فيلسوفةٌ محبوبةٌ جالسةٌ على العرش، وهي لم تُضِع فرصة للتعلم، ولا فرصةً لممارسة كرمها، وهي التي علمت أن ابنةً لمِلْتن كانت تعيش في بؤس فأرسلت إليها هديةً عظيمة من فورها، وهي التي شملت بعين رعايتها الأب الفقير كُرَاير، وهي التي تفضلت فكانت وسيطةً بين الدكتور كلارك والسيد ليبنتز، فلما سمعت ذاك الحديث عن التلقيح بالجدري أمرت بتجربته في أربعة مجرمين محكوم عليهم بالموت، فأنقذت حياتهم إنقاذًا مضاعفًا، وذلك أنها خلَّصتهم من المشنقة، وأنها منعت وقوع ما قد يصابون به عن طبيعة، فيحتمل أن يهلكا به في عمرٍ متقدم.
وتطمئن الأميرة إلى نفع هذه التجربة فتلقح أولادها، وتسير إنكلترة على غرارها وهكذا ترى منذ هذا الحين، عشرة آلافٍ من أبناء الأسر على الأقل مدينين بحياتهم للملكة وللسيدة ورتلي منتاغيو على هذا الوجه كما ترى فتيات يبلغن هذا العدد مدينات لها بجمالهن.
وفي العالم ستون في المائة — على الأقل — يصابون بالجدري، فيموت عشرون في المائة في أكثر السنين مناسبةً، وتبقى من ذلك آثار مكدرة في عشرين. وهكذا تبصر إذن أن هذا المرض يقتل أو يشوه، خُمس المصابين به لا ريب، ولا أحد يموت من جميع من يلقحون في تركية وإنكلترة ما لم يكن عليلًا لا بدَّ من موته لسببٍ آخر. ولا أثر للجدري على أحد، ولا أحد يصاب به مرةً ثانية لما يُقدَّر من كمال الإلقاح، ولا جرم، إذن، أن إحدى السفيرات الفرنسيات إذا ما أتت بهذا السرِّ من الأستانة إلى باريس، عُدت قائمةً بخدمة خالدة للأمة، ولو كان قد جُلب ذلك ما مات دوك فِيلِكْيَه في شرخ شبابه، وهذا الدوك هو والد دوك أُومُون في الوقت الحاضر، وهو من خير رجال فرنسة خَلقًا وخُلقًا.
وكذلك ما كان الأمير دُوسُوبيز ليهلك في الخامسة والعشرين من سنيه مع تمتعه بأحسن صحة، وكذلك ما كان مولانا جد لويس الخامس عشر ليدفن في الخمسين من عمره، وكذلك ما كان ليموت عشرون ألف إنسانٍ في باريس سنة ١٧٢٣، ولبقي هؤلاء أحياء، ماذا إذن! أَلأِنَّ الفرنسيين لا يحبون الحياة مطلقًا؟ أم لأن نساءهم لا يكترثن لجمالهنَّ مطلقًا؟ حقًّا إننا أناسٌ ذوو طباعٍ غريبة! من المحتمل أن نقتبس هذا المنهاج الإنكليزي بعد عشرة أعوام إذا ما أذن لنا الخوارنة والأطباء في ذلك، أو أن يستعمل الفرنسيون ذلك التلقيح بعد ثلاثة أشهر عن هوًى إذا ما سئم الإنكليز منه عن تقلبٍ في الطبع.