الرسالة التاسعة عشرة
باريس تَرُدُّها، وباريس تَرِدهُا.
وكان الواجب يقضي على مسيو دومورا كما يلوح، بأن يتكلم عن كاتبٍ بارع عاش في ذلك الحين، وهو مستر وِيشِرلي الذي ظلَّ زمنًا طويلًا عاشقًا مجاهرًا لأشهر خليلات شارل الثاني، وكان هذا الرجل الذي قضى حياته بين الأكابر، تام المعرفة بمعايب هؤلاء ومهازئهم، فصورها بأحزم قلمٍ وأصدق ألوان.
وبما أنَّ الرُّبَّانُ قد نسف سفينته في إحدى المعارك، فقد عاد إلى لندن بلا عونٍ ولا مركبٍ ولا مالٍ، وذلك مع خادمه وصديقه غير مُطَّلعٍ على صداقة هذا، ولا على حُبِّ ذاك، ويذهب إلى دُرَّةِ النساء توًّا، معتقدًا أنه يجدها مع صندوقه الصغير ووفائها، ويلقاها متزوجة ذلك الصالح المخادع الذي كان قد ائتمنه، ولم تكن وديعته لتحفظ له أكثر من حفظ ما سواها له، ويؤلِم صاحبنا كلَّ الألم أنْ يعتقد وجود امرأةٍ خيرٍ تقدِم على فعل مثل هذه الحيل، ولكنَّ حسن إقناعه يقضي بأن تصبح هذه المرأة الصالحة عاشقةً للغلام الصغير وأنْ تناله قهرًا، ولكنْ بما أنه يجب أنْ يأخذ العدلُ مجراه، وأنْ يعاقَب على العيب، وأنْ تكافأ الفضيلة، فإن الوضع يقضي بأن يَحُلَّ الرُّبَّان محلَّ الغلام في آخر الأمر، وأنْ ينام مع ناكثة عهده، وأنْ يمثل دور الزوج الذي تخونه زوجته، وأنْ يقوم مقام صديقه الخائن فيقتلها بالسيف، وأنْ يسترد صندوقه الصغير، وأنْ يتزوَّج خادمه، وستلاحظون أنَّ هذه المسرحية لُوِّثَتْ أيضًا، ببطلةٍ على نمط كونتسة بِنبِش، التي هي محاميةٌ عجوز قريبةٌ للرُّبان، ومعدودة أكثر من يكون على المسرح مزاحًا وطيب نَفْسٍ.
وكذلك استنبط ويشرلي من موليار مسرحية ليست أقل غرابة ولا أقل جرأة، وهي ضربٌ من «مدرسة النساء».
والممثلُ الرئيسُ في المسرحية هو رجلٌ ماجنٌ حسنُ الطالع، وذلك أنَّ فزع الأزواج بلندن يوحي للاطمئنان إلى أمره؛ بفكرة إذاعته أنَّ الجراحين رأوا في أثناء مرضه الأخير أنْ يجعلوه خصيًّا، ويأتيه جميع الأزواج بنسائهم نظرًا إلى هذه الشهرة الرائعة، ولا شيء يورث هذا المسكين حَيرة كالاختيار، وأخصُّ ما يقع خياره على ريفيةٍ صغيرة بالغة العِفَّة طيبة المزاج، فتخون زوجها بنيةٍ حسنة تُفضَّل على خبث النساء الخبيرات، وليست هذه المسرحية — إذا ما شئتم — مدرسة حُسن الأخلاق، وإنما هي بالحقيقة مدرسة الظرف والهزل.
ووضع الفارس ڨنبروغ كميدياتٍ أكثر فكاهة، ولكنْ أقل براعة، وكان هذا الفارس رجلَ لهوٍ، وكان شاعرًا ومهندسًا معماريًّا فضلًا عن ذلك، ويُزْعَم أنه كان يكتب بغلظةٍ كما كان يبني، وهو الذي بنى قصر بلنهايم المشهور؛ أي هذا البناء الثقيل الباقي من قتالنا المشئوم في هُوشِسْتِد، ولو كانت الغُرَف من الاتساع كثِخن الجُدُر لبدا هذا القصر مريحًا.
وقد أُدْمِجَتْ في الكتابة على قبر ڨنبُروغ كلمة: «كان يُرْجَي ألَّا تكون الأرض خفيفة عليه، ما دام قد أثقلها بقسوةٍ بالغةٍ في أثناء حياته.»
ويَطُوف هذا الفارس في فرنسة قبل حرب ١٧٠١، فيُلقى في الباستيل، ويبقى فيه حينًا من الزمن، وذلك من غير أنْ يستطيع معرفة السبب الذي جَلَبَ إليه هذا الامتياز من قِبَل نيابتنا العامة، ويضع في الباستيل كميدية، ومن موجبات استغرابي الشديد أنه لا يوجد في هذه المسرحية أيُّ أثرٍ ضِدَّ البلد الذي قاسى فيه هذه الشِّدَّة.
والمرحومُ مستر كُونغِريڨ هو الذي نال — بين جميع الإنكليز — فَخْرَ السَّيْرِ بالمسرح الهزليِّ قُدمًا، وهو لم يضع غير قليلٍ من المسرحيات، ولكنَّ كل ما وضع رائعٌ في نوعه. وقد راعى في مسرحياته قواعد المسرح مراعاةً وثيقة، فتراها زاخرة بأدقِّ الوُسُوم مع الرقة المتناهية، ولا يعانَى فيها أقل دعابةٍ نابية، فتبصر فيها لغة الصالحين مع أعمال الماكرين، وهذا يثبت أنه كان حسن المعرفة بعالمه، وأنه يعيش فيما يُدعى بالمجتمع الراقي، وكان مريضًا — محتضرًا تقريبًا — عندما عرفته، ويقوم عيبه الوحيد على قلة تقديره لمهنته الأولى كاتبًا لهذه المهنة التي قام عليها صيته وثروته، فكان يحدثني عن آثاره، كأنها ترهاتٌ دون مستواه، وقد قال لي عند أول حديث؛ ألَّا أنظر إليه إلَّا على قدم المساواة مع شريف يقضي حياةً بسيطة، فأجبته بأنه لو كان من الشقاء ما يكون معه شريفًا حصرًا كغيره، ما جئتُ لزيارته مطلقًا، وقد أوذيت بهذا الزهو الذي أتى في غير محله.
وتُعَدُّ مسرحياته أكثر ما يكون ظرفًا وإحكامًا، وتُعَدُّ مسرحيات ڨنبروغ أكثر ما يكون مَرَحًا، وتُعَدُّ مسرحيات ويشرلي أكثر ما يكون قوة.
ومما يلاحَظُ أنه لم يتعرض لمُوليار بسوء في أي من هذه اللطائف الرائعة، ولا يوجد غير أردياء كُتَّاب الإنكليز مَن قال سوءًا عن هذا الرجل الكبير، أَجَلْ، إنَّ أردياء موسيقي إيطاليا هم الذين يستخفون بلُولِّي، ولكن رجلًا مثل بُوينُونْشِيني يُكْرِمُه، ويُقِرُّ بمزاياه كما أنَّ ميد أقام وزنًا لإلْڨِسْيُوس وسِلڨا.
وكذلك تشتمل إنكلترة على شعراء هزليين مجيدين، كالفارس ستيل والكميدي البارع مستر سِبِّر، الذي هو شاعر للملك؛ أي حامل لهذا اللقب الذي يبدو مضحكًا، ولكن مع منحه ألف إيكو دخلًا سنويًّا والإنعام عليه بامتيازاتٍ موافقةٍ لم يتفق مثلها لشاعرنا الكبير كرناي.
ومع ذلك فلا تطلبوا مني أنْ أُفَصِّلَ هنا دقائق هذه المسرحيات الإنكليزية التي أراني نصيرًا كبيرًا لها، كما أنني لا أروي لكم مُلْحةً من مُلَح ويشرلي وكونغريڨ، ولا نكتة من نُكَتِه، فما كان ليضحك بترجمةٍ مطلقًا. وإذا أردتم معرفة الكميدية الإنكليزية، فإنه ليس لديكم وسيلة لبلوغ هذا غير الذهاب إلى لندن والبقاء فيها ثلاث سنين، وتعلُّم الإنكليزية جيدًا ومشاهدة الكميدية كل يوم، ولا أَجِدُ لذةً كبيرة بمطالعة بُلوتُوس وأرستوفان، ولِمَ هذا؟ ذلك لأنني لست يونانيًّا ولا رومانيًّا، فدقة اللطائف والتلميح والملاءمة أمورٌ لا تتفق لأجنبي.
وليس أمرُ المأساة هكذا، فلا محل فيها لغير الأهواء الكبيرة والغباوات البطلية المؤيدة بأضاليل القصة أو الأحدوثة، فإديب وإلكتر خاصَّان بنا وبالإسبان والإنكليز، كما أنهما خاصَّان باليونان، وأما الكميدية الجيدة فهي صورةٌ ناطقة لمهازئ الأمة، فإذا كنتم لا تعرفون الأمة معرفة أساسية، فإنكم لا تستطيعون أنْ تحكموا في أمر هذه الصورة مطلقًا.